رسالة النقد الاجتماعي تحليلات ودراسات في المجتمع والسياسة في العالم العربي والشرق الأوسط Burhan Ghalioun is presently a Professor of Political Sociology at the Universite La Sorbonne Nouvelle. He is the author of several authoritative books as well as over a hundred academic articles in various journals on political Islam, Arab political culture and state and society relations in the Arab World. https://www.facebook.com/BurhanGhalion
lundi, septembre 27, 2010
في مسؤولية النخب عن الحروب الطائفية
لا يزال الكفاح ضد الطائفية يشكل محور الأفكار التحررية التي تنادي بها الحركات القومية واليسارية التي ترى في استمرار وجودها عائقا رئيسيا امام تطور الولاءات الوطنية. ويقدم الوضع القائم في لبنان والعراق واليمن والنزاعات العنيفة التي شهدتها هذه المجتمعات ومجتمعات عربية عديدة أخرى في نظرهم نماذج حية للدور السلبي الذي تلعبه الطائفية في قطع الطريق على نشوء الدولة القومية وفي التمكين للاحتلال وسحب البساط من تحت أقدام الحركة الوطنية وفشل التحولات الديمقراطية.
لقد تحولت الطائفية في اللغة السياسية التقدمية العربية من ظاهرة تاريخية اجتماعية متحولة إلى لعنة أبدية وعاهة مجتمعية لا يعرف أحد كيف يمكن احتواء تأثيراتها السلبية ولا التخلص منها. وأصبح الخوف من تفجراتها المحتملة عقبة أمام تطور المناقشة السياسية نفسها. فهي فتنة نائمة لا سيطرة لنا عليها والحديث فيها بأي شكل جاء لا يمكن أن يكون إلا ايقاظا ملعونا لها وإطلاقا لبراكينها الكامنة. ولا يعادل الكره الذي تراكمه الثقافة السياسية العربية ضدها، بكل تياراتها اليسارية واليمينية، الاستبدادية والديمقراطية، سوى الخوف من التأمل الموضوعي فيها وفي أسباب بقائها وانتشارها. ولذلك قر السلوك العربي على نوع من الانفصام في السلوك السياسي إزاءها. وهكذا نجد الفرد الذي لا يكف عن إدانة الطائفية والتبرؤ من شرورها لا يتردد في أغلب الأحيان من الانصياع لقانونها والاندفاع في أحيان أخرى، بإرادته وأحيانا من دون إرادة، وراء رهانات وتلاعبات وحسابات طائفية لا حدود لها.
يخلق الحديث المتكرر عن الطائفية وعيا شقيا لدى المجتمعات العربية التي تشعر بأنها ضحية آلية عمياء جبارة تفرض عليها الانقسام بين عصبيات متنافرة وتغلق أمامها أبواب التحولات السياسية الديمقراطية والوطنية. وبقدر ما يفقد هذا الشعور الثقة المتبادلة بين أبناء الطوائف المختلفة التي تتبارى في اتهام بعضها البعض بإخفاء النوايا والرهانات الطائفية يزرع الشك واليأس عند المجتمع بأكمله بإمكانية التعايش داخل الوطن الواحد، بل بإمكانية بناء مثل هذا الوطن الذي يفترض التضامن والتكافل والتعاون بين جميع أفراده بقدر ما يجمعهم تحت سقف واحد ويفرض عليهم مصيرا مشتركا.
والواقع أن التركيز على الطائفية والبنيات العشائرية في البلدان العربية لا يعكس إدراكا لمخاطر حقيقية وحتمية بقدر ما يعبر عن الكسل والبؤس الذين اتسم بهما الفكر القومي والوطني المحلي الذي اتجه في سعيه لإقامة دولة وطنية حديثة وإضفاء المشروعية السياسية عليها إلى التركيز على مسألة الهوية والتجانس والاندماج بدل بناء مفهوم المواطنية والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط الممارسة القانونية لها، وبالتالي تأمين حرية أبنائها ومساواتهم. فقد سعت الدولة المحلية إلى التعويض عن غياب برنامج بناء المواطنية في مشروعها، أي عن غياب مشروع الدولة الوطنية الحديثة بالفعل عنها، بتضخيم الحديث عن الهوية والانتماءات الثقافية والتاريخية الأحادية. وكانت النتيجة توليد نزعة وطنية انصهارية صماء تتطابق مع مفهوم العصبية الطبيعية أكثر مما تعبر عن نشوء فكرة وطنية وشخصية سياسية حقيقية. وهكذا أصبح التعدد الطائفي الذي ينبغي أن ينظر إليه على أنه ثروة وطنية بدل أن يعاش كعاهة مجتمعية يبدو وكأنه نقمة إلهية أو طبيعية. وأصبح الوضع الاعتيادي الذي عرفته المجتمعات منذ قرون وبنت من حوله نظمها الأخلاقية الرئيسية بما تعبر عنه من قيم التعايش والتسامح التاريخية التي ميزت المجتمعات العربية والاسلامية، وضعا نشازا أو تعبيرا عما ينبغي تسميته الخطيئة الأصلية، يميز المجتمعات العربية ويفصلها عن المجتمعات الأخرى الطبيعية ويحط من قدرها وقيمتها الجوهرية.
والحال، ليس تعدد الطوائف ولا استمرار البنيات العشائرية هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية ولا هو المسؤول عن تعثر مشاريع الاندماج الوطني وتقدم مشاريع التحويل الديمقراطية. ولا يشكل كلاهما أي لعنة أبدية أو تاريخية. فجميع المجتمعات مكونة من جماعات متعددة ويمكن تخفيضها جميعا إلى مجموعة لا نهائية من الأقليات الثقافية والدينية والعرقية والمهنية والجنسانية والحضرية والريفية وغيرها. والمجتمعات الصناعية المتقدمة أكثر تعددية اليوم طائفيا وعرقيا من المجتمعات العربية. وما تتميز به مجتمعات الصين والهند وغيرها من المجتمعات الآسيوية عموما يفوق بما لا يقاس ما تعرفه المجتمعات العربية التي تبدو في هذا المنظور مجتمعات شديدة التجانس والأحادية الثقافية. وهذا التعدد الواسع في المجتمعات الأسيوية يعبر، بعكس ما هو شائع، عن درجة الازدهار الحضاري الذي عرفته هذه المجتمعات في الماضي. فهذا الازدهار الحضاري وما يرتبط به من نمو قيم التسامح والتعايش وما يتيحه من إمكانيات التفاعل والتبادل والتواصل بين الثقافات وما يفرزه من حريات فردية وجمعية هو الذي يدفع إلى نشوء التعددية بقدر ما يسمح بنشوء الهويات المتمايزة أي بالتغاير داخل المجتمع الواحد بين مجموعات الرأي والثقافة وكذلك بقدر ما يؤلف قوة جذب جبارة للجماعات البعيدة وبشكل خاص للجماعات المضطهدة والمقهورة في المناطق الأخرى "البدائية".
ولا حاجة للذهاب بعيدا لمعاينة هذه الديناميكية التاريخية الحضارية. فالعالم العربي هو اليوم أكبر منطقة طاردة للجماعات الأقلية المتميزة أو المغايرة سواء أكانت جماعات دينية أم جماعات عرقية أم جماعات رأي وثقافة سياسية ومعارضة. وجميع هؤلاء يقصدون الدول الصناعية الكبرى المتقدمة، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية التي تستقطب القسم الأكبر من مهاجري جميع الجنسيات، بسبب ما يسود في هذه الدول من ازدهار اقتصادي وتسامح فكري وتنوع عقائدي. وهم يعززون من طابعها التعددي في الوقت الذي تنحو فيه المجتمعات العربية مثلها مثل المجتمعات المتأخرة الأخرى إلى التجانس وكبت التنوع والخوف من التعدد حتى داخل الطائفة أو الجماعة العرقية الواحدة. وليس هذا من علامات التقدم الحضاري ولا التشكل الوطني ولا التسامي الديني بأي حال. إن استقبال المهاجرين والجماعات المغايرة يعكس ثقة المجتمعات بنفسها، أي بثقافتها ومستقبلها وقدراتها على الدمج ومتانة مؤسساتها السياسية والاجتماعية، بينما يعبر طرد الأقليات بصورة واعية أو غير واعية عن استبداد القلق والشك وغياب الثقة بالنفس عند المجتمعات وتهافت مؤسساتها الدستورية والاقتصادية والاجتماعية. فكما أن لوجود أغلبية ثقافية أو دينية متجانسة دور كبير في خلق شعور بالاستقرار والاستمرارية والثبات عبر التاريخ وبالتالي لنشوء الدول ورسوخ الحضارة في منطقة من المناطق، تشكل الأقليات المنفتحة باستمرار على الخارج ،والعابرة عادة للبلدان، ناقلا استثنائيا للمكتسبات التقنية والعلمية والفكرية، وبالتالي حاملا رئيسيا لديناميكية التفاعل والتواصل بين الثقافات والحضارات.
باختصار، إن التعددية بكل وجوهها وأشكالها ليست خطأ تاريخيا ولا بنية نشازا ولكنها الأمر الطبيعي والشائع أيضا في أي مجتمع متمدن لا يمكن أن ينحدر في منطق انتظامه إلى مستوى منطق الأسرة أو العشيرة أو الطائفة الواحدة. وقد كانت الطوائف موجودة دائما في المجتمعات العربية، وستظل موجودة في المستقبل. وهي موجودة ايضا في بلدان عديدة تعيش في ظل نظم ديمقراطية. وهي لا تشكل، كما تبين ذلك تجربة الهند التي تعج باللغات والأقليات الدينية والعرقية على حد سواء، عائقا امام قيام نظام ديمقراطي. فهي تستطيع أن تتعايش معه وتجد التسويات الضرورية للحفاظ على ما تمثله من عصبيات محلية وما تمثله الدولة الديمقراطية من علاقات سياسية وطنية.
لا تتحول التعددية الطائفية الى مشكلة تهدد الديمقراطية كما تهدد الحياة الوطنية، حتى في الدول الاستبدادية، إلاعندما يتغلب الانتماء للطائفة او العشيرة على الانتماء للجماعة الوطنية أو يمحوه أو يتنازع معه ويصبح عائقا أمام التفاعل بين الأفراد والتعاون في ما بينهم في ما وراء الحصن الطائفي او الإتني. ولا يحصل ذلك إلا بسبب عجز النظام السياسي والقانوني العام عن استيعاب التعددية وإدارة التناقضات والاختلافات الاجتماعية. ولذلك أكثر ما تترسخ العصبيات الطائفية والعشائرية وتتحول إلى بديل للانتماء الوطني في ظل النظم الاستبدادية التي تقوم على نفي التعددية ولا تملك أي مفهوم او سياسة لاستيعابها وإدارتها بالطرق السلمية وتنزع إلى كبت الاختلافات والتمايزات بالقوة والقهر بدل التعامل السياسي والثقافي والاجتماعي معها. بيد أنه حتى في هذه الحالة من الصعب للتمايز المذهبي أو الإتني أن يتحول إلى عصبية مناقضة أو معادية للوطنية الجامعة، وبالتالي أن يحظى بقيمة تبادلية سياسية إلى جانب قيمته الاصلية كمكون لهويات خصوصية، من دون أن يحظى بدعم من قبل النخب الثقافية والسياسية التي تسعى إلى استخدامه كوسيلة للتعبئة السياسية في معركة التنافس من أجل السلطة المركزية أو سلطة الدولة. لذلك ينبغي التمييز أيضا بين المللية أو التنوع الديني والمذهبي كما عاشته البلاد الاسلامية خلال حقب طويلة ماضية، وبين الطائفية التي ولدت مع نشوء السياسة الحديثة وتطور مفهوم المشاركة الشعبية في انتخاب القيادات السياسية. فالعصبية الطائفية تتميز عن الشعور بالهوية المذهبية في أنها عصبية موجهة نحو هدف سياسي واضح لم يكن عند الأولى، وهو تعزيز فرص نخبها الخاصة في معركة السلطة السياسية المركزية التي ترتبط بنشوء الدولة الحديثة. فهذه النخب هي التي تشحن التمايز الطائفي والقبلي بمفاعيل ومدلولات سياسية وتستخدمه في النزاع على السلطة. ومن دون ذلك لا تنتج الاختلافات الثقافية والأقوامية نزاعات خاصة مختلفة عن النزاعات الاجتماعية العادية أو الطبيعية. فلا تشكل هذه الاختلافات ولا تنتج مشاعر أو انتماءات طائفية متضاربة من تلقاء نفسها، وليست هي التي تفسر ظهورها. فلا يتقدم الولاء الطائفي على الولاء للدولة، لا في الماضي ولا في الحاضر، بشكل تلقائي وعفوي. حتى يحصل ذلك لا بد من شحنه بقيم ومفاعيل ايديولوجية لتحقيق مآرب سياسية، وهذا ما تقوم به النخب الاجتماعية.
والسؤال الذي يطرح عندئذ هو ما الذي يفسر تفكك النخبة الوطنية في ظرف ما وانقسامها على أسس طائفية، بدل سعيها إلى تكوين نخبة وطنية واحدة، تعكس في وحدتها نفسها مشروع توحيد المجتمعات المتعددة الطوائف على أسس سياسية، أي تكوين رابطة وطنية؟ الجواب هو أنه لا توجد أسباب واحدة لتفكيك النخب الوطنية. قد يحصل هذا التفكيك نتيجة انهيار الدولة وسقوطها كما كان عليه الحال في أوروبة الشرقية بعد انهيار الشيوعية ونهاية عهد الوصاية السوفياتية. وقد يحصل بسبب ضعف الدولة وسهولة اختراقها من قبل القوى الخارجية دولا او جماعات دينية أو إتنية، كما هو الحال في لبنان، وقد يكون نتيجة نزوع نخبة خاصة إلى احتكار السلطة والقرار وحرمان النخب الأخرى من حقها في المشاركة أو الانتقاص الواضح من ممارسة هذا الحق، كما هو الحال في معظم الدول العربية التي تسيطر فيها نخبة قبلية أو عائلية أو مذهبية على القرار، بواجهة وطنية واحيانا من دون أي واجهة على الإطلاق.
والنتيجة أن آليات توحيد النخب الوطنية ودمجها في إطار واحد مرتبط هو ذاته بوجود مشروع بناء أمة ووطنية سياسية. وهذا المشروع لا يوجد من تلقاء نفسه ولا نعثر عليه في الطبيعة كما هو وإنما هو ثمرة جهد فكري وسياسي منظم لبناء علاقات الوحدة من قبل النخب أو اجزاء منها ومن قبل القادة الوطنيين الكبار. ولا يمكن ان يتقدم إلا بمقدار ما ينجح هؤلاء في تأسيس قواعد هذه الوحدة الوطنية، من أسس دستورية ومساواة قانوية ومشاركة فعلية لجميع أبناء الطوائف والعشائر على قدم المساواة،. فالمواطنية أو الوطنية المرتبطة بها هي الثمرة المباشرة للمشاركة في بناء الدولة المواطنية كمشروع مشترك لجميع النخب ومن جميع الطوائف والمذاهب. وأصل توحيد النخب المنحدرة من مناطق ومذاهب وبيئات اجتماعية مختلفة ومتعددة في كل البلدان، هو الاشتراك في هذا المشروع نفسه. فهي موحدة عليه ومن اجله وفيه.
والحال أن مثل هذه المشروع يصطدم في معظم الأقطار العربية بإرادة السيطرة التي تتجلى عند بعض الفئات الاجتماعية، عسكرية أو أمنية أو بيرقراطية أو مذهبية، وتدفعها، حتى عندما لا تكون ذات نزعة طائفية، إلى اللجوء إلى التعبئة الطائفية، او تقسيم الرأي العام إلى طوائف متناحرة على مبدأ فرق تسد، من أجل الاحتفاظ بالسلطة واحتكار القرار السياسي، وتجيير الدولة لخدمة مصالحها الخاصة. ويكفي للبرهان على ذلك معاينة ما حصل ويحصل في العراق من تفتيت متعمد بل تحطيم للنخبة الوطنية السياسية لحساب زعماء الطوائف والأحزاب الطائفية، ومن حروب دموية مصممة بصراحة لشحن العصبية الطائفية، والمطالبة العلنية لبعض الفرقاء باحتكار السلطة والاحتفاظ بها في يد نخبة طائفية ضد أخرى.
إذا دلت عملية تقويض الدولة هذه من الداخل على شيء، وهذا هو مضمون ما حصل للدولة العراقية، ولدولة ما بعد الاستقلال الوطنية عموما في العالم العربي، فإنها تد ل على هشاشة ركائز هذه الدولة الدستورية واهتزاز قاعدتها الاجتماعية من جهة وعدم نضج النخب السياسية أو تأخرها من جهة ثانية. من دون أن يعني ذلك نفي عوامل الاختراق الداخلية والخارجية. فمشروع بناء الدولة الوطنية بمعنى دولة المواطنية المتساوية والممارسة السياسية الشعبية، ليس مشروعا وطنيا معزولا تماما عما يجرى حوله وفي العالم. إنه جزء من المصير العالمي، وهو يخضع أيضا لصراعات وتوازنات القوة على الصعيد الإقليمي والدولي.
ولا أرى مخرجا من هذا المصير السياسي المؤلم للمجتمعات العربية سوى ظهور نخب سياسية تضع مشروع بناء الدولة قبل مصالح الطوائف والفئات الخاصة من جهة، وتقبل بأن لا تكون السلطة حكرا لها، ومبررا لتهميش النخب الأخرى أو أطرافا منها وتعطيل مبدأ تداول السلطة على أسس دستورية وقانونية من جهة ثانية، وتسعى إلى تعزيز استقلال قرارها عن الدول الأجنبية وتحصينه ضد الضغوطات والاختراقات الخارجية من جهة ثالثة.
mercredi, septembre 22, 2010
نصر أبو زيد وأركون ومعركة التجديد الديني
الاتحاد 22سبتمبر 10
اختطف الموت في الشهر المنصرم اثنين من أبرز مفكرينا المعاصرين، نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون، بعد أن كان قد غيب، قبل أشهر، محمد عابد الجابري، أحد أشهر المفكرين العرب المعاصرين. وإذا كان ميل الجابري إلى الاعتدال وبحثه عن المصالحة بين العقل والدين، والحداثة والتراث، قد ضمن له نوعا من الحماية وفتح لفكره باب الانتشار كما لم يحصل لمؤلف قبله، فقد واجه كل من أبو زيد وأركون مقاومة قوية، واعتبرا من المفكرين الرديكاليين الذين تجرأوا على وضع الفكر الديني السائد ومعانيه على المشرحة، وسعيا إلى نشر مفاهيم جديدة حول الاسلام لم تحظ دائما برضى رجال الدين أو المفكرين الاسلاميين. وكما قادت العاصفة التي أثارها أبو زيد إلى إبعاده عن جامعة القاهرة ورحيله الطوعي إلى جامعات الغرب التي استقبلته بترحاب ، واجه أركون العديد من مواقف التشكيك والرفض في فرنسا والخارج، قبل أن يصبح بعد أحداث 11 سبتمبر الشارح الرئيسي لأزمة الاسلام في الجامعات الغربية.
اتهم فكر أبو زيد وأركون بالغموض والالتباس والبعد عن منطق الدين، وأخذ عليهما، وفي الواقع، على أكثر الباحثين العرب في الفكر الاسلامي، وفي التراث، فشلهما في التواصل مع أوسع جماهير المؤمنين، وعدم نجاحهم في نقل فكرهم إلى خارج الحلقات الضيقة للمثقفين الذين يشاركونهم طروحاتهم أو مشاعرهم ورؤيتهم الحديثة أو العقلية للدين، وبالتالي إخفاقهم في ممارسة أي تأثير فعلي على الجمهور الواسع، وفي ترجمة أفكارهم إلى حقائق عملية. ولا يزال الدعاة، التقليديين والمحدثين، هم الذين يحظون بولاء الجمهور وإصغائه، من دون الحديث عن النفوذ الكبير الذي يمارسه زعماء الاسلام السياسي على الشباب خصوصا، لكن ليس وحدهم. وينظر قسم كبير من الرأي العام إلى عجز الباحثين المجددين عن اختراق جدار العزلة المضروبة من حول فكرهم على أنه دليل قاطع على اغتراب هذا الفكر، وخطأ دعوته، وضعف أسسه الدينية، بل تناقضها مع روح الاسلام ومتطلبات الايمان الصحيح.
والحال ليس أبو زيد ولا أركون ولا غيرهم من العاملين في البحث في الدين والتراث اليوم مصلحين دينيين، ولكنهم علماء في العلوم الانسانية. وليس من عادة العلماء أن يكون لهم جمهور واسع من المؤمنين، ولا يبحثون غالبا عن هذا الجمهور، ذلك أن جمهورهم هو العلماء الآخرين العاملين في حقلهم. وحوارهم الرئيسي هو مع هؤلاء في سبيل تطوير المعرفة العلمية التي لا مقدرة للجمهور الواسع على اكتسابها أو النقاش فيها من دون تكوين أو تأهيل علمي مسبق. واتصالهم مع الجمهور الواسع يكون عادة من باب تقريب النظريات العلمية من الوعي العام، وتحسيسه بالمشكلات التي يثيرها البحث العلمي في مجال أو اكثر. لكن ليس أبدا في تحويل الجمهور إلى علماء أو في استنتاج مبدأ عقائدي أو أخلاقي جديد.
وما حصل في العقود القليلة الماضية هو نوع من الخلط بين مقام الباحث العلمي في الشأن الديني وبين الداعية المجدد في الدين. ونظر الكثير من الجمهور القاريء أو المشاهد إلى الباحثين وناقدي الفكر الديني كما لو كانوا بالفعل أصحاب دعوة دينية تجديدية، كما نظر هؤلاء لأنفسهم أيضا على أن بحثهم العلمي في الشأن الديني يهدف إلى تجديد فكر المسلمين وممارساتهم الدينية استنادا إلى معطيات البحث العلمي. ولا يكف أبو زيد في كتاباته عن الحديث عن ضرورة فهم الاسلام فهما علميا والانطلاق من البحث العلمي لتجديد رؤية المسلمين وإصلاح عقائدهم الدينية المتوارثة.
وفي اعتقادي، لم يخدم هذا الخلط قضية البحث العلمي في ميادين النشاطات الاجتماعية والانسانية، ولا ساهم في تطوير أي حركة تجديد ديني. فمبقدار ما أفقد الباحث العلمي مكانته بوصفه عامل معرفة، محايد عقائديا، وحوله إلى داعية لا يختلف، رغم جدة رؤيته أو عقلانية تأويلاته للدين، عن أي داعية آخر، أضعف موقف الباحثين الجدد وعرضهم لهجوم دائم من قبل منافسيهم أو خصومهم من رجال الدين التقليديين ودعاة الاسلام السياسيين الذين يشكل العمل بالدين رأسمالهم الأول. وقد أثار هذا الخلط الشك عند الجمهور العريض بالبحث العلمي في الدين وبنوايا الباحثين العلميين فيه، وأكثر من ذلك ، بنوايا دعوة التجديد الديني نفسها، بصرف النظر عن مرجعية أصحابها. ومقابل دعوات التجديد على أسس التفسير العقلي أو العلمي للنص الديني، التي ستفسر من قبل غالبية المؤمنين على أنها نقد للدين وعدوان عليه، ستبرز نزعة قوية عند أصحاب الولايات الدينية الفقهية والسياسية للدفاع عن التأويلات الأكثر إغراقا في الابتعاد عن العقل، واعتبار التشبث بنماذج السلف الصخرة القوية التي تحول دون زعزعة الايمان في عصر العواصف الفكرية والنزاعات الايديولوجية.
تبدو نتائج هذه المعركة واضحة اليوم في إخفاق مشاريع الاصلاح والتجديد الديني، والسيطرة المتزايدة لأصحاب الدعوة إلى الانكفاء على موقف الاقتداء، بدل استخدام منهج العقل في الدين، بل والتخلي عن أي مطلب عقلي في أي شأن من شؤون الحياة والمجتمعات، وفي العودة المظفرة للحجاب والبرقع والجلباب. وهي بارزة أيضا في نجاح رجال الدين والدعاة التقليديين والسلفيين في عزل الاصلاحيين والفكر الاصلاحي الديني عموما عن جمهور المؤمنين، وفي التشكيك بشرعية حديثهم في الدين، من خلال وسمهم بالعلمانيين، بل واتهام بعضهم في دينهم وإخلاصهم لمجتمعاتهم.
وليس من المستغرب أن يخسر الباحثون العلميون المعركة عندما ينتقلون من ميدان البحث العلمي، أي تقرير الواقع الديني كما هو، إلى ميدان التبشير بتأويل جديد للدين وتقرير ما هية الدين القويم. فهم أقوياء وأصحاب حجة في فهم آليات عمل الدين والايديولوجيات عموما، لكنهم ضعفاء في شرعية تحديد متطلبات الايمان الصحيح، وليس هذا من مهامهم، وليس لهم فيه أفضلية على منافسيهم من رجال الدين والمشتغلين عليه. فعلى خلاف هؤلاء، ليس لرجال العلم صلاحية معترف بها في توجيه العقائد وتقرير السليم والخاطيء منها، ولا يفيدهم منهجهم العلمي كثيرا في التقرب من جمهور المؤمنين، إن لم يشكل حائلا دون فهم المتدينين لأهدافهم وغاياتهم. فالدين هو قبل أي شيء آخر دعوة وليس علما، ولا يمكن للعلم أن يقدم حججا أقوى لصالح تأويل المجددين ضد التقليديين، وليس للعلم ما يقول في تقرير العقائد أو المسلمات الدينية.
لكن إذا كان التجديد الديني مطلبا بديهيا اليوم، في مواجهة طوفان التقليد والعودة إلى أقصى التأويلات تطرفا لمطالب الايمان القويم، ولم يكن للباحثين العلميين في الدين ما يؤهلهم للانتصار على خصومهم من أصحاب المحافظة والاقتداء، فكيف يكون الاصلاح، ومن هو المؤهل لنقل جمهور المؤمنين من تصورهم البالي لمقاصد الشريعة ومطالب الايمان إلى تصور جديد ينسجم مع متطلبات العصر الأخلاقية والمعنوية، ومن أين يولد التجديد أي، في النهاية، من هو الذي يملك الحق في تحديد ماهية الاسلام الصحيح والدين القويم، ولا بد من أن يكون لقوله وقعا حقيقيا على المؤمنين؟ هذا موضوع مقال قادم.