الاتحاد 22سبتمبر 10
اختطف الموت في الشهر المنصرم اثنين من أبرز مفكرينا المعاصرين، نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون، بعد أن كان قد غيب، قبل أشهر، محمد عابد الجابري، أحد أشهر المفكرين العرب المعاصرين. وإذا كان ميل الجابري إلى الاعتدال وبحثه عن المصالحة بين العقل والدين، والحداثة والتراث، قد ضمن له نوعا من الحماية وفتح لفكره باب الانتشار كما لم يحصل لمؤلف قبله، فقد واجه كل من أبو زيد وأركون مقاومة قوية، واعتبرا من المفكرين الرديكاليين الذين تجرأوا على وضع الفكر الديني السائد ومعانيه على المشرحة، وسعيا إلى نشر مفاهيم جديدة حول الاسلام لم تحظ دائما برضى رجال الدين أو المفكرين الاسلاميين. وكما قادت العاصفة التي أثارها أبو زيد إلى إبعاده عن جامعة القاهرة ورحيله الطوعي إلى جامعات الغرب التي استقبلته بترحاب ، واجه أركون العديد من مواقف التشكيك والرفض في فرنسا والخارج، قبل أن يصبح بعد أحداث 11 سبتمبر الشارح الرئيسي لأزمة الاسلام في الجامعات الغربية.
اتهم فكر أبو زيد وأركون بالغموض والالتباس والبعد عن منطق الدين، وأخذ عليهما، وفي الواقع، على أكثر الباحثين العرب في الفكر الاسلامي، وفي التراث، فشلهما في التواصل مع أوسع جماهير المؤمنين، وعدم نجاحهم في نقل فكرهم إلى خارج الحلقات الضيقة للمثقفين الذين يشاركونهم طروحاتهم أو مشاعرهم ورؤيتهم الحديثة أو العقلية للدين، وبالتالي إخفاقهم في ممارسة أي تأثير فعلي على الجمهور الواسع، وفي ترجمة أفكارهم إلى حقائق عملية. ولا يزال الدعاة، التقليديين والمحدثين، هم الذين يحظون بولاء الجمهور وإصغائه، من دون الحديث عن النفوذ الكبير الذي يمارسه زعماء الاسلام السياسي على الشباب خصوصا، لكن ليس وحدهم. وينظر قسم كبير من الرأي العام إلى عجز الباحثين المجددين عن اختراق جدار العزلة المضروبة من حول فكرهم على أنه دليل قاطع على اغتراب هذا الفكر، وخطأ دعوته، وضعف أسسه الدينية، بل تناقضها مع روح الاسلام ومتطلبات الايمان الصحيح.
والحال ليس أبو زيد ولا أركون ولا غيرهم من العاملين في البحث في الدين والتراث اليوم مصلحين دينيين، ولكنهم علماء في العلوم الانسانية. وليس من عادة العلماء أن يكون لهم جمهور واسع من المؤمنين، ولا يبحثون غالبا عن هذا الجمهور، ذلك أن جمهورهم هو العلماء الآخرين العاملين في حقلهم. وحوارهم الرئيسي هو مع هؤلاء في سبيل تطوير المعرفة العلمية التي لا مقدرة للجمهور الواسع على اكتسابها أو النقاش فيها من دون تكوين أو تأهيل علمي مسبق. واتصالهم مع الجمهور الواسع يكون عادة من باب تقريب النظريات العلمية من الوعي العام، وتحسيسه بالمشكلات التي يثيرها البحث العلمي في مجال أو اكثر. لكن ليس أبدا في تحويل الجمهور إلى علماء أو في استنتاج مبدأ عقائدي أو أخلاقي جديد.
وما حصل في العقود القليلة الماضية هو نوع من الخلط بين مقام الباحث العلمي في الشأن الديني وبين الداعية المجدد في الدين. ونظر الكثير من الجمهور القاريء أو المشاهد إلى الباحثين وناقدي الفكر الديني كما لو كانوا بالفعل أصحاب دعوة دينية تجديدية، كما نظر هؤلاء لأنفسهم أيضا على أن بحثهم العلمي في الشأن الديني يهدف إلى تجديد فكر المسلمين وممارساتهم الدينية استنادا إلى معطيات البحث العلمي. ولا يكف أبو زيد في كتاباته عن الحديث عن ضرورة فهم الاسلام فهما علميا والانطلاق من البحث العلمي لتجديد رؤية المسلمين وإصلاح عقائدهم الدينية المتوارثة.
وفي اعتقادي، لم يخدم هذا الخلط قضية البحث العلمي في ميادين النشاطات الاجتماعية والانسانية، ولا ساهم في تطوير أي حركة تجديد ديني. فمبقدار ما أفقد الباحث العلمي مكانته بوصفه عامل معرفة، محايد عقائديا، وحوله إلى داعية لا يختلف، رغم جدة رؤيته أو عقلانية تأويلاته للدين، عن أي داعية آخر، أضعف موقف الباحثين الجدد وعرضهم لهجوم دائم من قبل منافسيهم أو خصومهم من رجال الدين التقليديين ودعاة الاسلام السياسيين الذين يشكل العمل بالدين رأسمالهم الأول. وقد أثار هذا الخلط الشك عند الجمهور العريض بالبحث العلمي في الدين وبنوايا الباحثين العلميين فيه، وأكثر من ذلك ، بنوايا دعوة التجديد الديني نفسها، بصرف النظر عن مرجعية أصحابها. ومقابل دعوات التجديد على أسس التفسير العقلي أو العلمي للنص الديني، التي ستفسر من قبل غالبية المؤمنين على أنها نقد للدين وعدوان عليه، ستبرز نزعة قوية عند أصحاب الولايات الدينية الفقهية والسياسية للدفاع عن التأويلات الأكثر إغراقا في الابتعاد عن العقل، واعتبار التشبث بنماذج السلف الصخرة القوية التي تحول دون زعزعة الايمان في عصر العواصف الفكرية والنزاعات الايديولوجية.
تبدو نتائج هذه المعركة واضحة اليوم في إخفاق مشاريع الاصلاح والتجديد الديني، والسيطرة المتزايدة لأصحاب الدعوة إلى الانكفاء على موقف الاقتداء، بدل استخدام منهج العقل في الدين، بل والتخلي عن أي مطلب عقلي في أي شأن من شؤون الحياة والمجتمعات، وفي العودة المظفرة للحجاب والبرقع والجلباب. وهي بارزة أيضا في نجاح رجال الدين والدعاة التقليديين والسلفيين في عزل الاصلاحيين والفكر الاصلاحي الديني عموما عن جمهور المؤمنين، وفي التشكيك بشرعية حديثهم في الدين، من خلال وسمهم بالعلمانيين، بل واتهام بعضهم في دينهم وإخلاصهم لمجتمعاتهم.
وليس من المستغرب أن يخسر الباحثون العلميون المعركة عندما ينتقلون من ميدان البحث العلمي، أي تقرير الواقع الديني كما هو، إلى ميدان التبشير بتأويل جديد للدين وتقرير ما هية الدين القويم. فهم أقوياء وأصحاب حجة في فهم آليات عمل الدين والايديولوجيات عموما، لكنهم ضعفاء في شرعية تحديد متطلبات الايمان الصحيح، وليس هذا من مهامهم، وليس لهم فيه أفضلية على منافسيهم من رجال الدين والمشتغلين عليه. فعلى خلاف هؤلاء، ليس لرجال العلم صلاحية معترف بها في توجيه العقائد وتقرير السليم والخاطيء منها، ولا يفيدهم منهجهم العلمي كثيرا في التقرب من جمهور المؤمنين، إن لم يشكل حائلا دون فهم المتدينين لأهدافهم وغاياتهم. فالدين هو قبل أي شيء آخر دعوة وليس علما، ولا يمكن للعلم أن يقدم حججا أقوى لصالح تأويل المجددين ضد التقليديين، وليس للعلم ما يقول في تقرير العقائد أو المسلمات الدينية.
لكن إذا كان التجديد الديني مطلبا بديهيا اليوم، في مواجهة طوفان التقليد والعودة إلى أقصى التأويلات تطرفا لمطالب الايمان القويم، ولم يكن للباحثين العلميين في الدين ما يؤهلهم للانتصار على خصومهم من أصحاب المحافظة والاقتداء، فكيف يكون الاصلاح، ومن هو المؤهل لنقل جمهور المؤمنين من تصورهم البالي لمقاصد الشريعة ومطالب الايمان إلى تصور جديد ينسجم مع متطلبات العصر الأخلاقية والمعنوية، ومن أين يولد التجديد أي، في النهاية، من هو الذي يملك الحق في تحديد ماهية الاسلام الصحيح والدين القويم، ولا بد من أن يكون لقوله وقعا حقيقيا على المؤمنين؟ هذا موضوع مقال قادم.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire