dimanche, février 05, 2006

الانجرار وراء الحرب الحضارية ليس مصلحة إسلامية



خلق انهيار المعسكر الشيوعي، وزوال الاتحاد السوفييتي الممثل له، فجوة كبيرة في الايديولوجية الدفاعية لنظام السيطرة الغربية في العالم. فقد كان العداء للمعسكر الشيوعي وما يمثله من القيم السلبية الوسيلة الرئيسية لدفع الجمهور الغربي الواسع إلى تأييد السياسات الأطلسية الهجومية والالتحاق بها من دون نقد ولا تساؤل، وبالتالي تبرير هذه السياسات والنفقات العسكرية الباهظة المرتبطة بها. والنجاح، انطلاقا من ذلك، إلى إقناع الرأي العام الدولي بأن السيطرة الغربية على العالم ليست أخلاقية فحسب لأنها تحول دون انتصار الشر، ولكنها حتمية أيضا، ولا يمكن التراجع عنها من دون تعريض مجتمعات الغرب ونظمها الديمقراطية وهويتها وثقافتها وقيمها وأسلوب حياتها اليومية للخطر الماحق.
وكان من الطبيعي أن يقود انحسار خطر هذا المسخ التاريخي الشيوعي وزواله من الوجود إلى تصاعد المواقف النقدية إزاء السياسات الهيمنية الغربية، تماما كما كان من المنتظر لزوال الحرب الباردة ومتطلباتها أن يقود إلى تراجع النفقات العسكرية وتنامي فرص التفاهم والتعاون الدوليين لتحسين شروط حياة المجتمع الدولي برمته ومعالجة أقسى مشكلة يعاني منها النوع البشري، أعني الفقر الذي يرزح تحت وطأته أكثر من مليار نسمة. بيد أن مثل هذه التوجهات لم تكن تتضارب مع ما طبع السياسات الغربية والدولية عموما في القرنين الماضيين من حروب ومواجهات جعلت من تبني مبدأ الاستعداد للحرب وكسب النزاعات المحتملة القاعدة المثلى لتجنب حدوثها فحسب وإنما مع مصالح واسعة ونافذة ارتبطت بعقود طويلة من سيطرة مناخ المواجهة والحرب الباردة، وفي مقدمها مصالح المركب الصناعي العسكري وبيرقراطية الدولة والجيش ومؤسسات الدفاع الإقليمية والعديد من القوى السياسية التي تتحالف معها. وهكذا ما كان من الممكن ترك الاتحاد السوفييتي ينهار من دون السعي، من قبل هؤلاء، عن عدو جديد يبرر الاستمرار في السياسات الهجومية ذاتها التي تضفي المشروعية على السيطرة الغربية على العالم وتبرر استمرارها.
وقبل أن تبدأ أي حركة إسلامية باستخدام العنف على أي نطاق خارج البلدان الاسلامية، وجد أنبياء السيطرة الغربية في رفع العالم الاسلامي والعربي إلى مستوى الخصم التاريخي والحضاري الرئيسي للغرب، سياسة وحضارة واقتصادا معا، المرتكز الوحيد لتمديد مناخ الحرب الباردة وتبرير سياسات السيطرة الغربية. وهكذا شكل تشويه صورة العرب والمسلمين واستفزازهم خلال أكثر من ربع قرن مادة حرب باردة عالمية حقيقية لن يتأخر منظروا السيطرة الغربية عن إعطائها إسمها الجديد الخاص، الحرب الحضارية والصدام بين الثقافات. ومنذ ذلك الوقت يمكن القول إن الحرب أصبحت سجالا بين المسلمين والعرب من جهة، والنخب الغربية اليمينية التي سعت ولا تزال إلى جر العالم بأكمله إلى تأييد موقفها العدواني والعنصري من الجهة الثانية.
في هذا السياق استعادت ايديولوجية تبرير السيطرة الدولية والسياسات الأطلسية الهجومية اللغة والشعارات ذاتها التي كانت تستخدمها ضد الاتحاد السوفييتي في حقبة الحرب الباردة السابقة. فركزت وسائل الإعلام الغربية على الأخطار المتعددة التي يمثلها العالم العربي والاسلامي الذي يخضع في نظرها، مثله مثل الاتحاد السوفييتي السابق، لثقافة مناقضة في قيمها للثقافة الغربية الحديثة ومعادية لها، سواء في ما يتعلق باعتماده العنف في علاقاته مع الخارج واستلابه لمنطق القوة ومراكمة وسائل وأسلحة الدمار الشامل أو في محاولاته المستمرة لتفجير الأزمات الدولية والحروب الإقليمية أو في دفاعه عن نظم سياسية لا ديمقراطية تسمح للمغامرين من الحكام الديكتاتوريين والطغاة من التلاعب بالجماهير ودفعها إلى العداء المجاني للخارج ولكل ما هو أجنبي في سبيل حرف انتباهها عن مشاكلها الداخلية التي التي تتسبب فيها سياسات أنانية ولاعقلانية. وجاءت الحركات الجهادية الاسلامية التي تستخدم الإرهاب والخطف وقتل الرهائن كوسائل للضغط على الدول الغربية، في أوضاع المواجهة القائمة في أكثر من مكان، لتكرس الاعتقاد الواسع الانتشار اليوم بأن عالم العرب والمسلمين لا يفهم إلا لغة القوة والعنف وإنه يفتقر إلى ثقافة التعايش والتفاهم والحوار والتفاوض التي هي لغة العصر ومصدر بناء إجماعات دولية لم يكن المجتمع الدولي في أي حقبة أكثر حاجة لها منه اليوم.
ولا نستطيع إلا أن نعترف بأن أصحاب هذه السياسة والمنظرين لها قد نجحوا في أمرين رئيسيين. الأول هو إقناع الرأي العام العالمي بصدق الصورة التي رسموها أو أرادوا رسمها للعالم العربي والاسلامي بوصفه عالما لا يعرف المدنية ويعيش على منطق القوة والعنف سواء في ما يتعلق بعلاقاته الداخلية بين المواطنين والحكام أو في علاقاته الخارجية مع غيره من المجتمعات. والثاني جر العالم العربي والاسلامي بالفعل إلى الحرب الحضارية والثقافية التي أراد لها أن تكون بديلا عن الحرب الباردة ومنبع مشروعية لسياسات السيطرة والعداون الغربية. وبعد أن وقف المسلمون جميعا، شعوبا ومنظرين وسياسيين، عن حق ضد فكرة الحرب الحضارية في السنوات الماضية وطرحوا في مواجهتها، ومن أجل تفريغ منطقها من مضمونه، فكرة حوار الحضارات الذي تبنته أيضا جماعات ومؤسسات غربية ودولية عديدة رافضة للاستسلام لمنطق الصراع الدولي المستمر وبناء العلاقات الدولية على قاعدة السيطرة من طرف والخضوع من طرف آخر، عاد المسلمون هم أنفسهم، أولا على أيدي الجماعات المتطرفة الاسلامية منهم، ثم اليوم أكثر فأكثر على يد بعض الجماعات السياسية العلمانية، إلى العزف على نغم الحرب الثقافية والحضارية، بل وتبني فكرة هذه الحرب بوصفها حقيقة واقعة أو أكثر من ذلك أمرا مطلوبا لمواجهة إرادة الهيمنة السياسية والعسكرية والثقافية الغربية. وشيئا فشيئا ستكتشف النظم العربية والاسلامية التي تعيش هي أيضا حالة من العجز المزمن في مساعيها التنموية وتواجه تحديات داخلية اقتصادية واجتماعية وسياسية لا مثيل لها، الفرص الاستثنائية التي تقدمها لها هذه الحرب الثقافية في سبيل التغطية على إخفاقاتها الخطيرة وتوجيه موجات الغضب الشعبية نحو الخارج، وبالتالي الهرب من المسؤولية وتأبيد سيطرتها على السلطة والموارد المحلية. بهذا تكون شروط الحرب الباردة الجديدة التي أرادتها القوى الاستعمارية في الغرب قد تحققت بالفعل. ونحن نشهد كل يوم أحداث تطور هذه الحرب التي تستفيد من معطيات العولمة الإعلامية الدولية لتدمج في حركتها مجتمعات وشعوبا وجماعات لم تكن الحرب الباردة التقليدية قادرة على جذبها وتشغيلها فيها.
في هذا السياق وفي هذه البيئة الملتهبة التي تطبع العلاقات الاسلامية الغربية، ما كان لنشر الصور الكاريكاتورية المسيئة لرسول الاسلام الكريم، وردود الفعل الاسلامية الغاضبة، ثم الردود الغربية على ردود الفعل هذه التي اتخذت شكل تحد للمشاعر الاسلامية الدينية باسم حرية التعبير، في الوقت الذي كانت تسيء فيه للمسلمين جميعا باتهامها غير المباشر لهم بتأييد الارهاب، بل بالايمان به كجزء من تعاليم الرسول، إلا أن تفجر أزمة أخذت وتأخذ أكثر فأكثر طابعا مأساويا بين المسلمين والغرب كان الطرفان بغنى عنها. فإذا كان منطق الحرب يطمئن بعض القوى الاستعمارية المتطرفة، وفي مقدمها القوى الصهيونية التي سعت منذ عقود إلى الايقاع بين الدول العربية والاسلامية والدول الغربية، كما عملت المستحيل من أجل فرط الحركة القومية العربية لفتح باب الصراعات الدينية والطائفية في الشرق الأوسط والعالم، فليس للمجتمعات الغربية أو لغالبيتها الساحقة أي مصلحة في استعداء المسلمين عليها وهم يشكلون ربع العالم أو ما يقارب ذلك، ويعيش قسم متزايد منهم على الأراضي الغربية. وبالمثل، إذا كان هناك بين النظم العربية من يريد أن يحول أنظار شعبه عن مصاعبه الداخلية، بدفعهم إلى الانخراط في مواجهات خارجية لا تنتهي، فإن المجتمعات العربية التي تنوء تحت ثقل مشاكلها الداخلية غير المحلولة، بما فيها مشاكل احتلال أراضيها في فلسطين وسورية ولبنان، وتتعرض لهجوم منظم من قبل قوى الهيمنة الدولية، تدرك بعفويتها أنه لا مصلحة لها باستعداء كل قطاعات الرأي العام العالمي، أو بدفعها إلى الاعتقاد بأنها مجتمعات لا تفهم إلا لغة العنف والتدمير والقطيعة. إن سياسة الدفع نحو الفوضى والتهديد بها تناسب من دون شك بعض الفئات المحشورة اليوم، في النظام والمجتمع معا، والتي تشعر بأن الأرض تميد من تحت أقدامها، ولها مصلحة في أن تخلط الاوراق وتشعل كل الحرائق الممكنة، وتعزل الشعوب العربية عن العالم وتسيء إلى سمعتها حتى تنفرد بها وتتفق مع خصومها من وراء ظهرها. لكن الأغلبية العربية والاسلامية الساحقة تعرف أن مواجهتها الحقيقية والحضارية للغرب، ونجاحها في كسر هيمنته واستعادة المبادرة التاريخية، تتوقف على نجاحها في الخروج من المآزق والانسدادات التي وضعتها فيها السياسات الأنانية والمغامرة واللامسؤولة لقادتها، وأن التعاون مع المجتمعات الصناعية المتقدمة، في ميادين الاستثمار والصناعة والتقنية والعلوم، هو الطريق الرئيسية لذلك.
لا يعني هذا أن على الشعوب العربية والاسلامية الاستسلام أو عدم الرد على التحرشات التي تقوم بها القوى المتطرفة الغربية ولا القبول بعنصريتها. بيد أن هناك ردودا أخرى، سياسية وقانونية وفكرية، على مثل هذه السياسات الخرقاء والإجرامية غير تلك التي لا تهدف إلا إلى تكريس الاعتقاد الشائع بعنف العرب والمسلمين وعدوانيتهم ونزعتهم السلبية للحرق والدمار. ولا يستفيد من مثل هذه الردود سوى رؤوس الاستفزاز أنفسهم الذين يريدون، مثلهم مثل إسرائيل، عزل العرب وتهميشهم دوليا ودفعهم إلى الانغلاق على أنفسهم والغرق في حروبهم الداخلية ودمائهم، ومن وراء ذلك تبرير العنف الشامل الممارس عليهم من الخارج لضمان السيطرة على مواردهم وكسر إرادتهم. وهنا تلتقي سياسات المحافظين الأمريكيين الجدد تماما مع سياسات الأرض المحروقة التي تمارسها بعض النظم التي تسعى إلى التمديد لنفسها بأي ثمن، والتي وجد بعض القوميين الجدد الضيقي الأفق في سياساتها المغامرة مهربا من ضرورة المراجعة وقناعا للعجز والانحسار. إن الردود العنيفة على التحرشات العنصرية لبعض تيارات الرأي العام الغربية لا توجه رسالة مقلقة للعالم أجمع بما تقدمه له من مظاهر فقدان السيطرة على النفس عند المسلمين، وإنما للعرب أنفسهم الذين يخشون أن تتحول أساليب الرد العنيفة على الخصوم الخارجيين إلى أساليب مقبولة ومتبعة في الرد على الخصوم أو المنافسيين الداخليين من أصحاب الأديان أو العقائد السياسية والفكرية الأخرى.

Aucun commentaire: