jeudi, juillet 28, 2005

في النزاع السوري الأمريكي

الرأي 28 يوليو 2005
لا يمكن لأي محلل سياسي أن لا يطرح في مواجهة ما ينبغي أن نسميه حوار الطرشان المستمر إلى ما لانهاية بين واشنطن ودمشق السؤال الرئيسي نفسه الذي لا تتوقف الدبلوماسية السورية عن طرحه على واشنطن وعلى نفسها معا أعني سؤال ماذا تريد واشنطن من دمشق بالضبط. تقول الدبلوماسية الامريكية باستمرار أن ما تريده من دمشق هو التعاون بشكل أفضل في محاربة الارهاب سواء ما تعلق منه بالعراق أو ما تعلق منه بفلسطين واسرائيل. لكن سورية ترد على ذلك بالقول، وهي على حق، بأن واشنطن تتجاهل الجهود الهائلة التي تبذلها الحكومة السورية للتجاوب مع المطالب الأمريكية، ومن هذه الجهود وليس أقلها من حيث الأهمية انسحاب الجيش السوري الكامل من لبنان وتطبيق القسم الذي يخصها من قرار مجلس الأمن 1559. ومنها التعاون الواسع مع السلطات الأمريكية والعراقية لوقف التسلل إلى العراق عبر الأراضي السورية لدرجة تنازلت فيها دمشق عن جزء من سيادتها وقبلت بوجود شريط عازل بين البلدين تحت إشراف دولي لمراقبة الحدود ووقف عمليات التسلل المحتملة. ومنها المساهمة السورية الواضحة في دفع حركات المقاومة الفلسطينية الاسلامية إلى التفاهم مع السلطة الوطنية ومنظمة التحرير لوقف العمليات القتالية وخلق مناخ ملائم للانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من غزة. ومع ذلك لا يبدو أن الضغوط الأمريكية في طريقها إلى أن تتناقص على دمشق بل هي في تزايد مستمر. فهل يكون هدف الولايات المتحدة في النهاية إسقاط النظام السوري نفسه لما يمثله من رمزية قومية وما يتمسك به من قيم ومواقف هي ثوابت وطنية في السياسة السورية بدل أن يكون، كما تردد كوندليزا رايس إجبار الحكومة السورية على تغيير سياساتها القديمة أو القومية؟

اعتقدت الولايات المتحدة في المرحلة الأولى ولا يزال فريق كبير منها يعتقد أن بأن سلاح الضغط والتهديد وزعزعة الاستقرار سوف يقود لا محالة إلى تركيع النظام الذي يعاني داخليا من مشاكل تواصل كبيرة مع المجتمع أو، إذا لم يحصل ذلك، على إفراز فريق من داخله يقبل التعاون معها لتحقيق أهدافها فتصبح سورية سلاحا في يدها لإعادة هيكلة المنطقة بدل أن تكون عقبة في وجهها أو ثغرة في نظام إقليمي جديد تلاقي صعوبات كبيرة في بنائه. هكذا انفتح باب المواجهة الأمريكية السورية التي تعرضت فيها دمشق لسلسلة الإجراءات العقابية والتهديدات السياسية والضغوط العسكرية التي تهدف إلى كف يد السوريين في العراق ثم إخراجهم من لبنان وردعهم عن دعم المنظمات الفلسطينية الجهادية.

والواقع أنه كان من الممكن لواشنطن أن تنجح في هذه المراهنة لو أنها حققت انتصارا واضحا في العراق أو خرقا في فلسطين يؤهلانها لمتابعة مشروعها الأساسي الرامي إلى إعادة هيكلة الشرق الأوسط من وجهة نظر مصالحها وخططها الاستراتيجية الكبرى. لكن الوضع ليس في صالحها في الوقت الراهن ولا قدرة لها على فتح جبهات جديدة في الوقت الذي يتعرض فيه الرئيس الأمريكي، مثل حليفه الرئيسي توني بلير، لضغوط متزايدة في الكونغرس في سبيل سحب قواته من العراق أو تحقيق انتصارات ملموسة هناك. ومن هنا كانت جميع الدلائل تشير إلى أنه ليس أمام واشنطن خيار آخر سوى القبول بالتعايش في الشرق الأوسط والعراق مع النظام السوري كما قبلت التعايش بعد ضغوطات كبيرة مع النظم العربية الأخرى لقاء تنازلات داخلية شكلية لا تغير كثيرا من موازين القوى الاقليمية أو السياسية الداخلية. وهي تنازلات لا يعارض نظام دمشق في تقديمها ولا يتردد في إظهار حماسه للتعاون مع واشنطن لتحقيقها.
لكن على عكس ما جرى مع البلدان العربية الاخرى يبدو لي أن ما يعرقل التوصل إلى تفاهم سريع بين الطرفين يتلخص في أمرين. الأول استهتار واشنطن الواضح والمستمر بالمصالح الوطنية السورية الرئيسية المتمثلة في استعادة الجولان، مما يجعل هذا التفاهم في نظر السوريين استسلاما مباشرا لا يمكن تبريره أمام الرأي العام السوري والعربي وتعاونا من دون مقابل مع سياسة أمريكية محورها الحقيقي خدمة المصالح الاسرائيلية. والثاني الشعور القوي الذي لا يزال يتملك النظام السوري بأنه يملك ما فيه الكفاية من الأوراق الإقليمية التي تسمح له بأن يرفض خيار التسليم والاستسلام هذا وينحو من دون مخاطر كبيرة منحى المقاومة أو الممانعة، واثقا من أن الرأي العام يقف إلى صفه وأن الحكومات العربية الحليفة لواشنطن ستكون مضطرة هي الأخرى لعدم التخلي عنه مهما وصل إليه من العزلة الدولية.

وبالفعل، كما أن عجز الولايات المتحدة عن تحقيق الانتصار في العراق قد حرمها من القدرة على اتخاذ مبادرات أو بالأحرى مغامرات عسكرية جديدة والتهديد الجدي بزعزعة الاستقرار من دون أن يزيل ما تمثله من ضغط قائم ومستمر على الحدود السورية وفي الساحة الدولية، فإن نجاح مناورات النظام الداخلية وضعف المعارضة قد مكنا الحكم السوري من الاستمرار والبقاء من دون أن تفتحا امامه أي نافذة أمل للخروج من الأزمة والتغلب على الانهيار الاستراتيجي الذي أحدثته التحولات الجيوستراتيجة الكبرى. وقد دفع هذا المأزق المزدوج وسوف يدفع أكثر فأكثر طرفي النزاع إلى مراجعة حسابيهما وربما إلى السعي نحو تفاهم جديد يخفف من الضغوط الدولية الواقعة على النظام السوري ويقطع الطريق على خيارات الحرب كما يمكن الولايات المتحدة من الاستفادة من التعاون السوري الكبير في المسألة العراقية. وهو ما كرسته تصريحات كوندوليزا رايس الأخيرة التي تصب في هذا المعنى وتجعل من مساعدة النظام على تغيير سياساته الهدف المعلن والرسمي لواشنطن.
في هذا السياق الذي سمح للنظام بالتقاط أنفاسه ينبغي تفسير استعادة ثقة السلطة بذاتها، كما ينبغي تفسير التحولات المتسارعة داخل الحزب والدولة لصالح تغيير الوجوه القديمة وفي موازاة ذلك السعي لاسترجاع زمام المبادرة السياسية في الداخل عن طريق التشدد مع المعارضة وإسكات الأصوات النقدية وتشتيت المثقفين والسعي لإخضاعهم عبر ممارسات مهينة مثل الحبس والضرب والتهديد والملاحقات المستمرة وإغلاق آخر منتدياتهم الحوارية (منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي) وتشويه سمعة رموز المعارضة بوسمهم بالعمالة للدول الأجنبية. وفي هذا السياق يقع أيضا الهجوم الإعلامي المكثف ضد نشطاء المنظمات المدنية وفي سبيل تحصين المجتمع والرأي العام السوري ضد آمال التغيير التي بعثتها ضعضعة النظام في الأشهر الماضية. وفي هذا السياق ذاته يتخذ التراجع عن الوعود المتعلقة بالحريات السياسية وحقوق الانسان مكانه ومعناه. وفي هذا السياق أيضا، وعلى أمل استعادة جزء من المبادرة الإقليمية وتوسيع الثغرة التي بدأت تظهر في دائرة القرار الأمريكي بين أنصار متابعة الحصار على سورية والتيارات الأكثر واقعية التي تريد الاستفادة بالعكس من إمكانياتها في سبيل مساعدة واشنطن على الخروج بسلام من العراق، ينبغي تفسير السياسة الجديدة تجاه لبنان.
فبفرضه الحصار الاقتصادي على لبنان يريد الحكم السوري أن يظهر أنه لا يزال يملك عصا تمكنه من إلحاق الأذى بالقوى الخصم. وبنشاطه المتزايد على الأرض لتفكيك شبكات المقاومة و"الإرهاب" في العراق وفلسطين وسورية يريد النظام أن يبرهن لواشنطن على ما يمثله من قدرة وقوة بناءة واستعداد حقيقي للتعاون من منطلقات واقعية وبراغماتية. وعلى العموم يأمل النظام السوري أن تشكل الرسالتان، السلبية والايجابية معا، على حدود لبنان وعلى حدود العراق، برهانا على أنه لم يمت كما يعتقد خصومه ولا يزال يتمتع بالعكس بقدر لا بأس به من القوة والقدرة على رد الفعل.
والواقع أن التطور الحاصل في الموقف السوري قد يمهد الطريق بشكل قوي تحو تفاهم سوري أمريكي. فطالما توقفت دمشق عن ربط التعاون الايجابي على حدود العراق وضد شبكات الارهاب بالمفاوضات حول الجولان لم يعد هناك عقبات كبيرة تمنع الحكومة السورية من التوصل إلى التفاهم نفسه الذي توصلت إليه العواصم العربية الأخرى التي تعرضت لضغوط أمريكية مماثلة في السنين الماضية مع واشنطن.
ففي النهاية ليس هناك ما يميز حالة خلاف دمشق مع واشنطن كثيرا عن حالة خلاف العاصمة الأمريكية نفسها مع الرياض والقاهرة وطرابلس الغرب من قبل سوى هذه المسألة الاستراتيجية الكبرى. فالعامل الذي أعطى للنزاع بين العاصمتين صورة أكثر حدة هنا هو سعي دمشق بالفعل إلى ربط التعاون مع واشنطن بفتح مفاوضات جدية حول الأراضي السورية المحتلة ورفض التعاون من دون ثمن واعتباره خدمة مجانية للمصالح الأمريكية والاسرائيلية. وقد رفضت واشنطن هذا الخيار لأنه يتعارض مع الارتباط العميق والموضوعي لأجندة السيطرة الأمريكية في سورية مع أجندة الاحتلال والتوسع الاسرائيلي في الجولان وهو ما يصر عليه فريق من الإدارة الأمريكية يعلن العداوة لسورية ويسعى بجميع الوسائل إلى إهانتها وإضعافها لصالح تل أبيب من حيث هي بلد وليس فقط كنظام. وفي اعتقادي لو أن الدبلوماسية السورية أظهرت بصيرة أكثر وعبرت منذ البداية عن استعدادها للقبول بالتفاوض على مواقعها الإقليمية الثانوية التي أجبرت على التخلي عنها في ما بعد بالقوة، على حدود العراق وعلى الجبهة الفلسطينية وفي لبنان، لكانت حصلت على تفاهم أفضل بكثير مع واشنطن يوفر عليها ما شهدته من زعزعة الاستقرار مع ضمان بقاء النظام وربما مع أمل كبير باستعادة الجولان. وهو ما يبدو اليوم هدف بعيد المنال. ففي النهاية هذا هو الرهان الاستراتيجي الرئيسي لسورية في هذه المناورة الاستراتيجية الكبرى في الشرق الاوسط والتي لم تكن شعارات الاصلاح وبرامجه الخيالية سوى غلالة تخفي الرهانات الحقيقية. فبعكس ما بدا على السياسة الأمريكية من اهتمام بمسألة الاصلاح والتحويل الديمقراطي، لا يزال هناك من الأسباب التي تدفع في اتجاه الإبقاء على الزواج القائم بين النظم القائمة والسيطرة الأمريكية في المنطقة العربية أكثر بكثير مما توجد من دوافع لحصول القطيعة أو الطلاق بينهما. والضحية الرئيسية لهذا الزواج كان ولا يزال المسألة والمصالح الوطنية.

samedi, juillet 23, 2005

مقابلة القنطرة الألمانية : الاصلاحات السياسية

الاصلاحات السياسية، والتطورات الديمقراطية في العالم العربي،ومستقبل الاصلاحات والديمقراطية في سوريا.
اجرى الحوار صالح دياب
موقع القنطرة الألمانية 23 يوليو 05
باكرا كتبت عن الديمقراطية وبشرت بها. بعد كل هذه السنوات من كتابك "بيان من اجل الديمقراطية". هل ترى ان شيئا ما قد تغير وتحقق ناحية السير نحو الديمقراطية في العالم العربي؟
برهان غليون: بالتاكيد لا يستطيع احد ان ينكر اليوم ان ثغرة ان لم نقل ثغرات عديدة قد فتحت في نظام السيطرة الاحادية والحكم الاستبدادي في العالم العربي، بالرغم من ان نمط هذا الحكم لايزال سائدا في كل مكان هنا. بل يمكن القول ان الاسس الايديولوجية لهذا الحكم قد تحطمت تماما بما في ذلك عند قسم كبير من التيار الاسلامي، باستثناء التيارات الجهادية التي تقتصر بطبيعة نشاطها على اقلية منظمة وسرية. فالتحول نحو انظمة ديمقراطية هو اليوم شعار مشترك بين جميع التنظيمات السياسية العلنية وهيئات المجتمع المدني والمثقفين على اتساع الارض العربية. لكن حتى على المستوى السياسي فقد نظام الحكم الاستبدادي مرتكزاته الرئيسية فلم يعد يتمتع باي صدقية بعد ان ابرزت المعارضة الديمقراطية ضالة النتائج التي تحققت على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية واستفحال الفوضى والفساد وانعدام المسؤولية لدى النخب الحاكمة. وبالرغم من ان هذه النظم لا تزال قادرة على المقاومة بسبب قوة الاجهزة الامنية وعطالة المجتمعات الا انها فقدت تماما الشرعية وانتهى زمنها. الكل يفكر بالتغيير وينتظره بما في ذلك النخب الحاكمة نفسها. والحديث لا يدور في الداخل والخارج الا عن طبيعة القوى التي ستقوم بانجاز مهام التغيير وبلورة صيغة النظام القادم. لذلك اعتقد ان مسالة التغيير الديمقراطي قد تقدمت كثيرا حتى لو ان الديمقراطية العربية المنتظرة لم تلد بعد. وهذا التقدم قائم بالضبط في تحقيق ما اطلقت عليه انا مرحلة تفكيك نظام الاستبداد القائم الذي يشكل خطوة سابقة على بناء الديمقراطية وشرط له
.
-الاسلاميون لا يتقبلون الديمقراطية بنموذجها الغربي والاحزاب الحاكمة تدعى ان هناك خصوصيات
للمجتمعات العربية والاسلامية يجب الاخذ بها. كيف يمكن ان تتقدم الدول العربية نحو الديمقراطية امام هذه العوائق المجتمعية والسياسية؟
غليون: كل هذا كلام سطحي نابع اما عن ضعف المعرفة بمنظومة الديمقراطية الفكرية والسياسية او عن البحث عن ذرائع سهلة لتاجيل الاستحقاقات التاريخية. وكما بينت الاستقصاءات السياسية، نسبة المؤدين للديمقراطية والمؤمنين بنظامها هي الاعلى اليوم في العالم العربي من كل بقاع العالم الاخرى. والسبب في ذلك ان شعوبه لا تزال محرومة منها منذ عقود طويلة. ونحن نشهد اليوم بالعكس ان قسما كبيرا من الاسلاميين يسعى الى تكييف اطروحاته مع الفكرة الديمقراطية كما ان النخب الحاكمة تجنح بشكل اقل اليوم تحت تاثير الضغوط الداخلية والخارجية الى الحديث عن الخصوصية. انها تميل الى الحديث عن التدرج في الوصول الى نموذج الديمقراطية. ليس هناك في رايي رفض ولا عائق ايديولوجي امام الديمقراطية. المشكلة هي في بناء قوى التغيير الديمقراطي بعد ما يقارب النصف قرن من الاجتياح الاستبدادي للمجتمعات وتكسير بناها الفكرية والسياسية والمدنية معا. هذا هو التحدي الحقيقي لحركة التغيير الديمقراطي الناضج من الناحية الايديولوجية.
تبدو الطائفية احد الركائز الاساسية التي تنبني عليها كثير من الانظمة الاستبدادية والدكتاتورية في العالم العربي. مع ذلك لا نجد احدا من دعاة الاصلاح والديمقراطية يتحدث عن ذلك. باستثناء العراق. ما هو السبب برايك ؟
غليون: الطائفية كانت دائما موجودة في المجتمعات العربية وستظل موجودة في المستقبل وهي موجودة ايضا في بلدان عديدة تعيش في ظل نظم ديمقراطية. وليست هي التي تشكل العقبة امام تقدم قضية التحويل الديمقراطي. انها تتحول الى مشكلة عندما تصبح الاطار الوحيد للتضامن بين الافراد ويتغلب الانتماء للطائفة او العشيرة على الانتماء للجماعة الوطنية. ولا يحصل ذلك الا عندما ينهار اطار التضامن الوطني الذي يجمع الافراد على صعيد اعلى واشمل وتزول فعالية الرابطة الوطنية وهو نتيجة مصادرة فريق واحد للدولة وللسلطة الوطنية ووضعهما في خدمة مصالحه الخاصة. وهكذا تكف الدولة عن ان تلعب دور الحاضنة العامة لجميع الافراد بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية او الطائفية. ولذلك يكفي ان نعيد الى الدولة طابعها الوطني اي العمومي حتى يتراجع الانتماء الطائفي الى الدرجة الثانية ولا يصبح هناك تناقض عدائي بين الرابطة الوطنية والرابطة الطائفية او الاثنية. وانا اعتقد ايضا ان التركيز على المسالة الطائفية لا يفيد كثيرا في فهم تراجع الحقيقة الوطنية ولكنه يزيد من تازم الاوضاع. ان التركيز ينبغي ان يكون على عملية تدمير الدولة وتحويلها الى اداة لخدمة المصالح الخصوصية لان استرجاع فكرة الدولة وموقعها في الحياة الوطنية هو المهم للخروج من الاستبداد والطائفية المرتبطة به في الوقت نفسه.
الدعوات الى الديمقراطية تترافق مع الدعوات الى الليبرالية .هل ترى ان هذا التداخل يساعد ام يعرقل هذه الدعوات في العالم العربي؟
غليون: كما ذكرت في مقال حديث لي، من الطبيعي ان تترافق الدعوة الى الديمقراطية بعودة الفكرة الليبرالية التي تبدو فكرة نقيض وبديل في الوقت نفسه عن العقائديات الشمولية التي سيطرت في الحقبة السابقة باسم القومية او الاشتراكية او الدولة الاسلامية. ولذلك هناك نزعة قوية لدى المثقفين الى التماهي مع الليبرالية بالمعنى التحرري الانساني. فهي ليست مستخدمة هنا بما يدل على الاخذ ببرنامج الليبرالية الجديدة الاقتصادي والاجتماعي. ولذلك ارى من الضروري هنا حتى لا تبقى الديمقراطية محصورة بالسياسات الليبرالية ورهينة لها وكذلك حتى لا يستحوذ عليها فريق واحد ويحرم الاخرين من حقهم في الانتماء المتساوي لها، اقول ارى من الضروري ان يتم التفريق بين الديمقراطية والليبرالية، اي بين الديمقراطية كنظام سياسي وبين البرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يمكن لكل تيار فكري واجتماعي ان يصوغها للتعبير عن مصالحه ومواقفه. فلا استبعد ان يكون هناك ديمقراطية اجتماعية يركز برنامج القائلين بها بشكل اكبر على قضايا العدالة الاجتماعية ومعالجة مشاكل الفقر والبطالة وديمقراطية ليبرالية يتطابق برنامجها مع برنامج النيوليبرالية العالمية التي تعطي الاولوية لمنطق الاقتصاد والتنمية ودفع الاستثمار على اساس اقتصاد السوق وتوسيع دائرة التبادل في اطار السوق العالمية ولماذا لا، ديمقراطية اسلامية، قريبة في مفهومها من الديمقراطية المسيحية التي عرفتها اوروبة بعد الحرب الثانية والتي تتميز بحساسية خاصة تجاه القيم والمعايير الاخلاقية والدينية لكن في اطار احترام قواعد السياسة والعمل الديمقراطيين. بهذا المعنى عدم مطابقة الديمقراطية مع الليبرالية هو ضمانة لتحويلها الى فكرة جامعة لا تقتصر على تيار ايديولوجي واحد وانما تنفتح على جميع اولئك الذين يرفضون الشمولية ويقبلون بالتعددية والاحتكام الى الراي العام عبر انتخابات دورية.
الاحزاب العربية الحاكمة شكلية وواجهة لحكم البوليس والامن. في هذا الوضع كيف للديمقراطية ان تشق طريقها مقابل عنف الدولة في العالم العربي؟
غليون: عندما يتبلور الراي العام فعلا وينتظم وراء فكرة جامعة، وهي هنا فكرة العودة للنظام الديمقراطي والخروج من الديكتاتورية، لن تستطيع اجهزة الامن ان تفعل شيئا. هذا ما حصل في العقود الماضية في كل دول اوربة الشرقية وما حصل منذ قليل في لبنان عندما نزل الشعب الى ساحة الشهداء في 14 اذار 2005 بالملايين قبل ان تنتزع الزعامات الطائفية المبادرة من جديد. لكن حركة المجتمع هي التي تسببت في انهيار النظام الامني القائم.
الاصلاح ومحاربة الفساد شعارات ترفعها الاحزاب الحاكمة كما ترفعها المعارضة ايضا.هل توضح لنا عن هذا الامر؟ ولماذا هذا الالتحاق من قبل السلطة بشعارات المعارضة في البلدان العربية؟
غليون: لان السلطة لم تعد قادرة على انكار الحصيلة السلبية واحيانا الكارثية لادارتها وحكمها غير الصالح في العقود الماضية. فهي بتبنيها شعار الاصلاح تريد ان تظهر انها اخذت علما بالامر وسوف تسعى الى تجاوز اخطاء الماضي، وهو ما يبرر لها، في نظر اصحابها طبعا، المطالبة بتمديد فترة حكمها وعدم طرح مسالة التغيير كتغيير للحكم والنظام وانما فقط كتغيير للسياسة القائمة وفي مقدمها تبني اقتصاد السوق. بذلك تحاول النظم القائمة ان تحافظ على نفسها وتخدع الراي العام.
بعد سنوات من دعوات الاصلاح من قبل المثقفين السوريين ومنظمات حقوق الانسان, بعد تولي بشار الاسد السلطة في سوريا، ودعواته هو ايضا من اجل التغيير.الا ان ما تحقق على الارض يكاد لا يرى .هل ما زال بالامكان استمرار التعويل على السلطة بعد كل ردود فعلها؟
غليون: بالفعل اخفق المثقفون في اقناع السلطة السورية بضرورة الاصلاح الحقيقي. وهو ما يشكل اليوم تحديا كبيرا للمعارضة بجميع اجنحتها من مثقفين وهيئات مدنية واحزاب سياسية. فعندما ترفض السلطة استراتيجة الحوار من اجل تفكيك التوترات الاجتماعية والرد على المطالب المتصاعدة، يخشى ان يقود ذلك الى تبني تيارات عديدة، بسبب فراغ الصبر او عدم احتمال الاوضاع، الى العودة الى استراتيجيات العنف او حتى اللقاء مع الاجنبي. وهذا ما لا يبدو ان السلطة في سورية وعته او اخذته بالاعتبار مستندة على ان المعارضة السورية في غالبيتها وطنية وشريفة. وهو ما يعني انها تكافؤها على وطنيتها وشرفها بسحب البساط من تحت اقدامها واظهارها امام الراي العام بانها عاجزة لصالح القوى المتطرفة المنادية بوقف الحوار والتعاون مع الاجنبي. ولعلها تريد من ذلك ان تدفع قصدا نحو التطرف حتى تحتفظ لنفسها وحدها بصفة الوطنية والعقلانية امام القوى الاجنبية التي تطلب منها استمرار اعتمادها. ولله في خلقه شؤون.
تسعى بعض الاحزاب الشمولية الى ان تتحول الى احزاب تعددية ديمقراطية. هل الامر يتجاوز الحدود الشكلية ؟
غليون: نعم اعتقد ان احزابا قومية ويسارية واسلامية عديدة ادركت اليوم في ضوء التجربة التاريخية العامة وامام الفشل المتكرر الذي واجهته هي نفسها ان الديمقراطية يمكن ان تكون المخرج الوحيد لها من العزلة والمازق العميق الذي تعيش فيه ومن الاحباط الذي يعاني منه اعضاؤها انفسهم. ولذلك فهي تميل الى تبني الصيغة الديمقراطية. انها تحاول بالتاكيد المساومة على بعض قيمها التي تجد صعوبة في التكيف معها، لكنها تقبل في الدخول عموما في منطق التعددية والقبول بقواعدها. وهذا تقدم مهم لمسالة الديمقراطية العربية. ولا ينبغي ان نحلم ان المجتمعات تدخل الديمقراطية من باب الايمان الكامل والمطلق لجميع الاطراف وبكامل القيم والقواعد الديمقراطية. على الديمقراطيين الحقيقيين ان يستفيدوا من هذا الميل الذي يعكس انهيار الفكرة الديكتاتورية او على الاقل زوال جاذبيتها ليرسخوا اسس الديمقراطية وليدفعوا الاطراف الداخلة فيها خجلا او هربا من ازمتها الخاصة الى الانخراط الجدي والنهائي فيها. وليس هناك ما يمنع ذلك ابدا لا فكريا ولا دينيا ولا سياسيا ولا اجتماعيا.
انتهاج طريق الاصلاح الاقتصادي بمعزل عن الاصلاح السياسي دعوة يطلقها النظام الحاكم في سوريا. هل يمكن لهذا الامر، يحصل برايك ؟ام انه نوع من محاولة للالتفاف على الاصلاح الحقيقي؟
غليون: لو كانت المشكلة نابعة من سوء الادارة او السياسة الاقتصادية في حين ان النظام الاجتماعي السياسي لا يزال صالحا وفعالا على المستويات الاخرى لكان هناك معنى للحديث عن اصلاح اقتصادي مستقل عن الاصلاح السياسي. لكن في سورية كما هو الحال في معظم البلاد العربية ينبع سوء السياسات الاقتصادية وضعف الاداء من طبيعة النظام السياسي نفسه، اي من وجود سلطات تمدد لنفسها تلقائيا ولا تقبل بالمحاسبة ولا المساءلة وترفض مبدأ الاستشارة الشعبية والانتخابات وتخضع جميع السلطات لحزب واحد او لشخص واحد مطلق الصلاحية كما يتم فيها احتلال مناصب المسؤولية على جميع المستويات حسب الولاءات السياسية او العائلية بدل الكفاءة المهنية والاهلية الاخلاقية. لذلك لا يمكن اصلاح الاداء الاقتصادي من دون تغيير قواعد العمل السياسي واسلوب ممارسة السلطة وتوزيع المسؤوليات العمومية وتعيين القائمين عليها. وهذا هو جوهر النظام السياسي. هنا تكمن المشكلة الحقيقية.
المفكر برهان غليون : مدير مركز دراسات الشرق المعاصر واستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون في باريس، احد الذين كتبوا ودعوا باكرا الى خيار النظام الديمقراطي كمخرج وحيد للاوضاع السياسية والاقتصادية التي يعيشها البلدان العربي

jeudi, juillet 14, 2005

ضرورة الخروج من التبسيطية الايديولوجية

رد ختامي على موضوع العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية
الرأي 14 يوليو 2005

كنت أعتقد أن النقاش حول علاقة الليبرالية بالديمقراطية قد انتهى بعد الرد التوضيحي الذي نشرته بعنوان رد على الليبراليين العرب. ولكن الذي أعادني إلى الموضوع من جديد عدد كبير من الأسئلة تمنى على الأستاذ كمال عباس الإجابة عنها على سبيل التحديد الدقيق لنقاط الاختلاف ونقاط الالتقاء في إطار العمل في سياق مشروع التحويل الديمقراطي المشترك في سورية. ومن هذه الأسئلة ما يتعلق بموقفي من الاشتراكية والماركسية وتقييمي تجربة الاتحاد السوفياتي وبقية التجارب الاشتراكية وما مدى اشتراكيتها الفعلية، وفي ما إذا ما كان من الأفضل لهذه البلدان أن تعمق الرأسمالية على الطريقة الليبرالية بدل بنائها على الطريقة الماركسية التي أدت إلى ما نعرفه من إخفاق. ومنها ما يتعلق بالاختراق الذي شكلته الراسمالية على هذا الكوكب والمكان الذي يمكن أن تحتله الديمقراطية الاجتماعية في التاريخ. ومنها أيضا ما يتعلق بمشروع الشرق الأوسط الكبير ودور الولايات المتحدة الأمريكية. وأخيرا ما يتعلق بما ذكرته في مقالي السابق عن إمكانية بلورة سياسات اقتصادية وطنية ودولية بديلة في ظل العولمة الحالية.ومن الواضح أن هذه الأسئلة ليست هي المقصودة بالذات ولكنها استخدمت كمدخل من أجل تأكيد أطروحتين. الاولى أن الطريق الرأسمالي الليبرالي يخدم العمال والطبقات الشعبية وربما يقود إلى المساواة والعدالة التي تطلبها الاشتراكية أكثر من الاشتراكية الفاشلة نفسها والتي لم تكن في النهاية إلا رأسمالية بمظهر آخر. والثانية أنه، بعكس ما يمكن أن يفهم من مقالي السابق، لا يوجد خيار ثالث أمام السوريين بين الاستبداد والليبرالية. فليس هناك سوى نهجين لا ثالث لهما: نهج قديم لا يزال يفكر بمنطق الحرب الباردة والصراع ضد الأمبريالية يشترك فيه البعثيون والناصريون والاسلاميون، ونهج جديد يرى ان سوريا تعاني من الاستبداد وتحتاج الى دفعها بشكل سلمي وتدريجي نحو دولة تعاقدية وتداولية يعكس موقف الليبراليين. أما النهج الثالث أو أي نهج ثالث محتمل فهو في نظره وهم بالمعنى النظري ولا وجود له.
بداية أود أن أفصح عن حقيقة أنني لم أكتب مقالي حول الليبرالية والديمقراطية اعتراضا على الليبراليين العرب الذين كنت أعتقد دائما أنهم يستخدمون مصطلح الليبرالية بمعنى الديمقراطية التي هي حافزهم الرئيسي للعمل، كما هو واضح من وضعهم جميعا لها في مقابل الاستبداد وليس في مقابل السياسات الاقتصادية الاجتماعية، وإنما كتبته كرد فعل على انتقادات مثقفين يساريين عرب يعتقدون هم أيضا أنه لا يمكن تبني الفكرة الديمقراطية من دون تبني الفلسفة الليبرالية. أردت أن أبين لهؤلاء اليساريين من ماركسيين وقوميين يساريين وإسلاميين أيضا أن ما يعتقدون أنه مترادفات ليس كذلك تماما، من دون أن يعني ذلك أنه ليس هناك علاقة تاريخية أو منطقية بين الديمقراطية والليبرالية. وللمفارقة جاء رد اليساريين العرب ايجابيا جدا على المقال بعكس رد الليبراليين. فبقدر ما شعر اليساريون أن تمييز الديمقراطية عن الليبرالية يسمح لهم بالانفصال عن النظم الديكتاتورية التي لصقت بهم بالفعل وأودت بحركاتهم السياسية ويمكنهم من استعادة روح العمل من دون التضحية بالقيم الرئيسية التي تميز سياستهم أعني العدالة والمساواة، شعر الليبراليون أن فصل الديمقراطية عن الليبرالية يفرض عليهم القبول بالاشتراك مع الأطراف اليسارية والقومية والاسلامية الأخرى المنافسة في الساحة السياسية في رأسمال الحرية وقيمتها. وبالتالي يحرمهم من إمكانية الاستحواز لوحدهم على هذا الرصيد المعنوي ومن الشرعية الاستثنائية التي يمكن أن يقدمها لهم احتكار شعار الحرية في حقبة يسود فيها الإجماع على إدانة الاستبداد والديكتاتورية. هنا أيضا يمكن أن نلحظ روح الانتصارية التي تطبع الحركة الليبرالية العالمية منذ انهيار التجربة السوفييتية ونزعتها إلى أن تجب ما قبلها أو تتجاوزه وتفرض منطق الرأي والفكر الواحد من جديد.
ومهما كان الأمر، تستحق الأطروحتان اللتان تركز عليهما الليبرالية المنتصرة، خاصة العربية منها، أعني تلك التي تقول ببساطة : الليبرالية هي الحل، وتلك التي تقول إن ما هو مطروح على السوريين هو أمر واضح تماما ولا يحتاج إلى نقاش، أعني الاختيار البديهي بين الاستبداد والليبرالية أو الديمقراطية، أقول تستحق هاتان الأطروحتان النقاش من دون شك.
وبداية أقول إن المشكلة في التأكيدات التي تعبر عنها الأطروحتان المذكورتان ليس خطأها بالمطلق ولكن اختلاط مضمون المفاهيم المستخدمة من جهة وعموميتها التي تجعل منها تبسيطا كبيرا لا يفيد التأكيد عليه شيئا بالمطلق، أي خارج إطار الزمان والمكان. وقد اعتقدت دائما ولا أزال أننا لن نستطيع أن نجد طريقنا نحو الحرية ولا نحو التنمية الاقتصادية ولا نحو الوحدة الوطنية أو القومية بالتمسك بأدوات تفكير أو بمجموعة مفاهيم قديمة تنتمي للقرن التاسع عشر لم يعاد العمل عليها من جديد على ضوء التجربة البشرية لما يقارب القرنين شهدا تحولات علمية وتقانية وجيوسياسية واجتماعية واقتصادية هائلة. ويبدو لي أن من الصعب أيضا استيعاب المشاكل التي تواجهها مجتمعاتنا اعتمادا على الاشكاليات التقليدية ذاتها التي تعارض بين الاشتراكية والليبرالية كما لو كانتا أشياء بديهية تجريبية لا مفاهيم يقصد منها ترجمة مسارات ووقائع تاريخية واجتماعية معقدة ومتطورة أيضا. وفي اعتقادي أن هذه المفاهيم وتلك الاشكاليات قد أصبحت معيقة للفكر أكثر مما هي مساعدة له في حركته وتطوره.
وكنت منذ عام 1977 قد سعيت إلى شق طريق آخر عندما كتبت كتابي الأول "بيان من أجل الديمقراطية" من دون أن أغير قناعاتي اليسارية. فقد بدا لي بالفعل أن ما تدعو له الاشتراكية قبل أي شيء آخر ليس نمط تنظيم إقتصادي قائم على ملكية الدولة، حتى لو أثبت هذا النمط جدارته ودفع إلى معدلات تنمية عالية، وهو لم يثبت ذلك في النهاية، وإنما هو مجموعة من القيم الإنسانية لا يمكن أن تتحقق من دون الحرية، أعني قيم االعدالة والمساواة. وفكرت أن المساواة القانونية والأخلاقية مستحيلة بين الأفراد إذا كان بعضهم حر وبعضهم الآخر فاقدا للحرية، بعضهم يتمتع بحقوقه كاملة ويتحكم بالسلطة العمومية وبعضهم الآخر محروم حتى من حق التعبير أو التنظيم أو الاحتجاج أو الاعتراض. وهذا ما دفعني إلى القطع مع النظم الديكتاتورية مهما كانت برامجها والأهداف التي تسعى إليها والانخراط في مراجعة فكرية قادتني إلى تبني فكرة الديمقراطية كشرط لأي ممارسة اجتماعية أو فكرية. وهو الذي جعلني أكتشف أيضا قبل سقوط الاتحاد السوفييتي بعقود أن الاشتراكية القائمة على القهر السياسي والفكري ونظام الحزب الواحد ليست حلا لمشاكل المجتمعات العربية وأنه من دون بناء النظام السياسي على أسس ديمقراطية لن يمكن تحقيق أي هدف من الأهداف الانسانية التي نشأت من أجلها وفي ظلها النظريات الاشتراكية بما فيها النظرية الماركسية والشيوعية. وقد بينت في هذا الكتاب أن التهميش السياسي للأفراد والجماعات هو المدخل لاستعبادها وتحدثت فيه لأول مرة في ظاهرة الاستعمار الداخلي التي ستصبح إحدى المقاربات الرئيسية في النظرية الاجتماعية لما بعد الحرب الباردة.
وما قلته في السبعينيات وسمح لي بالتحرر من النظرية الفاسدة للاشتراكية الواحدية أقوله الآن بخصوص النظرية الليبرالية التي تجعل من الرأسمالية كلمة السر والمفتاح السحري لجميع الخزائن الحضارية من تنمية اقتصادية وحرية سياسية وضمانات دستورية وقانونية. وفي كتاب "الاختيار الديمقراطي في سورية" الذي نشرته عام 2003 ميزت منذ البداية بين نظام السوق الذي هو نظام سابق بكثير على نظام الرأسمالية ومتجاوز له والرأسمالية التي هي نمط إنتاج إقتصادي يقوم على آلية تراكم رأس المال المرتبطة هي نفسها بمنطق السعي وراء تعظيم الأرباح من قبل طبقة مشاريعية واستثمارية تعرف أن بقاء رأس المال من دون توظيف يقضي عليه كرأس مال ويحوله إلى ثروة مصيرها الكنز أو الاستهلاك والانفاق. فالرأسمالية علاقة اجتماعية وليست نظاما آليا أو منطقا يتجاوز الشروط الخصوصية التي تعيش فيها المجتمعات. ومنها أشكال وتشكيلات مختلفة ومتعددة بتعدد المجتمعات والسياقات الاجتماعية والاقتصادية. ولا شك أن التقاء السوق بآلية تراكم رأس المال قد غير في محتوى السوق وآلياته معا لكنه لم يلغ استقلاله وتنوع الأشكال التي يمكن أن يتخذها إقتصاد السوق.
وبالمثل ليس هناك أي تطابق منطقي أو عملي بين مفهوم الليبرالية والرأسمالية. فالليبرالية تعني مجموعة السياسات التي تراهن على تحرير رأس المال من القيود حتى يتمكن من التراكم السريع على أمل أن يقود ذلك إلى تعظيم الاستثمار والنمو الاقتصادي وبالتالي أن يقود إلى خلق فرص العمل المطلوبة، بينما تعني الرأسمالية تشكيلا اقتصاديا قائما على آلية تراكم رأس المال وديناميكيته في تحقيق التطور والنمو. وليس هناك أي علاقة طردية تلقائية بين الليبرالية والرأسمالية. فمن غير المؤكد ولا المضمون أن يؤدي التوسع في الحريات الاقتصادية، أي تحرير أرباب العمل من القيود القانونية على حساب الضمانات الاجتماعية والحريات السياسية، إلى نشوء رأسمالية حية ونشيطة، أي تراكما منتجا لرأس المال وتوسيعا مطردا لدائرة الاستثمار وبالتالي للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل الجديدة. وهذا ما بينته تجارب البلاد النامية والفقيرة وجعلتها تصبح دولا نامية وفقيرة بالفعل. فتبني العديد منها للسياسات الليبرالية لم يساعدها على الخروج من حالة الركود الاقتصادي وتطوير الاستثمار بقدر ما ساهم في خلق طبقة رأسمالية كبمرادورية تقوم على ضخ الأموال من الداخل الوطني لتحولها إلى رأسمال في السوق العالمية وتبقي البلدان التي نزحت عنها من دون موارد ولا آليات تنمية اقتصادية حقيقية. لقد أدت السياسات الليبرالية هنا إلى رأسماليات مشوهة وتابعة غير منتجة لنمو اقتصادي مستمر ولا خالقة لفرص عمل ولا مطورة لمهارات تقنية وإبداعات فنية وعلمية يعتد بها. وهذا هو سبب إعادة إنتاج الفقر والتخلف والبؤس الاجتماعي فيها. وبالفعل لم تكن نتائج السياسات الليبرالية في البلدان الصغيرة التي تعاني من تأخر استثنائي في عناصر تراكم رأس المال على جميع المستويات كما تعاني من تأخر كبير في تقاليدها القانونية والاجتماعية أكثر من نمو رأسمالية فجة قائمة على المضاربة وبعيدة كل البعد عن أن تستقل بنفسها عن تلاعبات السلطة السياسية. وليس النجاح الاقتصادي الذي عرفته بعض الدول الحديثة التصنيع مثل نمور آسيا راجع للسياسات الليبرالية فحسب ولكن إلى توفر شروط أخرى عديدة مثل أخلاقيات العمل ومستوى التأهيل العلمي وقبل هذا وذاك في نظري العلاقات الاستراتيجية الدولية. فمن الممكن لبلد أن يتبنى نظاما اقتصاديا ليبراليا من دون أن ينجم عن ذلك أي نمو جدي لرأسمالية نشيطة وتنافسية.
وكما أنه لا يوجد تطابق بين مفهوم الرأسمالية والليبرالية كذلك ليس هناك تناقض بين السوق والاشتراكية. فمن الممكن أن تعني الاشتراكية التقيد بتقاليد السوق واقتصاديه، وهنا بالتأكيد السوق الرأسمالية الحديثة، لكن مع الاهتمام بقيم العدالة الاجتماعية ومع السعي إلى تحقيق هذه العدالة كما فعلت الديمقراطيات الاشتراكية الأوروبية التي قادت مع الديمقراطية المسيحية مشروع إعادة إعمار أوربة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية من خلال برامج إجتماعية وسياسات ضرائبية وخدمات عامة ومعونات اجتماعية ساهمت بشكل كبير في إعادة توزيع الثروة لصالح قيم العدالة والمساواة من دون أن تمس آليات عمل السوق ولا أن تقضي على اقتصاد الرأسمالية.
باختصار، كما أن الحديث عن الاشتراكية بشكل مجرد ومن دون رؤية الظروف والشروط التي تتحقق فيها، شروط احترام الفرد وحرياته الأساسية ووجود الضمانات القانونية والصيغ الدستورية التي تتيح للمجتمع ان يعيد النظر في سياساته وخياراته ويصححها عند اكتشاف الخطأ، لا يعني شيئا، كذلك فإن الحديث عن الرأسمالية لا يعني شيئا كبيرا أيضا من دون النظر إلى ظروف تحقيقها أو وجودها داخل مجتمع معين، من شروط سياسية واقتصادية واجتماعية واستراتيجية أو جيواستراتيجية. فالرأسمالية بهذا المعنى هي تشكيلة إقتصادية خاصة ونسبية تعكس في كل حالة درجة تطور ونضج القوى الانتاجية والاجتماعية وطبيعة السياسات الاقتصادية التي تصوغها وتطبقها حكومة أو سلطة تؤمن بأن توظيف الأموال أو تشجيعها على الاستثمار هي الوسيلة الرئيسية لتحقيق النمو في الناتج الوطني. وهذه السياسات لا يمكن أن تكون قياسية أو من نموذج واحد لأن ما يصلح في سياق تاريخي واجتماعي معين لا يصلح بالضرورة، كما هو، في سياق آخر. ولهذا ليست السياسات المرتبطة بتشجيع الاستثمار الخاص واحدة ولا متماثلة. فهي تختلف من فترة إلى أخرى وتتبدل بتبدل الأحوال والاوضاع، أي بتبدل الشروط التي تتحكم بتوظيف رأس المال وبالاستثمار. ولو كان الامر بالبساطة التي يتصورها الايديولوجيون لكان من المفروض أن تحقق جميع السياسات الاقتصادية الرأسمالية نتائج واحدة ايجابية. والحال إن كثيرا من السياسات الرأسمالية لا تحقق أهدافها وربما أدت إلى استفحال الأزمات الاقتصادية بما في ذلك أزمات الركود والتقهقر الاقتصادي. فجميع بلدان العالم تطبق اليوم سياسات اقتصادية ليبرالية، من الصين الشيوعية إلى الولايات المتحدة. لكن قسما منها يحقق نتائج كبيرة مثل الصين، بالرغم من افتقار سياساتها الاقتصادية إلى نظام الحرية السياسية، بينما لا ينجح القسم الثاني من البلدان الصناعية القديمة في أوروبة من تجاوز أزمة البطالة وضعف النمو بل أحيانا انعدامه. وداخل البلاد التي تطبق الرأسمالية ولم تطبق غيرها خلال تاريخها كله تتنافس وتتصارع نماذج مختلفة من السياسات الاقتصادية. فسياسة الإدارة الامريكية الراهنة هي سياسة ليبرالية لكن سياسة إدارة الرئيس السابق كلينتون لم تكن اشتراكية. والفرق بين السياستين أن كل منهما يركز على عوامل مختلفة لتشجيع حركة الاستثمار وإطلاق ديناميكية النمو.
من هنا، لم يعد يجدي كثيرا الاستمرار على معارضة الرأسمالية بالاشتراكية وإنما لا بد أيضا للمتحدثين في الليبرالية أن يميزوا في أنماط السياسات الرأسمالية نفسها. فلم يعد يكفي في الطور الذي وصلنا إليه لتعريفها بمعارضتها البسيطة والتي لا تعني شيئا كثير في ذاتها بالاشتراكية. وفي هذه الحالة من الممكن أن تكون السياسات الليبرالية، أي التي تراهن على تحرير رأس المال أكثر ما يمكن من المحددات والالتزامات الاجتماعية وتحويله إلى الفاعل الرئيسي في النمو الاقتصادي أو محوره، حلا لمسألة الركود الاقتصادي في هذا البلد أو ذاك، لكن من الممكن أيضا أن تكون ذات نتائج كارثية. فليس هناك شك في أن الاندماج في اقتصاد السوق العالمي والمشاركة فيه هو المدخل الرئيسي اليوم للتراكم الرأسمالي بسبب ما يقدمه من فرص الاستثمار ونقل الخبرة والتقنية وتامين أسواق واسعة لكن من المؤكد في الوقت نفسه أنه إذا لم يترافق هذا الاندماج في البلدان الضعيفة النمو وتراكم رأس المال بتأهيل حقيقي يمكن الاقتصاد الفقير والصغير من مواجهة رياح المنافسة الدولية العاتية فستكون النتائج إفلاسا كاملا للصناعات والشركات القائمة وتعميما للبطالة وتعميقا للتبعية والاعتماد على المعونات الخارجية التي ستصبح ضرورية لمواجهة مخاطر التمرد والثورات الاجتماعية.
ليس من المبالغة القول إن أخطر ما يواجه شعوبنا هو الوصفات الجاهزة، سواء اكانت رأسمالية أم اشتراكية، وعدم النظر إلى الواقع كما هو واستنباط الحلول منه. ويتطلب التغلب على نزعة الاستغراق في نماذج ثابتة معروفة والتهرب من السعي إلى معرفة القدرات المتوفرة والفرص الواقعية الموجودة انفتاحا ذهنيا كبيرا ورفضا لكل أنواع الدغمائية والوصفات المبسطة السهلة وقدرة على التركيب بين الخيارات المتوفرة بهدف الحصول على أفضل نتائج ممكنة، أي القدرة على إبداع حلول ووصفات وسياسات وخيارات ليست بالضرورة تقليدا لما هو قائم هنا وهناك ولكن استجابة لحاجات ومتطلبات التنمية المحلية. وفي هذه الحالة سيطرح موضوع المعيار الأساسي الذي يحدد هذه الحاجات الاجتماعية والمتطلبات التنموية : هل هو معيار التراكم الرأسمالي نفسه بأي ثمن ومهما كانت النتائج الاجتماعية والسياسية والوطنية ام هو الانسجام المجتمعي والتفاهم الداخلي الذي يتطلب حدا ادنى من احترام معايير التضامن والتكافل الاجتماعيين.
عندئذ لن يعود هناك معنى للاستمرار في المفاضلة بين اختيار نهج الليبرالية أو نهج الاستبداد ولا بين الرأسمالية والاشتراكية. فهذا الخيار لم يعد مطروح في الواقع. ذلك أن الاستبداد ليس خيارا يدافع عنه وليس هناك من يدافع عنه بل هو الماضي السائر نحو الزوال تماما كما أن الاشتراكية لم تعد موضوعا مطروحا لا في سورية ولا في غيرها بالمعنى الذي كانت مطروحة فيه، أي كنظام اقتصادي قائم على التخطيط وإلغاء آليات السوق. إن المطروح اليوم هو أي سياسات ينبغي تطبيقها في سورية القرن الواحد والعشرين في إطار تبني إقتصاد السوق - من دون حتى كلمة اجتماعي لأنها لا معنى لها ولا تعبر إلا عن خجل مطلقيها من العودة إلى منطق الاقتصاد العادي والطبيعي نفسه وهو منطق السوق - وعلى أساس الأخذ بالنظام الديمقراطي كنظام سياسي. باختصار إن السؤال المطروح لا يتعلق بالاختيار بين اقتصاد السوق والاقتصاد المخطط ولا بين الديمقراطية والاستبداد ولكنه يتعلق بمعرفة أي إقتصاد سوق وأي نظام ديمقراطية وحريات فردية؟ أي ما هي الصيغ والمعادلات والتوافقات التي نحتاج إليها أيضا حتى لا يتحول إقتصاد السوق الذي نريده إلى إقتصاد نهب منظم، هذه المرة باسم القطاع الخاص بعد أن كان يدور حتى الآن باسم القطاع العام والاشتراكية، وحتى لا يتحول نظام الحرية والحريات الفردية إلى نظام الأنانية المعممة بامتياز.
والقصد أن اشتغال الرأسمالية لا ينفصل هو أيضا عن طبيعة النظام السياسي القائم ولا عن العقلية والثقافة والأخلاقيات السائدة. كما أن النتيجة لن تكون هي ذاتها عندما تطبق السياسات الرأسمالية دون تمييز في بلاد صغيرة وفقيرة كالصومال أو في بلاد عظيمة وكثيفة الموارد البشرية والطبيعية كالصين. فمن الأسهل للصين تحقيق نتائج كبيرة نظرا لحجم السوق الذي تمثله والفرص المفتوحة. وبالمثل لن تكون النتائج واحدة عندما تكون البلاد الصغيرة مدعومة استراتيجيا من قبل دولة صناعية كبرى كما هي حالة نمور آسيا أو عندما تكون معزولة ومحاصرة كسورية. ولو كانت المسألة مسألة تطبيق الرأسمالية أو الاشتراكية والمفاضلة بينهما لكانت جميع الدول التي لم تطبق الاشتراكية في نصف القرن الماضي صارت بمستوى أوروبة وأمريكا وجميع الدول التي طبقت الاشتراكية صارت مثل الاتحاد السوفييتي أو روسيا الاتحادية التي تبقى دولة كبرى بالرغم من إخفاق تجربتها الشيوعية.
مسائل تنمية المجتمعات وتحريرها يحتاج إذن إلى أكثر من النقاش في المسائل الايديولوجية البحتة ويتطلب التقليل أيضا من قيمة النقاشات الايديولوجية نفسها عندما تكون منفصلة عن الحيثيات العينية ويستدعي كذلك قبل هذا وذاك التحرر من الدغمائية اليسارية واليمينية. فليس هناك شك في أن سورية بحاجة إلى إطلاق ديناميكية المبادرة الفردية التي حطمتها عقود طويلة من الإدارة البيرقراطية العقيمة والمعقمة. لكن لا ينبغي لهذا الخيار السليم والمطلوب بأسرع وقت أن يتحول إلى عقيدة دينية تجعل من أي مسعى تقوم به الدولة لدفع عجلة الاقتصاد وتطوير الاستثمار كفرا اقتصاديا أو سياسيا أو محرما أو خطا أحمر يمنع عبوره كما تعلمنا نظمنا الراهنة. إن الدولة تبقى في جميع البلدان التي لم تتطور فيها رأسمالية قوية ولم يحصل في داخلها تراكم كبير لرأس المال فاعلا رئيسيا إن لم تكن الفاعل الرئيسي في الحياة الاقتصادية. فعليها تقع مهمة العناية بالبنى التحتية والخدمات العمومية وتشجيع الاستثمار وربما المشاركة الفعالة فيه لما تملكه من موارد طبيعية وريوع استثنائية وتطوير علاقات التعاون والمشاركة التي تسمح بتطوير الاستثمارات الخارجية بالإضافة إلى دورها الذي لا غنى عنه في تأمين الأطر التعاقدية بين المنتجين وأصحاب الرساميل والاهتمام بنظم الرعاية والضمانات الاجتماعية للعاملين. ولا يتناقض هذا مع اقتصاد السوق ولا يلغي منطق الشفافية والمنافسة الذي يراهن عليه لدفع عجلة التنمية والتحسين الاقتصادي. بالتأكيد تملك سورية كما نعرفها اليوم وبما يميزها من تشكيلات اقتصادية واجتماعية وسياسية وتقانية وثقافية فرصا أكبر للتقدم في ظل نظام اقتصادي يتحرر من عقدة الاقتصاد المخطط الذي تحول إلى حقل للنهب والسلب من دون رقيب ولا حسيب لصالح النخبة الحاكمة وربيبتها البيرقراطية العسكرية والمدنية. لكن نجاح اقتصاد السوق أو الانتقال إلى اقتصاد سوق ناجح يفتح بالفعل أفق الاستثمار والتنمية ولا يصبح مرتعا للصوصية من نوع جديد يتوقف أيضا على وجود طبقة من رجال الأعمال النشيطين والأكفاء الذين يقبلون بان يلعبوا اللعبة على أصولها، أي يقبلون باحترام قواعد الاستثمار الرأسمالي وأخلاقياته ولديهم القدرة والذكاء للتكيف السريع مع السوق العالمية وضمان حد أدنى من التفاهم فيما بينهم لمكافحة الفساد والمحسوبية وروح الإثراء السريع والفاحش القائم على منطق السرقة واضرب واهرب الذي ساد وترسخ في العقود الماضية داخل القطاع الخاص والعام معا. ومن دون ذلك يمكن أن يكون التحرير الاقتصادي مأساة حقيقية للأغلبية الاجتماعية وللاقتصاد الوطني بشكل عام.
إن ما هو مطروح على السوريين اليوم، كما هو مطروح على جميع شعوب العالم بعد انهيار التجربة الشيوعية وتعميم سياسات الليبرالية الاقتصادية، هو الاختيار بين نهج ليبرالي أو نيوليبرالي يؤكد مركزية تراكم رأس المال ويركز على تامين الشروط القانونية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذا التراكم الذي يهدف إلى تعزيز موقف الشركات الصناعية الكبرى المنخرطة في منافسة عنيفة في ما بينها في إطار السوق العالمية الواحدة. وهو النهج الذي يسيطر أكثر فأكثر في الدول الصناعية الداخلة في هذه المنافسة التي ستحسم موقع ومكانة كل منها في العقود القادمة وحجمها في الاقتصاد العالمي. ونهج اجتماعي ديمقراطي يؤكد، في سياق اقتصاد السوق نفسه وبهدف تعظيم الاستثمار وخلق فرص العمل وتحقيق التراكم الرأسمالي السريع، على مركزية المجتمع ويركز على تأمين شروط تحقيق التكافل والتضامن العميق بين أفراده كأساس لتعزيز مؤسسات المجتمع المدني وإشراكها في تخفيف الأعباء عن الدولة وأخذ المبادرة ومن ثم إطلاق دينامية العمل والابداع الجماعي. وهو ينظر إلى الاتساق الاجتماعي بوصفه عاملا أكثر أهمية من عامل رأس المال في إطلاق دينامية الجهد والابداع في بيئة عمل تسيطر عليها أكثر فاكثر عوامل المعرفة والمبادرة والمشاركة المدنية والحرة. وفي هذه الحالة نحن لا ننظر إلى رأس المال نظرة مالية (نسبة إلى المال) أو مادية ولكننا ندخل فيه أيضا رأس المال الاجتماعي وقوة التماسك الوطني والتفاعل الانساني أيضا.
لا يعني الاختيار المطروح أن لدينا ثقة كاملة بأن هذا النهج أو ذاك هو الذي سيقدم النتائج المرضية والمطلوبة. ولو كانت الامور واضحة إلى هذا الحد لما كانت هناك حاجة للحديث عن اختيار. فالاختيار يعني بالتحديد أننا لا نعرف جميع العوامل الفاعلة ولا نملك السيطرة الكاملة على الأوضاع ولا المعرفة الحقيقية بالواقع وأننا نسعى حسب ما نمتلكه من معلومات وتحليلات إلى بلورة النهج الذي يتفق بشكل أكبر مع معطياتنا والقيم الأساسية التي تلهمنا وتتحكم بسلوكنا. وليس هناك شك في أن للخيار الليبرالي منطقه. ذلك أن تعزيز موقف الشركات الصناعية تجاه الشركات المنافسة الأخرى يتطلب تقليل كلفة العمل سواء بتجميد الأجور أو تقليل الضمانات الاجتماعية وتوسيع هامش حرية أصحاب المشاريع في تسريح العمال وتبديلهم بسهولة وسرعة أكبر. بيد أن من الممكن أيضا لمثل هذا النظام أن يقود إلى عكس ما يهدف إليه إذا استغل الرأسماليون ضعف قوة المفاوضة عند المنتجين في سبيل تأمين هامش ربح كبير يعوضهم عن بذل الجهد الضروري لتطوير الإدارة والتقنية وتوسيع الاستثمار. وبذلك يكونوا قد حققوا بقاءهم ونجحوا في المنافسة مع شركات البلدان الاخرى على حساب تضحيات العمال والمنتجين بالدرجة الاولى لا بسبب قدراتهم التطويرية والتحديثية. وفي هذه الحالة يكون الضغط على عامل العمل والعمال لصالح الرأسماليين والذي يشكل جوهر الاستراتيجية الليبرالية الجديدة، سببا في التخلف التقني للرأسمالية القائمة بينما كان من الممكن لتنامي الضغوط العمالية وتصاعد مطالب المنتجين واحتجاجاتهم أن تشكل سوطا يدفع أصحاب المشاريع إلى الإبداع وشحذ العزيمة والهمة.
بالمقابل يشكل التضامن الاجتماعي والمشاركة النشطة والفعالة في الحياة العمومية السياسية والمدنية كما تفترض الديمقراطية الاجتماعية، وهي لا علاقة لها على الإطلاق بالديمقراطية الشعبية سيئة الصيت، ولكنها تشير إلى أهمية رؤية المجتمع ككل وليس رأس المال كفاعل رئيسي في تنظيم الحياة العمومية وتأمين شروط التنمية، وما يرتبط به من تطوير عمل هيئات المجتمع المدني التطوعية، محركا قويا لبذل الجهد والارتفاع بمستوى التعاون بين الأفراد للوصول إلى أهداف تنمية اقتصادية أسرع وأكمل. لكن ليس هناك شك أيضا في أن ثمن تحقيق مجتمع التضامن قد يكون كبيرا بالنسبة لبناء قدرة الشركات الصناعية على المنافسة في سوق مفتوحة وهمجية. وهذا هو الذي يفسر لماذا تميل الحركات الاجتماعية المعاصرة إلى التشكيك بسياسات العولمة وإلى التمسك بشكل أكبر من أصحاب المشاريع الصناعية الكبرى بالأطر الوطنية للسوق الاقتصادية. وهذا ما عبر عنه التصويت السلبي على الدستور الاوروبي في فرنسا وهولندا الشهر الماضي والذي لم يكن يستهدف الاتحاد الأوروبي كمشروع تاريخي وإنما سياسات الحكومات الليبرالية التي أجبرتها مهام التكيف مع السوق العولمية المفتوحة على التقليل من مكاسب المنتجين والعمال التقليدية او تجميدها. وأنا أعتقد ان النموذج الاجتماعي للديمقراطية الذي يراهن على التضامن الاجتماعي وتعزيز دور الفرد ومكانته في الحياة السياسية والمدنية هو الذي يتفق بشكل أكبر مع الأوضاع التي تعاني من ضعف الهياكل والمؤسسات الصناعية وغياب طبقة رجال الأعمال القوية والنشيطة التي يمكن المراهنة عليها لتحقيق المنافسة في السوق العالمية بقدر ما يجعل من المجتمع المدني ومبادراته الجمعية الخاصة وانخراطه الواسع في عملية البناء المؤسساتي والاقتصادي المحور الرئيسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. لكن هذا لا يعني أن تعزيز المجتمع المدني ينبغي أن يتم على حساب تأهيل وتطوير الشركات الصناعية أو أنه يشكل بديلا عنها. إنه المكمل لها والمخفف من آثار ضفعها على مسيرة الاندماج الصعبة المطروحة الآن على البلاد في الاقتصاد العالمي.
وفي الختام أود أن أقول إن الموقف من الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية يتوقف على ما نعنيه بكليهما. هل نعني بالليبرالية مجموعة السياسات الاقتصادية التي تخضع شروط حياة المجتمع وأفراده لمنطق التراكم الرأسمالي أو منطق الربح أم نعني بها التوسع في الحريات الفردية وفي الضمانات القانونية لهذه الحريات. لكن مهما كان الأمر، المهم أن نؤمن أن التاريخ لا يكرر نفسه ولا يستنفد أو يستغرق في ما أبدعه. فهو منتج أبدي لصيغ وتركيبات وتوليفات لا نهاية لها هي أساس إبداعه. وعلينا وحدنا يتوقف أمر إخراج هذه التوليفات من رقادها وتكييفها مع الواقع الذي تستجيب لمعطياته. ولا يتطلب منا ذلك سوى أن نظل منفتحي الذهن مستعدين لتقبل الجديد واحرار الضمير.

jeudi, juillet 07, 2005

كشف حساب التدخل العسكري الأمريكي في المشرق العربي

الجزيرة نت 7 يوليو05
بعد أن فشلت الولايات المتحدة في العثور على أسلحة الدمار الشامل التي جعلت منها المبرر الرئيسي والشرعي لإسقاط النظام العراقي بالقوة المسلحة وتحقيق هدفها في احتلال العراق وتثبيت أقدامها فيه، أخرجت دبلوماسيتها من صندوقها السحري فكرة الحرب على الاستبداد ودفع العالم العربي الغارق في النظم الشمولية نحو الديمقراطية. وكان هدفها من ذلك أن تضفي على استراتيجيتها العسكرية الهجومية الجديدة في الشرق الأوسط مسحة أخلاقية تبرر تدخلها المباشر في شؤون المنطقة وتخفف من أثر الهجوم القوي الذي تتعرض له من قبل مناوئيها في العالم العربي والعالم أجمع قبل أن يصبح هذا الهجوم قضية داخلية ويدخل إلى أروقة الكونغرس الأمريكي نفسه. وبالرغم من أن الرأي العام العربي والعالمي أيضا لم يخدعا كثيرا بتصريحات المسؤولين الامريكيين وبياناتهم وإعرابهم المتكرر عن نواياهم الخيرة تجاه الشعوب العربية إلا أن قطاعات واسعة من الجمهور العربي الذي فقد الأمل بأي إصلاح داخلي حقيقي وضاق ذرعا بالوعود الفارغة لزعمائه بدأت تعتقد بالفعل بأنه ربما كان لواشنطن مصلحة في تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية في المنطقة والتخلي عن سياساتها التقليدية في دعم النظم الفاسدة الأبوية والاستبدادية. ومما ساهم في ترسيخ هذا الاعتقاد عاملان. الأول الحملة الاعلامية القوية التي خاضتها وسائل الإعلام الأمريكية والتي أكدت فيها على الطبيعة العقائدية لالتزامات الرئيس جورج بوش وهوسه الحقيقي بتحقيق تقدم على صعيد نشر الديمقراطية. والثاني تأكيد معظم المحللين السياسيين العرب والدوليين للطرح القائل بأن الولايات المتحدة التي مالت في العقود الماضية إلى التحالف مع الأنظمة القائمة بصرف النظر عن طبيعتها في سبيل الحفاظ على الاستقرار وإنجاح الحرب ضد الارهاب قد أدركت اليوم خطأ هذا الطرح. فهي تميل الآن إلى تبني طرح مباين له تماما ينطلق من الاعتقاد بأن نظم الاستبداد والإقصاء السياسي والفساد ومصادرة الدولة والسلطة من قبل مجموعات مصالح خاصة وضيقة معا ربما كان السبب الرئيسي في انتشار الارهاب في العالم العربي وتصديره إلى بقية بلدان العالم. وفي هذه الحالة ليس للولايات المتحدة التي جعلت من الحرب ضد الارهاب محور استراتيجتها العالمية أي مصلحة في تبني سياسات الحفاظ على الوضع القائم والتضامن مع النظم الاستبدادية التي تضبط هذه الأوضاع، وأنه ربما كان من مصلحتها بشكل أكبر التخلي عن نظرية الدفاع عن الاستقرار لصالح تبني نظرية العمل في اتجاه نشر الفوضى الخلاقة.
وبصرف النظر عما إذا كانت الولايات المتحدة قد اقتنعت بالفعل بأهمية العمل في سبيل الاصلاح والديمقراطية أم أنها تستخدمهما فقط من أجل إضفاء الشرعية على أهدافها الاستراتيجية المرتبطة في الشرق الأوسط بالسيطرة الأحادية أو القوية على النفط وبتأمين حماية إسرائيل ونزع سلاح أعدائها سواء أكان سلاح دمار شامل أم غير شامل، وبصرف النظر أيضا عما إذا كانت واشنطن معنية أساسا بالحرب على الارهاب أم أنها تستخدمها كوسيلة لنشر قواتها وسيطرتها العالمية وإجبار الدول الكبرى الأخرى على العمل على أرضية أجندتها الوطنية، لا يستطيع أحد أن ينكر اليوم أنه كان لاستراتيجية التدخل الأمريكي الشامل، العسكري والاقتصادي والسياسي، آثارا كارثية على المصالح العربية سواء ما تعلق منها بنشر الديمقراطية أو بتحقيق السلام الإقليمي وتحرير الأراضي المحتلة في فلسطين والجولان ولبنان أو في إطلاق ديناميكية تنمية إقليمية أو في تعزيز فرص التكتل العربي والتعاون الاقليمي الذين لا غنى عنهما للتقدم في أي مشروع إصلاح سياسي أو إقتصادي جدي.
ولا يحتاج المرء إلى نظرة ثاقبة حتى يدرك ذلك على الطبيعة. فقد ترافقت السياسة الامريكية الجديدة كما هو واضح للجميع بتعزيز التطابق بين أهداف الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة الشرق أوسطية وأهداف الاستراتيجية الاسرائيلية مما قاد إلى وضع حد لجهود السلام وقضى نهائيا على عملية برشلونه التي كانت الإطار الوحيد الذي صاغته الدبلوماسية الدولية لفتح حوار مثمر بين العرب والاسرائيليين قد يقود إلى الخروج من حالة الحرب الكامنة وتحرير الأراضي العربية بالوسائل السياسية. وهكذا وصلت عملية مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية التي كانت ولا تزال محور أي جهد جدي في اتجاه إصلاح الأوضاع في الشرق الأوسط إلى طريق مسدود تماما وحلت محلها مناورات ومراوغات إسرائيلية لا تنتهي لابتلاع ما احتلته من الأراضي في الضفة الغربية والجولان.
وعلى مستوى التعاون العربي والإقليمي، تدفع الضغوط الأمريكية التي رافقت استراتيجية السيطرة الشاملة ووضع اليد على المنطقة، إلى التنافس بين الحكومات العربية على التخلي عن تراث العمل العربي المشترك الماضي ومن وراء ذلك إلى التجميد العملي والنظري لأي جهود تكتلية عربية بل إلى التنكر لفكرة الجماعة العربية نفسها على سبيل التجاوب مع مبادرة الشرق أوسطية التي تهدف إلى وضع إسرائيل في قلب أي تكتل إقليمي مقبل. وهكذا لم يتحقق أي تقدم يذكر لا في التعاون بين أعضاء المجموعة العربية لتحسين شروط الاندماج في منظومة العولمة الاقتصادية والجيوسياسية والثقافية والعلمية والتقنية العالمية ولا في التعاون بين المجموعة العربية والدول المجاورة غير العربية.
وعلى مستوى إطلاق عملية التنمية التي تشكل التحدي الأكبر لدول المنطقة التي تشهد تزايدا قويا في معدلات الفقر وتدهورا مستمرا في شروط المعيشة وتفاقما لحجم البطالة التي قد تتجاوز في أوساط الشباب نصف القوة العاملة، ما كان من الممكن حصول أي تقدم مع استمرار جمود الأوضاع الاستراتيجية وغياب التعاون العربي والإقليمي. ولا تزال المنطقة العربية تعاني من أدنى معدلات نمو إقتصادي بالمقارنة مع جميع مناطق العالم، إذا استبعدنا مساهمة تصدير النفط والأثر المباشر لزيادة أسعاره في السنوات القليلة الماضية.
وليست الخسارة بأقل من ذلك على صعيد المسألة الأمنية سواء ما تعلق منها بالأمن الخارجي أو الداخلي لبلدان المنطقة. فهي تعيش جميعا في حالة انكشاف كامل وليس هناك دولة واحدة تستطيع أن تدعي أنها تعتمد في أمنها الوطني على قواها الذاتية أو تحالفاتها الفعلية. وهو ما دفعها جميعا إلى أن تضع نفسها تحت الوصاية والحماية الأجنبية. أما في الداخل فمعظمها، من العراق إلى السعودية مرورا بالأردن ولبنان وسورية، يشهد تناميا ملفتا لبؤر الارهاب التي لم تكن قوية في أي فترة سابقة كما هي اليوم. وجميعها تعيش على وقع عمليات المداهمة والقتل والاغتيال، كما تتهدد وحدة مجتمعاتها النزاعات العائلية والإتنية والدينية.
لكن ربما كان الخراب الأكبر الذي نجم عن سياسات الولايات المتحدة الخرقاء في الشرق الأوسط يتعلق بمسألة الديمقراطية التي تريد واشنطن أن تجعل من دعمها لها عنوانا لأهدافها الأخلاقية. وفي اعتقادي أن ضغوط الولايات المتحدة في هذا المجال قادت أكثر من أي ميدان آخر إلى عكس النتائج التي يريدها العرب وتتفق ومصالحهم الكبرى. فمن جهة أولى أدت سياسات زعزعة الاستقرار إلى تعزيز التحاق النخب الحاكمة بالاستراتيجية الأمريكية وتقديم التنازلات لها على حساب المصالح الوطنية. وفي سبيل التغطية على هذه التنازلات أو منع الجمهور من استخدامها لتبرير ضغوطه على الحكومات لتحقيق أهداف اجتماعية خاصة به قامت الأنظمة، بعكس ما تشير المظاهر السطحية، بتشديد قبضة النظم الأمنية وتطوير أدائها. ومن جهة ثانية، بقدر ما ربطت الولايات المتحدة بين أهدافها الاستراتيجية الاستعمارية، سواء ما تعلق منها بنشر القواعد العسكرية الأمريكية في أكثر الدول العربية، وليس في العراق وحده، أم ما تعلق منها بالدعم غير المشروط لسياسات إسرائيل الاستيطانية أضعفت من شرعية القضية الديمقراطية العربية ودفعت قطاعات واسعة من الجمهور الملوع بالقمع إلى التشكيك فيها والابتعاد عن المشاريع المرتبطة بها. ومن جهة ثالثة كان للخطابات الأمريكية المتكررة حول التمسك بالتحويل الديمقراطي أثر تخديري على النخب العربية التي اعتقدت أنها بالمراهنة على الضغوط الأمريكية تستطيع أن توفر على نفسها عناء العمل الشاق النظري والعملي من أجل بناء القوى الديمقراطية القادرة على تغيير موازين القوى الداخلية والسعي بجميع الوسائل إلى الربط مع الجمهور الواسع وإدخاله في العملية السياسية التحويلية. ومن جهة رابعة قدمت الضغوط الأمريكية باسم الاصلاح والديمقراطية ذريعة سهلة للنظم العربية الاستبدادية لمحاصرة القوى الديمقراطية واتهامها بالمشاركة مع واشنطن في تكثيف الضغوط عليها والمساهمة بالتالي في زعزعة الاستقرار وتهديد الوحدة الوطنية. ومما عزز من هذه الاتهامات اختلاق الولايات المتحدة نفسها لأحزاب معارضة تابعة لها من دون أي قاعدة داخلية بدل أن تتعامل بشكل واضح وعلني مع قوى المعارضة الوطنية وتفتح مفاوضات سياسية علنية معها تكشف النوايا الحقيقية الأمريكية. وهكذا أظهرت الولايات المتحدة أنها لا تريد من الديمقراطية إلا استبدال النظم القائمة بنظم تسيطر عليها أحزاب هي صنيعتها الفعلية كما يعبر عن ذلك إنشاء حزب المؤتمر الوطني لأحمد الشلبي في العراق وحزب الاصلاح السوري لفريد الغادري. إن ما حصل كان في الحقيقة مصادرة مباشرة للقضية الديمقراطية العربية من قبل الولايات المتحدة ومحاولتها لاستخدامها لخدمة أهداف السياسة الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة، أي لتحقيق أهداف تتعارض كليا مع الأهداف الوطنية والجماعية العربية.
قد يقول البعض : لا يمكن أن ننكر أن الضغوط الأمريكية قد أضعفت النظم العربية أو زعزعتها وسمحت بالتالي لبعض قوى المعارضة والرأي العام بأن ترفع رأسها وتزيد من قوة انتقادها كما شجع قطاعات أخرى من المثقفين والناشطين على دخول الحلبة السياسية والتعبير عن رأيهم بحرية أكبر. وأنا أعتقد بالعكس من ذلك أن هذه الضغوط، حتى على هذا المستوى، قد خدمت النظم القائمة لأنها دفعت النخب الثقافية إلى الاندفاع وراء أوهام التغيير السريع المحتمل المراهن على التناقض بين النظام والخارج ومنعتها من الانخراط في العمل الطويل والشاق للربط مع قاعدتها الاجتماعية الأساسية والشغل عليها وإعدادها. وكل ذلك جعل مسألة التغيير تبدو وكأنها عملية إنقلاب سياسي سطحي وحرم الناشطين الديمقراطيين من إدراك ضخافة المهام الموكلة إليهم على سبيل السعي إلى استعادة ثقة الشعب والجمهور الواسع وإعادة تثقيفه بالقيم الجديدة وإعداده سياسيا وتنظيميا لخوض معارك التحويل الديمقراطي التي تتجاوز بكثير مسألة تغيير السلطة أو أشخاصها لتصب في تحويل المجتمع ونوعية العلاقات التي تجمع بين أفراده. لقد اختصرت الديمقراطية إلى صراع من أجل الحريات الشكلية فحسب.
هذا ما يفسر التعثر الكبير الذي لا تزال تعاني منه قضية التحويل الديمقراطي العربية كما يفسر مراوحة المعارضة الديمقراطية العربية في مكانها بالرغم من كل الخطابات الحماسية للرئيس بوش ودعوته الحكومات إلى الانخراط في الاصلاحات المؤدية إليها. فهي لا تزال بعيدة عن أن تكون قوة مؤثرة في بلدانها كما لا تزال تعاني من عزلة عميقة عن بقية قطاعات الرأي العام وتفتقر بصورة محزنة للمبادرات والمشاريع والأفكار التي تجعل منها قطبا ديناميكيا فاعلا في الحياة الثقافية والسياسية لبلدانها. وقد وصلنا نتيجة لكل ذلك إلى وضع خطير لا يستطيع أحد أن يعرف مآله ناجم عن التهافت السياسي والايديولوجي للنظم الشمولية القائمة وفي الوقت نفسه استمرار ضمور المعارضة وفشلها في مراكمة القوة المادية والمعنوية التي تؤهلها لاستلام السلطة وإخراج النظم المتهلهلة. وهو ما يعني أن الولايات المتحدة نجحت في النهاية في أن تجعل الخيار الوحيد هو التدخلات الخارجية. وهذا ما يؤكد ما كررناه مرارا عن التضامن العميق والموضوعي بين الاستبداد والاستعمار. وكلاهما يراهن على قطع الطريق على تمكين الشعوب من مصيرها ولا يحققان استقرارا ولا نموا اقتصاديا ولا ديمقراطية.
ما هو العمل المطلوب الآن؟
كنت قد حذرت عشية غزو العراق من وهمين بدآ يسيطران على الرأي العام العربي، وهم الاعتقاد بأن التدخل الأمريكي قادر على تحقيق الأهداف الديمقراطية والاصلاحية العربية ووهم الاعتقاد بأن النظم العربية قادرة على فرز تيارات إصلاحية جدية. وقلت إن الضمانة الوحيدة لحصول أي تقدم في اتجاه الديمقراطية أو الاصلاح هو بناء القوى الداخلية فكريا وعمليا وإلا فإن الأمور سوف تسير أكثر فأكثر نحو التعقيد والخراب الأعم. وهو ما نعيشه اليوم مع الانسداد الحاصل على جميع الجبهات وفي كل الاتجاهات. فيبدو العالم العربي اليوم مكبل وجامد من دون خيارات . والآن لم تتغير المعادلة كثيرا ولا يزال الخيار الوحيد بالنسبة لي هو العودة إلى المجتمعات والشعوب من أجل تثقيفها وتنظيمها وإعدادها لمعارك التحويل والاصلاح الطويلة. وهو ما لم يحصل حتى الآن لا من قبل المعارضة ولا من باب أولى من قبل النظم القائمة.

dimanche, juillet 03, 2005

رد على الليبراليين العرب


موقع الرأي 3 يوليو 05

أثار مقالي الأخير حول ضرورة التمييز بين الديمقراطية والليبرالية ردودا كثيرة من قبل ناشطين سياسيين وأصحاب رأي ربما كان أكثرها إثارة الانتقادات التي نشرها الزميل كمال اللبواني صاحب المبادرة إلى تأسيس حزب ليبرالي سوري والذي حصل لي شرف التعرف عليه قبل أن يلقى القبض عليه ويقدم لمحكمة أمن الدولة خلال الندوة اليتيمة التي أقامها منتدى الحوار الديمقراطي في 5 سبتمبر 2001 في منزل النائب رياض سيف في دمشق. وكنت قد أعجبت بنفاء فكره وشجاعته وروحه النضالية كما كان في الواقع حال القسم الأكبر من الذين التقيتهم تلك الليلة التي ألقيت فيها أول محاضرة لي في دمشق منذ خروجي من سورية عام 1970. وقد سررت بالفعل لقراءة هذه الردود أولا لما عكسته من انطلاق الحوار الجدي بين تيارات الفكر العربي المعاصر الأساسية وثانيا لأنها نقلت الحوار من سياق المماحكة مع نظم الحكم العربية التي ترفض أي شكل من أشكال الحوار باستثناء ما تعبر عنه محاكم أمن الدولة والأجهزة الأمنية التي تخدمها من أحكام، نحو أرضية النقاش بين أطراف المجتمع العربي نفسه وفي سبيل بناء مستقبله. فلم يعد الحوار حوار طرشان يقف فيه فكر نقدي معارض وليد محروم من كل وسيلة تعبير مشروعة في مواجهة حملات التشهير والتزوير والتضليل المنظمة لفكر السلطة المطلقة الذي لا يهمه من عناصر المنطق والحجة العقلية إلا ما يساهم في إخراس الخصم ووصمه بالخروج عن الاجماع وتجاوز الثوابت والخطوط الحمراء والسقوف الوطنية التي لا تكف عن الانخفاض حتى لم يبق نفحة هواء لحياة ممكنة في بيت الوطنية. لقد أصبح نقاشا بين أصحاب رأي، أي حوارا بناءا يهدف إلى بلورة منظومات القيم والخيارات السياسية والاجتماعية الكبرى لعالم ما بعد الشمولية والاستبداد ويجري بين أشخاص أحرار تدفعهم الرغبة المشتركة في بناء حياة ديمقراطية وإنسانية تختلف تماما عن الأوضاع الراهنة ولا تعميهم المصالح الخاصة والأنانية.

لكن إذا كنا ننتمي نحن الديمقراطيين والليبراليين إلى معسكر واحد هو معسكر الحرية أو الدفاع عن الحريات الفردية فعلى ماذا نختلف إذن؟ بالتأكيد نحن لانختلف حول تقدير قيمة الحرية واعتمادها كأساس لأي حياة سياسية واجتماعية سليمة. إن خلافنا يقوم حول مسألتين أخريين. أولا حول شرعية المطابقة النظرية بين الديمقراطية و الليبرالية مما يعطي للتيارات الليبرالية الحق في الاستحواز على رصيد الديمقراطية كله ومصادرتها الكاملة له، وثانيا حول نجاعة مثل هذه المطابقة من الناحية العملية أو الاستراتيجية التي تعنى بنقل الفكرة الديمقراطية إلى الواقع الاجتماعي وممارستها على الأرض..

1– مسألة الشرعية وتطابق المفاهيم النظرية

في البداية ينبغي القول إن الليبرالية والديمقراطية وغيرها من المفاهيم ليست مفاهيم ثابتة وجامدة وإنما تولد ثم تغتني بالمعاني مع الزمن ومن خلال الخبرة العملية التاريخية. فالليبرالية مطلقا تشير إلى فلسفة جديدة ارتبطت منذ البداية بالنزعة الانسانية والرفض المطلق لكل أشكال التقييد من حرية الفرد وحقوقه، أي لكل أشكال الاضطهاد السياسي سواء أجاء من طرف السلطة أم من طرف الهيئات الاجتماعية. وفي هذا المستوى تشير الليبرالية إلى فكرة وفلسفة ايجابية في الاستخدام اليومي مقابل النظم الدينية أو القومية التي تنكر الفردية الحرة وتركز على الحقوق الجماعية.
بيد أن معنى الليبرالية لم يجمد على هذا المستوى خلال التاريخ الماضي بأكمله. فقد قادت النظم الليبرالية الكلاسيكية التي عرفتها البلدان الصناعية في القرن التاسع عشر إلى أزمات اجتماعية كبرى بسبب تجاهلها أثر العوامل الاقتصادية والاجتماعية في ممارسة الحرية. وكان التعبير الأعمق في نظري عن هذه الأزمات، نشوء الشيوعية نفسها بوصفها فلسفة النقد الجذري والشامل للمسلمات الرئيسية لليبرالية وكنقض منهجي وعملي لها. وفي مقدمة هذه المسلمات فكرة التطابق التلقائي أو العفوي بين الحريات الاقتصادية والحريات السياسية وفكرة الانسجام الطبيعي بين المصالح الفردية والمصالح الجمعية. فقد بينت الماركسة، وكانت هنا على حق، أن الليبرالية تقود حتما كما أظهرت ذلك التجربة العملية إلى نقيض ما تقول في أمرين أساسيين على الأقل: أولا احتكار القرار السياسي من قبل فئات معينة من السكان وسيطرة قلة من أصحاب المصالح الكبرى على الحياة الاقتصادية ومن ثم السياسية والاجتماعية والمعنوية مما دعا البعض إلى اتهام الحريات بأنها أصبحت شكلية. وثانيا اشتغال نظام الليبرالية على المستوى الاقتصادي كليا لصالح القلة المنعمة ضد مصالح الأغلبية الاجتماعية التي لم تعد تملك لا سلطة ولا موارد اقتصادية كافية ولا وعي مستقل بذاتها. وهذا ما يفسر نشوء ظواهر الفقر والحرمان والتهميش الجماعي الذي شهدته الحقبة الصناعية الاولى وهي الظواهر التي شكلت التربة الخصبة لتغذية مشاعر وأفكار الثورة الشيوعية والتي جاءت كرد فعل عنيف على عيوب النظم الليبرالية التي تجاهلت المسألة الاجتماعية تماما كما تأتي الليبرالية العربية اليوم كرد فعل عنيف على النظم الاشتراكية السوقية التي انتجت الاستعباد السياسي ومن دون أن تقدم أيضا أي مكافأة اقتصادية.

لكن في إطار الرد على الشيوعية ومواجهة الثورة الاجتماعية التي فجرتها في الدول الصناعية حصلت أول طفرة داخل الفكر الليبرالي نفسه في اتجاه الاعتراف بخطأ الاعتقاد بالتطابق التلقائي والانسجام الطبيعي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية وبين المصالح الفردية والمصالح الجمعية. وقام الاقتصاديون وعلى رأسهم كينز بتطوير نظرية تدخل الدولة في الاقتصاد عن طريق التوجيه والانفاق وسياسات الأجور فكسروا لأول مرة " تابو" أو محرم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. وفي موازاة ذلك حصل تحت تأثير الكفاح اليومي للمنتجين والطبقات العاملة تطور مماثل في الفكر السياسي الليبرالي في اتجاه القبول بتطوير نظام من الحقوق والضمانات الاجتماعية التي أصبحت شرطا من شروط المشاركة في الحياة الوطنية والاندراج فيها. ومنذ ذلك الوقت تطور المصطلح السياسي في الدول الصناعية حتى لم يعد هناك تشكيلات سياسية كثيرة تربط اسمها بالليبرالية بينما سمت الأحزاب التي قادت أوروبة للخروج من أزمة الثلاثينات الطاحنة نفسها بأسماء الديمقراطية، سواء أكانت ديمقراطية اشتراكية أم ديمقراطية مسيحية. والهدف من ذلك أن تشير إلى أن هذه التجارب السياسية الكبرى تجاوزت الليبرالية الكلاسيكية التي تجرم وتحرم تدخل الدولة في عملية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي لصالح مفهوم الحرية الفردية الذي يترجم مع غياب شروط المنافسة المتكافئة بين الأفراد إلى حرية الأقوى. وقد تجاوزتها باسم الديمقراطية، أي باسم تعميم قيمة الحرية نفسها وترسيخها وليس باسم إلغائها أو استبدالها بالشيوعية أو الاشتراكية. ومن هنا لم يعد الخلاف بين الليبراليين والاجتماعيين الديمقراطيين خلافا مبدئيا يدور حول قيمة الحرية في النظام السياسي الاجتماعي وإنما هو خلاف سياسي يتعلق بتحديد أفضل وسيلة لتحقيق الحرية وضمان استمرار نظامها السياسي وتعميم ممارستها في الوقت نفسه. ولا ينبع انتقاد التيارات الديمقراطية الراهنة لليبرالية من التشكيك بالحرية الفردية أو من كونها تتحدث عن أولوية قيم الحرية وإنما بسبب ما لا تتحدث عنه من وقائع اجتماعية واقتصادية تهدد أو قد تهدد ممارسة الحرية، أي أنها تنتقدها انطلاقا من التمسك بمبدأ الحريات الفردية. فبتجاهل الليبرالية الشروط الاقتصادية والاجتماعية لممارسة الحرية تهدد بأن لا نحصد من الدعوة للحرية المجردة إلا أشكالا جديدة من التهميش والحرمان. لم تخطيء الماركسية في تشخيص نقاط التناقض في الفكرة الليبرالية ولكنها أخطأت في تحديد الدواء لها. فإذا كانت الحرية المجردة أو المنظور إليها من خارج شروط الحياة الاقتصادية والاجتماعية للفرد لا تقيم ديمقراطية فعلية، فلا يمكن أيضا إقامة مثل هذه الديمقراطية بنفي الحرية أو الحريات الفردية. إن الديمقراطية تستدعي الحرية بالماهية لكنها تحتاج كي تتحقق إلى إحاطة نظام الحرية بمنظومة من الاصلاحات السياسية والاجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي تحفظ حق ممارسة الحرية للجميع ولا تترك فئة صغيرة من أصحاب السلطة المالية أو الاقتصادية تسيطر سيطرة مطلقة على موارد السلطة السياسية أو الثقافية أو الإعلامية. ومن هنا تستدعي الحرية المساواة وأن المساواة لا تستقيم من دون حد أدنى من العدالة الاجتماعية.
لكن هناك لحظة ثالثة لا يمكن تجاهلها عندما نتحدث عن معنى الليبرالية والديمقراطية ومفهومهما اليوم وأعني لحظة الردة الراهنة على الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. فمما لا شك فيه أن الركود الاقتصادي وتراجع معدلات النمو وانتشار البطالة والأزمة المالية والتضخم، كل ذلك قد حضر لانقلاب فكري جديد ضد الديمقراطية الاشتراكية أو النزعة الاجتماعية وفي سبيل العودة إلى مباديء الليبرالية الأولى. وكان على رأس هذا الانقلاب مارغريت تاتشر ثم دونالد ريغان ثم انتشرت الفكرة في ما بعد في العالم أجمع الذي يعيش اليوم عودة الليبرالية وانتصارها كما قال فوكوياما على كل ما عداها من عقائد اجتماعية باستثناء الاسلام الذي لا يزال على زعمه يقاوم الحداثة وأصولها. ما هي أطروحات النيوليبرالية أو الموجة الليبرالية الجديدة؟ ثلاث رئيسية. لقد اعتبر النيوليبراليون أولا أن سبب الأزمة الاقتصادية الرئيسي هو تدخل الدولة الكبير في تنظيم الحياة الاقتصادية خاصة عن طريق المشاركة بقطاع عام واسع وزيادة الانفاق العام وتمويل مشاريع الضمانات الصحية والاجتماعية. وطالبوا الدولة بالرجوع عن ذلك وترك قوانين السوق الاقتصادية التنافسية المعتمدة على العرض والطلب تعمل بصورة طليقة أو شبه طليقة، مما يعني التقليل من الضمانات الاجتماعية المقدمة خلال الحقبة الماضية للعمال والمنتجين والتي جمدت حسب اعتقادهم التنافس وفرضت أعباءا كبيرة على أرباب العمل. وهذا هو مضمون برامج الخصخصة والتكييف الهيكلي الذي فرضته المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي على البلاد النامية من أجل الاستمرار في تقديم القروض والتسهيلات المالية. أما الأطروحة الثانية فهي العمل على توسيع دائرة التبادل التجاري وخلق سوق اقتصادية عالمية هي وحدها التي تستطيع أن تقدم الإطار الذي يسمح باستمرار النمو والتراكم الاقتصادي العالمي وتقديم حلول للأزمات التي تعاني منها الدول الصناعية وفي مقدمها تضاؤل النمو وتفاقم البطالة. والأطروحة الثالثة هي تلك المتعلقة بالتحرر من عقدة الذنب القديمة تجاه الشعوب المستعمرة سابقا والعودة من جديد إلى تأكيد تفوق الثقافة الغربية وقيمها كما عكسه كتاب هنتنغتون. وفي هذا السياق تستعاد التجربة الاستعمارية التي حصلت في سياق ليبرالي أيضا كتجربة ايجابية كما تتبلور نزعات متجددة لفرض الوصاية بطريقة أو أخرى من قبل الدول الكبرى باسم مباديء الليبرالية والديمقراطية على الشعوب الأخرى.
وهكذا ترتبط اليوم فكرة السياسة الليبرالية بتحرر الدولة من التزاماتها الاجتماعية والسعي لتخصيص كل القطاعات العامة في التعليم والصحة والمجتمع المدني عموما وإخضاعها لقانون العرض والطلب والسوق، كما ترتبط بسياسة بناء السوق العالمية الكبرى التي تفتح المنافسة على أشدها بين جميع البلدان في الميدان الاقتصادي والتي تستفيد منها بشكل أكبر الدول الأكثر قدرة على المنافسة، فتصبح سوقا مقتسمة عمليا بين الدول الصناعية ولا أحد يعرف ما ذا سيكون عليه مصير الدول الصغيرة الأخرى في شراكات لا تزال محدودة وغير مضمونة النتائج. كما ترتبط أخيرا بتنامي نعرة تفوق غربية ونزعة محورة إتنية أوروبية قوية تبخس الثقافات العالمية قيمتها بل تحول الثقافة إلى سلعة تجارية وتميل إلى نشر الفكر الواحد وتصفية بقايا سياسات دعم التعدد والتنوع الثقافي الذي كانت تدافع عنه اليونسكو في الحقبة الماضية. وهو ما يثير في المقابل كرد فعل تمسك الشعوب الصغيرة بثقافاتها ونزوعها إلى التقوقع حول مفاهيم وقيم الهوية والسيادة الرمزية والاستقلالية.
ليس هدفي من هذا العرض إدانة الليبرالية كنزعة فلسفية وسياسية وإنما إظهار ما تعنيه اليوم في بداية القرن الواحد والعشرين. فعندما تستخدم كلمة ليبرالي في الفكر العالمي المعاصر فليس ذلك للإشارة إلى مضمونها الأول الذي يجعل منها فلسفة الدفاع عن حرية الفرد في وجه الإكراهات الجمعية أو السلطوية العديدة التي كانت تعيق نمو الذاتية الانسانية باسم الدين أو الدولة أو العلم. وإنما تستخدم بمعناها المعاصر الذي يشير إلى مذهب سياسي يركز على أسبقية المنطق الاقتصادي في التنظيم الاجتماعي على حساب منطق المجتمع والسياسة والثقافة معا ويشير إلى سياسات تميل إلى التقليل من تدخل الدولة لتحقيق التوازنات الاجتماعية والتقسيم العادل للثروة لصالح التأكيد على منطق المنافسة الحرة بين الأفراد والبقاء للأصلح كما تميل إلى مسايرة استراتيجيات الدول الصناعية الكبرى في مسألة بناء سوق عالمية واحدة خاضعة للمنافسة الدولية وتجاهل ما يمكن أن ينجم عن هذه السياسات من آثار سلبية على حياة ملايين البشر من أصحاب الدخول الضعيفة أو المنتمين إلى الدول النامية. إنها تستخدم لتشير إلى سياسات يمينية تساير مصالح الأقوياء والمتنفذين وأصحاب الأموال من طبقات ودول. ويكفي للتدليل على انفصال الليبرالية عن الديمقراطية النظر إلى ما يدور في بلداننا نفسها. فلا تكف الحكومات العربية عن الحديث عن الليبرالية وسياسات الانفتاح الاقتصادي في الوقت الذي ترفض فيه أي تحولات سياسية ديمقراطية.
ويبدو لي أن من الضروري أن يكون الرأي العام العربي العادي والمثقف على دراية بهذا الاستخدام الثاني للكلمة حين يدعو إلى تكوين أحزاب ليبرالية. وأعتقد أن ما يقصده المثقفون العرب بالليبرالية هو في الحقيقة الديمقراطية وليست السياسات اليمينية هذه التي تميل إليها الدول الصناعية الكبرى وشبكات المصالح المافيوزية التي تعمل على هامش ممارستها التجارية ودعما لها في البلدان العربية. لكن إذا كان هناك فريق عربي يميل إلى أطروحات الليبرالية الجديدة بالفعل بما تعنيه اليوم من سياسات اقتصادية واجتماعية مقابل سياسات الديمقراطية الدولية التي لم تعد سياسات شيوعية ولا ماركسية ولكنها تتركز على الدفاع عن الضمانات الاجتماعية بالدرجة الأولى وعن دور أكبر للدولة في تحقيق التوازن بين المصالح المختلفة، فله كامل الحق والشرعية في تبني هذا المصطلح والدفاع عنه، تماما كما أن هناك العديد من تيارات الفكر السياسي العالمي التي تتبنى اليوم عقيدة الليبرالية الجديدة. لكن شرعية هذا الفريق في تبني أطروحات الليبرالية لا تلغي شرعية الأطراف الأخرى في تبني شكل آخر من الديمقراطية الاجتماعية أو التي تولي أهمية كبرى لقيم المساواة والعدالة وتعميم ممارسة الحرية، ولا تبرر اتهام من لا يقول بالسياسات اليمينية والعولمية بالستالينية والشيوعية. فجوهر النقاش الدائر اليوم في الفكر السياسي العالمي لا يتعلق باليمين واليسار بالمعنى القديم أي بمواجهة معكسر الرأسمالية مع معسكر الاشتراكية أو الشيوعية وإنما بالضبط بالديمقراطية والسبل الأنجع لتوسيع دائرتها وتعميقها. وللتبسيط يمكن القول إن الصراع يدور اليوم بين ليبرالية توسم أحيانا بالمتوحشة لأنها تنزع إلى القضاء على كل التراث المعاصر من حماية بيئة العمل والطبقات المنتجة لحساب تأمين حرية أكبر لأصحاب رأس المال وتحقيق التنافس الأمثل في الانتاجية من جهة ومن جهة ثانية ديمقراطية تسعى إلى إخضاع قوانين السوق في ميدان البضاعة والخدمات وميدان العمل معا لحد أدنى من الضبط والتنسيق باسم المزيد من الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وليس ضد الحرية الفردية أو الجماعية. وبشكل عام هذا ما يدفع إلى التمييز بين نموذج الديمقراطية الأوروبية عموما ونموذج الديمقراطية الأمريكية التي لا تزال تخضع لإرث كبير من الليبرالية البدائية.
بالنسبة لي لا أرى أن حل أزمة الرأسمالية العالمية يكمن في العودة إلى تقديم منطق السوق على منطق الاتساق المجتمعي أو في إعادة بناء المجتمع والعلاقات الاجتماعية كلها انطلاقا من فكرة السوق الاقتصادية التنافسية وعليها. وليس هناك ما يمنع في نظري من بلورة سياسات اقتصادية وطنية ودولية بديلة من دون تهديد الحريات ولا الخروج من الديمقراطية الحقيقية وليس الشعبية النافقة.

2- مسألة النجاعة العملية أو في بناء استراتيجية الممارسة الديمقراطية

لكن في ما وراء التفاهم حول أهمية وصلاح قيم الليبرالية وفي مقدمها الحرية الفردية والحريات العامة جميعا، ومن وراء الخلاف النظري حول مضمون الديمقراطية التي نريد لمجتمعنا أن يبنيها، يطرح موضوع الديمقراطية قضايا استراتيجية جوهرية لا يمكن الحديث في الديمقراطية، ليبرالية كانت أم اجتماعية، المرور عليها من دون مناقشة. والمقصود بهذه القضايا مسائل الاستراتيجية العملية التي تعنى بتأمين شروط التحول الديمقراطي التاريخية. وهذه هي ملا حظاتي الثانية التي تتعلق بقضية النجاعة العملية وليس بالمسائل النظرية والتحديدات المفهومية. وأول ما يخطر في قضية النجاعة، أي تحقيق المشروع الديمقراطي هو مسألة بناء منظومة القوى الديمقراطية القادرة على التغيير والتحويل الديمقراطي للدولة والمجتمع معا، وهي عملية طويلة ومركبة وشاقة تستدعي جهودا سياسية وفكرية وتنظيمية متعددة. وعلى هذا المستوى لا يتعلق الأمر بتأكيد شرعية قيام حزب ليبرالي أو تعميم ونشر الفلسفة الليبرالية أم لا وإنما ببناء قطب ديمقراطي واسع قادر على التغيير. وأشك في أن ينجح التيار الليبرالي الذي يعزل نفسه عن هذه النخب في أن يتجاوز موقع الأقلية السياسية وأن يكون قادرا على التغيير المنشود. إن نجاحنا يتوقف على قدرتنا على أن نضم إلى هذا القطب الديمقراطي، بالإضافة إلى النخبة الليبرالية الناشئة والمتنامية في وسط المثقفين والطبقة الوسطى وما تميل إليه من نزعة علمانية وتحررية، النخب الأخرى الجديدة والقديمة التي بدأت تقطع مع النظام الشمولي وتبحث هي أيضا عن مخرج لها من المأزق الذي وضعها فيه هذا النظام. وفي اعتقادي أننا لن نتمكن لا في سورية ولا في العالم العربي من تأمين شروط التحول الديمقراطي الحقيقي وبناء القاعدة السياسية والفكرية الضرورية لاستقرار الديمقراطية وقطع الطريق على احتمال مصادرتها من جديد من قبل مجموعات المصالح والأجهزة البيرقراطية والأمنية ما لم ننجح في جذب هذه النخب نحو المنظومة الديمقراطية التي تستطيع وحدها أن تقدم لها المخرج من مأزقها، سواء ما تعلق منها بالنخب الاسلامية أو النخب القومية أو النخب اليسارية. ولن يمكن تحقيق ذلك من دون إعادة بناء هذه المنظومة بما يسمح باستيعاب الفكر الديمقراطي لكل الحساسيات المناوئة للاستبداد والنازعة إلى الارتداد عليه.
بالتأكيد ليس من المنتظر أن يتحول القسم الاكبر من النخب الاسلامية إلى ما نطمح إليه من ديمقراطية إسلامية، أي إلى إنزال برامجها الاسلامية في قالب الديمقراطية وقيمها الأساسية. وليس من المؤكد أيضا أن ينجح قسم كبير من النخب القومية التي اختارت الشعبوية ولا تزال رهينتها في أن يواكب في تحوله قيم الديمقراطية الحقيقية. كما أنه ليس من المؤكد أن يهجر اليسار أو قسم كبير منه هواجسه الدولوية ويتوافق مع قيم الديمقراطية. لكن بالمقابل ليس من حقنا ولا من حق أحد أن يصادر مثل هذا الاحتمال ولا أن يقطع الطريق عليه حتى لو كان احتمالا ضيئلا. وليس هناك ما يدعونا إلى قطع الأمل من مثل هذا التحول في ظروف الانهيار الكامل الذي عرفته الفكرة الشمولية في العالم أجمع وتحت تأثير التحولات الفكرية والسياسية والجيوسياسية المتسارعة أيضا. ولا شيء يدعونا إلى أن نحكم بالإدانة المطلقة والنهائية على أصحاب هذا الفكر أو ذاك وتناقضهم الحتمي والدائم مع قيم الديمقراطية وروحها. بالعكس إن كل العوامل الراهنة تشير إلى أن الجميع يتطلع إلى الفكرة الديمقراطية كمخرج من الأزمة الطاحنة التي يعاني منها. ولا يحق لنا أن نغلق الباب أمام أحد كما لا يتوجب علينا عدم السعي بكل ما نملكه من وسائل نظرية وعملية من أجل توسيع قاعدة الحركة الديمقراطية الاجتماعية.
هل يؤثر دخول هذه التيارات التي لم تكن ذات اختيارات ديمقراطية في الماضي، وليس من المؤكد أن تكون خياراتها الديمقراطية الجديدة متسقة ومتكاملة في المستقبل، على قوة التيار الليبرالي أو اتساقه؟ بالعكس إنها ستعززه بقدر ما تجعله تيارا ديمقراطيا بين تيارات عديدة يشكل وجودها وتميزها وتعبيرها عن الحساسيات الاجتماعية المختلفة أساس توازن النظام الديمقراطي القادم. وبفضل هذا الإغناء لفكر الديمقراطية وجمهورها معا نستطيع أن نضمن أن تصب جميع النضالات وجميع المعارضات في الخيار الديمقراطي كما نضمن أن يظل الصراع داخل النظام القادم في الإطار الديمقراطي أي السلمي. وبالمقابل لن يخدم استعداء التيار الاسلامي أو القومي بالرغم من عدم اتساق أفكارهما ولا تهميشهما ووضعهما في المعكسر المعادي للديمقراطية أو في تناقض معه القضية الديمقراطية ولن يساهم في مساعدتهما على تطوير استجابات سلمية وسليمة للمشاكل الوطنية.
المسألة الاستراتيجية الثانية المهمة تتعلق بتحديد طبيعة برنامج الديمقراطية العربية والسورية القادمة. ذلك أن الديمقراطية ليست بحد ذاتها برنامجا قائما بذاته أو مكتفيا بنفسه. إنها إطار سياسي يقبل تطبيق برامج متعددة ومختلفة قد تتباين في خياراتها الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية العليا أو الاستراتيجية. وفي الولايات المتحدة يتنازع حزبان ديمقراطيان على الحكم بسبب هذا الخلاف بين البرامج لا بسبب الاختلاف في تقدير أهمية القيم الديمقراطية أو قيم الحرية. ومع تحول الديمقراطية إلى ديمقراطية عالمية أو عولمية تصبح الاختيارات أكثر تنوعا وتعقيدا معا. إن بلورة برنامج ديمقراطي فعلي، أي تأسيس نظام الحريات السياسية والفكرية وتعميمها يختلف باختلاف البلدان والمهام المطلوبة لتحرير الانسان أي باختلاف العوائق التي تحول دون هذا التحرير.
إن الليبرالية هي برنامج واحد من برامج الديمقراطية الممكنة اليوم وليس برنامجها الوحيد. والتنافس داخل الديمقراطية العربية المنشودة سيكون بين هذا البرنامج الذي يعكس تطلعات قطاعات من الرأي العام الأكثر حساسية لمسائل التحديث الفكري والاجتماعي والبرامج الأخرى الميالة إلى التركيز على مسائل توزيع السلطة والثروة والجاه، أي على المزيد من المساواة في شروط الوجود التي لا تقوم الحرية من دونها.
أما المسألة الاستراتيجية الثالثة فتشير إلى دور المثقفين كفاعل اجتماعي مهم جدا في مرحلة التحول الديمقراطي الراهن للمجتمعات العربية. ومن أكبر الأخطار التي تهدد هذا التحول نزوع المثقفين إلى التقوقع على ذواتهم وتشربهم بالفكرة الأصنافية "الكوربوراتية" التي تجعل منهم فريقا منغلقا على ذاته وغارقا في همومه الخاصة ومتطلباته الخصوصية التي تشده نحو قيم الحداثة ومفاهيمها وتضعه في مواجهة أغلبية اجتماعية مشدودة بالقدر نفسه أو أكثر نحو قيم التراث وتقاليده. وأخشى أن تدفع الليبرالية التي تنطوي على قسط كبير من الاعتداد بالنفس وتأكيد قيم التفوق والمبادرة إلى فصل المثقفين من جديد عن مجتمعهم كما حصل في النظام السابق وبالتالي تحييدهم والحؤول دون تأثيرهم القوي في إعادة تفعيل هذا المجتمع وتثقيفه بالثقافة الديمقرطية بل بالثقافة عموما.
وأخيرا، ومهما كان الحال من أمر الليبرالية والديمقراطية، ليس الكلام في الاجتماع والسياسة ليس علما محضا ولا يمكن أن يكون. إنه في الوقت نفسه بناء أو إعادة بناء للفكر السياسي في السياق الخاص التاريخي ومن وجهة نظر المصالح العديدة الحاضرة التي لا يمكن للديمقراطية أن تقوم من دون أخذها جميعا بالاعتبار. وغاية كل ذلك أن لا تتحول الديمقراطية إلى شعار يقتصر رفعه على أولئك الذين يأخذون بفلسفة المجتمع الليبرالية وهم بالضرورة الآن وسيبقون لفترة طويلة أقلية بالمقارنة مع التيارات العريضة للرأي العام العربي عموما والسوري خصوصا. مما يعني دفع قطاعات واسعة من الرأي العام العربي الاسلامي والقومي واليساري التوجه إلى معاداة الديمقراطية ونظامها ومفهومها بوصفها تجسيدا لقيم فريق اجتماعي محدد ومنافية بجوهرها لقيم أساسية غير مرتبطة بها أو غير مستمدة منها. وغايته كذلك أن لا يتحول التيار الليبرالي المتنامي في وسط النخبة العربية الجديدة إلى شرك يوقع بالنخبة العربية نفسها ويجعلها تنقطع عن المجتمع أو تنحو نحو توجيه اللوم إليه بسبب طبيعة القيم التي تحركه وتنافيها بشكل أو آخر مع قيم الليبرالية وفلسفتها وبالتالي تحول الليبرالية إلى فلسفة لمعارضة المجتمع والثورة عليه كما حصل مع الفكرة الماركسية في الماضي، مع ما يحمله هذا التوجه من خطر تحولها إلى ايديولوجية نخبوية معادية للمجتمع وعزل النخبة المرتبطة بها عن الرأي العام وانعدام قدرتها على التأثير فيه.
ليس هناك من يعارض أو يعترض على إنشاء حزب سياسي يحمل على عاتقه نشر وتعميم أفكار الليبرالية وفلسفتها بالمعنى الكامل للكلمة. بل لقد قلت في مرات سابقة إنني مع نشوء هذا الحزب مثل ما أنا مع نشوء أي حزب آخر لأن الحياة السياسية لا تستقيم من دون وجود تيارات فكرية سياسية متعددة ومتباينة تعكس المصالح المختلفة داخل كل مجتمع وتساهم في خلق التوازن المطلوب في القيم السياسية والأخلاقية أيضا. إن ما أردت أن أقوله هو أن من مصلحة الديمقراطية أن لا تكون حكرا على تيار فكري وايديولوجي وسياسي معين وأن تصبح مشاعا للجميع، وفي مقدمهم أولئك الذين كانوا البارحة يرفضونها أو يتأففون منها. بل إن التحدي الحقيقي للديمقراطيين على مستوى الاستراتيجية يكمن في تحويل الديمقراطية إلى فكرة سياسية جامعة لا قصرها على فريق من دون غيره من الفرقاء. فبذلك ننجح في تحويلها إلى إطار سياسي مقبول من كل الأطراف للتوصل إلى حلول متفاوض عليها في جميع المسائل التي تتعلق بحياة الجماعة الوطنية من مسألة تداول السلطة وحسم النزاع عليها بالطرق السلمية إلى مسألة تطبيق القانون بالتساوي مرورا بتقرير السياسات والخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. الديمقراطية باختصار هي من تلك الأفكار والنظم النادرة التي يزداد رصيدها بقدر ما يعم انتشارها ويقتسم رأسمالها بين البشر.