jeudi, mars 17, 2005

مغزى التحولات اللبنانية ومآلها

الرأي 5 مارس 2005

يطرح تطور الأحداث الذي فجرها الاغتيال المروع للرئيس رفيق الحريري والتظاهرات المتنافسة التي أعقبته، سواء أكان ذلك على جبهة المعارضة لتأكيد الانسحاب السوري الكامل، أو على جبهة الموالاة بإعلان الوفاء لسورية وللنظام القائم، أسئلة عديدة على المراقب السياسي تتجاوز مسألة التحقيق في مسؤولية مقتل الحريري لتصب مباشرة في فهم مغزى التحولات الكبيرة التي أطلقها ولا يزال منذ الرابع عشر من شباط الماضي. هل كانت عملية اغتيال الحرير مناسبة لتفجير ما سوف يطلق عليه البعض اسم انتفاضة الحرية والتحرر والاستقلال عن السيطرة الغشيمة التي مارستها أجهزة أمنية خارجية وداخلية معا وتعبيرا عن استعادة الوعي والإرادة والمبادرة والوطنية اللبنانية بعد عقود طويلة من القهر والارهاب والتخوين أم كانت غطاءا لمؤامرة دولية أمريكية فرنسية وسير أعمى في ركابها يعكس جهل المعارضة اللبنانية بالحسابات الجيوسياسية الدولية؟
من غير الممكن في نظري الفصل تماما بين التظاهرات الوطنية الواسعة التي حصلت في لبنان بعد مقتل الحريري وردا عليه وبين السياق الإقليمي والدولي الذي خلقته المبادرة الاستراتيجية الواسعة التي تقودها الولايات المتحدة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 في إطار ما أطلقت عليه إعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط برمتها والذي طورته في السنتين الماضيتين ليصبح مبادرة إصلاح الشرق الأوسط ودفعه نحو الديمقراطية. ومن هذه الناحية، لا يخطيء الموالون للوضع العربي القائم، بما فيه الوضع القائم في دمشق، بوصفه، كما يقول أنصاره اليوم، آخر موقع للممانعة، عندما يشيرون إلى إن إخراج الجيش السوري من لبنان يندرج، بصرف النظر عن مدعياته، ضمن هذا السياق ويشكل مكسبا كبيرا للاستراتيجة الامريكية الاسرائيلية التي أرادت دائما تفكيك المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان وفصل المسارين السوري واللبناني لإضعاف دمشق استراتيجيا وفرض الاتفاقات المجحفة عليها. وليس هناك شك في نظري أن القضاء على المواقع الاستراتيجية السورية القوية في لبنان يشكل نكسة هائلة للاستراتيجية وليس فقط للدبلوماسية السورية وأن المستفيد الوحيد منه استراتيجيا هو تل أبيب والحكومة الاسرائيلية اليمينية التي رفضت ولا تزال ترفض أي مفاوضات جدية حول مسألة الخروج من الجولان المحتل الذي ألحقته بأراضيها منذ الثمانينات.
لكن تأكيد هذا الواقع لا يقلل ذرة واحدة من مسؤولية القوى السورية اللبنانية الحاكمة في ما يحصل اليوم ولا يبرر سياساتها غير العقلانية إن لم نقل إنه يضاعفها. فهو لا يبين فقط أنها لم تكن على مستوى التحدي التاريخي الذي تواجهه البلاد ولكن أكثر من ذلك، أنها فضلت تقديم مصالحها الخاصة على المصالح العامة وفضلت التقاعس على العمل الجاد لمواجهة الأزمة ومواجهة الاستراتيجيات والخطط الأجنبية الرامية إلى إضعاف لبنان وسورية معا. ولا يمكن تفسير عدم مبادرتها باتخاذ الإجراءات الاستراتيجية الضرورية أو التي بدأت تفرض نفسها منذ سنوات أو على الأقل منذ التصويت على قرار 1559 الذي فرض عليها التراجع أمام خصومها الأمريكيين والفرنسيين إلا بأحد أمرين: أنها لم تكن تعتقد بجدية التهديدات الخارجية ولكنها كانت تستخدم شعار المؤامرة الخارجية من أجل تعبئة الشارع العربي وراءها على أمل التوصل إلى تفاهم ما مع القوى الأجنبية أو أنها لا تملك القدرة على التفكير الاستراتيجي الناجع والعقلاني في عالم يتغير بسرعة وفي بيئة جيوستراتيجية متغيرة ومتطورة يوما بعد يوم. وفي الحالتين تتحمل هذه القوى المسؤولية الرئيسية في ما آلت إليه الأوضاع السورية اللبنانية وذلك لجمعها بين الأمور الثلاثة، أعني لتقاعسها وسوء حساباتها ومراهنتها على الوصول إلى صفقة مع الدول الأجنبية وإدارتها الضعيفة وغير الناجعة للأزمة. ومما يزيد من حجم المسؤولية الواقعة على كاهلها أن هذه الأزمة لم تتفجر فجأة ولكنها تعس منذ سنوات طويلة ولم يتوقف المحللون السياسيون والخبراء الاستراتيجيون منذ سنوات عن لفت انتباه القوى الموالية إلى ضرورة إصلاح العلاقات السورية اللبنانية وإقامتها على أسس سليمة من دون جدوى. ومما يزيد من حجم هذه المسؤولية، ويلغي شرعية الحديث عن مؤامرة خارجية لإخفائها أيضا، أن الولايات المتحدة لا تتصرف في الشرق الأوسط من وراء قناع ولكنها لا تكف منذ سنوات عن التصريح بمضمون ما تريد تحقيقه من أهداف وفي مقدمها إعادة هيكلة العلاقات داخل المنطقة الشرق أوسطية على أسس تتفق وغايات السيطرة الامريكية. والأكثر من ذلك، أن أحد أهم الأطراف التي لعبت دورا حساسا في تفجير الأزمة لغير صالح سورية هي الدبلوماسية الفرنسية التي كانت من أكثر الدبلوماسيات الغربية والعالمية دفاعا عن الوضع السوري ودعما له وبالتالي صلة به وتواصلا معه. ولا تتردد هذه الدبلوماسية في التذكير بأنها لم تلجأ إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار يفرض على القوات السورية الانسحاب من لبنان إلا بعد إخفاق جميع الحلول والتدخلات الدبلوماسية الأخرى. مما يعني أن دمشق أخفقت في فهم جميع الرسائل التي وردت إليها ورفضت التعامل الايجابي مع كل المبادرات التي رمت إلى تغيير الأوضاع بالطرق السياسية والدبلوماسية السلمية التي تتيح لها الخروج بصورة مشرفة من لبنان تماما كما رفضت ولا تزال ترفض جميع المبادرات التي تطلقها قوى المثقفين والمعارضة المحلية للحوار والتفاهم حول الخروج من نظام الحزب الواحد والسلطة الأمنية والانتقال نحو نظام التعددية والمشاركة الشعبية الطبيعية.
وبالمثل، كما أن تطور الأحداث الإقليمية في اتجاه يخدم المصالح الخارجية أكثر مما يخدم المصالح الداخلية لا يعفي القائمين على الأمر في البلاد العربية من المسؤولية فإن اندراج الحدث في سياق تقدم الاستراتيجية الأمريكية لا يقلل ذرة أيضا من القيمة التحررية والإنسانية لانتفاضة الحرية التي اندلعت في بيروت في الرابع عشر من شباط والتي جاءت كصرخة احتجاج جامعة وعارمة على ما ينطوي عليه نمط الحكم عن طريق الضغط وتقييد الحريات والتلاعب بالناس والجماعات من امتهان لمعايير السياسة والأخلاق الوطنية والإنسانية معا. ولا تغير الدلالات المتباينة وربما المتناقضة التي أضفاها هؤلاء وأولئك على مشاركتهم في هذه الانتفاضة السلمية، أو برروا سلوكهم بها، بما في ذلك بروز بعض الحساسيات الطائفية، أو مشاركة قوى يمينية متطرفة فيها ومراهنتهم على العودة إلى نظام ما قبل الحرب الأهلية، من المغزى العميق لهذا الحدث بوصفه فورة وطنية وتعبير عن فيضان الكيل ورفض قاطع ونهائي للاستمرار على نهج الخضوع للسلطة الأمنية. وبالرغم من أن ارتفاع لهجة المعارضة اللبنانية قد ساهم قبل الحدث في خلق مناخ جديد حضر للقطيعة مع الوضع القائم فليس هناك شك في أن ما شهدته ساحة الشهداء في بيروت في الرابع عشر من شباط فبراير يوم اغتيال رئيس الوزراء السابق وما بعده لم يأت نتيجة ترتيبات مسبقة ولا بتأثير ضغوط خارجية بقدر ما كان تعبيرا عن التقاء عفوي على معنى التحرر من سلطة قهرية ومن باب أولى عندما تكون هذه السلطة ذات ارتباطات خارجية.
لكن في ما وراء ذلك كله، ربما كان الدرس الأهم لما حصل في لبنان وما سيكون له آثار كبيرة أيضا على مشروع تغيير الواقع الجيوسياسي الإقليمي المطروح اليوم بقوة على المنطقة هو أن السيطرة، أي سيطرة، ليست مسألة محلية محض، مؤطرة جغرافيا وخاضعة لقوانين الايديولوجيات الوطنية أو القومية. إن السيطرة المحلية هي ثمرة توازنات سياسية تستند هي نفسها إلى توازنات جيوسياسية إقليمية وعالمية. وإذا كان نظام السيطرة الأمنية المشتركة السورية اللبنانية قد بقي حتى الآن قائما فذلك بسبب ما كان يستند إليه من ميزان قوى إقليمي ودولي لا بسبب إرادته الذاتية ولا التوازنات اللبنانية والسورية وحدها. ومن الطبيعي أن يتغير هذا الوضع مع تغير وتبدل علاقات القوة الإقليمية والدولية. ومن دون فهم هذا الترابط بين الحقل الجيوسياسي الداخلي والحقل الجيوسياسي الخارجي لا يمكن أن نفهم أصلا قيام أي نظام سيطرة في أي منطقة في العالم ولا كيف يستمر في البقاء، بما في ذلك الحضور السوري في لبنان بل ونظام الحكم القائم نفسه.
لكن إذا كان تبدل الأوضاع السياسية داخل لبنان في سياق تغير الموازين الإقليمية لا يقلل من قيمة الحدث اللبناني ولا يزيل عنه صفة الانتفاضة من أجل الحرية فهو لا يلغي أيضا شرعية القول بأن هذا التغيير يجري اليوم في مستوى العلاقات الجيوستراتيجية لصالح تغيير المنظومة الإقليمية لغير صالح القوى العربية وهو يصب بالتالي في طاحونة الدول التي تسعى إلى الهيمنة على المنطقة. والسؤال الذي يطرحه الوضع الراهن يتجاوز بكثير خصوصية الحالة السورية واللبنانية إلى الحالة العربية برمتها ويعكس الطبيعة الإشكالية لمسألة الانتقال العربي الراهن نحو الديمقراطية. فكيف يمكن بالفعل الوصول إلى التغيير الديمقراطي في سياق الهجوم الاستراتيجي الامريكي الواسع من دون المخاطرة بخيانة المباديء القومية أو قيم التضامن العربي التي يتمسك بها، كما بينت ذلك مظاهرة حزب الله التي لا تقل ضخامة عن مظاهرات ربيع بيروت، قطاع ربما كان الأوسع من الرأي العام العربي والإسلامي، وهل يمكن، بالمقابل، الاستمرار في رفض رياح الحرية باسم القيم القومية والإسلامية من دون المخاطرة بالخروج من مغامرة الحداثة العالمية، أي من دون خيانة الذات وإدانتها بالتقوقع والعزلة والتهميش والتقهقر الحضاري المتزايد؟

يطرح هذا الوضع بالتأكيد مسألة كبيرة جدا على التحولات الديمقراطية العربية الجارية والقادمة، بل ربما التحدي الأعظم. فليس هناك مهرب من الاعتراف اليوم بأن استعادة الحرية في لبنان قد ارتبطت أو هي في طريقها لأن ترتبط بعودة الهيمنة الأجنبية على المستوى الإقليمي وبالتالي بتراجع مواقع النظام العربي الإقليمي أو ما بقي من ذكراه الماضية. ولا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يثير قلقلا عميقا عند قطاعات واسعة من الرأي العام العربي ويدفع جزءا كبيرا منه إلى اتخاذ موقف الممانعة أو على الأقل موقفا سلبيا مما يجري، وهو ما يجعل من الديمقراطية قضية إشكالية أيضا في الواقع العربي المعاصر. ومما يفاقم من هذه المشكلة أن الدول الأجنبية التي تقف اليوم وراء مشروع الديمقراطية أو تستخدم شعارها كي تستعيد مواقعها الاستراتيجية قد لعبت دورا أساسيا ولا تزال في تثبيت ركائز الحكم المطلق منذ عقود طويلة في العديد من بقاع العالم العربي وفي جميع بلدانه في ربع القرن الأخير على الأقل. وهي المسؤولة بشكل رئيسي أيضا عن اندلاع النزاع العربي الاسرائيلي واستمراره وتقديم الدعم المالي والعسكري والسياسي كي تستمر اسرائيل في إنكار حقوق الشعب الفلسطيني وفي احتلال الأراضي العربية. بل أكثر من ذلك، إن هذه القوى نفسها التي تريد أن تستعيد مواقعها من خلف ثورة الحرية التي تحبل بها الشعوب العربية لا تخفي إرادتها في تفكيك العالم العربي وفرض هوية شرق أوسطية تلغي وشائج القربى العميقة بين أطرافه في سبيل دمج اسرائيل وتمكينها من السيطرة على مقدرات الأمور الإقليمية.
لا ينبغي إذن أن نطابق بين ما يحدث في لبنان وما حدث من قبل في دول أوروبية وسطى أو في أوكرانيا. فليس للدعم الذي تقدمه الدول الأوروبية والأمريكية للثورات السياسية الديمقراطية التي تجرى في البلقان أو في أوكرانيا المضمون ذاته الذي يتخذه مثل هذا الدعم في البلاد العربية. فلا يوجد هناك أي استحقاقات سياسية أو استراتيجية بين شعوب البلقان وشعوب أوروبة وأمريكا يمكن أن يجعل من التعاون بينهما على تغيير النظم القائمة صفقة خاسرة لفريق ورابحة لفريق آخر. وليس الوضع كذلك بالنسبة للشعوب العربية. ذلك أن الدعم الذي تحظى به أو تطمح إلى أن تتلقاه الحركة الديمقراطية من التحالف الأوروأمريكي يرتبط هنا بشكل يكاد يكون معلنا رسميا بنوايا واضحة لبسط النفوذ والهيمنة الأجنبية على موارد استراتيجية عربية في مقدمها النفط ووضع اليد أيضا على كل ما يتعلق بالترتيبات الجيوسياسية والجيوستراتيجية الإقليمية في سبيل ضمان أمن إسرائيل وتوطينها النهائي في المنطقة وحسب حاجاتها وطموحاتها كما يرتبط بدفع العرب إلى التخلي عن طموح تاريخي عميق طبع حياتهم السياسية لأكثر من قرن، أعني طموح بناء تكتل عربي وتأكيد هوية مشتركة وتعاون متميز بين بلدانهم يسمح لهم بتجاوز حالة البلقنة والانقسام ويمكنهم من بناء ما يشبه دولة قومية راسخة قريبة مما عرفته الهند أو روسيا الاتحادية أو الصين يتماشى وصورتهم عن حضارتهم وموقع هذه الحضارة بالفعل في الثقافة العالمية. والسيطرة على منابع النفط وتأمين إسرائيل وتمكينها والتخلي عن الحلم العربي الذي يعني الإقرار بأولوية الهوية العربية الثقافية والسياسية في إقليم الشرق الأوسط هي في الواقع الأهداف الثلاثة اليوم إن لم نقل الشروط الرئيسية لقبول التحالف الأوروأمريكي حصول تحولات ديمقراطية، بالضرورة وبالتأكيد جزئية، في البلاد العربية.
هناك أسئلة كثيرة تطرح بعد ذلك منها: هل هناك إرادة حقيقية في بث الديمقراطية في البلاد العربية أم أنها مجرد شعارات مرفوعة لتحسين صورة القوة الهيمنية الجديدة الطامحة إلى خلافة المنظومة الإقليمية العربية والعروبية معا؟ وهل تخدم الديمقراطية الهيمنة الأجنبية وتساعد على استقرار نفوذ الدول الأوروبية وهل هناك استحالة في فصل الديمقراطية العربية عن هذه الهيمنة الأجنبية؟ وأخيرا هل ينبغي أن نرفض التحولات الديمقراطية لأنها تؤدي إلى تراجع مواقعنا الاستراتيجية أكثر مما هي متراجعة اليوم؟ أي هل نقبل بوقف الممانعة بعد أن تخلينا عن المقاومة وأن نتعاون مع الدول الكبرى الطامحة إلى الهيمنة على المنطقة العربية لنيل قسط أكبر من الحريات الفردية وربما من الفرص لتحقيق التنمية الاقتصادية والتحكم بشكل أفضل بمصير أوطاننا القطرية أم نقبل التعاون مع النظم الاستبدادية مهما كانت سياساتها وسلوكاتها تجاه شعوبها والشعوب العربية الأخرى ما دامت لا تزال ترمز، ولو من بعيد، للمشروع العربي الجامع، مشروع بناء القوة والهوية العربية وربما على أمل أن تستعيد هذه النظم زمام المبادرة وتعيد ترتيب أوضاعها بما يمكنها من إعادة الاعتبار لمشروع القوة العربية؟ هذه هي الأسئلة التي يتوجب علينا اليوم جميعا الإجابة عنها في مواجهة ما تخبؤه الأيام القادمة من المواجهات العنيفة على ساحة المشرق العربي والتي يتوقف عليها تحديد موقع كل واحد منا في المعركة الدائرة اليوم حول إعادة بناء الشرق الأوسط ومستقبل التحولات التي سيشهدها في السنوات القادمة
.

Aucun commentaire: