الاتحاد 2 يونيو 10
ربط الرئيس باراك أوباما، في خطابه الأخير (26 مايو 2010) الذي حدد فيه استراتيجية أمريكا الجديدة، بين إسقاط مذهب الحرب العالمية على الأرهاب والبحث عن تعاون دولي من أجل ايجاد حلول تسووية للنزاعات الدولية القائمة. فهي عناصر أو مذاهب ثلاثة مترابطة بالفعل، أعني نظرية الحرب على الارهاب، والانفراد بالأمر، أو احتكار القرار الدولي، ورفض الحلول الوسط والتسويات.
لا يعني ذلك أن عصرا جديدا من السلام والتعاون والتفاهم سوف يخلف عهد انفلات القوة وما شهده فيه العالم من خراب ودمار. لكنه يبشر بولادة أسلوب جديد، اكثر نجاعة وأقل كلفة في الصراع من أجل المصالح القومية وفي التعامل مع النزاعات الدولية. او هذا ما نأمله على الأٌقل. ولن يوقف المذهب الأمريكي الجديد الحروب العديدة الخارجية والداخلية التي أشعلتها نظرية الحرب الشاملة والعالمية على الارهاب، لا في أفغانستان والعراق ولا في غيرهما، كما أنه لن يقف حائلا دون اندلاع حروب جديدة. لكن هناك بالتاكيد فرق كبير بين السياسة المبنية على أولوية منطق الحرب، وتأمين كل شروط ربحها، مما برر ويبرر جميع المغامرات والانتهاكات الدولية والوطنية للقانون ولحقوق الانسان، والسياسة المقامة على أولوية منطق الديبلوماسية والتي تضع الحرب بوصفها الخيار الأخير لحسم النزاعات، لا يتم اللجوء إليها إلا بعد أن تستنفد الوسائل الأخرى. وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يعاد تشغيل الدبلوماسية بطريقة جديدة أيضا، بحيث لا يكون همها الأول والوحيد تقريبا حشد القوى وتعبئة الرأي العام من أجل خوض الحروب على جميع الجبهات، وإنما بالعكس، نزع فتيل الحروب المحتملة والسعي لحشد القوى السياسية والمعنوية الدولية في سبيل التوصل إلى تسويات عادلة ومقبولة من جميع الاطراف المتنازعة.
ولذلك لا يكفي الإعلان عن إسقاط مذهب الحرب الدولية على الارهاب ليحدث التغيير. حتى يحصل التغيير ينبغي أولا أن تتغير الرؤية الأمريكية والعالمية أيضا لاستراتيجية الأمن نفسها، بحيث يمكن تجاوز مفهوم الأمن الوطني أو القومي، حتى لو كان أمن الدولة الاكبر، نحو مفهوم الأمن العالمي، الذي لا يمكن أن يقوم من دون ضمان الحقوق الأساسية لجميع الاطراف، ورفض المقاييس المزدوجة، والعمل الجدي الجماعي لتعزيز فرص وجود القانون الدولي. وهذا ما أرادت واشنطن ما قبل أوباما أن تتنكر له عندما أقرت مذهب الحرب ضد الارهاب. ولا يكفي من أجل الوصول إلى هذا الهدف الانتقال من الأمن القومي إلى مفهوم الأمن الاطلسي الذي لا يزال يشكل سقف التحول بالنسبة لمعظم الدول الصناعية، خاصة الاتحاد الأوروبي الذي يريد أن يلعب دورا أكبر في بلورة الاستراتيجية الغربية والمشاركة في القرار الدولي. وربما كان حل التكتل الأطلسي أو تغيير أهدافه وبنيته الخصوصية هو الإشارة الصحيحة إلى ولادة عهد لا تشكل القوة ولا التهديد باستخدامها ضد الأطراف الأضعف قاعدة العمل على صعيد العلاقات الدولية.
ولا يعني حل التكتل الاطلسي إلغاء أي قوة قادرة على التدخل لحسم النزاعات أو المشاركة في تطبيق القانون الدولي. بالعكس المطلوب الخروج من الاطلسية نحو العالمية، والسعي إلى تكوين تكتل يتجاوز التكتل الاطلسي الراهن ويسمح بنشوء قوة عسكرية دولية بالفعل، يمكن استخدامها لتطبيق القانون بعدالة وإنصاف وليس حسب ما تقتضيه مصالح الكتلة الاطلسية كما هو الحال اليوم. وكلاهما، مترابطان، أقصد تكوين قوة دولية لحفظ السلام والقانون بديلا للقوة الأطلسية، والعمل على تعزيز المجموعة الدولية بقانون دولي لا تزال تفتقر إليه.
حتى يحصل التغيير ينبغي أيضا أن يتغير رجال الدبلوماسية الذين عملوا خلال العقود الماضية كمستخدمين عند رؤساء الأركان وخادمين لسياسات الحرب والعنف والإكراه، واستبدالهم برجال سياسة وحكمة وعقل.
وحتى يكون التحول في اتجاه تفعيل منطق الدبلوماسية على حساب منطق الحرب مقنعا للرأي العام الدولي، ينبغي توجيه الموارد الغزيرة التي كانت موجهة للحرب وسباق التسلح ومراكمة القوة إلى أهداف ومناشط جديدة، سلمية، والتركيز بشكل اكبر على تطوير موارد الدول الفقيرة ومساعدتها على الخروج من تخلفها وفقرها واستنقاعها. فالابتعاد عن أفق الحرب، وبناء أسس السلام، يستدعيان العمل على إزالة الهوة المتزايدة التي تفصل ثلاثة ارباع البشرية عن الربع الوحيد الذي يحتكر اليوم معظم الموارد الإنسانية. وهو لا يتجسد في خريطة توزيع الموارد الجغرافية السياسية وإنما عبر خريطة التوزيع الاجتماعية التي تكاد تجعل من بعض النخب القليلة المسيطرة على مقاليد الأمور في البلدان الفقيرة امتدادا طبيعيا مباشرا للقوى المسيطرة العالمية على حساب الشعوب المستعبدة.
وحتى يقتنع الرأي العام الدولي، وفي مقدمه تلك الشعوب التي عانت منذ عقود، بل قرون من الغبن والظلم والعدوان، بصدق الدعوة إلى تقديم الدبلوماسية على الحرب، ينبغي على الدول الكبرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، أن تحشد قواها بالفعل من أجل إغلاق ملف الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان، سواء ما تعلق منها بحقوق الشعوب الجماعية أو حقوق الأفراد، وأن لا تسمح للنظم غير الديمقراطية وغير الشعبية القائمة بقوة القمع والارهاب أن تفسر العودة إلى الدبلوماسية في العلاقات الدولية بمثابة إطلاق يدها في استخدام العنف وخرق القانون داخل حدودها.
وأول المناطق التي ينبغي امتحان مباديء السياسة الأمريكية الجديدة فيها هي بالتأكيد، أو ينتظر أن تكون، منطقة الشرق الاوسط. حيث بلغت النزاعات وتضارب المصالح مستوى ليس له في الوقت الحاضر نظير في مناطق العالم الأخرى، سواء أكان الأمر يعني دول المنطقة في مواجهة الدول الكبرى، أو الدول الكبرى في موااجهة بعضها البعض. ومن هذه المصالح التي يتنازع الأقطاب الدوليون عليها: الهيمنة على منطقة متوسطية حساسة استراتيجيا، والتحكم بمصادر الطاقة الرئيسية المتوفرة للاستخدام والتصدير والتجارة في عالم اليوم ، والموقف من حل المسألة اليهودية التي شغلت أوربة والغرب خلال عقود بل قرون طويلة، وتحديد مكانة إسرائيل في الشرق الأوسط وحدود توسعها ودورها فيه. وفي سياق هذه المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية تدخل مسألة التنمية الاقتصادية والتقنية ومن ثم الاجتماعية لارتباطها بها. وهذا ما يفسر الضعف الملفت في حجم الاستثمارات الخارجية والداخلية المكرسة للبحث والتقنية والتنمية الصناعية والاجتماعية في العالم العربي، بالرغم من الثروة النفطية الكبيرة التي توفر موارد استثنائية لانطلاق ثورة صناعية وتقنية جدية فيها في عقد أو عقدين.
وبالنسبة للشعوب العربية، من الطبيعي أن تكون حقوق الفلسطينيين، كشعب وكأفراد، هي المادة الأولى في امتحان التوجهات الجديدة، وأن يتجسد ذلك، على الأقل في كف الدول الكبرى الأكثر تأثيرا في المنطقة عن سياسة النعامة التي مارستها حتى الآن تجاه الكارثة الإنسانية والسياسية والأخلاقية الحاصلة في فلسطين، ووقف مهزلة التغطية على تمويل سياسات الاحتلال والاستيطان الاسرائيلية بخطابات مكرورة حول حتمية التسوية السياسية وتاكيد الحق في دولتين في الوقت الذي يجعل تغيير الوقائع على الأرض من هذه الخطابات نفاقا فجا ومزعجا صعب الاحتمال.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire