mardi, juillet 31, 2007

الخليج في قلب العالم

الاتحاد 31 تموز 07
أصبح الخليج العربي، منذ أن تكرس دوره كأعظم مورد وخزان للطاقة، قلب العالم النابض من دون مبالغة. وتحولت عواصم بلدانه الصغيرة، التي كادت أن تكون مجهولة الاسم منذ عقود قليلة، إلى نقاط جذب لا تنازع. فهي اليوم ساحة مفتوحة لحوارات ومناظرات لا تقتصر على شؤون الشرق الأوسط فحسب وإنما تتعدى ذلك لمناقشة شؤون العالم والمنظومة الدولية بأكملها. وهي ملتقى يومي للمفكرين والباحثين والسياسيين والاستراتيجيين العرب الذين فقدوا أي مركز يجمع بينهم أو يتيح لهم اللقاء للتداول في شؤون أوطانهم، وأكثر من ذلك، لمداولات لا بديل عنها بينهم وبين الباحثين والسياسيين والاستراتيجيين الأجانب، والغربيين منهم بشكل خاص، في جو لا يخلو من حرية الفكر واحترام الرأي الآخر ومقارعة الحجة بالحجة، وتعددية الآراء الفكرية والسياسية. وهي مقصد جميع أولئك الباحثين عن مستقبل أفضل، من مدراء الشركات العالمية الكبرى المتعددة الجنسيات، إلى العمال الآسيويين الفقراء والمحرومين، مرورا بأبناء الطبقة الوسطى، الذين تتراجع فرص نجاحهم في مناطق أخرى من العالم، جراء تطور السياسات العولمية، خاصة في البلاد العربية المجاورة. لقد انتقل مركز المنطقة العربية ونشاطها العقلي والدبلوماسي بصورة شبة كاملة إلى بلدان الخليج، بينما تراجع بشكل ملفت دور ما كنا نسميه بدول المركز العربي الرئيسية إلى الهامش، حتى لم يعد بعضها يظهر في الصورة السياسية أبدا. ونكاد نقول إن مصير الشرق الأوسط نفسه يتقرر اليوم في الخليج الذي أصبح النفوذ فيه أو السطيرة عليه رهانا استراتيجيا رئيسيا، ليس بالنسبة لشعوب المنطقة فحسب وإنما بالنسبة للقوى الدولية والعالم أجمع.
لا يرجع ذلك إلى احتواء منطقة الخليج على القسم الأعظم من الاحتياطيات النفطية، ولا إلى تحول هذه الاحتياطيات الاستثنائية والاستراتيجية بالمعنى القوي للكلمة إلى رهان إقليمي ودولي لا يمكن لطرف تجاهله من دون تكبيد نفسه خسارة كبيرة اقتصادية وسياسية - فهو من دون شك عصب المجتمع الصناعي ومن دونه يتحول هذا المجتمع إلى جثة هامدة تماما كما يحصل للعضوية التي تتوقف فيها الدورة الدموية -، ولكن يرجع أيضا إلى سياسات الانفتاح التي تبنتها النخب الخليجية عموما، وأخص بالذكر نخب تلك البلدان الصغيرة التي تعاني من هشاشة نسيجها السكاني، بالمقارنة مع إمكاناتها الكبيرة. والانفتاح شرط لا محيد عنه لأي مشروع نهضة عمرانية وتقنية وعلمية. هكذا تحولت عواصم الخليج ودوله الصغيرة، مع مشروعات البناء الطموحة، التي يزيد من قوة الاندفاع فيها خوف النخب الخليجية الحاكمة من أن تتحول بلدانها إلى لقمة سائغة في فم الدول الكبيرة المحيطة بها، إلى ورشات عمل وبناء أسطورية تجعلها تتطور كالفطر، وتجعل الزائر يشعر، بعد سنة من غيابه عنها أو أقل، أنه في بلد جديد لم يكن يعرفه من قبل. لقد انتقلت الحيوية العربية، الفكرية والسياسية والاقتصادية والمالية، بقسمها الأكبر، حتى لا نقول بأكملها، إلى هذه البقعة الصغيرة من المنطقة، بينما عم الركود جميع تلك الدول والمناطق التي كانت تشكل موضوع الرهان الأول لمشاريع النهضة والخلاص العربية. وعمت البداوة الحقيقية المراكز الحضرية الكبرى التي درج أهلها على النظر إلى سكان الخليج كنموذج للبداوة والتأخر الحضاري. وأصبحت حياة الفقر والفاقة والبطالة والعناء من نصيب تلك المراكز التي تتحول يوما بعد يوم إلى خزانات للبؤس والتوتر والانفجار.
في أطار هذه السياسة العمرانية الإرادية والنشطة، ومن أجل تاكيد مركزية الخليج في منطقة الشرق الاوسط، ينبغي أيضا فهم التطلعات المتزايدة لحكام الخليج إلى نقل الماركات العالمية الكبرى إلى أراضيهم، وتعزيز مكانة الثقافة والفكر وتنوعهما فيها. وهو ما يشير إليه مشروع المتاحف الأربع التي تخطط لبنائها إمارة أبو ظبي ومنها متحف اللوفر الفرنسي والعديد من المتاحف العالمية الكبرى. وفي الاتجاه نفسه ينبغي النظر إلى افتتاح فرع لجامعة السوربون الفرنسية التاريخية في عاصمة الإمارة ذاتها.
من الواضح إذن أن عولمة الشرق الأوسط تتم الآن من الخليج ولصالح تأكيد دوره ومكانته ونفوذه في المنطقة العربية بأكملها، في جميع الميادين الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية والمعرفية. وهذا ما يجعل من تأكيد مصالحه في الأمن والاستقرار والنمو والتفتح أولوية ملحوظة في أي أجندة إقليمية. كما أن هذه العولمة تتبع نموذجا خاصا قائما على التعاون الكامل، إن لم يكن التطابق بين مصالح الخليج وسياساته ومصالح الدول والشركات العالمية الكبرى. وهو نموذج يناقض بالمطلق النموذج المتمحور على الذات الذي كانت تدعو له التيارات السياسية التنموية التي كانت ولا تزال تسيطر على نخب الدول العربية الكبرى، القومية منها والاشتراكية. ولا يتوقف أثر هذا النموذج الخليجي على تسويد علاقات التعاون والاعتماد المتبادل العميقة بين الاستراتيجيات الكبرى فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى ميدان القيم الاجتماعية والأخلاقية. فمن يستطيع أن ينكر اليوم أن أوجها كثيرة من الحياة العامة التي تميز نمط العلاقة بين الحكام والمحكومين، وبين المجتمع والدين، وبين الفئات الاجتماعية والشرائح والطبقات والعصبيات، كما تميز نماذج الاستهلاك في المجتمعات العربية، قد انتقلت بشكل أو آخر من الخليج، أو انتشرت انطلاقا منه، بوحي ما يمثله من موقع مميز في المنظومة الاقتصادية والمالية، إلى عموم البلاد المشرقية. وقد تم هذا الانتشار بطرق مختلفة منها تأثر النخب الحاكمة بطريقة الحكم الخليجية القائمة على الولاء للأسرة الحاكمة والالتفاف حولها، أكثر من الاعتماد على بناء مؤسسات دولة قانونية قوية، ومنها انتقال اليد العاملة المديد أو تنقلها بين بلدان الخليج والبلدان العربية الأخرى. ومنها تفاعل رجال المال والأعمال عبر الحدود، مع ما يمثله مجتمع الأعمال الخليجي من وزن استثنائي في مجموع الأعمال العربية. ومنها أخيرا التأثير الكبير الذي تمارسه وسائل الإعلام الخليجية، والفضائيات القوية التي انتشرت في السنوات الماضية، على ثقافة الاستهلاك الجماهيرية، المادية والدينية معا، ولكن بشكل أكير على توجهات الصحفيين والباحثين وموجهي الرأي العام عموما.
لا تعبر مركزية الخليج بما تعنيه من أولوية المصالح الخليجية في المنطقة، وانتشار القيم المستمدة من نمط الحياة الخاصة بمجتمعاته المحلية، عن تفوق الخيارات الخليجية بالضرورة، بقدر ما تعبر عن فشل الخيارات والنخب العربية المركزية، وإخفاقها في تحقيق نموذج مختلف للتنمية والأمن والاستقرار. لكن مهما كان الحال، يخلق انتشار أنماط الحكم والإدارة والاستهلاك، المستمدة من مجتمعات خليجية تتمتع بوفرة مادية ومالية استثنائية، في مجتمعات عربية بطيئة النمو ومحدودة الموارد والامكانيات، تحديات متزايدة للنخب العربية المركزية، ويشكل مصدر توترات وتناقضات كانت ولا تزال في أساس انعدام الأمن والاستقرار في هذه البلدان، وسيرها الحثيث منذ عقود ثلاثة في اتجاه التحول إلى نظم أمنية، إن لم نقل فاشية. فليس من الممكن لأنماط الحكم الخليجية الخاصة، ولا لمنظومات القيم الاستهلاكية التي بعثتها الوفرة المالية، أن تعيش في مجتمعات كبيرة انتشرت فيها القيم الفردية، المدنية والسياسية، من دون أن تثير ردودا قوية لا أمل للنخب الحاكمة في تجنبها من دون تشريع اللجوء المستمر إلى القوة القهرية، المادية والمعنوية. وفي هذا الإطار لا يمكن للأزمة النووية الايرانية إلا أن تشكل كابوسا لا يؤرق بلدان الخليج فحسب ولكن جميع الدول الصناعية، إن لم تعلن، لو أسيئت إدارتها، نهاية الحقبة النفطية في أوج ازدهارها وتوهجها

vendredi, juillet 06, 2007

حوار حول حماس والازمة الفلسطينية

اسلام اون لاين نات
نشر في 27 يونيو 07

برهان غليون: الصف الثاني الأنسب لحماس *
حوار - هادي يحمد

المفكر العربي برهان غليوناعتبر "برهان غليون" المفكر العربي البارز ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر والأستاذ في جامعة باريس الثالثة، أن حركة حماس استدرجت إلى "الفخ الأمريكي"، والذي يرمي إلى حصارها والقضاء عليها. ورأى غليون أن هذه إشكالية العمل السياسي الكبرى التي تواجه الحركات الإسلامية بوجه عام، أي خطأها في تقدير واقع البيئة الدولية والإقليمية، وأنها لا تأخذ بالقدر الكافي مسألة أنه لم يعد هناك سياسة اليوم مستقلة كليا عن محيطها.
وفي حوار خاص مع شبكة إسلام أون لاين.نت، رأى غليون أن الأنسب لحركة حماس أن تبقى في الصف الثاني أو تبقي على نفسها في دائرة المعارضة فقط؛ وذلك لأن طبيعة البيئة الجيوسياسية الدولية تدين مسبقا أي عمل سياسي "إسلامي".
وإضافة إلى ذلك فإن حركات المقاومة الإسلامية الوطنية، ومنها حماس وحزب الله، لم تستوعب معادلة "مقلوبة" تقول إنه كلما تعاظمت تضحيات الحركات الإسلامية قلت قدرتها على إنجاز مكاسب سياسية، أي تضحيات أكثر تساوي مكاسب سياسية أقل.
ولفت غليون النظر إلى أن الانقسام الذي حدث داخل صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية إنما يعبر في جانب منه عن المأزق الذي يعيشه مشروع التحرر الوطني الفلسطيني والعربي منذ عقود طويلة، حتى أننا في فلسطين وغيرها من البلاد العربية تجاوزنا نقطة الانقسام ووصلنا إلى القطيعة ثم إلى المواجهات الداخلية.
وفيما يلي نص الحوار:
* ما هو تحليلكم للواقع الفلسطيني اليوم في ضوء سيطرة حماس على قطاع غزة، وسيطرة فتح بقيادة محمود عباس على الضفة الغربية؟ وهل نحن بصدد منعرج سيغير أولويات النضال الوطني الفلسطيني؟
- نعم، نحن بصدد منعرج خطير، لكنه ليس في الاتجاه الذي كنا نتمناه بل في الاتجاه المعاكس، فمن الواضح أن تناقضًا عميقًا قد نشأ داخل الحركة الوطنية الفلسطينية منذ التسعينيات، ودفع إلى نشوء حركتين من توجهات وحساسيات ومناهج ورؤية مختلفة تمامًا؛ فتح المرتبطة بأيديولوجية الحركات الوطنية الحديثة من جهة، وحماس ذات التوجه الإسلامي الواضح من الجهة الثانية.
وبالرغم من الخلاف الشديد في أسلوب التفكير والإستراتيجية والهدف، أمكن حتى وقت قريب الحفاظ على حد أدنى من التعايش، إن لم نقل التواصل، بين ما أصبح يشكل جناحي الحركة الفلسطينية. وقد بدأ هذا التناقض يتفاقم شيئًا فشيئًا مع تنامي فتح التي سيطرت على مقاليد الأمور في إطار السلطة الوطنية الفلسطينية، وصار للفئة القائدة فيها مصالح في الدفاع عن الوضع القائم، فمالت إلى الاعتدال، ثم المساومة في علاقتها مع إسرائيل، وبشكل خاص مع البلدان الغربية التي تمول السلطة الوطنية.
ومن جهة أخرى تفاقم إحباط الشعب الفلسطيني الذي أخذت حماس في التعبير عنه، بسبب تراجع الوضع الفلسطيني وغياب الإنجازات وانتشار الفساد في أوساط الإدارة الفلسطينية.
وقد دفع هذا التناقض المتنامي إلى المواجهة السياسية بين حماس وفتح، وفي سياق هذه المواجهة تخلت حماس عن موقفها التقليدي بالبقاء في موقع المعارضة ودخلت الانتخابات التشريعية لتظهر قوتها وتؤكد مواقفها. ومنذ ذلك الوقت أخذ النزاع بين الطرفين وتيرة متصاعدة باضطراد، حتى وصلنا إلى قطيعة كاملة بينهما، قبل أن تتحول هذه القطيعة السياسية إلى قطيعة على الأرض، تتجسد في تكوين سلطتين مستقلتين بعضهما عن بعض، وقائمتين في قطعتين من الأرض الفلسطينية.
وينطوي هذا الوضع على انهيار خطير في مشروع السلطة الوطنية أو ما أطلقنا عليه سلطة وطنية فلسطينية، كما ينطوي على مشروع حرب أهلية مدمرة. ومنذ الآن يقوم كل فريق في منطقته باحتكار السلطة والقضاء على الفريق الآخر.
وما كان من الممكن لإسرائيل أن تحلم بوضع أفضل، فانفصال حماس عن السلطة الوطنية يمهد لفرض الحصار عليها في غزة، ويجعل منها هدفًا سهلا من الناحية السياسية لآلة الحرب الإسرائيلية التي تستطيع منذ الآن، بذريعة القضاء على الإرهاب، توجيه ضربات مستمرة واغتيال قيادات سياسية، وبمأمن من أي نقد، وبإغماض عيون الحكومات العربية والسلطة الفلسطينية نفسها في الضفة الغربية.
وسيدفع وضع حماس أمام خيار الحصار والموت بشبابها حتما إلى المزيد من التطرف والمغالاة. وفي المقابل ستدفع الدول المانحة وإسرائيل إلى احتواء فتح وسلطتها الوطنية في الضفة من أجل دفعها إلى الوقوف في وجه حماس وتأكيد تبعيتها المتزايدة للسياسة الأمريكية/الإسرائيلية. وهذا ما سوف يؤجل إلى أجل غير منظور مسألة إيجاد حل للقضية الفلسطينية، ويمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها الاستيطانية والتهرب من التزاماتها الدولية، إذا لم تنجح دول الجامعة العربية في احتواء الموقف بسرعة.
* بعد استيلاء حركة حماس بالقوة المسلحة على قطاع غزة.. هل نحن بصدد تأكيد الصورة التي رسمت على كون الحركات الإسلامية بشكل عام همها الأول الاستيلاء على السلطة مهما كانت خصوصياتها؟
- لا أعتقد أن الاستيلاء على السلطة كان هو الدافع الرئيسي لدخول حماس الانتخابات التشريعية، ولا لاستخدامها السلاح في قطاع غزة كان لتأكيد سيطرتها على القطاع. ليس هناك في نظري أي شك في أن حماس تضع القضية الوطنية الفلسطينية في بؤرة اهتمامها، وتتعامل مع قضية السلطة من هذا المنظور.
وفي اعتقادي أن حماس وقعت في فخ نصبته لها الإدارة الأمريكية في إطار الحرب ضد ما تعتقد هذه الإدارة أنه امتدادات للقوة الإيرانية والسورية الإقليمية، بهدف قطعها عن العالم ومحاصرتها وتشديد الخناق عليها.
* بخصوص الحركات الإسلامية.. هل نستطيع القول إن حماس وضعتها مجددا في مأزق جديد خاصة أمام المجتمع الغربي وهو ما يزيد من التخوفات منها مهما كان اعتدالها؟
- نعم، سوف يستخدم مثال حماس في الدعاية العالمية وحتى العربية للتدليل على أن الحركات الإسلامية لا تفكر إلا في السلطة، حتى لو كان ذلك على حساب القضايا الوطنية الكبرى، وأنها حركات متطرفة وعنيفة، لا يؤمن جانبها، وليس هناك خيار آخر للتعامل معها سوى محاربتها. وهو ما يقود إلى تأكيد منطق الحرب ضد الإرهاب الدولي الذي تعتمده الإدارة الأمريكية في سياساتها الدولية، وتجعل منه محور إستراتيجيتها في الشرق الأوسط والعالم. لكن لم تكن هذه الإدارة بحاجة إلى ما حدث في غزة حتى تبرر مذهبها الإستراتيجي، فلديها أمثلة كثيرة أخرى تستطيع أن تستعين بها، في العراق وغيره، لتضفي الشرعية على سياستها الاستعمارية الجديدة.
بيد أن ذلك لا يعفينا نحن من مراجعة التجربة وأخذ العبر منها. وفي اعتقادي أن مشكلة الحركات الإسلامية الوطنية المماثلة لحماس وحزب الله، وهي حركات مقاومة شعبية، تختلف كثيرا في بنيتها وأساليب عملها وأهدافها عن منظمات مثل القاعدة وفتح الإسلام وغيرها من الفرق ذات الطابع الإرهابي. ولا تنبع المشكلة من استخدام هذه الحركات الوطنية السلاح ولا مشاركتها في السلطة أو سعيها إليها، فهذا ليس ممنوعا ولا محرما على الحركات الشعبية التي تواجه الاحتلال، مهما كانت العقيدة السياسية التي تحملها.
لكن مشكلتها تكمن في أنها لا تأخذ ـ بما فيه الكفاية ـ في الاعتبار أنه لم يعد هناك سياسة اليوم مستقلة كليا عن محيطها، وأن السياسة ذاتها أصبحت مسألة إقليمية ودولية. فالسلطة الفلسطينية التي قامت بعد اتفاقات أوسلو ليست ثمرة قوة فلسطينية مستقلة، وإنما نتيجة تسوية متعددة الأطراف، دولية وعربية وفلسطينية، حصلت كحل وسط بين الحل النهائي للقضية الفلسطينية والاستمرار في الحرب الوطنية المفتوحة. وإذا أراد طرف، حتى لو كان ذا قاعدة شعبية عريضة، حرف هذه السلطة "الوطنية" عن مسارها أو استخدامها لغير الأغراض التي رسمت لها، فلن يتردد القائمون عليها من القضاء عليه أو القضاء على من يريد حرفها عن أهدافها.
وينطبق هذا المبدأ المتعلق بطبيعة العملية السياسة التي أصبحت عابرة أكثر فأكثر للحدود، على ما يتجاوز ذلك بكثير، أي على أي عمل سياسي. وهنا تكمن أزمة العمل الإسلامي في السياسة العربية والدولية. فبسبب إدانته المسبقة من قبل البيئة الدولية، حتى لو كانت هذه الإدانة على باطل، لا يستطيع هذا العمل أن يثمر مكاسب سياسية، بل إن نتائجه تزداد سلبية بقدر رفض القوى الدولية التعامل معه.
وهكذا كلما تعاظمت تضحيات الحركات الإسلامية كلما قلت قدرتها على إنجاز مكاسب سياسية. وهنا تكمن المفارقة: تضحيات أكثر تساوي مكاسب أقل، وهو ما يعني أنه كلما زادت الحركات الإسلامية قوة كلما قل مردودها السياسي.
باختصار لا تسمح شروط البيئة السياسية والجيوسياسية الدولية اليوم بتنفيذ أي أجندة إسلامية سياسية كأجندة وطنية. وخطأ حماس أنها أرادت، بالإضافة إلى ذلك أن تعطي لنفسها أبعادا دولية فاتصلت بإيران بعد أن كانت على علاقة قوية بسوريا، فأثارت حفيظة جميع القوى التي تقف في الصف المقابل، بما فيها قوى أغلبية الدول العربية. وكان الأفضل لحماس أن تبقى في الموقع الثاني، وألا تتصدر الحركة الوطنية، حتى تحمي نفسها، وتمكن قوى أخرى من قطف ثمار تضحيات الشعب الذي يعمل تحت رايتها، لكن هذا يتطلب حسا بالتفاني لا حدود له، وتجاوزا للإساءة والاستفزاز اليومي الموجه بالضرورة لها من قبل خصومها ومنافسيها معا.
* برأيكم ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة هل هو مواصلة للمواجهة بين المحور الإيراني السوري الذي له أنصار في الأراضي المحتلة أمام ما يطلق عليه البعض المحور المعتدل، والذي يتشكل من بعض الأنظمة العربية المساندة للإدارة الأمريكية؟
- كما ذكرت سابقا، جانب من ذلك موجود بالطبع، لكن ذلك ليس الأمر في مجمله. فالاستقطاب الإقليمي والدولي الذي حصل، ودفع حركة حماس إلى التقرب من إيران وسوريا، كما دفع حركة فتح إلى التماهي مع ما يسمى بحكومات الاعتدال العربية، واكب التباعد المضطرد بين مواقف وتوجهات وأسلوب عمل قطبي الحركة الوطنية الفلسطينية.
وكان الاستقطاب بهذا المعنى تتويجا للانقسام الوطني نفسه، وتبني إستراتيجيتين متباينتين ومتعارضتين: الأولى تراهن على الضغوط العربية والدولية، وتتبنى تكتيكات سياسية لفتح أفق التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، والثانية تصر على متابعة الكفاح المسلح وتكثيف الضغوط العسكرية وتعميم ثقافة المقاومة والشهادة كوسيلة لتحرير جميع الأرض الفلسطينية وطرد المستعمرين اليهود منها.
السؤال: هل كان الطلاق بين الفريقين والإستراتيجيتين حتميًّا أم أنه كان من الممكن حصول تسويات مؤقتة أو مستمرة بينهما؟ في اعتقادي أن مثل هذه التسويات كانت ممكنة، وهو ما دل عليه تطور التصريحات المؤكدة على استعداد حماس للقبول بدولة فلسطينية في الضفة وغزة، وتجميدها للعمليات العسكرية واقتراحها مبدأ هدنة طويلة، إذا التزمت إسرائيل بذلك. وهو ما يبرهن عليه أيضا تشكيل حكومة الوحدة الوطنية.
ونحن نعرف أن هذه التسويات لم تحظ بموافقة واشنطن ولا تل أبيب، وتمت إدانتها من قبلهما، فهي تجنب حماس العزلة والحصار والحرب التي تريد العاصمتان فرضها عليها. وهو ما سعت إليه وعملت على تحقيقه في النهاية من خلال استفزاز حركة حماس، وإدخالها في حرب داخلية، والضغط على الدول العربية التي رعت إنشاء حكومة الوحدة الوطنية للتخلي عن مساعيها، واتخاذ موقف إدانة رسمية وصريحة لحماس، وتأييد حكومة محمود عباس وحدها... لذلك نتمنى أن تكون هناك تفهمات عربية جديدة تعمل على رأب الصدع بين الحركتين، ولا تستجيب كلية للضغوطات الأمريكية والإسرائيلية، وهذا غير مستحيل عمليا، حتى في ظل الحديث عن المحاور الإقليمية.
* إلى أين نسير في الأراضي المحتلة؟ هل يمكن أن نتحدث عن نهاية مشروع التحرر الوطني الفلسطيني أو أنه بحاجة لوقت طويل حتى يستيقظ ثانية؟
- يعيش مشروع التحرر الوطني الفلسطيني والعربي معه في مأزق منذ عقود طويلة، بل إن وصوله إلى طريق مسدودة هو الذي يفسر الانقسام الذي حصل داخل صفوف الحركة الوطنية، والاستقطاب المتزايد فيه بين قوى تريد التعامل مع الواقع، بل الاستسلام له، من جهة، وقوى أخرى تريد الذهاب أبعد في التحدي والمواجهة وتلقين دروس في التضحية وقبول المخاطر، وهو ما أصبح مصدر مزايدة البعض في البرهان على الاستعداد للشهادة واستخدام العنف، والبعض الآخر في الذهاب حتى التفاهم والتعاون مع الأجنبي للحفاظ على المصالح البسيطة المجسدة في الاستقرار الأدنى وتأمين شروط الحياة اليومية.
وقد تجاوزنا اليوم في فلسطين وغيرها من البلاد العربية نقطة الانقسام ووصلنا إلى القطيعة الناجزة، بل إلى المواجهة الداخلية التي تعبر عن نفسها أكثر فأكثر من خلال المواجهة الإقليمية بين دول الاعتدال المرتبطة بالكتلة الغربية ودول الممانعة والمقاومة والصمود الممثلة بإيران وسوريا والمنظمات المتحلقة حولهما. وإذا استمر هذا الاتجاه فسوف تذوب المشاريع والصراعات الوطنية ومشاريع التحرير وتنحل في المواجهة الإقليمية وتنتهي معها.
لذلك لست متأكدا من أنه ما يزال من الممكن أن نستخدم مفاهيم عادية أو قياسية مثل مشاريع التحرر الوطني؛ لوصف ما يجري في منطقة خرجت فيها إستراتيجيات الدول والمنظمات عن أي قواعد مرعية، وأصبحت اللغة الوحيدة السائدة فيها هي لغة الهمجية والقتل والخراب أو التهديد بالخراب الشامل، وذلك بقدر ما تنزع القوى المتضاربة، الدولية والإقليمية التي تعيش مأزق مشاريعها السلطوية، إلى استخدام جميع الوسائل، مهما كانت لا أخلاقية ولا إنسانية، لتحرير نفسها من القيد، أو للخروج من المطبات التي وقعت فيها، والحفاظ على رهاناتها ومصالحها، وهذا ما يعني أن المواجهة مستمرة، وأن شيئا لم يحسم ولن يحسم في المدى المنظور، طالما لم تدرك القوى الكبرى أنها لن تستطيع الحفاظ على مصالحها من دون اعتبار مصالح الأطراف الأضعف والتعاون معها على صيانتها وتعظيمها.
*حوار أجراه مراسل شبكة إسلام أونلاين. نت في باريس مع المفكر العربي البارز "برهان غليون" مدير مركز دراسات الشرق المعاصر، والأستاذ في جامعة باريس الثالثة.

mercredi, juillet 04, 2007

السياسة الخارجية السورية بين المباديء والمكاسب

اتحاد 4 يونيو 07
حظيت السياسة السورية الخارجية، التي أرسى قواعدها الرئيس حافظ الاسد منذ أربعة عقود، بتقدير كبير من قبل كتاب ومحللين سياسيين عالميين وعرب. وجعل النظام من التفاف الأحزاب والقوى السياسية السورية جميعا من حولها نقطة إجماع وطني لا يجوز المساس بها أو تجاوزها. وقد قامت هذه السياسة عموما خلال العقود الثلاث الأخيرة على التدخل القوي، السياسي والعسكري، في الشؤون الداخلية للبلدان او الحركات الوطنية العربية والإقليمية، بدءا من النزاع العراقي الايراني، إلى النزاع الكردي التركي، مرورا بالنزاع الفلسطيني الاسرائيلي، واللبناني الاسرائيلي، وغيرها. فقد أعطت دمشق لنفسها الحق، باسم الالتزام القومي أحيانا وباسم المصالح الوطنية السورية أحيانا أخرى، في أن تكون طرفا في النزاعات الداخلية العربية، وإذا لم تجدها، لم تتردد في اختلاقها وتوسيعها.
لكن الاحباطات الكثيرة التي واجهتها دمشق في السنوات الماضية، زاد التشكيك في حقيقة الفائدة التي جنتها سورية من هذه السياسة. ويسود شعور طاغ اليوم بان هذه السياسة ربما تكون قد وصلت إلى نهاية طريقها. فبعد أن كان للتدخل في نزاعات داخلية عربية وإقليمية عائدا ايجابيا يؤمن لدمشق فوائد متعددة، استراتيجية أو اقتصادية أو سياسية، أصبح هو نفسه اليوم، بعد تبدل وجهة السياسة الامريكية الشرق أوسطية، سببا في دفع سورية إلى بؤرة صراعات الشرق الأوسط جميعا، وجعلها موضوعا رئيسيا للنزاع. هذا هو الحال في ما يتعلق بعلاقة دمشق الاستراتيجية مع طهران، وتحالفها مع أطراف المقاومة الفلسطينية الرديكالية، العلمانية والإسلامية، وتمسكها بنفوذها الاستثنائي في لبنان، ودعمها العلني للمقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي.
ففي نظر العديد من العواصم الدولية، وليس الإدارة الأمريكية الراهنة فقط، أصبحت دمشق محور سياسة شرق أوسطية حاملة لمخاطر كبيرة. فهي متهمة بسبب تدخليتها الواسعة هذه بدعم الإرهاب، أو على الأقل التلاعب به من أجل تأكيد نفوذها وتوسيع رقعة مصالحها الوطنية. وباستثناء بعض الكتاب اليساريين أو شبه اليساريين الغربيين الذين يدفعهم عداؤهم الايديولوجي والسياسي لسياسات واشنطن الهيمنية إلى إبداء تعاطف نسبي مع سياسة دمشق الخارجية، كما مع غيرها من العواصم التي تبدي تماسكا أكبر تجاه التسلطية الأمريكية، يكاد جميع المسؤولين في الدبلوماسية الدولية ينظرون إلى السياسة السورية الإقليمية والدولية نظرة مليئة بالريبة. فهي إما أن تكون في نظرهم سياسة متهورة تفتقر للمعايير العقلانية والواقعية، أو أنها تسعى بالفعل إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها، في سبيل دفع الأذى المحتمل عنها أو تأكيد نفوذها بوسائل لا شرعية لدى جيرانها وعلى حساب مصالحهم الوطنية.
لكن الدبلوماسيات الغربية ليست الوحيدة التي تنظر بعين الريبة إلى الخيارات السورية في السياسة الخارجية. فمثل هذه الريبة بدأت تغزو أيضا الرأي العام السوري ذاته، أو قطاعات واسعة منه، لا تقتصر على حلقات المعارضة الضيقة أبدا. ولا تعني الريبة التشكيك المطلق بهذه الخيارات وإنما التساؤل، من وراء إعلان التأييد الظاهري لها، عما إذا كانت تنطوي دائما على خيارات سليمة وناجعة. فعلى سبيل المثال، هل كان دعم المقاومة الكردية الماركسية، أعني حزب العمال الكردستاني، خلال سنوات حكم الرئيس حافظ الأسد الطويل، ضد الحكومة التركية، مفيدا لسورية؟ وهل كان لتأييد جميع أشكال المقاومة المسلحة في العراق، بكل ما انطوت عليه من تناقضات، وبصرف النظر عن منطلقاتها الفكرية ووسائل عملها وتقنياتها العسكرية، نتائج ايجابية أيضا تخدم المصالح السورية العليا؟ وبالمثل ما هي الفائدة التي جنتها دمشق في النهاية من تشجيعها الانقسام داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، واختيارها الوقوف إلى صف التيارات الرديكالية الفلسطينية، من الجبهة الشعبية بشقيها، العادية والقيادة العامة التي يترأسها أحمد جبريل، ثم دعمها لحركة حماس الاسلامية منذ التسعينيات، ضد ياسر عرفات ومنظمة فتح المركزية التي كانت تمثل الأكثرية السياسية في الحركة الوطنية الفلسطينية؟ وهل أعطى التحالف مع ايران وبالتالي مع حزب الله في لبنان، فوائد لدمشق تفوق تلك التي كان من الممكن أن تجنيها سورية لو اختارت توثيق الروابط مع المنظومة العربية؟
تتلخص إجابات أنصار دمشق بنظريتين متباينتين يشكلان في الوقت ذاته تأويلين لهذه السياسة نفسها. الأولى ذات سمة واقعية أو "ريل بوليتيك" تفيد بأن هذه السياسة هي التي ضمنت ولا تزال تضمن لسورية أوراقا إقليمية أساسية من أجل العمل والمبادرة على ساحة الشرق الأوسط. ومنها استمدت سورية نفوذا كبيرا في المنطقة، وتحولت إلى دولة فاعلة ومؤثرة يخشى جانبها، بعد أن كانت، في الخميسينيات والستينيات، موضوع نزاع بين الدول الأخرى العربية وغير العربية. وهذا يعني أن النفوذ الذي يؤمنه التدخل في قضايا الدول المجاورة هو السند للدفاع عن المصالح السورية الوطنية، وأن أي تراجع عنه يعني المغامرة بتعريض هذه المصالح للخطر. وربما كان أولها المصالح الأمنية. ومن هذا المنظور من الطبيعي ان لا تثير النزاعات التي تتفجر من حول سورية قلقا كبيرا لدى القيادة السورية، بل بالعكس. إنها تؤكد بالنسبة لها صحة خياراتها. فهي تعتقد اليوم أكثر من أي يوم مضى أن أفضل وسيلة لدفع الضغوط الخارجية ومنعهم من اللعب بالساحة الداخلية، هي تكثيف الضغوط عليهم، مباشرة أو من خلال حلفائهم المحليين، او ما ترى فيهم ذلك، واللعب في ملعبهم. وأن أفضل وسيلة لنيل السلام والهدوء والراحة في الداخل هو أن إنهاك الآخرين وحرمانهم من الاستقرار.
أما النظرية الثانية فهي من طبيعة عقائدية مناقضة تماما للأولى. فهي ترى في التدخلية السورية تجسيدا لوفاء دمشق لمبادئها القومية والوطنية التقدمية. ومن هذا المنظور ليست الجهود التي تبذلها سورية للبقاء في قلب الشؤون الداخلية العربية استثمارات سياسية واستراتيجية تهدف إلى الحصول على مكاسب استراتيجية أو اقتصادية أكبر، وإنما هي تضحيات يقوم بها السوريون لايمانهم بالقيم الوطنية والقومية، ودفاعهم عن استقلال العرب وحريتهم وكرامتهم. وفي هذه الحالة لا بأس في أن لا تكون لهذه السياسة عوائد حقيقية، من أي نوع كان. فهي ليست مقصودة لفوائدها وإنما هي واجب يقع على السوريين ولا يمكنهم تركه أو تجاهله من دون أن يفقدوا مبرر وجودهم السياسي والعقائدي معا. ومن شواهد النظرية الأولى اعتقاد مراقبين كثر، بل ومسؤولين سوريين، أن التحالف مع طهران ضمن ولا يزال يضمن وجود حزب الله كورقة للضغط على إسرائيل وإجبارها على إعادة الجولان إلى سورية. وينطبق الأمر نفسه على الدعم السوري السابق للحركة الانفصالية الكردية بقيادة أوجلان في تركيا. فقد كان الرئيس حافظ الأسد يعتقد أنه سوف يتمكن عن طريق هذا التحالف من إجبار أنقرة على الاعتراف بحصة سورية الطبيعية من مياه الأنهار المشتركة، التي توجد منابعها في تركيا. أما التحالف مع حركات المعارضة الفلسطينية، مهما كان اتجاهها السياسي والعقائدي، علمانيا أم إسلاميا، فالهدف منه قطع الطريق على أي تسوية منفردة يمكن للحركة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات، الأقرب في تحالفاته إلى مصر والمملكة السعودية، أن تعقدها مع إسرائيل قبل أن يتم التوصل إلى تسوية سورية إسرائيلية تعيد الجولان المحتل.
لكن بالرغم من أن النظام يستخدم الحجتين لتبرير خياراته السياسية، خطاب الواقعية السياسية وخطاب المثالية الايديولجية القومية، إلا أن الخطاب القومي هو الذي يسود أحاديث وخطب المسؤولين في الحزب والدولة. هكذا لا يكف المسؤولون السوريون، عندما يوجه لهم النقد بسبب تدخلهم في الشؤون العراقية أو اللبنانية أو الفلسطينية، عن تكرار الفكرة ذاتها التي تفيد بأن سورية قدمت تضحيات كبيرة في لبنان، أو أنها لا تقبل بتقسيم العراق أو تغيير طبيعته القومية، أو أنها ترفض تصفية القضية الفلسطينية من قبل التيارات الانهزامية والاستسلامية. أما المعارضة فهي تستهين كثيرا بالحجة القومية التي يستخدمها المسؤولون السوريون، وترى فيها وسيلة للتغطية على المقاربة الأولى أو تبريرا لها. لكن المعارضة لا تناقش جديا نظرية الواقعية السياسية التي تنظر إلى النشاطية المفرطة على أنها الخيار الوحيد لسورية إذا أرادت أن تحافظ على موقعها الإقليمي وتتملك أوراقا للفعل الاستراتيجي تضمن مصالحها الوطنية وتبعد عنها القوى والحركات الطامعة فيها أو المهددة لاستقرارها ووحدتها الوطنية. فهي إما أنها تشارك في النظرة ذاتها إلى مسألة النفوذ الإقليمي، أو بعبارة أدق سياسة الهيمنة الإقليمية، التي اعتبرها أنصار الحكم البعثي باستمرار على أنها مركزالإنجاز الرئيسي لنظام الأسد، أو أنها لا تأخذ مأخذ الجد ادعاءات النظام حول مبررات السياسات التدخلية الخارجية وتتهمه مسبقا بأنه لا يهدف منها إلا إلى خدمة النظام وتأمين دفاعاته ومصالحه، حتى لو كان ذلك على حساب المصالح الوطنية السورية. لكن هذا الموقف يقطع الطريق مسبقا على أي مناقشة جدية لأهداف السياسة الخارجية السورية وأساليب عملها. ويفقد المعارضة نفسها في هذه الحالة فرصة بلورة سياسة خارجية سورية وطنية بالفعل، أي لا تتوسل خدمة نظام أو عقيدة او رؤية خاصة ولا الدفاع عن مصالح فئوية.
ينبغي في اعتقادي، بالعكس من ذلك، أخذ ادعاءات النظام على محمل الجد حتى يمكن فحصها بطريقة منهجية تمكننا وحدها من بلورة رؤية لأهداف السياسة الوطنية السورية ومعرفة أفضل الأساليب لخدمتها والدفاع عنها. والسؤال الذي يطرح اليوم، ونحن على أعتاب حرب إقليمية وحروب طوائفية منظورة وغير منظورة، تشكل التدخلية السورية أحد ذرائعها ومبرراتها، هل كان الانخراط في النزاعات الداخلية للأقطار العربية، سواء جاء استجابة لمراكمة أوراق ضغط استراتيجية أو تحقيقا لعقيدة قومية، الخيار الوحيد الممكن لبناء استراتيجية سورية وطنية، أم كان من المحتمل الوصول إلى الأهداف ذاتها بالطرق الدبلوماسية وأساليب التفاوض السياسية؟ وهل ساعدت هذه التدخلات في النزاعات الداخلية العربية والإقليمية في تحقيق المصالح السورية أو تحقيق جزء منها، أم عملت بالعكس على ابعاد دمشق بشكل أكبر عن إمكانية ايجاد الحلول لمشاكلها الوطنية؟ والجواب على هذين السؤالين يفترض منطقيا الإجابة على سؤال سياسي أسبق يتعلق بتعريف المصالح الوطنية السورية، وتحديد في ما إذا كانت مصلحة نوعية واحدة أم مصالح متعددة ومتباينة في سلم الاهمية والأولوية.