jeudi, février 26, 2004

برنامج الديمقراطية العربية



بالرغم من كل ما شهده العالم العربي في العقدين الأخيرين من محن كان المسبب الرئيسي فيها نظام الحكم المطلق واستبعاد أي مشاركة أو مشاورة شعبية، لا يزال الرأي العام مترددا جدا في تبني الديمقراطية لا من حيث هي هدف للتغيير ولكن أقل من ذلك من حيث هي مدخل ضروري للتغيير. ولا يزال الاعتقاد قويا لدى قطاعات واسعة من النخبة العربية التي فقدت الايمان بالشعارات القومية والاسلاموية القديمة إلى حد كبير بأن الديمقراطية ليست مسألة أساسية في علاج أوجاع البلاد العربية ولا يمكن أن تولى أجندتها موقع الأرجحية أو الأسبقية.
فقسم كبير من الرأي العام المثقف والسياسي الذي يميل إلى طروحات الاسلاميين أو يراهن على حركاتهم السياسية يميل إلى الاعتقاد بأنه لا حل ممكنا لمشاكل العرب المصيرية والداخلية من دون توجيه ضربة قوية للاستعمار ولسياسات الهمينة والسيطرة الأجنبية، والأمريكية بشكل خاص، على الأوطان العربية. ونسيان أسبقية هدف التصدي للعدوان يقود أو يمكن أن يقود في نظر هؤلاء إلى الوقوف في صف واحد مع القوى الخارجية ويهدد بقطع الطريق على أي تحولات أخرى في طريق الاصلاح، اقتصادية كانت أم سياسية أم ثقافية. المهم اليوم في منظور هذا الفريق توجيه جميع البنادق ضد العدو وتحويل جميع الكلمات والشعارات والخطوات إلى بنادق ورصاص يستهدف الوجود الأجنبي ويضربه. ويستدعي هذا الموقف من بين ما يستدعي تجاوز الخلافات العقائدية والسياسية والاجتماعية التي تفصل المجتمعات أو النخب الاجتماعية المهمشة والنخب الحاكمة، بل ربما دعم هذه النخب وتجاهل أخطائها طالما أظهرت استقلالها أو ساهمت ولو رمزيا في الوقوف في وجه القوى الأجنبية. وقسم كبير من أصحاب هذا الرأي يجرمون المعارضات العربية التي تتناول بالانتقاد السياسات الرسمية وتدعو الحكومات إلى الانفتاح والاعتراف بالتعددية واحترام حقوق الانسان وحرياته الأساسية. فليس الوقت وقت تحقيق مثل هذه الطلبات ولن يكون لهذه المطالبات الدائمة نتيجة أخرى غير تقسيم الرأي العام والتشويش على الموقف الشعبي والحيلولة دون نشوء الاجماع الوطني.
أما الفريق الثاني من الرأي العام المثقف والسياسي فهو يعتقد أن الأجندة الرئيسية التي ينبغي الأخذ بها اليوم هي أجندة إعادة بناء الدولة الوطنية و أو القومية وإصلاح الأوضاع الداخلية، وأن الديمقراطية ليست مدخلا حتميا لهذا الإصلاح ولا مهمة ذات أولوية. بل من الممكن أن تقود إلى عكس ما تهدف له. ومن هنا ينبغي أن تعطى الأولوية للاصلاح. إذ بقدر ما تفترض أجندة الصراع ضد الهيمنة الأجنبية الثقافية والسياسية والاستراتيجية أنه ليس من الممكن إصلاح النظم الوطنية المحلية والقضاء على الفساد والظلم والاستبداد من دون تغيير أساسي بل جذري في موازين القوى الدولية تسمح للعرب والمسلمين أن يفرضوا أنفسهم وينتزعوا اعتراف العالم بحقوقهم وكف يد العدوان عنهم، تفترض أجندة إصلاح الدولة ومكافحة الفساد الاقتصادي والإداري أنه من المستحيل قيام ديمقراطية من دون وجود بنية أساسية اقتصادية واجتماعية وإدارية سليمة وفعالة. وإن التحول نحو الديمقراطية يمكن أن يقود إلى انفجار المجتمعات وتفتتها إذا لم يرافقه تحسن مواز في إعادة بناء التوازنات الاقتصادية الرئيسية ورفع مستوى الدخل للفرد والارتقاء بمستوى الأداء الإداري والفني للنخب العلمية والتقنية والبيروقراطية.
وفي المقابل هناك فريق ثالث يعتقد أن الديمقراطية هي المدخل الحتمي والأول لأي تحولات ايجابية عربية سواء أكانت على مستوى العلاقات الدولية أو مستوى الإصلاحات الداخلية. وأن من المستحيل التقدم على جبهة الصراع الوطني من أجل التحرير وتأمين السيادة والاستقلال ولا على جبهة الاصلاح الداخلي والقضاء على الفساد والترهل والانكماش الاقتصادي من دون إحراز تقدم أول وأساسي في ميدان الحريات الفردية والمحاسبة والمراقبة الشعبية على عمل الحكومات والأجهزة الإدارية والعسكرية والأمنية.

والمشكلة في اعتقادي أن الكثير من المشاركين في هذا النقاش يعرضون طروحاتهم كما لو كانت مناقضة واحدتها للأخرى وليست مكملة لها. فالمجاهد الوطني أو الديني يعتقد أن الحديث في الديمقراطية هو تبن مباشر لطروحات وأجندة أعمال الدول الأجنبية المعادية للأمة العربية والاسلامية كما أن الحديث عن برنامج إصلاح الدولة هو إضفاء للشرعية على النظم القائمة الاستبدادية والطغيانية. فليس هناك في نظره أي أجندة ديمقراطية أو وطنية حقيقية أي موضوعية وتستحق الاهتمام بها وكل ما يقال في هذا الميدان هو من قبيل التلاعب بالألفاظ أو التأثر بالأفكار والقيم والتقاليد والنماذج الغربية الاستعمارية. والاصلاحي الوطني والقومي يعتقد بالمثل أن برنامج الصراع ضد الغرب والدول الاستعمارية لم يعد ذو أولويةوأن ما يقوم به الاسلاميون وبعض القوميين من حملات ضد الهيمنة والسيطرة الاجنبية السياسية والثقافية يعكس ضعف تفكيرهم وابتعادهم عن مشاكل العصر وواقع الاندماج التفاعل العالميين. كما أن هذا الفريق الاصلاحي لا يجد في أجندة الديمقراطية شيئا آخر سوى شعارا يستخدم في الصراع على السلطة أو أسلوبا ملتويا تستخدمه المعارضة الاسلامية لتعبئة الجماهير الشعبية والوصول إلى السلطة.
وفي المقابل يعتقد الديمقراطي الذي يجعل من التعددية وإطلاق الحريات الشخصية أس الإصلاحات المجتمعية كاملة أن الاستمرار في إعطاء الأولوية لبرنامج إصلاح الدولة والنظم القائمة بما في ذلك نظام العلاقات العربية العربية في سبيل تعزيز السيادة الوطنية والقومية، ليس إلا وسيلة لقطع الطريق على الإصلاحات الحقيقية وتمكين النخب الحاكمة من تمديد أجل سيطرتها ونفوذها بالرغم من الإخفاقات الكبيرة التي تكبدتها. أما أجندة الصراع ضد الغرب لتعديل ميزان القوى العالمي وإصلاح نظام العلاقات الدولية فهو لا يفيد إلا في تعميق عداء العالم لنا وزيادة ضغطه على المجتمعات العربية التي تتحول إن لم تكن قد تحولت في نظره إلى وكر للحركات الإرهابية المدانة من قبل جميع الأمم. وبمثل هذه الأجندة تستطيع قوى السيطرة الامبرطورية الأمريكية تبرير سياساتها العدوانية وتوحيد الصف العالمي ضد القوى العربية والاسلامية. فالديمقراطية لا تشكل المدخل الطبيعي والحتمي لأي إصلاح للدولة الوطنية وإعادة الصدقية للدولة الوطنية فحسب ولكنها تقرب بين المجتمعات العربية الاسلامية والمجتمعات الغربية الحديثة وتساعدنا على تجاوز العزلة التي وضعنا أنفسنا فيها وتمهيد الطريق إلى التحاور والتفاهم مع المنظومة الدولية التي تكاد تتفق على إدانة ثقافتنا وحضارتنا وتقف صفا واحدا ضدنا.


في نظري تشكل الديمقراطية المدخل لأي إصلاحات عربية حقيقية أو جدية. وكون الديمقراطية مدخلا يعني أنها ليست بحد ذاتها الحل الجاهز لجميع المشاكل والتحديات التي تواجه المجتمعات العربية. بل إنها لن تستقر وتصبح نهائية لا رجعة عنها ولن تتقدم هي نفسها في البلاد العربية ما لم تنجح في أن تحل، من خلال تحقيقها لبرنامجها الخاص المتمحور في المجتمعات العربية حول تفكيك النظم التسلطية وتوسيع دائرة الحريات والحقوق الفردية، مهام ثورة التحرر الوطني غير المكتملة في بلادنا بسبب قوة النفوذ الأجنبي المجسد بشكل رئيسي في الاستعمار الاستيطاني الاسرائيلي والدعم المطلق له من قبل الدول الغربية وما تبع ذلك من مشاريع سيطرة إقليمية تشارك فيها الدول الكبرى منذ حلف بغداد حتى اليوم. كما لا يمكن أن تتطور وتتقدم وتستقطب الرأي العام العربي وتقنعه بصدقيتها من دون أن تستوعب في برنامجها ذاته مهام ثورة إصلاح الدولة الوطنية التي حولتها النظم التسلطية إلى مزرعة شخصية أو فئوية أو عائلية وإعادتها إلى المجتمعات أو جعلها دولة الشعب أو الامة بالمعنى الحقيقي للكلمة لا ناطقة باسمها لخدمة مصالح خصوصية. ومن دون ذلك سوف تبقى الديمقراطية حركة أقلية ثقافية وسياسية من دون جذور شعبية.

والنتيجة لن يكون تحرر الفرد أساسا لتحرر المجتمع واستقلاله بنفسه واندراجه في دورة الحضارة العالمية، وليس مناسبة لانهيار الدولة وتحلل الجماعة وتشرذمها وعودتها إلى عصبياتها الطائفية والأقوامية، إلا عندما تنجح الديمقراطية في أن تستوعب في برنامجها ذاته المهام المثلثة المطلوب تحقيقها في أي حركة خلاص عربي، مهام تحرير للفرد والمجتمع من الطغيانات السياسية والثقافية أولا ومهام الاصلاح الداخلي وإعادة بناء الدولة كمؤسسة وطنية عمومية وقانونية معا ثانيا ومهام تنظيم المقاومة ضد الاحتلال والوقوف في وجه مشاريع السيطرة والهيمنة الدولية ثالثا. هذا هو التحدي الذي يواجهه الرهان الديمقراطي العربي والذي لن يتحقق من دون أن يبين قدرته على رده.
ولا يمكن لهذا أن يحصل بصورة عفوية وتلقائية. إن تحقيق ذلك يستدعي العمل على محاور متعددة ومتوازية في الوقت نفسه. محور التعبئة الثقافية والسياسية لتهديم أسس تجديد علاقات السلطة المطلقة والتعسفية، وهو ما يشكل جوهر برنامج الديمقراطية التقليدية، ومحور توسيع دائرة التحالفات الوطنية في اتجاه جميع القوى الاصلاحية في سبيل إعادة بناء دولة العدالة والمساواة القانونية الذي يشكل جوهر البرامج الوطنية، ومحور العمل لتكوين قوة دولية أهلية من داخل الأطر والمجتمعات المدنية العالمية تقف في مواجهة مشاريع السيطرة الاستعمارية وتناضل جنبا إلى جنب مع الحركة الديمقراطية العربية لتقييد هذه السيطرة وكسر شوكتها.
بغياب مثل هذه الحركة الديمقراطية العاملة في الوقت نفسه على تحرير الفرد وإعادة بناء الدولة وتغيير نظام العلاقات الدولية لن يكون هناك مخرج من الأزمة الطاحنة التي تعصف بالمجتمعات العربية ولا بديل عن برنامج السلطات الراهنة القائم على استفراد المصالح الخاصة بالموارد الوطنية وتفكيك الدولة السابقة شبه الوطنية وشبه الاقطاعية وبيعها كقطع غيار في الأسواق المحلية والدولية والارتماء في أحضان القوى الخارجية والعمل لصالح استراتيجياتها الهيمنية.

Aucun commentaire: