samedi, décembre 20, 2003

الديمقراطية العربية وبعبع الحركات الاسلامية

الجزيرة نت 20 ديسمبر 2003

في الصراع العنيف الجاري في البلاد العربية حول إصلاح النظم السياسية أصبح التخويف من الحركات الاسلامية واحتمال سيطرتها على المؤسسات التشريعية يستخدم حجة رئيسية لتبرير قمع الحركة الديمقراطية والحفاظ على الوضع القائم. ولا يهدف هذا التخويف المستمر، الذي تعززه في بعض الأحيان عمليات عنف مسيرة وموجهة من قبل السلطات نفسها، سوى إلى دفع الطبقة الوسطى التي تخاف من أن تهدد الحركات الأصولية حرياتها الدينية والشخصية، التي هي ضيقة ومحدودة أصلا، إلى الاصطفاف خلف النظام القائم أو على الأقل إلى الوقوف على الحياد وعدم التورط في مواقف معارضة تفتح الطريق نحو تغيير قواعد عمل النظام. فمن خلال التلويح بالبعبع الاسلامي تطمح النظم القائمة إلى تخليد نفسها وتأبيد زعاماتها وإضفاء شرعية ثانوية عليها تبرر الحفاظ على السياسات القمعية التقليدية وتعوضها عن الافتقار للشرعية السياسية المستمدة من القبول والموافقة الشعبية. فهي لم تعد تهتم حتى بالادعاء بأنها تحكم بتوكيل من الشعب، وليست بحاجة إلى تجديد هذا التوكيل، طالما أنها تستطيع أن تحكم باسم درء المخاطر المحتملة على الدولة والنظام، وقطع الطريق على الفوضى والاقتتال. وهذا ما يعبر عنه السعي إلى جعل الحكم العرفي وتطبيق قانون الطواريء عقيدة سياسية أو بالأحرى دين السياسة المحلية.

والواقع ليست فئات المصالح الحاكمة هي وحدها التي تستخدم هذه الحجة لتبرير الحفاظ على الأمر الواقع وإضفاء الشرعية على الاستبداد ولو بطريقة سلبية، وإنما الدوائر العليا ومخططوا الاستراتيجيات الكبرى في الدول الصناعية. فهم أيضا يعتقدون، بالرغم من الحديث المكرور والدائم منذ فترة عن مشاريع دمقرطة المنطقة العربية، بأن الضغط الشديد على الأنظمة الاستبدادية من أجل الإصلاح يمكن أن يزعزع استقرارها ويفتح الطريق أمام استيلاء الحركات الأصولية المتطرفة والمعادية بصراحة للغرب وللمصالح الغربية على مقاليد السلطة فيها.
وبالرغم من اعتراف الرئيس الأمريكي نفسه بخطأ السياسات الأمريكية الماضية التي قامت على دعم النظم الاستبدادية خلال أكثر من ستين عاما، وتبنيه العلني لمشاريع التغيير الديمقراطي في المنطقة، لا يزال منظرو السياسة الأمريكية، مثلهم مثل زملائهم في أوروبة، يؤمنون بأن أي انفتاح ديمقراطي جدي سيكون لصالح الحركات الاسلامية. ومن الأفضل إذن التعامل مع الأنظمة القائمة مع السعي ما أمكن إلى إصلاحها بدل تبني خيارات ديمقراطية ليس هناك ما يضمن نجاحها.
ومن هنا، وبسبب ما يقال عن الخطر الاسلامي الجاثم، لم يتغير الموقف الخارجي تجاه مسائل التحول السياسي الداخلي في المنطقة العربية ولن يتغير في اعتقادي لفترة طويلة. ومضمون هذا الموقف ليس الاستمرار فقط، ولو على مضض، في دعم نظم فقدت صدقيتها وباتت تشكل خطرا على استمرار النفوذ الغربي ذاته، ولكن أبعد من ذلك الاعتقاد بأن الشعوب العربية ليست ناضجة بعد للدخول في المنظومة الديمقراطية. و يستتبع هذا بالضرورة التمديد لمبدأ القبول بحرمان الشعوب العربية من حقها في تقرير مصيرها بحرية الذي لا يزال ساري المفعول في المنطقة العربية منذ القرن الماضي من دون انقطاع. وهو ما يبرر كل السياسات والأعمال والاجراءات غير الشرعية وغير القانونية التي تلغي هذا الحق وتمنع ممارسته، العنيفة منها وغير العنيفة. وهذا ما يفسر أيضا أن الاحتلال وفرض الحماية والوصاية المقنعة هنا وهناك ووضع المنطقة بأكملها تحت نوع من الإشراف الدولي الأحادي أو الرباعي لا يثير لا في دوائر القرار والسياسة الغربية ولا في الدوائر الرسمية العربية تساؤلات عميقة واعتراضات، سواء أكانت سياسية أو أخلاقية. فهو التجسيد المباشر لهذا المبدأ وللقناعة العميقة بالقصور السياسي والأخلاقي الجوهري للجماعة أو للشعوب العربية.
ليس من الممكن للمناقشة العربية والدولية الجارية من حول التحولات السياسية المطلوبة في المنطقة أن تتقدم من دون أن تجيب على سؤال: هل هناك خطر إسلامي حقيقي يهدد أي تحول في اتجاه الديمقراطية أو هل يكون الانتقال نحو نظام ديمقراطي في أي بلد عربي انتقالا محتما نحو نظام إسلامي يقفل باب الديمقراطية أم أن من الممكن تصور تحول نحو الديمقراطية لا يتبعه تسلط للقوى الاسلامية المتطرفة على الحكم وبالتالي لا يترجم بالضرورة بإهدار حقوق وحريات الأفراد وبعودة منتصرة لنظم استبداد دينية أكثر قسوة من نظم الاستبداد القائمة شبه العلمانية؟
وفي السياق نفسه لا يمكن الهرب من طرح السؤال الذي تطرحه الدول الصناعية وهو : هل يمكن إنكار أن العنف الاستثنائي الذي أظهرته بعض الحركات الاسلامية المتطرفة ولا تزال تظهره بشدة تجاه الغرب بشكل خاص هو الذي يدفع هذه الدول إلى تبني النظم المستبدة والتمسك بمبدأ الوصاية على المنطقة التي تشكل بؤرة مصالح استراتيجية كبيرة ومعترف بها؟ ثم أليس هو المسؤول عن تراجع الديمقراطية في الولايات المتحدة نفسها عندما اضطر الإدارة الأمريكية إلى تعزيز الاجراءات الأمنية وتقييد الحريات الفردية وتكريس التمييز الأقوامي داخل الدولة الاكثر قبولا بتقاليد التعددية الأقوامية والدينية والفكرية من بين جميع الدول الصناعية؟

ليس الجواب على هذه الأسئلة بسيطا وتلقائيا. إذ بقدر ما يمكن القول إن وجود حركات إسلامية متطرفة ولديها من القوة ما يؤهلها للسطو على أي نظام ديمقراطي من المحتمل أن يرى النور في البلاد العربية يهدد الديمقراطية، يمكن القول أيضا أن سطو النخب الحاكمة على الدولة خلال عقود طويلة هو الذي دفع العديد من أوساط الطبقة الوسطى المهمشة والمضطهدة إلى الالتفاف حول الحركات الاسلامية المتطرفة التي تستمد إلهامها من العقائد الدينية للدفاع عن وجودها، وكان من الممكن في ظروف مباينة أن تستمدها، كما حصل في السابق، من عقائديات ثورية علمانية قومية أو ماركسية. وفي هذه الحال الثانية لا يمكن فهم قوة الحركات المتطرفة الراهنة إلا من حيث هي رد فعل وثمرة للسياسات الاستبدادية والتسلطية التي مارستها النخب الحاكمة في العقود الماضية. وأنه لا شيء يمنع من الاعتقاد بأن العودة إلى الحالة الطبيعية أي وضع حد للسطو القائم على الدولة، سيضع بالتأكيد، ولو بعد حين، حدا أيضا لالتفاف قطاعات الرأي العام، التي يئست من إمكانية إسماع صوتها واحترام مصالحها بالطرق السلمية، حول حركات التطرف الاسلامية.
وفي نظري، لا شيء يدعو للاعتقاد من حيث المبدأ بحتمية سطو الحركات المتطرفة على النظم الديمقراطية، اللهم إلا إذا اعتقدنا بالفعل أن الرأي العام العربي أو الاسلامي ميال بطبعه إلى العنف وأن التفافه حول الحركات المتطرفة لم ينشأ بسبب ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية تاريخية محددة يمكن معاينتها والتعرف عليها بسهولة والسعي إلى معالجتها، وإنما نشأ بسبب بنية ثقافية أو بيولوجية مستبطنة للعنف. وهو تحليل يتفق مع أطروحات عنصرية القرن التاسع عشر ومدارسها ويشيح النظر عن كل ما أحرزته العلوم الاجتماعية من تقدم في فهم المجتمعات منذ قرنين.
وبالمثل، بقدر ما أن من الممكن القول إن هجوم الحركات المتطرفة على الولايات المتحدة وتهديدها للأمن والاستقرار في الدول الصناعية هو الذي يدفع هذه الدول إلى دعم النظم الاستبدادية في المنطقة وقطع الطريق على الاختيارات وديناميات التحول الديمقرطية، وفي ماوراء ذلك إلى تهديد ممارسات الديمقراطية وحقوق الانسان في هذه الدول نفسها، يمكن القول أيضا أن توجيه العداء والعنف المتزايدين من قبل الحركات الاسلامية المتطرفة نحو الغرب، وليس نحو الهند أو الصين أو روسيا أو أفريقيا، هو رد فعل على رفض هذه الدول أو معظمها احترام حقوق شعوب المنطقة وسيادتها واستقلالها وعلى تدخلها الدائم غير المبرر وغير المشروع في شؤونها.
وفي هذه الحالة ليس هناك ما يحرم من الاعتقاد بأنه لا شيء يمنع الدول الغربية من أن تحظى بعلاقات ودية وسلمية أقوى مع العالم العربي إذا التزمت بمبدأ احترام حق هذا العالم وشعوبه في تقرير مصيرهم وأوقفت العمل بمبدأ الكيل بمكيالين في ما يتعلق بقضايا مصيرية مثل قضية فلسطين أو التكتل والتنمية العربيين.
والواقع كما ان الفئات الحاكمة في البلاد العربية تستخدم البعبع الاسلامي الذي خلقته هي نفسها لتبرير استمرارها في الحكم ورمي المسؤولية على الآخرين في تفسير حالة العنف والخراب التي وصلت إليها البلاد، ومن وراء ذلك التغطية على الاستمرار في عملية السطو المنظم على موارد المجتمعات وتحويلها على شكل مئات مليارات الدولارات للاستثمار في الخارج، فإن الدول الغربية تستخدم الفزاعة الاسلامية نفسها لتغطي على مسؤولياتها في تفجير العنف والفوضى والاقتتال في المنطقة وتبرير استمرارها في تبني سياسة استعمارية جديدة تمكنها من تقاسم الموارد مع الفئات الحاكمة. وأكاد أقول إن النظم المحلية والدوائر الاستعمارية لم تعد قادرة على الاستمرار والبقاء من دون العنف والتطرف المقابل لها، وأنها لو لم تنجح في تفجير العنف بسبب سياساتها العدوانية لوجدت نفسها مضطرة لإثارته وتغذيته بوسائلها الخاصة. وليس من قبيل الصدفة أن هذا العنف الذي يبدو وكأنه موضوع الخلاف الرئيسي بين النظام الاستبدادي المحلي والنظام الاستعماري الجديد لم يعد مبرر وجود النظم والمصالح الأجنبية القائمة في المنطقة فحسب ولكنه أصبح أيضا سببا لتجديد الشراكة القائمة وأساس إعادة التفاهم بينهما.

وبالمقابل، يبدو لي الآن، أكثر من أي فترة ساقة، أن الديمقراطية هي الخيار الوحيد الذي يقدم الفرص الضرورية المحتملة لنزع فتيل العنف والتوتر والعداء، ليس بين الشعوب العربية والدول الصناعية فحسب، وإنما داخل المجتمعات العربية نفسها. فهو الخيار الوحيد الذي يسمح لجميع الأطراف التي تعيش حالة قلق عميق ودائم على مصيرها، من فئات مهنية وأقوامية ودينية وجماعات وطنية معا، أن تراهن على المنافسة السلمية وتتعلم أسلوب المفاوضات الجماعية للوصول إلى أهدافها الشرعية. وبالعكس، لن يعمل إغلاق طريق التحولات الديمقراطية الذي يبشر به تجديد التحالف بين النظم المحلية والنظام الدولي ، سواء أجاء باسم الخوف من سيطرة الاسلاميين المتطرفين في الداخل، أو تهديد المصالح الغربية في المنطقة ككل، إلا على تفاقم العنف والعدوان الذي لن تنجح في درئه أو حتى احتوائه لا أنظمة الطغيان ولا استراتيجيات الحروب الاستباقية. وفي هذه الحالة لن تبقى هناك إمكانية لاحترام أي مصالح مهما كان حجم القوة التي تدافع عنها، لا مصالح الفئات المسيطرة في الداخل ولا مصالح حلفائها في الخارج.
إن الاستخدام المبالغ فيه لبعبع العنف من أجل تبرير الحفاظ على الوضع القائم في البلاد العربية أو من أجل تبرير سياسات السيطرة الامبرطورية في سياق خطاب الحرب على الارهاب يمكن أن يقطع الطريق على القوى الديمقراطية كما يمكن أن يقطع الطريق على انتزاع الشعوب العربية لحقها في تقرير مصيرها. لكن ليس هناك ما يمنع من أن ينقلب على أصحابه بأسرع مما يعتقدون. فمع تفاقم العنف والحرب وعدم الاستقرار لن تبقى هناك إمكانية لحياة جماعية منظمة ولن يكون هناك فرصة لإقامة أي نظام، سياسيا كان أم إقليميا أم عالميا. وسيكون الانتصار الوحيد الممكن والمضمون هو للاقتتال والفوضى والخراب.
1. انظر للمزيد من التفاصيل كتابنا الصادر مؤخرا عن المركز الثقافي العربي: العرب وتحولات العالم، من سقوط جدار برلين إلى سقوط بغداد.

vendredi, décembre 19, 2003

في حتمية التغيير ومآله


تحدثت في مقال سابق عن وجهتي النظر المتناقضتين اللتين تتنازعان الرأي العام السوري اليوم بخصوص الاصلاح: تلك التي لا ترى في ما يجري أي تغيير يستحق الذكر وتلك التي تشير إلى التحولات الاقتصادية والإدارية المتواصلة في العهد الجديد. وفي نظري، بخلاف ما توحي به كتابات العديد من أقطاب المعارضة، ليس انعدام التغيير هو السمة البارزة في الوضع السوري الراهن. كما أنه ليس من الثابت صحة ما تعزوه العديد من دوائر القرار العالمية المهتمة بهذا الوضع لما تسميه بالحرس القديم في الدولة والحزب من مقاومة شرسة للتغيير. فما يجري في سورية منذ سنوات عديدة، وبشكل خاص منذ عام 2000 ، هو عملية تغيير عميقة تطال طبيعة النظام واختياراته الرئيسية وتوازن القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة فيه ومكانته الاقليمية والدولية أيضا. والقوى النافذة من بيرقراطية الدولة والحزب هي التي تشرف على هذه العملية وترعاها وتسهر على تقدمها ونجاحها. بيد أن من الضروري بعد تأكيد واقع التغيير هذا القول إن حتمية التغيير لا تلغي حقيقة أنه ليس هناك مشروع واحد للتغيير يمكن ان تتفق عليه جميع الأطراف ولكن مشاريع متعددة أيضا وربما متناقضة. وكما كنت قد ذكرت في أول محاضرة ألقيتها في سبتمبر عام 2001 في منتدى الحوار الديمقراطي في دمشق، لم يعد التغيير أمرا اختياريا في أي بلد عربي، كما أنه لا يتعلق برغبة ذاتية ولكنه أصبح مسألة حتمية. وليس الموضوع الفعلي للنقاش أو بالاحرى الذي يستحق النقاش، ولا ينبغي أن يكون، التأكيد على وجود هذا التغيير أو على عدم وجوده ولكن تحديد ماهية هذا التغيير ومنحاه وأهدافه. فكما هو الحال في كل المجتمعات ليس للأزمة التي يعاني منها هذا النظام او ذاك مخرجا واحد وإنما مخارج مختلفة وبالتالي اختيارات واستراتيجيات متباينة للتغيير.
يستند التغيير الذي تشهده الأوضاع السورية وما يرافقه من إرادة واعية أو ضمنية إلى عوامل موضوعية مستقلة عن إرادة السوريين الحاكمين والمحكومين معا. العامل الأول هو تغير توازنات النظام الداخلية بسبب ترهل القوى القديمة التي اعتمد عليها النظام في مرحله قيامه ونشوئه الأولى وتفريخه هو نفسه خلال العقود الطويلة السابقة من السيطرة الكلية على مقدرات البلاد الاقتصادية والسياسية والثقافية، لقوى جديدة يتعارض نموها وتقدمها مع الاحتفاظ بالتقاليد والقيم والقوانين القديمة التي أمنت لآبائها الصعود إلى السلطة والبقاء فيها. فعلى أنقاض الطبقة الوسطى التي تعرضت لعملية إفقار وتهميش منهجية أفرز النظام البعثي الذي ولد عام 1963 طبقة جديدة من أبناء المسؤولين استفادت من تماهيها مع الدولة لتحقيق تراكم استثنائي وسريع في الرساميل الخاصة جعلها تشكل اليوم النواة الرئيسية في أي نظام جديد لاقتصاد السوق يمكن أن يظهر في سورية. وبالرغم من أن هذه الطبقة لا تزال بعيدة عن أن تملك عناصر وحوافز استقلالها عن الدولة إلا أنها بدأت منذ الآن تستعد وتخطط لوراثة النظام القائم عبر فتحه بشكل مضبوط ومقنن على السوق العالمية. وهي تأمل في أن يمكنها التحرير الاقتصادي الراهن مع الاحتفاظ بالعيش لفترة أطول في شرنقة النظام البيرقراطي المطلق وتحت حمايته ورعايته من الاستفادة من موارد الدولة لتحقيق النمو السريع والقوي الذي يمكنها في مرحلة لاحقة من فرض سيطرتها وسيادتها بوسائلها الخاصة. لكن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من ملاحظة أن النظام البيرقراطي أصبح اليوم يعمل لخدمة هذه الطبقة بالدرجة الأولى بعد أن كان يعمل لصالح بيرقراطية الدولة والحزب. وأنها هي التي تستخدمه لتحقيق أقصى ما تستطيع من التراكم البدائي وتحتمي به. وهذا هو المقصود بتغير التوازنات الداخلية للنظام. فالمضمون الجوهري للتحول الجاري اليوم هو انتقال مركز الثقل في النظام من الطبقة البيرقراطية، المدنية والعسكرية التي اعتمد عليها الحكم في العقود الماضية وخدمها معا إلى الطبقة الخاصة الجديدة التي امتصت وتمتص بشكل مكثف أكثر اليوم موارد الدولة لصالح تكوين رأسمالها وملكيتها الخاصة.
أما العامل الموضوعي الثاني الذي يدفع نحو التغيير ويحدد اتجاهه فهو تغير البيئة الدولية. فمن الواضح أن البيئة الدولية التي نشأ فيها النظام القائم والتي ساهمت في إعادة إنتاجه على مدى عقود طويلة هي بيئة النظام الدولي ثنائي القطبية وما تميز به من سيطرة مناخ الحرب الباردة الثقيل. وقد لعب النظام على هذا المناخ وعلى اصطفافه خلف المعسكر الشيوعي في سبيل الحصول على الموارد المادية والتقنية والاستراتيجية والعقائدية الضرورية لبقائه واستمراره. وبانهيار النظام السوفييتي وزوال الحرب الباردة فقد النظام جزءا كبيرا من موارده الخاصة المادية والاستراتيجية والايديولوجية. ولا تستطيع خياراته الأوروبية المتجددة أن تعوض عن هذه الخسارة بالرغم من أنها توحي بديمومة مناخ الحرب الباردة على مستوى آخر وتراهن على تفاقم النزاعات بين أوروبة الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية. وسبب ذلك أن أوربة ليست قطبا مناوئا أو معاديا للولايات المتحدة وإنما هي شريك منافس ومضارب معا. فهي لا تختلف في خياراتها الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية والسياسية والثقافية عنها، أعني في تبني السياسات النيوليبرالية واستراتيجية الحرب ضد الارهاب وحتمية وضرورة القيام بالإصلاحات السياسية والإدارية التي تطلق عليها اسم الحكم الرشيد أو ترشيد الحكم والإدارة.
ويرتبط بتغير البيئة الدولية تغير عميق في البيئة الإقليمية أيضا. فمع إعلان نهاية الحرب الاسرائيلية العربية وتبني السلام كخيار استراتيجي لم يعد من الممكن الاستفادة بالقدر نفسه من توظيف ايديولوجية المقاومة الوطنية والعداء للامبريالية. وبالمثل أدى انهيار النظام العربي وتفككه أمام الضغوط الخارجية وفقدان السيطرة التي أظهرها امام اكتساح القوات الأمريكية للأراضي العراقية وتدمير الحكومة الاسرائيلية اليمينة مشروع التسوية السلمية إلى تفكك الايديولوجية القومية العربية وذوبانها. وهي الايديولوجية التي بقي يتغذي عليها النظام ويستمد منها المشروعية ويغطي من خلالها على الافتقار للشرعية الديمقراطية.
كل ذلك غير في شروط إعادة إنتاج النظام وفي طبيعة القوى الاجتماعية التي يدعمها ويعتمد في وجوده عليها. فكما كان وجوده يتوقف في الماضي على إنتاج طبقة بيرقراطية موحدة داخل الحزب والدولة ومتحكمة بموارد المجتمع المادية والمعنوية جميعا ومحتكرة لها تحت غطاء الملكية العامة، تتوقف إعادة إنتاجه اليوم، أي استمراره واستقراره، على إنتاج طبقة المصالح الخاصة والمتمولين والمتعهدين المتوالدين من صلب النظام والأكثر تلاؤما في طريقة إنتاج شروط وجودهم، كطبقة مالكة ومسيطرة معا، مع شروط اقتصاد السوق المعمم والعولمة الزاحفة والتسوية النهائية للنزاعات العقائدية والسياسية والاقتصادية العالقة مع القوى الخارجية.
هكذا، بالرغم من المظاهر العديدة التي توحي بالاستمرار والاستقرار، تعرض النظام إلى عملية تغيير عميقة تمثلت في نقل مركز الثقل فيه كما ذكرنا من الطبقة البيرقراطية التقليدية الحزبية والعسكرية والإدارية إلى طبقة رجال الأعمال والمصالح الخاصة التي أصبح لها اليد الطولى في تقرير مستقبل الاقتصاد والبلاد معا. وقد قطع هذا الانتقال السلمي للنظام، وبالتالي تشكيل العهد الجديد، في السنوات الثلاث الماضية، شوطا كبيرا وأساسيا بالفعل جعل صورة العهد السابق بعيدة كما لو كانت ذكرى من الماضي. فقد مست التعديلات العميقة على القوانين الاقتصادية جوهر الاقتصاد السابق في مقتل وفتحت الطريق واسعة أمام الاقتصاد الجديد القائم على رأس المال "الخاص" والمدول معا. ومنذ الآن تحتل رأسمالية المضاربة مقدمة المسرح الاقتصادي وتطمح إلى انتزاع القيادة في جميع ميادين النشاط الأخرى بما في ذلك الميدان التربوي والتعليمي. ولا يغير تأكيد الحكومات المتعاقبة على رفض تخصيص شركات القطاع العام من هذا الواقع ولا يمنع من تحول الاقتصاد الحديث إلى المركز الرئيسي للاستثمار.
ومن نتائج هذا التغيير ما يظهر من تآكل قوى النظام التقليدية المادية والمعنوية والتراجع الكبير في مكانة ونشاط المؤسسات السياسية والمدنية والاقتصادية والفكرية القديمة وفي مقدمها مؤسسات الاقتصاد المخطط وشركاته العامة التي تكاد أن تكون قد تركت لتواجه مصيرها بنفسها بعد أن كانت الدولة تنفق على تعويمها مئات مليارات الليرات. ومن نتائجه أيضا الغياب المتزايد للحزب في الحياة السياسية لصالح مراكز القوى وأصحاب المصالح وفي سياق ذلك اختفاء إيديولوجية التقدم والاشتراكية من التداول الرسمي والعودة إلى تداول الشعارات والأفكار الدينية والقومية المحافظة. ومنها أيضا ارتداد الجمهور بشكل أكبر إلى العصبيات الدينية والعشائرية على حساب الأطر السياسية والقانونية والعقائدية المجردة. وهو ما تظهره مستويات المشاركة الضعيفة في الانتخابات البلدية والتشريعية. ومنها أخيرا غياب السياسات البعيدة الواضحة والرؤية المتسقة للخيارات الاستراتيجية، وانكفاء السياسة واختزالها الأحادي في مسألة الأمن وضبط حركة السكان وتحركاتهم وأقوالهم فحسب. ويعكس كل ذلك التفكك العميق الجاري في النظام والفرص المتزايدة التي يقدمها هذا التفكك لتوسيع هامش مناورة ومبادرة القوى الجديدة.
لم يحصل هذا التغيير في قواعد العمل وأشكال الملكية وعلاقات السلطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسبب ضغط الجمهور السوري أو الرأي العام الداخلي أو الخارجي ولكن بمعزل عن هذا الضغط بالذات أو بسبب غيابه الذي مكن السلطة من الانتقال من الاقتصاد المخطط إلى إقتصاد السوق، وفي ما وراء ذلك، من نقل الثروة والسلطة والجاه من جيل الآباء إلى جيل الأبناء، من دون الحاجة إلى تقديم أي تنازلات مادية أو سياسية أو معنوية ولا إلى القيام بأي مراجعة نظرية أو تبرير، أي مع الاحتفاظ بالنظام السياسي ذاته من دون تغيير.




lundi, décembre 15, 2003

نهاية عصر التصحيح والاصلاح العربي


حتى السبعينات سيطر على البلدان العربية، بعضها تحت تأثير الايديولوجيات الاشتراكية وبعضها الآخر بسبب الريع النفطي الكبير، نمط الاقتصادات الحكومية الذي ارتبط هو نفسه بنمط من النظم السياسية أطلق عليه في الأدبيات السياسية العربية والأجنبية اسم النظم التسلطية و أو الشمولية. وقد واجهت معظم هذه النظم صعوبات كبيرة منذ السبعينات واضطرت العديد من الأقطار إلى التخلي عنه وفتح باب التصحيح الاقتصادي الذي واكب تطور السياسات النيوليبرالية العالمية التي فرضتها وطبقتها بيرقراطية صندوق النقد الدولي. وجاء انهيار الاتحاد السوفييتي وتجربته الشمولية ليؤكد هذا الاتجاه ويعزز إرادة التغيير والاصلاح في العديد من الأقطار العربية. وكما حصل في جميع البلدان التي عاشت تجربة الانتقال من اقتصاد الدولة إلى إقتصاد السوق، فتح الإفلاس التاريخي للنظم التسلطية القديمة بما تشمله من سيطرة أحادية للحزب أو العشيرة ومن اقتصاد بيرقراطي في قبضة الدولة، معركة حقيقية بين جميع الورثة المحتملين في داخل النظم وخارجها معا، أعني بين القوى الاجتماعية الواسعة التي همشها النظام لعقود طويلة من أبناء الطبقة الوسطى المستبعدة والجمهور الواسع الذي هجر السياسة والشأن العام أو ابتعد عنهما من جهة والقوى الخاصة التي نمت على أطراف النظام وفي داخله عبر الثغرات العديدة التي تركها في جميع مجالات النشاط الاجتماعي والحاجات العميقة التي عحز عن تلبيتها من جهة أخرى.
في موازاة هذه المعركة المفتوحة على وراثة النظم العربية التسلطية التي وصلت إلى طريق مسدود وبالترابط معها تبلورت في العقود القليلة الماضية وجهتي نظر رئيسيتين لا تزالان تتنازعان الفضاء الايديولوجي والسياسي في بعض الدول العربية حتى اليوم. الأولى رسمية تقول إن ما تعيشه المجتمعات العربية هو أزمة اقتصادية سببها نقص التكيف مع الاقتصاد العالمي أو الابقاء على النظام الاقتصادي الحكومي أوشبه الحكومي المدعوم من الدولة وعدم السماح للقطاع الخاص بالنمو بما يكفي لخلق دينامية تنمية رأسمالية فعلية. وقد كان الوهم قويا في معظم الأقطار بأن مجرد فتح المجال الاقتصادي للمبادرة الحرة والانفتاح على السوق العالمية سوف يخلق بيئة جديدة تعزز الحركة الاقتصادية وتساعد البلدان التي عانت من تجربة الاقتصادات البيرقراطية على إدخال التحديثات التقنية والعلمية الضرورية لمجاراة تطور الاقتصادات العالمية وتحسين شروط التفاعل معها. وبالنتيجة اجتمع رأي الحكومات العربية كافة تقريبا، من دون أدنى تفاهم في ما بينها، على أن المجتمعات العربية لا تحتاج كي تنهض وتخرج من ركودها المؤقت إلى أكثر من سياسة اقتصادية جديدة تتيح لها التكيف مع معايير اقتصاد السوق العالمي وقواعد عمله. وهي الأطروحة التي تعكس في الواقع اتجاها طبيعيا وعالميا للتفاعل مع الاقتصاد النيوليبرالي الجديد للاستفادة من التحويلات الايجابية المنتظرة من عملية الاندماج في السوق العالمية، على شكل استثمارات أو مكتسبات تقنية وإدارية.
أما وجهة النظر الثانية فهي التي قالت إن الركود الاقتصادي الذي تعيشه معظم البلاد العربية ليس اقتصاديا بالمعنى الحصري للكلمة. وربما كان هو نفسه انعكاس لركود شامل وربما لفساد عام أصاب أغلب مؤسسات الدولة أو كلها. هكذا تبدوالمؤسسات السياسية القديمة مفتقرة للفعالية إن لم تكن قد صيغت خصيصا لشل إرادة المجتمع والناس. وقد فقدت المؤسسات القانونية والقضائية الكثير من صدقيتها وأصبحت تستخدم كأداة من أدوات السيطرة على المجتمع بدل أن تكون وسيلته لتحقيق العدالة وتطبيق القانون والحفاظ على مصالح الناس وأمنهم في سبيل بناء علاقات اجتماعية موضوعية تقوم على الانصاف والمساواة وتكافؤ الفرص. وشهدت المؤسسات العلمية والتعليمية والتربوية تدهورا خطيرا في أوضاعها بسبب سوء استعمالها وتحويلها إلى إداة لترويض الناشئة وتفريغها من وعيها وحسها النقدي حتى يسهل انقيادها وخضوعها لآلة السلطة الواحدة الإكراهية بدل أن تكون الأداة المثلى لتكوين الأفراد وتهذيب عقولهم وتنميتهم العلمية والأخلاقية أو لتحسين كفاءاتهم وقدرا تهم العملية بما يساعدهم على الاندماج الايجابي في مجتمعاتهم. وهو ما ينطبق أيضا على العديد من المؤسسات الإدارية التي وصلت إلى مستوى من الانحلال والشلل يجعلها تعمل تماما في عكس الهدف الذي أنشئت من أجله ، أي تقوم بوضع العراقيل أمام تسيير شؤون المواطنين وتكبيلهم وجعل الحياة نفسها مستحيلة عليهم في مجتمعاتهم بدل أن تكون أداة لتسهيل المعاملات في ما بينهم وتمكينهم من السيطرة على واقعهم والعمل كجماعة واحدة لتحقيق مصالحهم الخاصة وأهدافهم. وهكذا رأى أنصار وجهة النظر هذه أن السعي إلى تجاوز الأزمة والعجز والقصور في النظام الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق من داخل النظام الاقتصادي نفسه ولكنه يستدعي بالضرورة إجراء تعديلات جوهرية على قواعد عمل النظام السياسي والقانوني والقضائي والإداري، أي يستدعي تغييرا في قواعد بناء السلطة العمومية وممارستها.
ومن الواضح أننا أمام نموذجين متناقضين لرؤية طبيعة التغيير المطلوب وأهدافه ينبعان هما نفسيهما من تحليلين متناقضين تماما لطبيعة الأزمة أو المشكلة التي تعيشها البلاد العربية ومضمونها وحجمها معا. ولأسباب بديهية تبنت معظم النظم وجهة النظر الأولى التي تدعو لقصر التغيير على المجال الاقتصادي. وبناءا على ذلك شهدت العقود الثلاث الماضية حركة تدريجية في اتجاه تغيير القوانين الاقتصادية وتمهيد المناخ الحقوقي لنشوء قطاع خاص يخلف قطاع الدولة في قيادة العملية الانتاجية حتى لو لم يكن قطاعا متحررا من سيطرة الدولة أو مستقلا عنها. بيد أن تبني هذا الخيار الاقتصادوي والسير فيه لم يمنع القيادات السياسية من حلحلة بعض القيود السياسية كتعويض للطبقة الوسطى وممثليها من المثقفين عن رفض وجهة نظرهم القائلة بأولوية التغيير السياسي أو على الأقل بضرورة شمول هذا التغيير ميادين أخرى أوسع من الميدان الاقتصادي. وقد انعكس هذا الانفتاح النسبي في شكل زيادة بسيطة في المرتبات وتوسيع محدود لهامش حرية التعبير والسماح لبعض أشكال وصيغ المجتمع المدني الجنينية بالتكون في صورة أحزاب سياسية شرعية، وإن بقيت محاصرة ومعزولة، أو في شكل منتديات فكرية سياسية مفتوحة للجمهور إلى هذا الحد أو ذاك.
وشكل هذا البرنامج العملي القائم على الدمج بين مشروع التحرير الاقتصادي الواضح من جهة ومشروع الانفتاح السياسي المحدود والمتردد والغامض معا على المثقفين والطبقة الوسطى من جهة ثانية نوعا من ا لتسوية التلقائية بين القوى الاجتماعية المتنافسة على وراثة النظام السابق. فكما ضمن الشق الاقتصادي المتعلق بإلغاء القوانين الاحتكارية للقوى الاجتماعية الخاصة المتشكلة على هامش النظام والنابعة منه معا، الأسبقية في تشكيل الوضع الجديد أعطى للقوى الاجتماعية المهمشة الواسعة الأمل باحتمال وصول عصر العزلة والتجاهل والإنكار إلى نهايته. وقد جاءت السياسات التحريرية الجديدة لتساعد تلك الفئات وشبكات المصالح التي استطاعت عن طريق استغلال النفوذ أو التطابق مع القطاع العام أن تحقق في العقود الأربع الماضية تراكمها الرأسمالي البدائي على الخروج من دائرة الممارسة اللاشرعية أو شبة الشرعية التي عاشت فيها حتى الآن لتفتح امامها جميع الآفاق وتتيح لها أن تنشر قواها بحرية في البلاد وتعدها للاستثمار حسب متطلبات السوق العالمية وتزيد من قوتها وأرباحها معا. كما عزز فتح هامش مهما كان ضيقا للحرية الوهم لدى الطبقة الوسطى بنهاية عصر الاستبداد وتزايد فرص وبإمكانيات التغيير بالوسائل السلمية للخروج من حالة الركود والانسداد التي خلفتها المواجهة الدموية بين قوى الأمن وفئات المعارضة المسلحة الإسلاموية.
وكان من نتيجة هذه التسوية الهشة والضعيفة التي تحققت منذ عقدين في بعض البلدان والتي لا تزال بلدان أخرى تطمح اليوم إلى تحقيقها بعد فوات الأون ، توسيع القاعدة الاجتماعية للنظم العربية وتعزيز استقرارها. ويبدو لي أن ما نعيشه اليوم مع تزايد الضغوط الداخلية والخارجية وبموازاة تراجع آمال التنمية على الصعيد الاقتصادي والعودة المقنعة إلى السياسات القمعية تحت ستار الحرب ضد الارهاب ومواجهة التهديدات الخارجية على المستوى السياسي هو نهاية هذه الحقبة أو بالأحرى غياب شروط إنتاجها. وهو ما يفسر أن عصر الاصلاح لا يكاد يعرف في بعض الأقطار خريفه من ربيعه. والسؤال هل لا يزال هناك أمل في إنقاذ مشاريع التصحيح والإصلاح أم أننا مقبلون حتما على حقبة جديدة من التخبط والانفجار.

طربق الاصلاح المستحيل



يبدو لي أن التسوية الهشة والضعيفة التي تحققت في العقدين الماضيين بين المستفيدين من عملية التحرير الاقتصادي من الغيلان الكبار والمستفيدين من الانفتاح السياسي المحدود من بعض فئات الطبقة الوسطى المتدهورة، وهي التسوية التي حفظت حدا أدنى من الاستقرار للنظم العربية في العقود الثلاث الماضية تبدو اليوم، مع تراجع آمال التنمية الاقتصادية وعودة السياسات القمعية تحت ستار الحرب ضد الارهاب ومواجهة التحديات الخارجية، مهددة بالانهيار أكثر من أي فترة أخرى ومعها استقرار المجتمعات العربية.
فالتحرير الاقتصادي الذي كانت النظم العربية تراهن عليه كي تتجاوز الاختناقات السياسية الموروثة وتعزز الانفراج لم يؤت الثمار التي كانت تنتظر منه. وبالمقابل تحقق، شيئا فشيئا، ما كان جميع المراقبين يتوقعونه، أي وضع يد فئات قليلة من أصحاب النفوذ الاقتصادي والسياسي وعائلاتهم على عوائد التنمية المحدودة بالاضافة إلى عرقلة الإدارة التقليدية بشكل جدي وناجع لأي مبادرة إصلاحية إقتصادية والتلاعب بالقوانين الجديدة لتحويلها إلى أدوات لخدمة مصالحها الخاصة وتعزيز نفوذها. وبالمثل، تعمل عودة السلطات إلى سياسات التضييق على الحريات العامة ومحاصرة القوى السياسية الديمقرطية واعتقال الناشطين السياسيين إلى تقويض الرهان على الانفراج السياسي الذي دفع الطبقة الوسطى إلى التعاون على أمل الوصول بالطرق السلمية وبالحوار إلى فتح الحقل السياسي وتأسيس نظام التعددية الذي يشكل الإطار الوحيد الذي يمكنها من الدفاع عن مصالحها البعيدة. وهكذا فإن التفاؤل الواسع الذي رافق ولادة عهد التصحيح أو التحرير الاقتصادي يتعرض في العالم العربي إلى ضغوط قوية بسبب التراجع الخطير في التوقعات الاقتصادية والسياسية معا. وليس من المبالغة القول إن الرأي العام في البلاد العربية قد انتقل في السنوات القليلة الماضية من حالة التفاؤل التي أثارها صعود الآمال عند الجميع إلى حالة خطيرة من الإحباط واليأس والاكتئاب.
ومن الواضح أن إدراك النظم لفشل التصحيح الاقتصادي أو على الأقل تعثره وضعف حصيلته هو الذي دفعها إلى إعادة تقييم عملية الانفراج السياسي المحدود أو التراجع عنها. فقد كان الانفراج ممكنا ومحتملا بالفعل في حالة تقدم الأوضاع الاقتصادية وضروريا أو مفيدا لخلق مناخ ملائم لتقدمها وتعزيزها، لكن في الحالة المعاكسة يمكن أن يتحول الانفتاح السياسي، مهما كان محدودا، إلى ثغرة كبيرة في دفاعات النظم الاستراتيجية. فالطبقة الوسطى التي أعلنت عن حفاوتها بالعهد الليبرالي الجديد بسبب اعتقادها بأن الانفتاح الاقتصادي يعني بداية إخراج البلاد من تقاليد الحكم الأبوي أو الحزبي الأحادي ومن السيطرة البيرقراطية المدنية والعسكرية المعقمة والمعيقة، لن تتردد في الانفكاك عنه والوقوف ضده عندما تدرك أنه لم يتوج بأي فوائد بالنسبة لها وأن أسلوب الإدارة الأمنية للأزمات الاجتماعية والسياسية لايزال هو الأسلوب المعتمد لضمان الهدوء والاستقرار.
تميل معظم القيادات السياسية إلى إلقاء اللوم في إخفاق الانفتاح الاقتصادي أو تعثر على الإدارة البيرقراطية. ومن هنا سوف يتبع الحديث عن الانفتاح الاقتصادي مشروع إصلاح إداري اعتبرته معظم الدول ضروريا لإخراج الاصلاح الاقتصادي من أزمته أو من الطريق المسدودة التي وصل إليها. وهو ما تؤكد عليه أيضا المؤسسات المالية الدولية المعنية بالتنمية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين. ففي نظر خبراء هذه المؤسسات أيضا، من المستحيل أن ينجح الانفتاح الاقتصادي مع وجود إدارة ينخرها الفساد، متواطئة مع فئات المصالح الخفية، وتفتقر أكثر من ذلك بشكل دراماتيكي للمهارات والكفاءات المطلوبة. لكن في جميع الحالات لم تكن نتائج هذا الاصلاح الإداري أفضل من نتائج الاصلاح الاقتصادي الذي انتهى على شكل تحرير الأسواق ولم ينجح في جذب شيء يذكر من الاستثمارات ولا من باب أولى في توطين صناعات أو خلق أقطاب تنمية تقنية أو علمية في البلاد.
والواقع أن سبب الإخفاق واحد في الحالتين، هو غياب المراقبة والمحاسبة الجماعية والعلنية وتحكم مجموعات المصالح الضيقة بالدولة وبالموارد الوطنية من خلال التضامن بين مجموعات المصالح الاقتصادية والسياسية، وهو ما يطلق عليه في الأدبيات الحديثة بمسألة الفساد. وللفساد في جميع مظاهره الاقتصادية والإدارية أصل واحد هو بنية السلطة السياسية نفسها، أعنى اعتماد النظم القائمة في ضمان وجودها وبقائها واستمرارها على سيطرة فئات واحدة من أصحاب المصالح المتضامنة والمكونة حسب قاعدة الولاء والتبعية على مؤسسات الدولة وأجهزتها وسعيها إلى الاحتفاظ بموقعها في الدولة والمجتمع بصرف النظر عن القوانين الموضوعية التي تحكم عمل هذه المؤسسات. فكما أنه لا أمل لفئات المصالح هذه أن تحتكر موارد البلاد وتضع يدها على الثروة الوطنية من دون إفراغ الدولة من محتواها وفرض سيطرتها عليها بصورة لاشرعية، كذلك لا أمل لأي نظام يعتمد على الإكراه ويستند إلى طبقة ترفض علنا مبدء الاحتكام في قيادتها وسياساتها وقراراتها للمجتمع والرأي العام، أن يستمر ويبقى من دون أن يجد نفسه مدفوعا إلى بناء قاعدة إجتماعية زبائنية خاصة قائمة على الولاء والتبعية، سواء أكانت حزبية أو عائلية أو عشائرية، تحل محل القاعدة الاجتماعية العمومية.
لا يعني هذا بالتأكيد إنه ليس من الممكن إصلاح الإدارة التي يشكل اليوم ضلوعها مع فئات رجال الأعمال الخاصة مصدر الفساد الرئيسي. لكن مدخل مثل هذا الاصلاح الوحيد هو إصلاح قاعدة العمل السياسية التي كونت هذه الإدارة أو بالأحرى عملت على إفسادها، أعني غياب المراقبة الشعبية الحقيقية واعتماد مبدأ المحسوبية والولاء والاستزلام في شغر جميع المناصب والوظائف الرسمية. وهو المبدأ الذي يضمن لشبكات المصالح تعزيز مواقعها وتضامنها داخل الدولة والاستفادة من موقعها المتميز فيها لخوض حربها الدائمة لتوزيع المنافع والامتيازات واقتسام الغنائم على حساب الأغلبية الاجتماعية، كما يضمن للنظم ككل ولنخبها السياسية تكوين قاعدة إجتماعية من أصحاب المصلحة في بقائها وبالتالي في استمرار الحكم واستقراره بصرف النظر عن إنجازاته أو أخطائه. إن تقديم مبدء الولاء والتبعية الشخصية على مبدء الكفاءة والمسؤولية هو أصل الفساد في كل النظم الاستبدادية الجمهورية والوراثية معا. فهو يعمل في الإدارة الاقتصادية أو السياسية أو المدنية عمل العملة الفاسدة في السوق التجارية ، أي يطرد الكفاءة وينفيها. وهذا ما يفسر غياب الكفاءات والأطر الماهرة الذي يشكو منه عن حق المسؤولون في أكثر من دولة عربية. فصاحب الكفاءة لايقبل بالاستزلام الذي هو قاعدة الولاء والمحسوبية، ويفضل الهجرة أو العمل خارج الإدارة، والمستزلمون من أصحاب الولاء لا يقبلون بوجود المدير الكفؤ الذي يطالبهم ببذل جهد وتحصيل مهارات يفتقرون إليها. فالمحسوبية تنفي بالتعريف مبدء الكفاءة والتبعية الشخصية تلغي حتما مبدء المسؤولية. وهكذا تزول تماما القواعد التي تقوم عليها أي إدارة حديثة عقلانية، فلا تبقى هناك لا كفاءات ولا شعور بالمسؤولية تجاه الدولة والمؤسسة والجماعة الوطنية، بل لا تبقى هناك حتى معايير وأصول متبعة في الإدارة التي تتحول في الواقع إلى مراكز وشبكات مصالح خاصة يجمع بينها ويدفعها إلى التنافس معا الافتقار الجامع للكفاءة والمسؤولية السياسية.
ومأساة الاصلاح ومشكلته الرئيسية في البلاد العربية كامنة في الرد على الأسئلة الصعبة التالية: كيف يمكن لؤلئك الذين وصلوا إلى مناصبهم عن طريق الولاء والمحسوبية والذين لا أمل لهم في الحفاظ على امتيازاتهم من دون استمرار السلطات الاستثنائية أن يقوموا هم أنفسهم بإصلاح هذه الأوضاع، أي بزعزعة الأرض التي يقفون عليها؟ وكيف يمكن لنظم حكم لا تقوم على قاعدة سياسية عمومية ولا تقبل بالاحتكام إلى الجمهور والرأي العام وتؤمن بأن قيادتها للمجتمع والدولة حقا أبديا لا نقاش فيه مهما كانت نتائج سياساتها وإدارتها وقراراتها، أن تضمن لنفسها الاستمرار من دون الاعتماد الواسع على قاعدة الولاء والقرابة والتضامنات العائلية والعصبوية؟ هذا هو التحدي الذي تواجهه النظم العربية والذي لن يكون من السهل تجاوزه للخروج من حالة التوتر المتزايد الذي يتجه إليه المجتمع وتندفع إليه الحكومات والمعارضات معا بسبب انهيار آمال الاصلاح السريع وتفاقم الأزمة الاجتماعية. وهو الذي يدفعني إلى القول بأن الطريق المسدود الذي وصل إليه عهد التصحيح العربي الذي بدأ منذ السبعينات ولا يزال يجرجر ذيوله في بعض البلدان العربية المتأخرة والمترددة يستدعي أكثر من أي وقت سابق العودة إلى سياسة الحوار التي تخلت السلطات العربية عنها اعتقادا بأنها تستطيع، عن طريق توقيع قوانين تحرير الاقتصاد، حل مشاكل البلاد واحتكار خيراتها معا. وكما أن التصحيح الاقتصادي لم يكن ممكنا من دون الاصلاح الإداري فإن الاصلاح الإداري لن يكون ممكنا من دون الاصلاح السياسي أي من دون معالجة الإطار الذي يمنع جميع مؤسسات الدولة من تمثل معايير الكفاءة وقيم المسؤولية التي هي أساس أي عمل صالح ومنتج في أي مجتمع قديم أو حديث. وإذا ما وصلنا إلى اقتناع فعلي بأنه لا توجد هناك حلول سريعة وجاهزة لأي مشكلة من المشاكل التي تواجهنا تماما كما أنه لا يمكن لأي حل أن ينجح ويستمر إذا كان أحادي الجانب أو لصالح طبقة أو فئة واحدة على حساب الجميع فلا بد لنا من الاعتراف بأن الوقت قد حان لفتح النقاش الوطني من جديد وإشراك المجتمع والرأي العام وجميع الأطراف في البحث عن الحلول الناجعة التي ليست موجودة في أي مكان آخر سوى التفاهمات الوطنية المفاوض عليها. هذا هو الطريق الوحيد للخروج من حالة القلق والحيرة والتخبط التي نعيشها ولا تكف عن تسميم حياتنا العمومية.


mercredi, décembre 03, 2003

لماذا يبدو الانفتاح السياسي مستحيلا في العالم العربي؟

الجزيرة نت 3 ديسمبر 2003

لا أحد يستطيع أن ينكر اليوم أن هناك عملية تغيير عميقة جرت وتجري منذ عقدين أو ثلاثة داخل بلدان العالم بأجمعها وتتخذ من التكيف مع حاجات الاندماج في السوق العالمية ومع السياسات النيوليبرالية محورا أساسيا لها. هذا ما جرى في دول الكتلة السوفييتية السابقة وأوروبا الوسطى وأمريكا اللاتينية ولا يزال يجري في بلدان جنوب شرق آسيا وأفريقيا. بيد ان الذي يميز هذه العملية في البلدان العربية بشكل أقوى من أي منطقة أخرى هو الفصل الواضح بين التغيير الاقتصادي والتغيير السياسي، أو بمعنى آخر استبعاد السياسة من ميادين الاصلاح والسعي ما أمكن إلى الاحتفاظ بآليات نموذج الدولة البيرقراطية التسلطية على الطريقة السوفييتية أو على الطريقة الأبوية شبه الاقطاعية. وعادة ما يبرر أنصار السلطة هذا الاختيار بغياب مطالب الديمقراطية ونداءات الحرية والحقوق الانسانية واقتصار مطالب الجمهور العربي الواسع على تأمين لقمة الخبز وزيادة فرص العمل لعشرات ملايين الباطلين ورفع مستوى المعيشة المادية. ولن تكون نتيجة فتح الحقل السياسي في هذه الحالة سوى تعميم الفوضى والنزاعات في الوقت الذي تحتاج فيه المجتمعات العربية إلى ضمان الاستقرار ما أمكن لجذب الاستثمارات الأجنبية. ولذلك من الأفضل أن تقتصر أجندة التغيير في الدول العربية على بند واحد وحيد هو التحرير الاقتصادي، أي وضع الشروط القانونية والإدارية المحفزة على جذب الاستثمارات وتوطينها. وفي بعض البلدان العربية يقدم منظروا هذا الاختيار المثال الصيني كنموذج ناجح للتغيير الاقتصادي المحض في مقابل نموذج التغيير الروسي الذي أدى إلى عهد الفوضى، معتبرين أن ما ينطبق على الصين التي تشكل قارة قائمة بذاتها تتصارع الشركات الكبرى على وضع موطء قدم في سوقها ينطبق على أي بلد صغير مهما كان حجم اقتصاده وسوقه الوطنية وموارده البشرية والطبيعية.
والواقع ليس هذا الاختيار الاقتصادوي الذي يبدو وكانه يتماشى مع حاجات الاندماج في الاقتصاد الليبرالي مجردا عن الهوى. كما أن اختيار الإطار أو النظام السياسي ليس أمرا محايدا ومستقلا عن الاختيار الاقتصادي ولا مفصولا عنه. وكما أنه لا يوجد نشاط اقتصادي في الفراغ فإن كل اقتصاد يتكون ضمن إطار سياسي يعين قواعد العمل المتبعة وعلاقة الفئات الاجتماعية في ما بينها ومواقعها وقدراتها على العمل والمبادرة الجمعية وبالتالي آفاق تحولها وازدهارها. ومن هنا أطلق المنظرون المعاصرون اسم الاقتصاد السياسي على الاقتصاد الحديث واعتبروه بحد ذاته سياسة كبرى. ونحن لم نعد نتحدث اليوم إلا في السياسات الاقتصادية.
إن إغلاق المجال السياسي وتحريم العمل فيه للقوى الاجتماعية أو شلها والتضييق عليها لم يكن يهدف ولا يهدف إلى شيء آخر في البلاد العربية سوى قطع الطريق على أن يشكل التحول نحو اقتصاد السوق مناسبة لإعادة توزيع الثروة الوطنية بشكل يقلل من سيطرة الفئات المحدودة المستفيدة منها في الحاضر، وفي ما وراء ذلك منع تعديل موازين القوة السياسية والحيلولة دون تغيير نموذج السلطة الاجتماعية في المستقبل. فهذا الإغلاق هو الذي يضمن وحده انتقالا سريعا وتلقائيا للثروة الوطنية من أيدي جيل الآباء الذي سيطر عليها باسم حماية الملكية العامة أو الاشراف عليها إلى أيدي جيل الأبناء الجديد باسم التنمية الاقتصادية المعتمدة على الاستثمارات الخاصة. ونحن هنا في الواقع في سياق طبيعي لإعادة تكوين طبقة ارستقراطية فقدت مبرر وجودها. فالفصل بين السلطة السياسية وأصحاب المصالح الاقتصادية هو من سمات الدولة القانونية ومصدر الحراك الطبقي في العصر الحديث بقدر ما كان الاندماج بينهما سمة أساسية من سمات الدولة أو السلطة الإقطاعية القديمة التي كانت تقوم على منع الحراك الاجتماعي وتثبيت السكان والفئات الاجتماعية في مراتب جامدة وتكريس السلطة والثررة معا كحق محسوم وثابت لارستقراطية وراثية محصورة في جزء محدود من العائلات التي نجحت عن طريق تفوقها في تنظيم الميليشيات المسلحة في وضع يدها على السلطة ولا تزال تملك القوة الكافية للاحتفاظ بها.
من هنا تستدعي إعادة تكوين الارستقراطية الجديدة التي تعيش على ريع الموقع في السلطة، في عصرنا الراهن، تفريغ الدولة الحديثة من مضمونها، أي من مفاهيم الوطن والمؤسسة والمواطنية والقانون والحرية الشخصية. وهو ما يفسر العودة القوية في إطار السلطة القائمة إلى تعبئة العصبيات العشائرية والعائلية وتكريس قانون القرابة والولاء والانتماء الخاص والتمديد له إلى ما لانهاية. فمن خلال اختراق الدولة الحديثة من قبل البنيات والقيم الزبائنية فقط تستطيع الارستقراطية الجديدة أن تحول مؤسسات الدولة العسكرية والسياسية إلى ما يشبه ميليشيات القرون الوسطى التي تضمن لها التفوق والاستمرار. وهكذا تتحول الدولة الحديثة من إطار قانوني وسياسي يضمن للمجتمع تنظيم شؤونه وتجاوز تناقضاته وحلها بالوسائل السلمية، ومن ثم تحقيق وحدته وتضامناته مع تجنب الحرب والصراع الأهليين، إلى أداة لإخضاع المجتمع بالقوة واستخدام العنف الشرعي لقهره وتركيعه.
هذا هو في الواقع المغزى الرئيسي لإغلاق الحقل السياسي والابقاء على نظام السيطرة الشمولية المعتمد على تعليق القانون وإلغاء المراقبة والمساءلة الوطنية. وهو الذي يفسر أن الانفتاح الاقتصادي يسير هنا مناقضا بشكل مباشر للانفتاح السياسي وللاصلاح الإداري والقانوني والاجتماعي معا.
وفي البلاد العربية التي تشهد منذ السبعينات تحولا مضطردا في اتجاه اقتصاد السوق لم يعمل هذا الدمج بين السياسات النيوليبرالية الجديدة والنظام التسلطي على تفاقم مظاهر الزبائنية العائلية والعشائرية فحسب ولكنه حرم الانفتاح الاقتصادي من إمكانية إطلاق علمية التنمية أو خلق فرص عمل جديدة، وساهم، في ما وراء ذلك، في الإفقار المتواصل للمجتمع. فتكوين هذه الطبقة الزبائنية لا يتم على حساب نشوء الطبقة الوسطى المنتجة فحسب ولكنه يقطع الطريق أيضا على تكون طبقة رأسمالية نشيطة وحية من رجال الأعمال المنتجين والمبادرين، لصالح النمو السريع لرأسمالية المضاربة الطفيلية وغير المنتجة التي برزت في سياق عملية الانتقال البسيط للثروة، ومن دون جهد ومن دون منافسة، داخل قائمة العائلات والأسر نفسها التي سيطرت على الدولة واستغلت نفوذها فيها لتحقيق طفرتها التاريخية. ولذلك ما كان من الممكن للتحرير الاقتصادي أن يعني هنا تراجع الفساد بقدر ما عنى تفاقمه بموازاة تقدم عملية التحرير بل تحوله هو نفسه إلى قاعدة نمو الاقتصاد الجديد ومحركه.
أن أولويات الجيل القديم والجيل الجديد الذي يسعى إلى وراثته، في حقلي السلطة والاقتصاد معا، واحدة، هي نقل السلطة السياسية والمادية، أي الحكم ورأس المال معا، في نطاق الدائرة العائلية واستغلال آليات النظام القائم لتحقيقها على أكمل شكل وفي أسرع وقت. وكل يوم يمر من دون انفجار الأزمة العامة تعتبره هذه الفئات مكسبا لها. فما يهمها في الواقع ليس مستقبل البلاد ولا تطور الانتاج ولا توسع استثماراتها في الداخل وإنما جمع أكثر ما يمكن من الثروة قبل أن يحين وقت تصديرها على شكل ودائع واستثمارات إلى السوق العالمية. وبقدر ما يعكس هذا الوضع افتقار رأسمالية المضاربة الجديدة الناشئة في أحشاء بيرقراطية الدولة إلى أي حافز للتغيير السياسي يؤكد راهنية الإبقاء على أنماط الحكم العسكري والأمني وحتمية إعادة إنتاجها. فكما أنه لا أمل لهذه الطبقة في البقاء بوجود أليات ووسائل المراقبة والمحاسبة والشفافية والمساءلة القانونية والسياسية، فليس بإمكانها التطور والنماء من دون االاستخدام المعمم للعنف الذي يضمن لها وحده لجم القوى الاجتماعية المنتجة والعاطلة والمهمشة والاستمرار في الاستفادة من الميزات الاستراتيجية نفسها التي استفاد منها جيل آبائها للانتقال من حال البؤس إلى مصاف الطبقة الارستقراطية المكرسة.
وما لم يتعرض نظام الاحتكار المطلق للسلطة السياسية والاقتصادية والثقافية الذي يمثله الحكم في إطار قوانين الطواريء وحرمان المجتمع من أي حياة مدنية أو سياسية للانهيار من تلقاء نفسه، كما حصل في البلاد الأخرى الشمولية، ليس لهذه الطبقة أي مصلحة في أن تعدل فيه أو تزيحه. فهو يقدم لها أفضل الشروط لتحقيق التراكم السريع أو بالاحرى لتمديد مرحلة التراكم البدائي القائم على استخدام القوة المجردة لرفع عوائد ريع الموقع السياسي إلى حدها الأقصى، وإذا أمكن، مراكمة الثروة ورأس المال من دون أي استثمار آخر سوى الرشوة الضرورية لكسب المحاسيب والأعوان. فكيما تضمن لنفسها الانطلاق من ضيق الاقتصاد الوطني الصغير نحو رحابة السوق العالمية التي تشكل منذ الآن امتدادا طبيعيا لها ليس عندها خيار آخر سوى تحقيق المعادلة الصعبة: أقصى معدلات التراكم بأسرع وقت وبأدنى تكلفة.
في هذا النمط الخصوصي والزيائني من الانتقال نحو اقتصاد السوق العالمية أو المعولمة نجد التفسير الاقتصادي السياسي والتبرير الوحيد للابقاء على نظام الوصاية الفكرية والمدنية والسياسية التي يجسدها نظام ا الحزب الواحد أو إلغاء الحياة السياسية ورفض إجراء أي تعديل أو تغيير أو إصلاح على قواعد العمل العمومي القائمة والتقوقع بشكل أكبر على مفهوم السلطة الأحادية والشاملة. وفيه نجد أيضا معنى حرص أصحاب المناصب بمختلف مستوياتها على البقاء في مناصبهم إلى الأبد قبل توريثها لأبنائهم. وهو انتقال خصوصي بالفعل بالمقارنة مع ذاك الانتقال الذي عرفته مجتمعات أوروبة الوسطى انطلاقا من انهيار النظام الشمولي. فهو انتقال تحقق ويتحقق داخل النظام القديم ومن دون المساس بقواعد عمله السياسية والاجتماعية بل تحت حراسة وإشراف الدولة نفسها. والفرق الوحيد بينهما هو أن الانتقال نحو اقتصاد السوق المعولم قد قاد، في حالة انهيار النظام الشمولي، إلى سيطرة شبكات المصالح الضيقة ذات الطابع المافيوزي لكن إلى جانب نشوء نظم تعددية وديمقراطية تسمح مع الوقت بتعديل الوضع الناشيء عن أزمة الانتقال، كما تشير إليه محاولة الرئيس الروسي بوتين الراهنة لمحاصرة امبرطوريات المال في روسيا الاتحادية. في حين يقود الانتقال نحو الرأسمالية الخاصة في ظل استمرار الحكم الشمولي في البلدان العربية نحو تخليد سيطرة شبكات المصالح العائلية نفسها والتمديد في عمرها مع انسداد أي أفق للاصلاح أي للتغيير في الأحوال المعيشية والسياسية والقانونية والأخلاقية للبلاد.
ويترتب على هذا التطور الاستثنائي نشوء رأسمالية من طبيعة خاصة يميزها وجود فئات فائقة الثراء لكن مع غياب طبقة رأسمالية ذات تقاليد ووعي وطني ومواطني ورؤية استراتيجية شاملة وطويلة المدى. وهي تميل إلى أن تتكون على شكل شبكات مصالح متضاربة ومتنافسة تتنازع للحصول على مناقصات الدولة التي تحدد هي نفسها هامش الريع المرتبط بها، أي تتصارع على تقاسم الثروة العامة واقتسامها لا على مراكمتها عبر تطوير الاستثمار وتوسيع دائرة الانتاج والانفاق لتطوير القاعدة التقنية والعلمية. وهذه هي إحدى آليات تكون الرأسمال العولمي انطلاقا من إلحاق أصحاب الرساميل وفئات البرجوازية المبتورة الرأس والمعدومة الانتماء أو الولاء به وضمها إليه. وهي كذلك مصدر الفوضى السياسية التي تعيشها وستعيشها بشكل أكبر المجتمعات الفقيرة باعتبارها الشرط الضروري لإعادة إنتاج سلطة أرستقراطية رثة وطبقة وسطى زبائنية مكونة من شبكات المصالح والولاء العشائري والعائلي والجهوي، غير منتجة ولا مبدعة ومفتقرة في سلوكها الفردي والعمومي لأي معايير موضوعية ووطنية وأخلاقيات عامة.

الجزيرة نت

lundi, décembre 01, 2003

ثقافة التخلف


أصبح من المسلم به اليوم أن استيعاب المعرفة وإنتاجها وتداولها يشكل اليوم وسوف يشكل في المستقبل بشكل أكبر محور التنافس بين المجتمعات وأساس نجاحها في الرد على حاجات أعضائها وبالتالي في استقطاب ولائهم، وذلك بقدر ما أصبحت المعرفة في أيامنا هذه العامل الأول في تقدم المجتمعات والارتقاء بشروط حياتها المادية والمعنوية. وهذا الاستيعاب وما يتبعه من إنتاج وتداول مكثف للمعرفة يشكل اليوم، أكثر من التعبير عن الهوية، التحدي الرئيسي الذي تواجهه الثقافات في مجتمعاتنا المعاصرة. فالثقافة التي تخفق في تحقيقه تجد نفسها شيئا فشيئا مستبعدة من المنافسة التاريخية وتحكم على نفسها بالزوال كثقافة حية وفاعلة حتى لا يبقى منها سوى ذكرى ثقافة أو ثقافة الحنين والذكريات.
وكما بين ذلك تقرير التنمية البشرية للمنطقة العربية لعام 20002، بصرف النظر عن العديد من نقاط الضعف التي تعتري هذا التقرير،لم تنجح المجتمعات العربية المعاصرة في الرد على هذا التحدي، ولا تزال تعاني من نقص فادح في اكتساب المعرفة وإنتاجها وتداولها، خاصة المعرفة الابداعية العلمية منها, وهي تعتمد في تأمين حاجاتها الأساسية منها على النقل أو الاستعارة أو الاسيتراد من الخارج.
وقد تحذثت في مقال سابق عن أثر العوامل السياسية والاجتماعية في تكوين فجوة المعرفة الواسعة التي تفصل العالم العربي ليس عن المجتمعات الصناعية المتقدمة فحسب ولكن حتى عن المجتمعات النامية، بالرغم مما يتوفر في مجتمعاتنا من موارد بشرية ومادية. وأود أن أشير في هذا المقال إلى أثر عوامل أخرى لا يمكن لأي سياسة تنموية أن تتجاهلها، وهي السياسات العلمية والثقافية بشكل عام. وإذا كان من الصعب فصل هذه العوامل عن العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلا أنها تشكل ميدانا للبحث قائما بذاته وبالتالي يحتاج منا إلى التأمل والتفكير والمراجعة. فوجود إرادة التنمية المعرفية لا ينفي ضرورة بلورة سياسات علمية فعالة لتحقيق هذه التنمية.
ولعل ما وسم العقود القليلة الماضية من العمل العربي في هذا المجال هو الافتقار إلى سياسات تنمية معرفية متسقة وناجعة، وفي بعض الحالات إلى غياب أي سياسات علمية على الإطلاق، بالرغم من الموقع الكبير الذي احتلته مسألة التنمية واكتساب العلوم والتقنيات في الايديولوجية العربية القومية السائدة. وهو ما يمكن أن نلاحظه على مسألة التعليم أيضا. فبالرغم من الجهود الاستثنائية التي بذلتها الدول العربية لتوسيع دائرة المستفيدين من هذه الخدمة الاجتماعية الكبرى إلا أن الاهتمام بتحسين نوعية التعليم وربطه بمسائل التكوين المهني والتعليم المستمر والتأهيل الاجتماعي بقي ضعيفا جدا إن لم نقل معدوما. وربما كان السبب الرئيسي لذلك كامن في غياب أهداف واضحة ومحددة للتربية والتعليم في جميع مراحلهما وانفصالهما عن عالم العمل والانتاج والاهتمام الاجتماعي. وهكذا لم تنجح الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها الدول العربية في هذا القطاع، من تجنيب الدول العربية التبعية شبه الكاملة في تأمين حاجاتها المعرفية على الخبرة الأجنبية. فهي لا تزال تستورد الخرة الفنية والتقنية بكثافة، ولا تزال تعتمد بشدة، منذ أكثر من قرن، في تكوين الاطر العلمية والفنية والتقنية المتقدمة، على ايفاد البعثات إلى الدول الأجنبية لتلقي العلم، كما لا تزال تعتمد في إعداد البرامج التعليمية على المناهج المصاغة لمجتمعات أخرى.
ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يكون من الصعب نشوء أي علم عربي أو بالأحرى أي تقاليد علمية راسخة، أو أن تثمر الجهود الكثيفة عن تكون قطب مستقل للتطور العلمي والتقني يملك ديناميات نموه الداخلية. فكما يظل العلماء والتقنيون منقطعين واحدهم عن الآخر وغير قادرين على التواصل والتعاون بسبب تباين مناهج تكوينهم واختلاف لغات اختصاصهم ومرجعياتهم وموارد بحوثهم تظل ابداعاتهم مرتبطة باستمرار بتبعيتهم لمصادر تكوينهم وإلهامهم. وبقدر ما يمنع هذا التباين في مناهج تلقي العلم والتبعية المتواصلة والمباشرة لمناهله الأجنبية من التواصل والنمو العمودي للمعرفة يمنع من نشوء بيئة علمية محلية مستقلة أو ذات حد أدنى من الاستقلالية قادرة على صهر المعارف والخبرات المتباينة المستمدة من مصادر وثقافات أخرى وتحويلها إلى معرفة محلية وتكييفها مع حاجات المجتمع المحلي. فالأطر العلمية من فنيين علماء ومفكرين ومبدعين تبقى مشتتة ومتباعدة تعيش كل فئة منها في مناخ المجتمع الذي استمدت منه معرفتها, ولا تنجح في ايجاد ما يجمع بينها. وهي تظل أيضا بسبب هذا الارتباط بالذات غريبة عن ديناميات مجتمعها وغير قادرة على التأقلم مع حاجاته والرد على طلباته كما تبقى المعرفة التي تملكها مشتتة وغريبة في معظم الوقت عن المجتمع الذي تعيش فيه. وبقدر ما تفتقر لمرجعية واحدة محلية، تظل الأوساط العلمية مرتبطة بمرجعيات خارجية تجعلها غير قادرة على التفاعل مع بعضها البعض ومع بيئتها الجديدة بصورة إبداعية.
وما يقال عن السياسات العلمية يمكن قوله أيضا عن السياسات اللغوية. فمما لاشك فيه أن ضعف التأهيل والتكوين اللغوي بالعربية واللغات الأجنبية معا وتخبط السياسات اللغوية يلعب دورا كبيرا في إعاقة النمو المعرفي. وهكذا لا تزال الدول العربية تفتقر حتى اليوم إلى سياسة جدية للتعامل مع اللغة العربية سواء من حيث تحديد وظائفها أو من حيث العمل على تحديثها وتطوير وسائلها واستعداداتها لملاحقة تطور اللغات العلمية والتقنية والاستجابة لحركة الابداع العلمي المستمر، أو في ما يتعلق بتبسيط أساليب تعليمها وتدريسها للأطفال والطلبة بحيث يمكن لهم استيعابها بالسرعة والكفاءة الكافيتين لتتحول إلى أداة تعبير قوية ولغة معرفة وثقافة عليا معا. وبالرغم من العمليات الواسعة التي تمت لتعريب التعليم في جميع المستويات بما فيها المستوى الجامعي في معظم البلاد العربية، لا تزال اللغة العربية تفتقر إلى مرصد للمصطلحات العلمية وآلية لتدقيق المصطلحات وتعميم استخدامها من قبل المستعملين لها كما لا يزال العالم العربي يفتقر لأي بنية مشتركة أكاديمية تسمح برعاية شؤون اللغة والتنسيق بين مناهج تطويرها وتعليمها. وبالمثل لم تنجح البلاد العربية حتى الآن في الاتفاق على سياسة لغوية ثابتة في التعامل العلمي والإداري معا. ولا تزال أكثرها تتردد بين التعريب الشامل والاستخدام المكثف للغات الأجنبية. وقد غيرت بعض الدول خياراتها أكثر من مرة منذ الاستقلال. ومن الصعب العثور على تقرير علمي واحد حول الوضع اللغوي في البلدان العربية. وقد أدى غياب المعالجة العلمية الموضوعية لمسألة اللغة إلى الهبوط المباشر للمناقشة العامة في هذا الموضوع إلى مستوى الجدل الايديولوجي الذي يجعل من مسألة اللغة جزءا من استراتيجيات الصراع على السلطة ويفصلها كليا عن وظائفها الرئيسية الحقيقية المتعلقة بالتواصل العمومي وبالنجاعة في اكتساب المعارف المختلفة وتعميمها.
ونلاحظ التخبط نفسه في سياسة تعليم اللغات الأجنبية واستخدامها. فهي تعاني من تقلب الاختيارات ومن النقص في الامكانيات ووسائل التعليم والتحسين التي تجعل منها لغات قوية قادرة بالفعل على القيام بوظيفتها الأساسية وهي تمكين المختصين والباحثين والمفكرين من النفاذ إلى أدق المعارف والعلوم والمعلومات التي لا يمكنهم النفاذ إليها بلغتهم الأم.
إن غياب سياسات ثقافية وعلمية متسقة وافتقار العملية التعليمية لأهداف واضحة وركاكة ثقافة النخبة العليا، أي ثقافة السلطة والإدراة والقيادة، وتخبط السياسات اللغوية وعدم نجاعتها وسيطرة مناخ الاستهلاك الثقافي الرمزي والتعويضي على الانتاج الثقافي والمشاركة الثقافية والعلمية في النشاطات والفعاليات العالمية، وبحث النخب الحاكمة عن المشروعية في نوع من التعبئة الايديولوجية الوطنية والقومية الرخيصة والشكلية تعوض عن الافتقار للشرعية السياسية، كل ذلك يشكل ثقافة خاصة قائمة بذاتها هي ما نسميه ثقافة التخلف. وهذه الثقافة هي أحد العوامل الرئيسية في إعاقة نمو المعرفة وتكوين وتراكم رأس مال معرفي وازن، بقدر ما تقود إلى بناء نظم ثقافية غير متسقة وغير ناجعة. فلا يمكن لمثل هذه الثقافة أن تشجع على التعلم والتجدد والبحث والمعرفة والتفكير والتأمل في القضايا المطروحة سواء أكانت علمية أم دينية أم اجتماعية أم سياسية ولكنها تنمي ملكات التسليم بالأمر الواقع والاستسلام للقضاء والقدر أو التعويض عن البحث العلمي بالاستثمار المبالغ فيه في الوعي الايديولوجي الذي شمل جميع ميادين النشاط الفكري وفي مقدمها ميدان الاعتقادات الدينية، محولة الدين والايمان إلى أداة للصراعات السياسية.