vendredi, septembre 01, 2006

النص العربي لمقابلة World Security Network Foundation

مصالح أمريكية وأوروبية وعربية وراء الحرب على لبنان
حادثه : هشام القروي
برهان غليون أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون – باريس 3 – ومدير مركز دراسات العالم العربي والشرق المعاصر، غني عن التعريف. فهو من الشخصيات الفكرية العربية التي روجتها وسائل الاعلام، بما فيها المكتوبة والمسموعة والمرئية. والحديث معه شيق وممتع ومفيد. وفي الوقت الذي أحضر فيه هذه المقابلة للنشر، اطلعت على بعض الأخبار التي تؤكد أغلب ما قاله لي حول الحرب اللبنانية، وخاصة ما كشفته "الغارديان" البريطانية ومجلة "نيويوركر" – انظر ما كتبه سيمور هارش في عدد 14 أغسطس 2006 - من أن عددا من المسؤولين الاسرائيليين سافروا الى الولايات المتحدة في شهر أيار/مايو الماضي لطرح خطط مهاجمة حزب الله على الحكومة الأمريكية، لأخذ الضوء الأخضر، وأن الادارة الأمريكية مورطة تماما في الاحضار لهذه الحرب. وهذا ما أكده لي البروفسور برهان غليون قبل أن تظهر أية اشارات اليه في الصحافة. ودون اطالة اليكم الحديث:
لنبدأ من هذه الحرب الأخيرة على لبنان... ألا ترى ان ما شجع اسرائيل هو انها تعرف مسبقا أن الدول العربية عاجزة ولن ترد الفعل؟
د. برهان غليون: أعتقد ان اسرائيل لم تتوقع اطلاقا رد فعل الدول العربية على هذه الحرب وأقل من ذلك رد الفعل الايجابي من بعضها. وأعتقد ان مشروع الحرب قد نوقش بشكل واضح بين واشنطن وتل أبيب وهدفه تطبيق القرار 1559 الذي ينص - من أشياء أخرى - على تفكيك حزب الله ونزع سلاحه. وهو الهدف الذي تسعى الدبلوماسية الاسرائيلية والاوروبية لتحقيقه منذ سنتين عن طريق الحكومة اللبنانية من دون جدوى. وقد استغلت اسرائيل، كما هو واضح، عملية خطف الجنديين من قبل حزب الله لتبدأ تنفيذ هذا المشروع المعد منذ فترة طويلة. إن أهمية نزع سلاح حزب الله مزدوجة، وتعني المصالح الأمريكية والاسرائيلية معا. فبالنسبة للولايات المتحدة، يمثل تفكيك حزب الله ضربة كبيرة للمحور الذي تشكل في السنتين الأخيرتين ضد سياستها في الشرق الأوسط بطرفيه السوري والايراني. فنزع سلاح حزب الله هو كسر الذراع الضاربة لهذا المحور، ومن خلال ذلك تطويع النظام السوري واضعاف الموقف الايراني فيما يتعلق بملف تخصيب اليورانيوم المفتوح. ثم تثبيت الوضع اللبناني الذي نجم عن انتفاضة 14 آذار بعد مقتل الحريري وقاد الى اخراج القوات السورية من لبنان. هذا بالنسبة للولايات المتحدة، أما فيما يتعلق باسرائيل، فقد وجدت الفرصة المثالية للتخلص من التهديد الدائم على حدودها الشمالية من قبل حزب الله الذي يملك ترسانة من الصواريخ والكاتيوشا- القصيرة والمتوسطة المدى - والذي ارتبط اسمه بأكبر هزيمة عسكرية تكبدها الجيش الاسرائيلي في تاريخه عندما اضطر للانسحاب من جنوب لبنان عام 2000 تحت ضربات هذا الحزب.
الحرب الاسرائيلية على لبنان هي في نفس الوقت حرب أمريكية، والى حد ما حرب عربية، لأن قسما كبيرا من الدول العربية المشرقية بدأت، بعد توقيع اتفاقية الدفاع الاستراتيجي بين سوريا وايران في السنة الماضية، تشعر بخطر التمدد الايراني في المنطقة، بل احتمال تكوين حلف يضم أيضا العراق الذي تسيطر عليه حكومة من أصول شيعية. فلهذه الدول أيضا مصلحة في أن يقع اضعاف هذا المحور من جهة، وفي لجم طموح ايران لامتلاك تكنولوجيا نووية. نستطيع أن نقول إنه قد التقت في هذه الحرب مصالح متعددة وشكل حزب الله هدفا مشتركا لها، وهو ما يفسر البطء الشديد لرد فعل الدبلوماسية الدولية - بما في ذلك أوروبا - التي لا تختلف مصالحها عن الولايات المتحدة وإن اختلفت أساليب المعالجة، والدول العربية التي أدان بعضهافي البداية مغامرة حزب الله، ولم ينعقد مجلس وزراء الخارجية العرب الا بعد 26 يوما من الحرب.
هناك فرضية تقول ان اسرائيل تشعر بالاختناق في الوقت الذي تجد نفسها محاصرة من طرف دول معادية لها...كوجود وكمشروع... وفي هذا الوضع، تحاول اسرائيل فك الحصار بضرب حلقاته الأضعف... فما هو تعليقك؟
د. برهان غليون: يمكن أن تشعر اسرائيل بأنها محاصرة لأنها لا تزال في حالة عداء مع القسم الأكبر من الدول العربية. لكن هذا الشعور يخفي عقدة نقص تكوينية ولا يعبر عن الواقع الحقيقي. فالاسرائيليون أنفسهم يقولون - وهم صادقون - إن بإمكانهم هزيمة الجيوش العربية مجتمعة. والحقيقة أن اسرائيل هي التي تحاصر البلاد العربية بما تملكه من تفوق عسكري ساحق ومن تأييد دولي لا يفتر سواء من قبل واشنطن أو أوروبا، وبما هو قائم من تفكك الوضع العربي وتمزق جبهة البلدان العربية. والدليل على ذلك أن اسرائيل مستمرة في التطرف في سياستها وعدم التخلي عن أي مكاسب اقليمية حققتها أثناء الحروب السابقة التي ربحتها. فهي مستمرة في توسيع رقعة الاستيطان في فلسطين والالتفاف حول أي مبادرة تقود نحو استقلال الدولة الفلسطينية، ولا تزال مستمرة في احتلال هضبة الجولان واخضاعها لسياسة الاستيطان، كما هي مصرة على الاحتفاظ بأراضي شبعا وكفر شوبا اللبنانية. فالذي يسعى للاحتفاظ بالمكاسب الاقليمية بالرغم من عروض السلام -المقدمة من العالم العربي- التي لم تهدأ، هو الذي يشعر بالقوة وبالقدرة على مواجهة الخصوم واخضاعهم. وهذا هو واقع الحال اليوم. اسرائيل هي التي تفرض الاذعان على البلدان العربية وليس العكس، وهي التي تشكل تهديدا حقيقيا لهذه البلدان بسبب تفوقها العسكري الساحق، وليس أي دولة عربية أخرى. فإذا كان هناك فعلا شعور لدى الاسرائيليين بالحصار بينما هم القوة الضاربة الأولى في الشرق الأوسط، فليس هناك حل للمسألة سوى تدخل الدول الكبرى لتحقيق السلام مع ضمان أمن اسرائيل وتطمينها. لكن لا يمكن الاستمرار على الوضع الراهن الذي يعني أنه من المستحيل تطمين اسرائيل وارضاء عطشها للأمن إلا بتدمير محيطها العربي في لبنان وفلسطين وغيرهما.
كما هو معروف، الحرب هي أفضل تعبير عن مأزق السياسة، أو لنستعير عبارة كلاوزفيتش، هي "مواصلة السياسة بطرق أخرى"... فبرأيك، من المسؤول عن المأزق السياسي؟
د.برهان غليون: المسؤول عن المأزق السياسي في الشرق الأوسط - أي عدم التوصل الى حل سياسي للصراع - بالدرجة الأولى، هي أطماع اسرائيل الاقليمية واستراتيجية الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة التي تراهن على التفوق العسكري الاسرائيلي من أجل فرض سيطرتها في المنطقة وتثبيته. هذا يعني أن غياب السلام والتسويات نابع أولا من عدم وجود ارادة سلام فعلية وتفضيل القادة الاسرائيليين الاحتفاظ بالأرض في فلسطين والجولان ولبنان على السلام. والمسؤول الثاني سياسات الهيمنة الغربية على منطقة الشرق الأوسط واكتشافها في التفوق العسكري الاسرائيلي أفضل وسيلة لأرهاب الدول العربية واجبارها على الخضوع لأجندة السيطرة العالمية.
أنت صاحب الفكرة التي تقول انه في المثلث المكون من سوريا وايران وحزب الله، فإن سوريا هي أضعف الحلقات. ولهذا، فهي مستهدفة من اسرائيل على المدى البعيد... أود ان أربط هذا بأطروحة دانيال بيمان الذي كتب في "فورين آفيرز" - نوفمبر/ديسمبر 2003 - قائلا ان الخيار الوحيد الذي تستطيع واشنطن أن تجابه به حزب الله غير مباشر، ويتمثل في الضغط على سوريا وايران لنزع سلاحه... هل تعتقد أن هذا الخيار فشل الآن؟
د.برهان غليون: هناك الكثير من المحللين الأمريكيين الذين دعوا في الأيام الأخيرة الادارة الأمريكية الى فتح حوار مع سوريا من أجل الالتفاف على العجز الذي أظهره الجيش الاسرائيلي أمام مقاومة حزب الله. وهذا دليل على أن حزب الله ليس الحلقة الأضعف ولكن سوريا بالفعل. إلا أن سوريا في هذه الحرب لم تلعب ورقة التضامن الفعلي مع حزب الله بالرغم من الخطابات المناقضة لذلك، ولم تفعل اتفاقية الدفاع المشترك التي وقعتها مع لبنان في الماضي. ولكنها وقفت على الحياد وأوحت من خلال تصريحات مسؤوليها أنها مستعدة لن تساهم في اطفاء الحريق ووقف ضربات حزب الله اذا ما قدمت لها مكاسب معينة. باختصار، سوريا تجنبت الضربة الاسرائيلية والأمريكية لأنها وضعت نفسها في صف الذين يعرضون خدماتهم لوقف النزاع ولم تجعل نفسها طرفا في هذا النزاع. لا بل أن وزير الاعلام محسن بلال صرح في منتصف الحرب أن سوريا تعرف "القاعدة" في لبنان وهي مستعدة للتعاون مع الولايات المتحدة حول هذا الموضوع، إذا قبلت. سوريا بشكل عام تريد أن تستفيد مما يحصل، ولكنها لا تريد أن تتحمل مسؤوليته. بالاضافة الى ان الاسرائيليين يعتقدون أن الابقاء على نظام ضعيف ومسالم في دمشق أفضل من فتح باب لتطورات لا يمكن التكهن بها. الذين كانوا يريدون توسيع رقعة الحرب لضرب سوريا هم الأمريكيون وليس اسرائيل. أعتقد أن الحرب الاسرائيلية على لبنان خيبت الادارة الأمريكية في أمرين: أولا، عجزها بعد شهر من المعارك على القضاء على حزب الله. وثانيا، تجنيبها سوريا أي ضربة في سياق الحرب.
اذا كانت هذه السياسة الأمريكية مدعومة أمريكيا، فلماذا أصرت فرنسا على التدخل بشكل يعقد المشكلة؟ اللبنانيون والاسرائيليون وحتى الفلسطينيين والسوريين عارضوا الاقتراحات الفرنسية، وذهب السيد ايميل لحود، رئيس لبنان، في مقابلة بثتها "الجزيرة"، الى حد القول ان مساعي فرنسا استعمارية وليس وراءها سوى البحث عن موطئ قدم جديد... غير أن بعض الملاحظين الفرنسيين كانوا أشاروا الى أن باريس تحاول التقرب من ادارة بوش بعد الجفاء، حول موضوعين يهمان الملف السوري وملف حزب الله... فكيف ترى المسألة؟
د. برهان غليون: لا يعبر موقف لحود عن موقف لبنان الذي يمثله موقف الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة. وهذا الأخير يراهن كثيرا على تدخل فرنسا لتعديل الموقف الأمريكي لصالح لبنان. ووراء هذا الموقف العلاقات الوثيقة التي تربط لبنان بفرنسا والتي تجعل الفرنسيين يشعرون بالتزام خاص تجاه لبنان، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، لا اعتقد أن الفرنسيين لعبوا لعبة الولايات المتحدة في هذا الموضوع، وإنما كان هدفهم الوصول الى تسوية بين الموقف الاسرائيلي والموقف اللبناني. وهو ما يصعب على الدبلوماسية الأمريكية الممالئة لاسرائيل تحقيقه بالمطلق. لكن الموقف الفرنسي لا يختلف عن الموقف الأمريكي والأوروبي فيما يتعلق بتطبيق القرار 1559 ونزع سلاح حزب الله. وهذه هي قاعدة الاتفاق.و فيما يتعلق بسوري، يختلف الأمر. فللأمريكيين مطالب اهمها وقف ما يسمونه "دعم الارهاب" في العراق. وللفرنسيين مطالب من دمشق أيضا، أهمها احترام سيادة لبنان وعدم التدخل فيه، لاعتقادهم ان لبنان يقع تاريخيا في دائرة النفوذ الفرنكوفوني. لذلك نستطيع القول: التقت مصالح واشنطن وباريس من أجل الضغط على سوريا وعزلها، وهو ما قوى من امكانية هذا العزل. وقد ساهم هذا الوفاق في اضعاف الموقف السوري بشكل كبير. وهو ليس حال لبنان الذي تتمتع حكومته بسمعة ورعاية وتأييد كبير من قبل الفرنسيين.
لنتحدث الآن عن سوريا... هل تستطيع أن تذهب الى هناك متى أردت؟
د. برهان غليون: كل امرئ يستطيع أن يذهب الى سوريا متى يريد، ولكنه لا يستطيع أن يفعل في سوريا ما يريد، ولا أن يخرج منها كما يريد. فليس خافيا على أحد ان السلطة السورية القائمة لا تعير أهمية كبرى للحريات السياسية ولا لحقوق الانسان.
كثيرا ما يقدمونك كمعارض لنظام البعث السوري... كيف تصف أنت علاقاتك مع النظام ومع المعارضة؟
د. برهان غليون: أعرف ذلك، ولكن المعارض في نظري هو الذي ينتمي الى حركة سياسية تعمل لأخذ السلطة. بهذا المعنى، انا لست عضوا في أي حزب سوري، ولكني مثقف نقدي يرفض الوضع القائم ويدعو للتغيير الديمقراطي، ولا يتردد في دعم كل الحركات السياسية التي تعمل لتحقيق هذا الهدف. بهذا المعنى أيضا، لست رجل سياسة وانما رجل فكر له موقف سياسي واضح فيما يتعلق بمصير بلاده، كما هو الحال بالنسبة لمسائل أخرى عديدة تتعلق بالسياسات الدولية ومستقبلها. وبهذا المعنى أيضا أكون معارضا. لكن هذا الموقف يسمح في الواقع بأن يكون لي هامش حركة تجاه النظام وتجاه المعارضةالسياسية في الوقت نفسه.فهدفي ليس الوصول الى السلطة ولكن مساعدةالمجتمع على تغيير الأوضاع وازالة الاستبداد.
أنت كتبت أكثر من ثلاثين كتاب حول كل شيء يتعلق بالمجتمع والسياسة في العالم العربي والاسلامي...وأنت تظهر للحديث عن هذه المواضيع كذلك بشكل دوري في القنوات الفضائية، كالجزيرة والعربية، وسواهما... وقد أخذت سوريا حصة كبيرة من اهتماماتك. فما هو توصيفك للوضع في سوريا؟ وكيف ترى المرحلة القادمة؟
د. برهان غليون: أخذت سوريا نصيبا مهما من اهتماماتي خاصة في السنوات الخمس الماضية لأني اعتقدت، كما اعتقد العديد من السوريين، أن هناك فرصة للتغيير ظهرت بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد. فكان لا بد من تعزيز الحركة الديمقراطية الناشئة ودعمها فكريا وسياسيا. وهذا ما دعاني الى أخذ مبادرات داخل سوريا وخارجها تتعلق بتوسيع فرص الاصلاح والتغيير الديمقراطي في هذا البلد. ومثال ذلك مشاركتي في ما سمي ب"ربيع دمشق"، الذي قضت السلطة على براعمه بعد شهور قليلة من تفتحها عام 2001. وما تعيشه سوريا اليوم هو نتائج القضاء على هذا الربيع الذي لم يكتمل. أي العودة الى سياسة القمع وتسليط أجهزة الأمن على المجتمع واغلاق أفق الاصلاح وزوال الثقة بالحكم، واستشراء الفساد كما لم يحصل في أي حقبة سابقة. ان قطع الطريق على الحركة الاصلاحية، كان يعني دفع البلاد بشكل أكبر نحو الفوضى والعنف. ولا يغير من ذلك ان العنف والفوضى لا يزالان الى الآن من صنع أجهزة الأمن والسلطة. ولكن ليس هناك ما يمنع اذا استمر تدهور ظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كما هو الحال، أن ينتقل سلاح العنف والفوضى من السلطة الى السكان وأن ندخل في حالة من الانفلات التي تميز اليوم للأسف العديد من بلدان منطقتنا. مشكلة سوريا الآن انها تعيش من دون أي أفق، من دون سياسة للمستقبل، من دون أمل، محاصرة من الداخل من قبل السطة وأجهزتها، ومن الخارج من قبل المنظومة الدولية التي ترى في هذا النظام مصدرا للمخاطر والتهديدات المنظورة وغير المنظورة.
ما الذي يمثله "ربيع دمشق"؟
د. برهان غليون: بعد وفاة حافظ الأسد الذي كان يمثل نوعا من السلطة الأبوية القاسية والمهابة معا، انتشرت لدى طبقة المثقفين والطبقة الوسطى آمال كبيرة بالتغيير والخروج من نظام الحزب الواحد الشبيه بالنظم الشيوعية. وغذى خطاب الرئيس الجديد الذي تحدث عن ضرورة التغيير في اطار سعيه لنيل شرعية جديدة، هذه الآمال عند المثقفين والطبقة الوسطى. فانتشرت منذ السنة الأولى ظاهرة المنتديات الفكرية ومجالس الحوار في المدن السورية بل حتى في القرى، كالنار في الهشيم. وتحولت سوريا خلال عدة شهور الى خلايا نقاش دائم، ليل نهار، حول مستقبل البلاد، وبشكل خاص تحقيق تحول ديمقراطي يسمح لكل الجماعات والافراد بالتعبير بحرية والمشاركة في الحياة السياسية المحجوزة حتى الآن. وأنا الذي شاركت في أكثر من منتدى، كان لدي شعور حقيقي في ذلك الوقت، اننا لو استمرينا شهرين آخرين لغدا من المستحيل على أي نظام غير ديمقراطي أن يدوم في البلاد. كانت هناك حركة شعبية هائلة تطالب بالتغيير الديمقراطي بجرأة وشجاعة وحماس وذكاء وعقلانية.
لكن ما شعرنا به نحن، لسوء الحظ، شعرت به أيضا فئات المصالح الكبرى المافيوية المرتبطة بأجهزة الأمن والمتحالفة معها. وهي التي قادت منذ سبتمبر 2001 انقلابا كاملا على الوضع عبر عنه اغلاق المنتديات الفكرية ومنع التظاهرات السياسية وملاحقة المثقفين والحكم على 10 من أنشط المساهمين بأحكام قاسية تراوحت بين 5 و10 سنوات. ولا يزال الدكتور عارف دليلة عميد كلية الاقتصاد السابق ضحية هذا الحكم (حيث يقضي سنواته العشر في السجن). هذا في حين أخضع الذين اطلق سراحهم بعد تقضية مدة العقوبة لملاحقة مستمرة من قبل الأجهزة الأمنية فرضت عليهم ان يلوذوا بالصمت. ولا تزال ملاحقة المثقفين والناشطين في الجمعيات المدنية وانزال عقوبات طويلة بالسجن عليهم ملخص الحياة السياسية في هذا البلد. فلا يتحدث الناس في سوريا الا عن المعتقلين والمفرج عنهم والمعتقلين ثانية والذين يتعقبهم الأمن...الخ. هذه هي حياة سوريا ونهاية ربيع دمشق. لقد قتل الأمل بالتغيير الديمقراطي في المهد.
للولايات المتحدة اهتمام كبير بسوريا يعود الى منتصف القرن العشرين - فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية -، حيث نجدها ضالعة في تلك السلسلة من الانقلابات التي نقلت سوريا من يد الى يد... فكيف ترى مستقبل هذه العلاقات؟
د. برهان غليون: أعتقد أن العلاقات مع الولايات المتحدة ستكون صعبة مهما كانت طبيعة النظام القائم في سوريا طالما بقيت أمريكا ممالئة بشكل مطلق لاسرائيل وقابلة بسياستها التوسعية في الاراضي السورية المحتلة - الجولان - وفي الاراضي الفلسطينية. فالرأي العام السوري عموما غير قادر على تفهم هذا الانحياز الدائم والكامل لواشنطن تجاه السياسات الأكثر تطرفا في تل أبيب، في الوقت الذي كان الشعب السوري ينتظر، مثل شعوب المشرق جميعا، مبادرة أمريكية جدية ومنتظرة لانهاء النزاع العربي الاسرائيلي واخراج المنطقة من دوامة العنف التي أدخلها فيها هذا النزاع. وكان الرئيس بوش نفسه قد وعد بوجود دولة فلسطينية عام 2005، ولم يحدث شيء بعد ذلك. واليوم لا يزال الشعب الفلسطيني من دون أي أفق سوى الاحتلال، في الوقت الذي تدعم فيه الولايات المتحدة حربا تدميرية في لبنان ولا تطرح أي مبادرة لانهاء النزاع وتحرير الشرق الأوسط من أشباح الماضي الخانقة. من المؤكد ان الشعب السوري مثله مثل الشعوب العربية الأخرى ليس لديه أي عداء للولايات المتحدة، بل ان هذه الشعوب تراهن على واشنطن للخروج من أزماتها، لكنها تكن جميعا عداء عميقا للسياسات الأمريكية المنحازة التي خيبت أملها وجعلت من وعود واشنطن المستمرة وعودا كاذبة ومحبطة.
كيف ترى البديل في سوريا؟
د. برهان غليون: أنا لا أرى بديلا عن نظام ديمقراطي. وحتى نصل اليه ينبغي العمل على جبهتين متوازيتين: أولا، جبهة العمل السياسي التي تعنى بإيقاظ القوى الحية في المجتمع وتنظيمها وتوحيدها. وبالفعل، ولد في السنة الماضية أول تحالف سوري تحت عنوان "إعلان دمشق"، ضم مجموعة كبيرة من الأحزاب والقوى السياسية الديمقراطية. وثانيا، الجبهة الثقافية والفكرية، فلن تتقدم الديمقراطية في سوريا من دون تفكيك الثقافة الأبوية والبيروقراطية والاستبدادية القائمة. وفي المقابل، تطوير ثقافة ديمقراطية تعنى بمفهوم الحرية الفردية والحق والعدالة، وترسخ "قيم التعاون والتضامن والثقة بين الأفراد الذين مزقهم القهر والاضطهاد وجعلهم فاقدي الثقة بأنفسهم وبمواطنيهم. وإذا كان انجاز المهام المتعلقة بالجبهة السياسية يتوقف بشكل رئيسي على السياسيين، - وهم لا يزالون قليلي التجربة - فإن تحقيق مهام الجبهة الثقافية يتوقف بالدرجة الأولى على المفكرين والأدباء والفنانين والمثقفين، ويستدعي منهم تواصلا أكبر مع المجتمع وقدرة أكثؤ على الابداع. ولكن لا أعتقد أن من الممكن التقدم في هذا المشروع من دون مساعدة الظروف الاقليمية والدولية. فليس من الممكن تصور تقدم محسوس للحركة وللفكر الديمقراطيين في بيئة تسيطر عليها الحروب الدائمة ذات الصفة الوطنية أوالقومية أو الطائفية كما هو سائد اليوم في اقليم الشرق العربي. وليس من الممكن تصور تطور كبير للثقافة الديمقراطية في هذه المنطقة أيضا اذا سيطرت على الأجواء الدولية مناخات الحرب الحضارية والثقافية وحصل الاستقطاب بين الثقافات والانغلاق المتبادل كما هو الحال اليوم. فمناخ الحروب الأولى ومناخ الحرب الحضارية أو الثقافية يقودان لا محالة الى الانغلاق والتعصب، والتضامن الآلي على حساب نمو قيم الفردية والحرية والقانون. وللأسف، لا تزال البيئة الدولية فيما يتعلق بالمجتمعات العربية والاسلامية معادية لنمو ثقافة ديمقراطية حية.
منذ صدور "بيان من أجل الديمقراطية" في 1979، تعتبر من أهم المدافعين عن القيم الديمقراطية في العالم العربي. فما رأيك في برنامج الدمقرطة الذي تطرحه ادارة بوش كدبلوماسية عامة في الشرق الأوسط؟
د.برهان غليون: من دون التشكيك بنوايا أحد، أعتقد أن مشروع الديمقراطية الذي طرحته الادارة الأمريكية قد جاء على سبيل الحصول على بعض الشرعية لمشروع السيطرة السياسية والعسكرية في المنطقة. أقصد من ذلك أن الديمقراطية الأمريكية الموعودة لم تكن هدفا في ذاتها، وانما وسيلة لتحقيق أجندة معادية في مضمونها للديمقراطية، هي أجندة الهيمنة الإقليمية الأمريكية. ولذلك، أعتقد أن هذا الارتباط بين الدعوة الأمريكية الى الديمقراطية في الشرق الأوسط وبين مشروع السيطرة شبه الاستعمارية المرتبطة بالتحكم بمصادر الطاقة النفطية والدفاع عن أمن اسرائيل وتوسعها، هو الذي أجهض أمل الأمريكيين في أن يحظى مشروعهم بأي صدقية أو تأييد من قبل شعوب المنطقة. وأنا اعتقد أن مشروع الدمقرطة الذي طرحه الأمريكيون،- اذا كان هناك فعلا مشروع وليس مجرد ألفاظ - قد أصبح من الماضي ولم يعد أحد يتحدث عنه. لا، بل ان الأمريكيين غدوا يعتقدون أنهم كانوا مخطئين ومتسرعين، وأنه من مصلحتهم العودة الى سياستهم القديمة، أي تأييد النظم الديكتاتورية والاستبدادية والأبوية، وهو التقليد الذي اتبعوه منذ ستين عاما، كما ذكر الرئيس بوش. وأفضل دليل على ذلك، تلاشي الضغوط القوية التي مارسوها في سنوات سابقة على نظم مثل نظم الخليج (السعودية بشكل خاص، ومصر، وليبيا، وغيرها)، وعودة العلاقات الطبيعية مع هذه النظم. لكن الضربة القاصمة للخطاب الأمريكي حول دمقرطة المنطقة جاء من دون شك من الكارثة التي تسببت بها سياسات الهيمنة الغشيمة في العراق والتي أدت الى ما يصفه المسؤولون الأمريكيون انفسهم اليوم ببداية حرب أهلية.
كل الأنظمة العربية "الثورية" سقطت أو تغيرت أو غيرت مواقفها. والحقيقة أن أكثرها راهن على الاتحاد السوفياتي، فذهب بذهابه (اليمن، العراق...الخ)، لم يبق عمليا سوى سوريا! هل انتصرت السياسة الواقعية في النهاية على السياسة العقائدية؟
د.برهان غليون: لا أعتقد أن الموضوع يتعلق بالتباين بين نظم ايديولوجية واخرى براجماتية. أعتقد أن النظام السوري هو براجماتي من الدرجة الأولى، وليست الايديولوجيا سوى غلالة للتغطية وحسب. ولا أعتقد أن الداعين الى نظم ديمقراطية أو ليبرالية يفتقرون الى الايديولوجيا. هم أيضا يدعون الى نظم تلتزم بقيم ومبادئ معينة. الذي انهار هو نمط من الحكم والادارة أظهرا عقمهما وفسادهما في الدول الشيوعية السابقة كما هو الحال في العديد من الدول العربية بسبب ما ينطويان عليه من تناقض وبيروقراطية وجمود يتنافى مع حاجات التفاعل الحي مع الاقتصاد والمجتمع والمعرفة في العصر الحديث. وعلى أية حال، ليس هناك أي ضمانة في ألا تخفق أيضا النظم الليبرالية الجديدة المطبقة في بعض هذه البلدان اذا لم تتمتع بقيادات نزيهة وخلاقة في الوقت نفسه. وفي العديد من البلدان ارتبطت النظم الليبرالية الجديدة بتطور ملفت لظاهرة المافيا الاقتصادية والسياسية وأدت الى طريق مسدود. وتجربة أمريكا اللاتينية التي تشهد اليوم عودة الى السياسات اليسارية دليل واضح على ذلك. هناك خيبة أمل كبيرة في العالم العربي، في مصر، والجزائر، والمغرب...من السياسات الليبرالية التي لم تنجح لا في القضاء على الفقر ولا في مواجهة تحدي البطالة المتزايدة ولا في خلق ديناميكية نمو اقتصادي واجتماعي محلية.
لماذا كلما تحدثنا عن قوى التغيير في العالم العربي والاسلامي لا نجد أمامنا سوى الاسلاميين؟ هل هذا هو البديل الوحيد المطروح؟
د.برهان غليون: لأن ظروف نشأة قوى ديمقراطية، كما ذكرت، لا تزال محدودة أو غائبة. لا يمكن للقوى الديمقراطية ان تنمو في بيئة حرب قومية مستمرة، كما تجسدها الاحتلالات الثلاث في المنطقة: فلسطين ولبنان وسوريا... ولا يمكن أن تنمو قوى ديمقراطية في اطار عالمي يساهم بشكل كبير في تهميش منطقة الشرق الأوسط وفرض الحصار ضمنا عليها باعتبارها مصدرا للارهاب. فالديمقراطية منظومة عالمية، ولا يمكن دخول النادي الديمقراطي من دون موافقة أصحابه أو ضد ارادتهم (أعني الغربيين)، وقد أيدوا ولا يزالون النظم الديكتاتورية التي يعتقدون أن بإمكانهم الحفاظ بشكل أفضل على مصالحهم من خلالها. ومادامت القوى الديمقراطية في العالم العربي تفتقر للبيئة الاقليمية الملائمة وللدعم الدولي الفعلي، الذي حصلت عليه بلدان أوروبا الشرقية في وقت سابق، فمن الطبيعي أن تتخذ حركة مناهضة النظم الفاسدة أشكالا محلية وأن تستخدم موارد محلية أيضا، كالدين والعصبية والطائفة والقبيلة. فمادام أفق الحداثة (العميقة) مغلقا على المجتمعات العربية سيظل الصراع الاجتماعي يستخدم لغة وأدوات الماضي المجددة، كما سيظل الصراع ضد الاستبداد متمفصلا بشكل قوي على الصراع ضد الهيمنة الأجنبية التي تدعم الاستبداد. والنتيجة حركات تمرد اسلامية تستهدف في الوقت نفسه النظم الفاسدة ومايسمونه "أسيادها الغربيين".
أثيرت ضجة مؤخرا حول مذكرة سفير بريطانيا الى العراق - الذي انتهت الآن ولايته -والتي يقول فيها للوزير الأول توني بلير ان "تقسيم العراق أصبح أقرب كأمر واقع من الانتقال الى الديمقراطية". أترى المسألة على هذا النحو؟
د. برهان غليون: أرى في هذا التصريح لأحد المسؤولين الكبار اعترافا صريحا بإخفاق السياسة الأمريكية-البريطانية التي، كما ذكرت، ربطت بين أجندة السيطرة الغربية على منطقة الخليج وخطاب التغيير الديمقراطي. والنتيجة كما هو واضح، لا ديمقراطية ولا حتى دولة عراقية، ولكن فرص مفتوحة على كل الاحتمالات، أي على الحرب الأهلية، وعلى التقسيم، وعلى الفوضى...
هل دمقرطة الدول العربية لا تزال ممكنة رغم كل شيء؟ وما هي شروط تحقيقها؟
د.برهان غليون: دمقرطة الدول العربية ليست مشروعا استثنائيا وانما هي العودة الى الحياة السياسية الطبيعية. فليس هناك مفر من العودة الى النظام الطبيعي الذي هو النظام الديمقراطي، وليس هناك مفر من تفكيك النظم الاستبدادية وقوانينها الاستثنائية. فهي بالتعريف: نظم استثنائية. لذلك ليس هناك علاقة بين فشل مشروع الدمقرطة الأمريكية المنتظر- بقدر ما كان مشروعا وهميا، دعائيا، - واستمرار الدفع داخل المجتمعات العربية نحو نظم ديمقراطية. ومنذ الآن نستطيع القول ان ما يسم الحياة السياسية في هذه البلدان هو الكفاح اليومي بين الأفراد الذين يسعون الى تطبيق مبادئ الحق والقانون والمشاركة السياسية من جهة، ونظم الاستثناء والقهر، واغتصاب الارادة الشعبية من جهة أخرى. لم يعد هناك اليوم محور آخر للصراع السياسي في أي بلد عربي غير هذا المحور. إذن، هناك بالتأكيد آفاق للنمو الديمقراطي، وسوف تزيد هذه الآفاق مع انكشاف خدعة الدمقرطة الأمريكية التي أضرت كثيرا بنمو حركة الدمقرطة الداخلية.
انت قلت مؤخرا إن معركة الصواريخ أثبتت أن اسرائيل لا يمكن أن تتغلب بالقوة العسكرية وحدها، مهما كان تقدمها التكنولوجي. فهذا غير كاف لتحقيق السلام والاستقرار. وهو ما ينطبق أيضا على الولايات المتحدة. فكيف يكون تحقيق السلام؟
د. برهان غليون: أعتقد أن جل الأزمة الراهنة هي ثمرة رفض اسرائيل بدعم من الادارة الأمريكية الخوض في مفاوضات سلام حقيقية مع العرب تفترض بالضرورة العودة عن احتلال الأراضي العربية. وقد أثبتت الحرب في لبنان أن اسرائيل لن تتمكن من ضمان السلام والاستقرار بالمراهنة على قدرتها العسكرية لأن لهذه القدرة حدود، وهو ما تبين أيضا من الحرب البريطانية-الأمريكية في العراق. لا يمكن للتفوق العسكري مهما كان ساحقا أن يلغي الحاجة الى تسوية سياسية، وكل مشاكلنا في المنطقة نابعة من سعي الاسرائيليين الى تجنب التسوية السياسية بهدف الاحتفاظ بالاراضي العربية المحتلة. السلام يعني ببساطة قبول التسوية السياسية، وبالتالي انهاء النزاع وربما المصالحة التاريخية. لا ينطبق هذا على اسرائيل والعرب فقط، وانما على جميع النزاعات في العالم. ولن تكون اسرائيل استثناء، كما يريد ذلك فريقها المتطرف.
التلفزيون الغربي حول المجازر في الشرق الأوسط الى فرجة، والعرب أيضا يقلدون الغربيين في تقنيات الفرجة هذه، فقد أصبحوا يتفرجون على مجازرهم بسلبية غبية ومازوخية. أإلى هذا الحد ضاع العقل في العالم العربي؟
د. برهان غليون: أعتقد أن ما ذكرته يعبر عن نمو خطير في "ثقافة الضحية"، بسبب العجز المستمر عن أي انجاز وتعاظم الضغوط الأجنبية والشعور بالحصار والتهميش المديد. يشكل "شعور الضحية" المهرب الوحيد من المسؤولية.
ما لا يقل عن 8 وزراء و 28 نائبا في المجلس التشريعي الفلسطيني اعتقلتهم اسرائيل - بما في ذلك رئيس المجلس - واتهمتهم بالانتماء الى "منظمة ارهابية" (حماس). ولو قتلوا بنفس التهمة، لما تحرك العالم العربي... هؤلاء جميعا يمثلون السلطة، التي لم تعد موجودة عمليا. ماجدوى تبني سياسة لا تستطيع الدفاع عنها لأن خصمك أقوى ويستطيع أن يسحقك متى شاء؟
د.برهان غليون: أعتقد أن "حماس" دفعت الى أخذ السلطة من قبل جمهور فقد الأمل بالتسوية السياسية وبالاسرائيليين واختار الموت على الذل والاذعان. اختيار "حماس" تعبير عن يأس مطلق، لا عن برنامج عمل متفائل أو منتج. فالشعور المسيطر لدى الفلسطينيين أنه لم يترك لهم أي متنفس أو بارق أمل. والسبب في ذلك هو بالتأكيد التفاهم العميق الاسرائيلي- الامريكي على حرمان الفلسطينيين من أي انجاز سياسي، واعتقال الوزراء والنواب يجسد ذلك.
هل ترى بالامكان اصلاح سوريا من الداخل، دون تغيير النظام برمته؟
د. برهان غليون: الاصلاح يعني تغيير النظام، لأن النظام يعني قواعد ممارسة السلطة. فلا اصلاح على أي مستوى كان من دون اصلاح مسبق لقواعد ممارسة السلطة واعادة توزيعها على المؤسسات والفرقاء الاجتماعيين. فاحتكار السلطة وتأبيدها في يد نخبة مكرسة أصل المشكلة ومصدر كل الفساد. ولا يمكن المراهنة على النخب التي أنتجت الفساد وتعيش منه لتكون قاعدة لنظام قائم على مبدأ الحق والقانون واحترام ارادة المواطنين.
هل المجتمع المدني في سوريا قادر على تغيير الوضع ودمقرطة البلاد واصلاحها دون مساعدة من الخارج؟
د.برهان غلي لا. لا المجتمع المدني ولا المجتمع السياسي ... لا في سوريا ولا في أي بلد عربي، يستطيع أن يبني نظاما ديمقراطيا من دون دعم خارجي. لكن لا يعني الدعم التدخل الأجنبي. فليس الخارج أجندة استعمارية وتلاعبات سياسية وحسب. يمكن للخارج أن يكون أيضا دعما سياسيا ومعنويا تقوم به مؤسسات مجتمع مدني وقوى ديمقراطية من أفق تضامنها مع قوى ديمقراطية أخرى في العالم. ولا أعتقد ان هناك امكانية لدمقرطة أي بلد في العالم اليوم من دون برنامج تنموي حقيقي مرافق يحتاج الى دعم دولي، كما حصل في أوروبا الشرقية. وينطبق هذا على العالم العربي لأنه بالأساس منطقة تدخلات أجنبية كبرى، ولأن الاستبداد فيه ثمرة لهذه التدخلات أكثر منه نتيجة لارادة شعبية محلية. والمساعدة المطلوبة من الدول الغربية هنا لإنجاح الديمقراطية هو الكف عن دعم النظم الاستبدادية وتطويع الاقتصادات المحلية لحاجات الهيمنة الأجنبية، كما هو حاصل اليوم. ون:
هل الديمقراطية تأتي خطوة خطوة أم عن طريق رجة واحدة؟
د. برهان غليون: ليس هناك نظرية عامة في الانتقال الديمقراطي بعد. وفي بعض الحالات، يمكن المراهنة على الدفع نحو الديمقراطية من خلال نبضات قوية وذلك في حالة وجود حد أدنى من التواصل بين النخبة الحاكمة والشعب. لكن عندما ينعدم هذا التواصل كما هو سائد في كثير من البلدان العربية، يكون الحديث عن تحول "خطوة خطوة" مضيعة للوقت وتأجيل للتغيير المنشود. الا أن الذي يقرر في النهاية أسلوب التغيير هو طبيعة القوى الديمقراطية نفسها وقدراتها. فلا أحد يستطيع أن يقرر منح التغيير من خارج هذه القوى. ومن الواضح انه في العالم العربي هناك صعوبة كبيرة في دفع النظم القائمة الى التحرك باتجاه الانتقال الديمقراطي ولو بشكل تدريجي، مما يجعلنا نخشى انفجارات اجتماعية قوية ليست بالضرورة مدخلا مضمونا لتحولات ايجابية، وبالاحرى ديمقراطية. فمن الممكن أن تكون نتيجتها الفوضى والاقتتال أيضا. المهم أن التركيز ينبغي أن يكون على بناء القوى الديمقراطية مهما كانت الظروف والاحتمالات. فهي الضمانة للتغيير في أي شكل جاء، وفي الوقت نفسه، لتجنب مخاطر الانفجارات العشوائية.
بإيجاز:
أمريكا تقول انها تؤمن بالله، وأوروبا تقول انها تؤمن بالوحدة، واسرائيل تقول انها تؤمن بـ"أرض الميعاد"... فبماذا يؤمن العرب؟
د. برهان غليون: مشكلة العالم العربي أنه يؤمن بأمريكا، ويعتقد أنها مصدر أي خلاص.
قد يكون العرب بحاجة الى معجزة، والمعجزات وليدة الايمان. فهل الايمان هو ما ينقص العرب اذن؟
د. برهان غليون: ايمان العرب الذي ذكرناه لا ينتج المعجزات وانما الاحباط.
كل علاقات العرب بالغرب منذ القرن 19 الى الآن سلبية وتفتقر الى التوازن. لماذا أخفق العرب حيث نجح الآسيويون؟
د. برهان غليون: لأن الآسياويين آمنوا بأنفسهم وقدراتهم.
ماالفرق بين حكم البعث السوري وحكم البعث العراقي؟
د. برهان غليون: كلاهما نموذج للحكم التعسفي القائم على العنف والقسوة والارهاب وتعليق السياسة والقانون. لكن الأول لغايات نفعية مافيوزية، والثاني استجابة لعقدة جنون العظمة والقوة.
هل ما ينطبق على سوريا ينطبق أيضا على دول عربية أخرى؟
د. برهان غليون: الى حد كبير، وإن لم يكن بالوسائل القاسية نفسها.
* هشام القروي كاتب وصحافي تونسي يقيم في باريس.

Aucun commentaire: