vendredi, décembre 19, 2003

في حتمية التغيير ومآله


تحدثت في مقال سابق عن وجهتي النظر المتناقضتين اللتين تتنازعان الرأي العام السوري اليوم بخصوص الاصلاح: تلك التي لا ترى في ما يجري أي تغيير يستحق الذكر وتلك التي تشير إلى التحولات الاقتصادية والإدارية المتواصلة في العهد الجديد. وفي نظري، بخلاف ما توحي به كتابات العديد من أقطاب المعارضة، ليس انعدام التغيير هو السمة البارزة في الوضع السوري الراهن. كما أنه ليس من الثابت صحة ما تعزوه العديد من دوائر القرار العالمية المهتمة بهذا الوضع لما تسميه بالحرس القديم في الدولة والحزب من مقاومة شرسة للتغيير. فما يجري في سورية منذ سنوات عديدة، وبشكل خاص منذ عام 2000 ، هو عملية تغيير عميقة تطال طبيعة النظام واختياراته الرئيسية وتوازن القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة فيه ومكانته الاقليمية والدولية أيضا. والقوى النافذة من بيرقراطية الدولة والحزب هي التي تشرف على هذه العملية وترعاها وتسهر على تقدمها ونجاحها. بيد أن من الضروري بعد تأكيد واقع التغيير هذا القول إن حتمية التغيير لا تلغي حقيقة أنه ليس هناك مشروع واحد للتغيير يمكن ان تتفق عليه جميع الأطراف ولكن مشاريع متعددة أيضا وربما متناقضة. وكما كنت قد ذكرت في أول محاضرة ألقيتها في سبتمبر عام 2001 في منتدى الحوار الديمقراطي في دمشق، لم يعد التغيير أمرا اختياريا في أي بلد عربي، كما أنه لا يتعلق برغبة ذاتية ولكنه أصبح مسألة حتمية. وليس الموضوع الفعلي للنقاش أو بالاحرى الذي يستحق النقاش، ولا ينبغي أن يكون، التأكيد على وجود هذا التغيير أو على عدم وجوده ولكن تحديد ماهية هذا التغيير ومنحاه وأهدافه. فكما هو الحال في كل المجتمعات ليس للأزمة التي يعاني منها هذا النظام او ذاك مخرجا واحد وإنما مخارج مختلفة وبالتالي اختيارات واستراتيجيات متباينة للتغيير.
يستند التغيير الذي تشهده الأوضاع السورية وما يرافقه من إرادة واعية أو ضمنية إلى عوامل موضوعية مستقلة عن إرادة السوريين الحاكمين والمحكومين معا. العامل الأول هو تغير توازنات النظام الداخلية بسبب ترهل القوى القديمة التي اعتمد عليها النظام في مرحله قيامه ونشوئه الأولى وتفريخه هو نفسه خلال العقود الطويلة السابقة من السيطرة الكلية على مقدرات البلاد الاقتصادية والسياسية والثقافية، لقوى جديدة يتعارض نموها وتقدمها مع الاحتفاظ بالتقاليد والقيم والقوانين القديمة التي أمنت لآبائها الصعود إلى السلطة والبقاء فيها. فعلى أنقاض الطبقة الوسطى التي تعرضت لعملية إفقار وتهميش منهجية أفرز النظام البعثي الذي ولد عام 1963 طبقة جديدة من أبناء المسؤولين استفادت من تماهيها مع الدولة لتحقيق تراكم استثنائي وسريع في الرساميل الخاصة جعلها تشكل اليوم النواة الرئيسية في أي نظام جديد لاقتصاد السوق يمكن أن يظهر في سورية. وبالرغم من أن هذه الطبقة لا تزال بعيدة عن أن تملك عناصر وحوافز استقلالها عن الدولة إلا أنها بدأت منذ الآن تستعد وتخطط لوراثة النظام القائم عبر فتحه بشكل مضبوط ومقنن على السوق العالمية. وهي تأمل في أن يمكنها التحرير الاقتصادي الراهن مع الاحتفاظ بالعيش لفترة أطول في شرنقة النظام البيرقراطي المطلق وتحت حمايته ورعايته من الاستفادة من موارد الدولة لتحقيق النمو السريع والقوي الذي يمكنها في مرحلة لاحقة من فرض سيطرتها وسيادتها بوسائلها الخاصة. لكن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من ملاحظة أن النظام البيرقراطي أصبح اليوم يعمل لخدمة هذه الطبقة بالدرجة الأولى بعد أن كان يعمل لصالح بيرقراطية الدولة والحزب. وأنها هي التي تستخدمه لتحقيق أقصى ما تستطيع من التراكم البدائي وتحتمي به. وهذا هو المقصود بتغير التوازنات الداخلية للنظام. فالمضمون الجوهري للتحول الجاري اليوم هو انتقال مركز الثقل في النظام من الطبقة البيرقراطية، المدنية والعسكرية التي اعتمد عليها الحكم في العقود الماضية وخدمها معا إلى الطبقة الخاصة الجديدة التي امتصت وتمتص بشكل مكثف أكثر اليوم موارد الدولة لصالح تكوين رأسمالها وملكيتها الخاصة.
أما العامل الموضوعي الثاني الذي يدفع نحو التغيير ويحدد اتجاهه فهو تغير البيئة الدولية. فمن الواضح أن البيئة الدولية التي نشأ فيها النظام القائم والتي ساهمت في إعادة إنتاجه على مدى عقود طويلة هي بيئة النظام الدولي ثنائي القطبية وما تميز به من سيطرة مناخ الحرب الباردة الثقيل. وقد لعب النظام على هذا المناخ وعلى اصطفافه خلف المعسكر الشيوعي في سبيل الحصول على الموارد المادية والتقنية والاستراتيجية والعقائدية الضرورية لبقائه واستمراره. وبانهيار النظام السوفييتي وزوال الحرب الباردة فقد النظام جزءا كبيرا من موارده الخاصة المادية والاستراتيجية والايديولوجية. ولا تستطيع خياراته الأوروبية المتجددة أن تعوض عن هذه الخسارة بالرغم من أنها توحي بديمومة مناخ الحرب الباردة على مستوى آخر وتراهن على تفاقم النزاعات بين أوروبة الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية. وسبب ذلك أن أوربة ليست قطبا مناوئا أو معاديا للولايات المتحدة وإنما هي شريك منافس ومضارب معا. فهي لا تختلف في خياراتها الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية والسياسية والثقافية عنها، أعني في تبني السياسات النيوليبرالية واستراتيجية الحرب ضد الارهاب وحتمية وضرورة القيام بالإصلاحات السياسية والإدارية التي تطلق عليها اسم الحكم الرشيد أو ترشيد الحكم والإدارة.
ويرتبط بتغير البيئة الدولية تغير عميق في البيئة الإقليمية أيضا. فمع إعلان نهاية الحرب الاسرائيلية العربية وتبني السلام كخيار استراتيجي لم يعد من الممكن الاستفادة بالقدر نفسه من توظيف ايديولوجية المقاومة الوطنية والعداء للامبريالية. وبالمثل أدى انهيار النظام العربي وتفككه أمام الضغوط الخارجية وفقدان السيطرة التي أظهرها امام اكتساح القوات الأمريكية للأراضي العراقية وتدمير الحكومة الاسرائيلية اليمينة مشروع التسوية السلمية إلى تفكك الايديولوجية القومية العربية وذوبانها. وهي الايديولوجية التي بقي يتغذي عليها النظام ويستمد منها المشروعية ويغطي من خلالها على الافتقار للشرعية الديمقراطية.
كل ذلك غير في شروط إعادة إنتاج النظام وفي طبيعة القوى الاجتماعية التي يدعمها ويعتمد في وجوده عليها. فكما كان وجوده يتوقف في الماضي على إنتاج طبقة بيرقراطية موحدة داخل الحزب والدولة ومتحكمة بموارد المجتمع المادية والمعنوية جميعا ومحتكرة لها تحت غطاء الملكية العامة، تتوقف إعادة إنتاجه اليوم، أي استمراره واستقراره، على إنتاج طبقة المصالح الخاصة والمتمولين والمتعهدين المتوالدين من صلب النظام والأكثر تلاؤما في طريقة إنتاج شروط وجودهم، كطبقة مالكة ومسيطرة معا، مع شروط اقتصاد السوق المعمم والعولمة الزاحفة والتسوية النهائية للنزاعات العقائدية والسياسية والاقتصادية العالقة مع القوى الخارجية.
هكذا، بالرغم من المظاهر العديدة التي توحي بالاستمرار والاستقرار، تعرض النظام إلى عملية تغيير عميقة تمثلت في نقل مركز الثقل فيه كما ذكرنا من الطبقة البيرقراطية التقليدية الحزبية والعسكرية والإدارية إلى طبقة رجال الأعمال والمصالح الخاصة التي أصبح لها اليد الطولى في تقرير مستقبل الاقتصاد والبلاد معا. وقد قطع هذا الانتقال السلمي للنظام، وبالتالي تشكيل العهد الجديد، في السنوات الثلاث الماضية، شوطا كبيرا وأساسيا بالفعل جعل صورة العهد السابق بعيدة كما لو كانت ذكرى من الماضي. فقد مست التعديلات العميقة على القوانين الاقتصادية جوهر الاقتصاد السابق في مقتل وفتحت الطريق واسعة أمام الاقتصاد الجديد القائم على رأس المال "الخاص" والمدول معا. ومنذ الآن تحتل رأسمالية المضاربة مقدمة المسرح الاقتصادي وتطمح إلى انتزاع القيادة في جميع ميادين النشاط الأخرى بما في ذلك الميدان التربوي والتعليمي. ولا يغير تأكيد الحكومات المتعاقبة على رفض تخصيص شركات القطاع العام من هذا الواقع ولا يمنع من تحول الاقتصاد الحديث إلى المركز الرئيسي للاستثمار.
ومن نتائج هذا التغيير ما يظهر من تآكل قوى النظام التقليدية المادية والمعنوية والتراجع الكبير في مكانة ونشاط المؤسسات السياسية والمدنية والاقتصادية والفكرية القديمة وفي مقدمها مؤسسات الاقتصاد المخطط وشركاته العامة التي تكاد أن تكون قد تركت لتواجه مصيرها بنفسها بعد أن كانت الدولة تنفق على تعويمها مئات مليارات الليرات. ومن نتائجه أيضا الغياب المتزايد للحزب في الحياة السياسية لصالح مراكز القوى وأصحاب المصالح وفي سياق ذلك اختفاء إيديولوجية التقدم والاشتراكية من التداول الرسمي والعودة إلى تداول الشعارات والأفكار الدينية والقومية المحافظة. ومنها أيضا ارتداد الجمهور بشكل أكبر إلى العصبيات الدينية والعشائرية على حساب الأطر السياسية والقانونية والعقائدية المجردة. وهو ما تظهره مستويات المشاركة الضعيفة في الانتخابات البلدية والتشريعية. ومنها أخيرا غياب السياسات البعيدة الواضحة والرؤية المتسقة للخيارات الاستراتيجية، وانكفاء السياسة واختزالها الأحادي في مسألة الأمن وضبط حركة السكان وتحركاتهم وأقوالهم فحسب. ويعكس كل ذلك التفكك العميق الجاري في النظام والفرص المتزايدة التي يقدمها هذا التفكك لتوسيع هامش مناورة ومبادرة القوى الجديدة.
لم يحصل هذا التغيير في قواعد العمل وأشكال الملكية وعلاقات السلطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسبب ضغط الجمهور السوري أو الرأي العام الداخلي أو الخارجي ولكن بمعزل عن هذا الضغط بالذات أو بسبب غيابه الذي مكن السلطة من الانتقال من الاقتصاد المخطط إلى إقتصاد السوق، وفي ما وراء ذلك، من نقل الثروة والسلطة والجاه من جيل الآباء إلى جيل الأبناء، من دون الحاجة إلى تقديم أي تنازلات مادية أو سياسية أو معنوية ولا إلى القيام بأي مراجعة نظرية أو تبرير، أي مع الاحتفاظ بالنظام السياسي ذاته من دون تغيير.




Aucun commentaire: