mardi, juin 03, 2003

مستقبل العلاقات السورية اللبنانية

لقاء مع برهان غليون
يسين حج صالح
الآداب اللبنانية

إشكالية العلاقات السورية اللبنانية. ماهي العناصر التي حكمت المنظورات والمواقف المتقابلة لطرفي العلاقة؟ لماذا كانت العلاقات السورية اللبنانية إشكالية وقلقة دائما حتى قبل التدخل السوري في لبنان؟ هل كان للمثقفين السوريين تأثير على هذه العلاقة؟

- برهان غليون
ربما نستطيع القول بأن نشوء لبنان من حيث هو كيان مستقل عن محيطه كان ثمرة تقاطع ديناميكيتين رئيسيتين حكمتا تكون المجتمع اللبناني في الرقعة الصغيرة التي كانت تسمى لبنان الصغير قبل أن يتحول إلى الدولة التي نعرفها في الحدود الجديدة القائمة. الأولى دينامية التناحر والنزاع الداخلي المستمر بين جماعات قوية وشبه متوازنة في القوة على السيطرة على الأرض والسلطة. وهي الدينامية التي تجد أساسها في أن الرقعة الصغيرة من الأرض التي تسمي جبل لبنان وما يحيط بها قد تحولت منذ زمن بعيد إلى موطن أفليات دينية عديدة مهمشة من قبل الدولة ومهمشة لنفسها أيضا بسبب ضعف انتمائها الديني لدولة دينية الطابع. وهو ما خلق بؤرة جغرافية سياسية ملائمة لاستقرار ثم نمو روح الاستقلالية. والدينامية الثانية نابعة من الانفتاح المبكر للبنان على عالم الحداثة الغربية الناجم عن الضغوط الغربية المستمرة والقوية على منطقة الساحل السوري في إطار الصراعات الجيوسياسية التاريخية لكن بشكل خاص مع تراجع قوة الدولة العثمانية وبداية النزوعات التوسعية الاوروبية. وقد ساهم هذا الانفتاح المبكر على عناصر الحداثة الاوروبية الذي تعزز بوجود وشائج القربى الدينية، منذ القرن السابع عشر وتحت نفوذ الإمارة المعنية بشكل خاص، على تمثل عناصر حداثة متعددة جعلته سباقا في القرن التاسع عشر إلى المساهمة في النهضة الفكرية والأدبية واللغوية العربية. وكانت نتيجة تقابل والتقاء هاتين الديناميتين بنية اجتماعية متميزة ومفارقة يختلط فيها أكثر من أي مجتمع عربي آخر تعزيز البنى والهياكل والعصبيات الوسطوية الطائفية والعشائرية مع تنامي المكتسبات الحديثة وتمثلها. وإذا كان للبنان خصوصية فهي هذا الجميع الاستثنائي، أحيانا السعيد، لكن غالبا المأساوي، للمشيخة التقليدية العشائرية والعائلية وللفردانية البرجوازية المدينية الأكثر مغالاة معا.
وقد شكلت هذه البنية الحاملة لعناصر توتر قوية ودائمة تحديا لسلطة الدولة المركزية العثمانية التي كانت حساسة جدا، مثلها مثل جميع السلطات الامبرطورية، للقلاقل وعدم الاستقرار. وقد اضطرت الدولة منذ القرن التاسع عشر تحت ضغط القوى الأوروبية إلى القبول بإخضاع جبل لبنان لنمط متميز من الحكم يشبه ما نسميه اليوم بالحكم الذاتي أي المتصرفية.
وقد جاء الانتداب الفرنسي على لبنان ليعزز من هذا التطور المفارق للمجتمع اللبناني. فهو بقدر ما أقام الدولة الحديثة على الأسس الطائفية أو الملية ذاتها التي عملت بها الدولة العثمانية منذ نهاية القرون الوسطى، عمق النزوع لدى هذه الطوائف والملل ذاتها، وفي مقدمها الملة التي ستتيح لها الظروف السيطرة على مقاليد الأمور، إلى ربط لبنان بالغرب سواء من حيث الامتدادات والتصاهرات الثقافية أو من حيث الاختيارات الاستراتيجية والسياسية. وقد أعطى هذا الوضع طابعا خاصا للحداثة المفارقة اللبنانية التي تجمع أكثر العناصر الاجتماعية عتقا وقدما مع أكثر عناصر الحداثة تجددا وآخر الصرعات التقانية، بحيث ليس من السهل غالبا أن يميز الملاحظ البسيط فيما إذا كانت البنى التقليدية هي التي تستعمل الحداثة أم أن الحداثة هي التي تستعمل البنى والعناصر التقليدية. وفي كثير من الاحيان تبدو الحداثة هنا كما لو كانت عرض ٍأزياء وأفكار ومنتجات لا ينتهي ولا يقف وراءه أي شيء آخر.
وقد انعكسنت هذه البنية الخاصة على النخبة الاجتماعية والسياسية نفسها في شكل انقسام عميق في الولاءات والانتماءات وأنماط الحياة والتفكير، وأحدثت توترا عميقا ومستمرا في الهوية السياسية اللبنانية ذاتها. ولم يكن من الممكن خروج لبنان من تحت الانتداب إلا في إطار ما سوف يسمى بالميثاق الوطني الذي تخلت بموجبه بعض نخب الطوائف عن المطالبة بإبقاء الارتباطات القوية مع فرنسا لقاء تخلي النخب الأخرى الاسلامية عن مطالبتها بالارتباط المقابل بالمحيط العربي وبشكل خاص السوري. ومما زاد من عوامل التوتر والصراع داخل الهوية اللبنانية دخول جماعات دينية إضافية بعد توسيع حدود لبنان الصغير. وهكذا، خلال فترة طويلة من مرحلة ما بعد الاستقلال بقيت قطاعات رأي عام لبناني عديدة لا تجد نفسها في إطار الهوية السياسية اللبنانية بقدر ما تطمح إلى أن تدرج نفسها في إطار هوية أوسع سورية أو عربية أو إسلامية.
تكون النسيج الوطني السوري الحديث في سياق مختلف تماما عن السياق اللبناني واتسم منذ البداية بنزعة قوية للتكتل حول الدولة البيرقراطية الحديثة التي لم تتخل أيضا عن الأنماط العثمانية. وشهد تطور الأحداث تعزيزا متواصلا للدور السياسي والثقافي والاقتصادي لهذه الدولة. وقد تفاقم هذا النزوع بعد الاستقلال لدرجة انمحت فيها هوية المجتمع السوري السياسية في هويه دولته والفئات أو الجماعات المتحكمة فيها والمتماهية معها. وقد كان هذا الاختلاف دافعا لتبلور أساليب عمل وطني مختلفة منذ الانتداب ثم فيما بعد للتباعد المستمر بين الكيانين المحدثين. لكن الخلاف السوري اللبناني الأعمق لن يتبلور إلا بعد استقلال البلدين وبسبب الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتباينة للنخب الاجتماعية التي كانت مسيطرة على كل منهما في تلك الفترة. وقد عمت الاختيارات المتباينة جميع الميادين تقريبا. فبقدر ما راهنت النخبة اللبنانية الاستقلالية على العلاقات الممتازة مع الغرب وخاصة فرنسا اختارت النخبة السورية في وقت مبكر سياسات وطنية مستقلة أو شبه مستقلة دفعتها إلى توقيع صفقة أسلحة مع تشيكوسلوفاكيا الشيوعية منذ عام 1956 وقبل أن تدخل سورية في إطار الاختيارات الاشتراكية. وكما سيقود نمط الاختيار الوطني سورية نحو سياسات تعليمية ثم اقتصادية وفيما بعد سياسية واجتماعية قائمة على تجاهل الطائفية ولتمايزات العصبوية لصالح المساواة القانونية بين الأفراد بصرف النظر عن انتماءاتهم الأصلية وعلى تعميم التعليم الوطني على حساب التعليم الخاص ثم على الحماية الاقتصادية بهدف إنشاء صناعات وطنية ثم على سيطرة الدولة على الحياة العمومية وإمساكها بناصية العملية التحديثية سوف يقود النمط اللبناني الليبرالي المراهن بالعكس على الالتصاق بالدول الكبرى الغربية والاعتماد على دعمها وحمايتها إلى تعبئة الانتماءات ما قبل الوطنية كأساس لبناء التوازنات السياسية الداخلية التعددية وتوسيع قاعدة وأشكال الانفتاح الثقافي والاقتصادي والاستراتيجي على الغرب والاعتماد عليه في تحقيق الأمن والرخاء والاستقرار. ومن الواضح أن هذه الاختيارات المتباينة للنخب السورية واللبنانية لم تكن ثقافية ولا دينية بقدر ما كانت تعبيرا عن المصالح المتناقضة للطبقة التجارية الصناعية السورية الناشئة التي أرادت خلق سوق محلية مستقلة نسبيا وللطبقة التجارية الكمبرادورية اللبنانية المسيطرة التي كانت تعيش على دور الوساطة التجارية الاقليمية. وقد كانت القطيعة الجمركية في بداية الخمسينات بقرار من خالد العظم رئيس الوزراء السوري بداية لمرحلة جديدة من الطلاق بين التشكيلتين السياسيتين واحيانا المجتمعين. وقد أكدت الأحداث والاختيارات القادمة في البلدين هذه القطيعة وعممتها على جميع الميادين ورسختها. فصار لبنان بلدا معاديا باختياراته الأساسية لسورية في نظر النخبة السورية الحاكمة التي نظرت إليه كما لو كان هونغ كونغ بالنسبة للصين وصارت سورية بلدا معاديا للبنان في نظر النخبة الحاكمة اللبنانية كما لو كان الوباء الشيوعي الأحمر الزاحف على أوربة الليبرالية.
ولا شك أن الهزة الاقليمية السياسية والجيوسياسية التي أحدثتها الثورة الوطنية المصرية بزعامة عبد الناصر وما تبعها من هزات في الساحة العربية في صورة تنامي النزعة العروبية الوحدوية أو القومية العربية قد زعزعت منذ عام 1958 التوازنات الداخلية اللبنانية ووضعت الميثاق الوطني في طريق مسدود. وبدل أن تحني النخبة اللبنانية الليبرالية الحاكمة ظهرها للموجة الجديدة الاستقلالية التحررية أو المعادية للهيمنة الأجنبية في المنطقة بأكملها، والعمل على امتصاص آثارها، اختارت الانكفاء على مواقف أكثر يمينية وتبعية للغرب. وما كان من الممكن الاستمرار في مثل هذه السياسة ورفض إعادة النظر في الاختيارات القديمة للتكيف مع الموجة الصاعدة من دون تعريض لبنان لحرب أهلية. وهو ما حصل بالفعل ليس بسبب ما عناه إصرار الرئيس شمعون القريب من الأحلاف الأجنبية من جهل كبير بالسياسة ولا بسبب تدخل الناصرية أو سورية في لبنان في ذلك الوقت، ولكن بسبب تغير موقف قطاع كبير من الرأي العام اللبناني تحت تأثير أفكار التقدم القومية والاشتراكية مما سيؤدي إلى انهيار التوازنات اللبنانية الداخلية، أي في الواقع بسبب عدم إدراك حقيقة أن الاختيارات اللبنانية التقليدية لم تعد تتماشى مع الحقبة الوطنية العربية الجديدة. وليس هناك شك في أن السوريين والمصريين قد لعبوا دورا في الحرب الأهلية اللبنانية لعام 1958 لكن ليسوا هم الذين فجروها. لقد استغلوا الشرخ الذي أحدثه عجز النخبة السياسية اللبنانية عن استيعاب التحولات الجيواستراتيجية العميقة التي حصلت في المنطقة المحيطة وبالتالي عن العمل لإعادة توحيد الصف الوطني اللبناني على أسس جديدة. وينبغي القول أنه في مواجهة تصاعد المد القومي العربي المعادي للأمبريالية الغربية لم تبد النخبة الحاكمة اللبنانية المرونة الضرورية التي تسمح بتجاوز الاتفاقات السابقة التي عقدت في ظروف استعمارية مختلفة تماما وإعادة بلورة ميثاق وطني جديد او تجديد الميثاق القديم بما يسمح باستيعاب أفضل للقوى الاجتماعية والسياسية الصاعدة مع الموجة الجديدة. وكان من الطبيعي أن لا تترك مصر الناصرية وسورية السائرة في ركابها نفسها معرضة لسقوط لبنان تحت نفوذ الدول الغربية المعادية لها في الوقت الذي كان محور كفاح هاتين الدولتين مقاومة ومناهضة الأحلاف الغربية المفروضة على دول المنطقة والتي تهدف إلى الحد من سيادتها وتقضي على استقلال دولها أو نزوعاتها الاستقلالية. وتدخلهما يمكن أن يفسر باعتباره دفاعا عن النفس في إطار منطق المواجهة الاقليمية الطبيعي لتلك الفترة. فكما كان انتصار الرئيس شمعون في انتزاع ولاية جديدة يعني بالنسبة لحكومتي البلدين تمكين الدول الغربية من إضعاف موقفهما الاستراتيجي كان استغلال الحرب الأهلية اللبنانية يشكل في نظرهما جزءا من المعركة القائمة ضد عودة الهيمنة الاستعمارية على المنطقة بأكملها عن طريق إعادة ربطها بالدول الغربية عبر الأحلاف الأجنبية.
بالتاكيد سوف تظهر هذه الخيارات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية المتباينة للبنان وسورية بشكل أعمق بعد وصول البعث إلى السلطة في دمشق. فلم يبدو لبنان بنظامه الليبرالي وعلاقاته مع الغرب وموضاته الثقافية وقيمه الاستهلاكية تهديدا للاختيارات السورية الاشتراكية والشمولية فحسب ولكنه بدا في هذه الحقبة أكثر من ذلك وكانه ثغرة حقيقية في الدفاعات السورية عن النظام القائم الجديد وساحة جانبية يمكن أن تستغلها المعارضة السورية للحفاظ على نفسها حية وللاستمرار بالرغم من نجاح السلطات البعثية في تدمير قواعدها في سورية. وقد التقت مصالح الحكم السوري البعثي مع مصالح نظم عربية أخرى كانت تسير هي أيضا على طريق تصفية المعارضة الداخلية وبسط الحكم المطلق في البلاد التي تحكمها كما هو الحال في المملكة العربية السعودية. وهنا أيضا جاءت الحرب الأهلية اللبنانية منذ 1975 لتقدم فرصة لا مثيل لها لإغلاق هذه الساحة اللبنانية الجانبية لاستمرار نشاط المعارضة العربية الفكرية والسياسية المحتمل. وقد زاد الرهان على إغلاق هذه الساحة بعد أن أصبح لبنان مسرحا لنشاطات المنظمات الفلسطينية التي تخشى السلطات السورية مع العديد من السلطات العربية الأخرى وفي مقدمها لبنان من أن تكون وسيلة لتوريطها في حرب غير مستعدة لها مع اسرائيل. وما أن استتب الأمر للقوات السورية في لبنان بتفويض عربي لا شك فيه حتى نشأت عن الوضع الجديد رهانات جديدة أهم من الأولى وفي مقدمها استخدام لبنان كساحة صراع ثانوية وجانبية مع اسرائيل تضمن أن لا تخلد المنطقة للسكون والصمت الذي يكرس مكاسب اسرائيل الاقليمية واحتلال الأرض ويجنب في الوقت نفسه سورية الدخول في حرب مكلفة مع اسرائيل وغير مضمونة النتائج أيضا. وقد ضمن التدخل السوري في لبنان منذ 1975 مكاسب للعديد من الدول العربية والقوى الاجتماعية وفي مقدمها بالطبع النظام السوري الذي نجح في الابقاء على حالة من الحرب الخفيفة أو المخففة التي يستمد منها الشرعية الوطنية ويمنع تجميد الأوضاع لصالح اسرائيل. وكان هناك مستفيدون لبنانيون كثر من نخب الطوائف اللبنانية المختلفة بحسب تطور الحرب ومراحلها. لكن الشعب السوري هو وحده الذي لم يحصل منه على أي مكسب كان بل دفع ثمنه غاليا من الناحية السياسية إذ عزز الدخول السوري إلى لبنان النزوعات الفاشية والشمولية في النظام والاستخدام الموسع للعنف في كبح أي معارضة أو احتجاج داخلي. لقد كرس التدخل السوري في لبنان الطابع العسكري للاحتفاظ بالسلطة وألغى كل حياة سياسية سورية تماما.
ومن الواضح أنه في الحالتين، أعني عام 1958 و عام 1975 لم يكن التدخل السوري في لبنان مرتبطا بأي موقف سلبي للنظم السياسية العربية من الدولة أو المجتمع اللبناني بقدر ما يعبر عن الاستجابات الطبيعية للقيادات الناصرية الوطنية في البداية ثم التسلطية الشمولية أو الأبوية في الحرب الثانية في إطار الصراعات الجيوسياسية والدفاع عن مواقعها في معارك كانت تعتبرها مصيرية بالنسبة لنظم الحكم التي سادت في السبعينات والتي كانت تواجه تحديات قوية خارجية وإقليمية وعربية عربية من دون أن تتمتع بأي قاعدة شعبية عريضة تضمن لها الحد الأدنى من الثقة بالنفس والاستقرار. ولا شك أن أحد دوافع التدخل السوري العربي في لبنان كان خوف هذه النظم الضعيفة من جميع النواحي من أن أن يتحول ضعف لبنان الاستراتيجي، وهذا واقع، إلى منفذ للقلاقل والاضطرابات الاقليمية والداخلية ، وأن تضطر هي نفسها إلى دفع ثمن هذا الضعف. ولن يكتشف السوريون إلا متأخرين الفرص الجديدة التي تقدمها لهم السيطرة العسكرية والأمنية على لبنان، أي الحصول، في ما وراء صد النفوذ الاسرائيلي الصاعد فيه، على إمكانية بناء تكتيك هجومي يعوض قليلا عن الاستراتيجية الدفاعية الجامدة والسكونية التي اضطروا إلى الانكفاء عليها بعد حرب 1973 بسبب التفوق الاسرائيلي الاستراتيجي الساحق عليهم.
لم يكن الدافع إذن للسيطرة السورية على لبنان، كما يعتقد ويردد الكثيرون من المراقبين اللبنانيين والغربيين، رفض السوريين كشعب الاعتراف باستقلال لبنان وسيادته ولا نزوع النظام السوري البعثي إلى توحيد سورية ولبنان سواء أكان ذلك من منطلق الايديولوجية القومية العربية أو من منطلق ايديولوجية الهلال الخصيب ولا يعبر عن أي شعور سلبني تجاه لبنان واللبنانيين كما يحلو للكثيرين أن يرددوا. ولم يكن وراء هذه السيطرة ولا يزال ليس وراءها أي تصور استراتيجي أو عقائدي حقيقي ولكنها تخضع فقط لحسابات استراتيجية سياسية واقتصادية محضة معروفة. إن مايريده النظام البعثي السوري من لبنان هو استخدامه كما يستخدم سورية ذاتها كأداة للدفاع عن الوضع القائم لا أكثر ولا أبعد من ذلك وطالما بقي هذا الاستخدام ممكنا. فسياسة سورية الراهنة من لبنان هي سياسة براغماتيكية محضة ونفعية بكل المعايير. وهذه هي نقطة ضعفها الرئيسية أيضا.
لقد تصرفت سوريا في لبنان كما كان من الممكن لأي دولة أن تتصرف مع دولة مجاورة ضعيفة لا تربطها بها لا وشائج قربى إنسانية ولا قومية ولا جغرافية. وأي دولة أخرى غير سورية كانت في ظروف مشابهة ستسعى إلى استغلال الفرصة السانحة لتحقيق مثل هذه الأهداف التكتيكية. وعلى جميع الاحوال لم يكن هناك أي دور ولا علاقة للمثقفين السوريين لا من قريب ولا من بعيد في خلق هذا الوضع في لبنان. إن ما حصل يعكس هشاشة الاختيارات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية الضيقة الأفق والمحدودة للنخبة السياسية اللبنانية. فلم يكن هناك أي أمل للبنان في الاحتفاظ بالأمن والسلام والرخاء من خلال إدارة ظهره للداخل العربي والاستمرار في سياسة دفن الرأس في التراب مهما كانت الذرائع الدينية أو الطوائفية في منطقة تهزها بعنف زوابع الانقلابات الاجتماعية العنيفة والحروب الخارجية المدمرة. لقد تأخرت النخبة المسيطرة اللبنانية كثيرا قبل أن تدرك دروس حرب 1967 وأكثر من ذلك حرب 1973 وفي ما بعد الحروب الفلسطينية الاسرائيلية التي سيجري جزء كبير منها على أرض لبنان. ولن يعود الاستقرار إلى هذا البلد إلا بموازاة استيعابه لهذه الحقائق ومشاركته ولو بوسائل وأساليب مختلفة أهلية في الحرب العربية الاسرائيلية. وهو اليوم أكثر استقرارا من العديد من الدول العربية الأخرى. لم يختر المثقفون السوريون ولا السوريون هذا الوضع للبنان كما لم يختاروا أيضا الوضع الذي يسود في سورية. بل إن من الممكن القول إن استمرار هذه الأوضاع العربية جميعا هو ثمرة لما وسم تفكيرنا وعملنا جميعا في لبنان والبلاد العربية الأخرى من عجز عن استيعاب حقائق التاريخ والجغرافية السياسية للتحكم ولو بجزء من تقرير مصيرنا والسيطرة النسبية على واقعنا. لقد كنا جميعا ضحايا اختيارات لم نتعمق كثيرا في دراستها أو دفعنا إليها أو فرضت علينا. والمطلوب من الجميع إذا أردنا الخروج مما نحن فيه من عجز وتخبط العودة إلى التفكير في هذه الخيارات الاستراتيجية والسياسية والثقافية أيضا ومعرفة في ما إذا كان هناك مجال لبلورة خيارات أفضل وأكثر معقولية وايجابية.
هناك ديمقراطية لبنانية. فيها الكثير من النواقص والعيوب لكنها ضمنت مستوى معقولا من الحريات العامة. لماذا كان تأثيرها الإيجابي محدودا في العالم العربي؟ ما هي العلاقة بين الحرب اللبنانية والديمقراطية اللبنانية؟

برهان غليون:

هنا أيضا هناك وهم كبير عند السوريين واللبنانيين معا حول ما نسميه الديمقراطية اللبنانية. هناك بالتاكيد تعددية سياسية في لبنان لكن هذه التعددية خاضعة لنظام الطوائف الذي يشكل ضمانة وجودها وليس لها وظيفة إلا إعادة توزيع حصص السلطة ومناصبها على نخب الطوائف المختلفة وتكريس هذه النخب في الوقت نفسه. فهي ثمرة وجود فعلي لمراكز قوة قائمة هي الطوائف ووسيلة أيضا للتسوية بين مصالح زعامات هذه الطوائف وإعادة إنتاج هذه الزعامات في الوقت نفسه. فالديمقراطية هي إطار تفاهم الطوائف او العصبيات المتناحرة وعجز واحدتها عن القضاء على الأخرى. والدولة ليست المجال الذي تتآلف فيه مجموعة من المواطنين المتساوين ولكن المنطقة المحايدة التي يمكن لجميع العصبيات المتحاربة أن تعبرها وتعيش فيها طالما لم يكن هناك حرب أو تهديد بالحرب من قبل واحدة او أكثر منها. فالدولة تابعة للطوائف لا فوقها وآلة في يدها لا مبدأ محركا لأفرادها. ولذلك فإن الدولة تنهار وتنحل منذ اللحظة التي ينهار فيها التفاهم الطائفي ولا يبق منها سوى الحرب الأهلية. وليست الحرب الأهلية الدورية إلا التعبير عن منطق ميزان القوة الذي يضمن في كل مرة صيغة توزيع الموارد على نخب العصبيات المتناحرة. وهو ميزان قوة يتغير ويمكن أن يتغير في أي لحظة تتغير فيها الظروف الاقليمية أو التوازنات الاجتماعية الداخلية أيضا.
وتختلف الديمقراطية التي تعكس التحييد المتبادل للسيطرة الطائفية المنفردة وتضمن بالتالي الحد الأدنى من حرية الحركة للأفراد الذين يستفيدون من فرص السلام المؤقت عن الديمقراطية كما تفرضها الصيغة الجمهورية الكلاسيكية القائمة على أساس المساواة بين الأفراد المواطنين في الحقوق والواجبات وحرية التنافس الكامل على السلطة والمناصب بينهم لاحتلال مناصب المسؤولية العمومية. فبالرغم من وجود مساحات لا شك فيها لحرية الرأي والتنافس على السلطة في الصيغة التآلفية الطائفية اللبنانية إلا أن هناك جمودا كبيرا في عملية تداول النخب سواء منها الوطنية أو الطائفية. فالنظام اللبناني قائم على إعادة انتاج الزعامات الطائفية نفسها كزعامات سياسية. ولا يمكن كسر احتكار الزعامات التقليدية أو المكرسة للمواقع إلا عبر حروب مستمرة داخل كل طائفة على حدة وبين الطوائف على تعديل صيغة الدولة أو الحكم أو النظام الانتخابي. ومن الدولة إلى الأحزاب إلى الإدارة يقوم النظام على توريث الآباء الآبناء مناصب المسؤولية مهما كان نوعها. ولذلك تعود الأسماء ذاتها في كل عهد في قيادات الدولة والبرلمان والاحزاب والهيئات الأهلية أيضا ولا تتغير قائمة هذه الأسماء قليلا إلا بعد الحروب الطاحنة التي تقضي على قمة الزعامات المحلية أو القبلية وبقدر ما تحقق ذلك. والتعددية اللبنانية هي الناتج الجانبي او الثانوي لنظام التوزيع الزبائني للحصص على زعامات الطوائف، والذي يشكل أساس التفاهم الطائفي بقدر ما يمكن أن يشكل عند الاعتراض عليه من قبل هذه الطائفة او تلك أساس الحرب الطائفية. وما يحدد طبيعة أي نظام توزيع زيائني متغير ومتبدل بالضروة هو ميزان القوة الناشيء عن آخر حرب حصلت داخل العصبية المحلية أو بين العصبيات المتناحرة. وبشكل عام يمكن القول إن الديمقراطية السياسية اللبنانية هي الإطار الضروري لضمان التوزيع المناسب أو الموافق لموازين القوة الطوائفية التي تضمن وحدها استمرار الدولة والنظام. وكما أن العصبيات الطائفية تؤسس للدولة الزبائنية فإن المطلوب من التوزيع الزبائني للسلطة والثروة هو ضمان إعادة إنتاج العصبيات الطائفية وتكريسها شرطا للدولة ومرجعية لها معا. فلا يهدف التوزيع الزبائني الطائفي للحصص على الأفراد داخل العصبية ذاتها إلا إلى إنتاج العصبية القبلية عند كل فرد ومنع نشوء المواطنية. فهي تضمن أن يظل مصير الفرد مرتبطا بمصير طائفته كما يمنع الدولة من أن تتحرر بفضل تحرر الأفراد من عصبياتهم من هيمنة السلطة الطوائفية التعددية.
لقد نشأ هذا النظام الديمقراطي الزبائني في سياق تاريخ طويل من الصراع الطائفي الذي عرفه لبنان والتوازنات التي أسسها والثقافة التي طبعت الطوائف اللبنانية في الحرب والسلم معا. ومن الصعب تعميم مثل هذا النموذج الخاص جدا والتأثر به, ومن الصعب أكثر النظر إليه كمثال أعلى يحتذى. يمكن لقسم كبير من الرأي العام العربي أن يعجب بما يبدو من بعيد كبلد الحريات الفكرية وهو كذلك بالفعل, لكن لا أحد ينسى الثمن المرتفع لمثل هذه الديمقراطية الزبائنية الهشة والمحدودة التي تجعل من لبنان في الوقت نفسه بلد العصبيات الأكثر استعصاءا على الحل والتغيير والحداثة الأكثر استغراقا في ثقافة الاستهلاك الرمزي والتنمير. ولا يقف الثمن المرتفع لهذه الديمقراطية على الحروب الأهلية والتصفيات العشائرية المتكررة ولكنه يتجاوز ذلك إلى المعاناة الانسانية والمعنوية نفسها في مجتمع يتردد من دون وسيط بين أقصى قطبي الحداثة والتقليد.
ربما زاد إغراء النموذج اللبناني اليوم بالنسبة للسوريين بعد ما فقدوا الأمل بالنموذج الذي عرفوه والقائم على التعبئة الوطنية المبالغ فيها وعلى إنكار كل التمايزات أو الهويات والعصبيات الجزئية من قبل دولة هي مركز التنظيم الحقيقي للإرادة الجمعية. فبدل أن يحقق النظام الجمهوري الانصهاري المساواة المنتطرة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وينشيء إطارا ثابتا لنمو المواطنية الفردية على حساب العصبيات الطائفية حول الدولة إلى غول ابتلع كل العصبيات والقوى الوسيطة الاجتماعية من دون أن يفتح ثغرة مهما كانت صغيرة لنمو المواطنية والفردية فصار نظام الطحن الشامل للانسان خارج أي مفهوم حديث للأمن الشخصي والحرية والمساواة والحق والقانون

لبنان الثقافي: هل ما زال لدى لبنان ما يقوله ثقافيا للعالم العربي؟ هل يحتاج دور لبنان هذا إلى تصور جديد بما أنه لم يعد يحتكر الاتصال بالغرب؟

نعم، وسيظل كذلك وهذه نقطة قوته والحرية الفكرية هي الوجه الوحيد المضيء في نظامه السياسي والاجتماعي. وفي اعتقادي أن ما يقوله لبنان ثقافيا يتجاوز التعبير عن احتكار الاتصال بالغرب. في لبنان إبداع ثقافي وفني حقيقي يجعل من البلد الصغير مركزا من مراكز الثقافة العربية الحديثة الأساسية. إنه أحد مصانع الثقافة الكبرى في العالم العربي. وهذا الموقع الثقافي لم يدركه لبنان بالصدفة والعرض ولكنه ثمرة تاريخ طويل أيضا من الارتباط بالثقافة الحديثة والتعامل معها وليس هناك في نظري أي بلد عربي آخر يمكن أن يحتل محل لبنان في هذا المجال أو يفعل مثله. في سورية مبدعين كبار من دون شك لكن لا يوجد فيها ثقافة. لا يوجد فيها إلا الحرب.
بصرف النظر عن أي تقصير محتمل من المثقفين اللبنانيين حيال سورية، هل هناك تقصير من المثقفين الديمقراطيين السوريين حيال لبنان كما يصر عدد من المثقفين اللبنانيين(لم نهتم بالدفاع عن السيادة اللبنانية واستقلالية القرار اللبناني ...)؟ ما مصدر فكرة التقصير؟ هل هذا منظور صحيح لرؤية موقف المثقفين الديمقراطيين السوريين من المسالة اللبنانية؟ هل هو منظور مناسب؟

- برهان غليون:


يعتقد لبنانيون كثيرون أن لبنان دفع ثمن صراعات الآخرين على أرضه، وأنه انحكم بالصراع العربي الإسرائيلي، وأنه نظر إليه دائما من منظور عروبي أو فلسطيني أو حتى إسلامي. لماذا لا يمكن التفكير بلبنان خارج هذه الأحداثيات؟
كيف تنظرون إلى تطور العلاقات اللبنانية السورية في إطار التغيرات الإقليمية المتوقعة؟ هل سنشهد تغيرا للدور السوري في لبنان؟ كيف ستؤثر التغيرات العراقية والإسرائيلية الفلسطينية على العلاقة السورية اللبنانية؟
كمثقفين ديمقراطيين سوريين، ماذا نتوقع من زملائنا اللبنانيين؟ ماذا نطلب منهم؟

Aucun commentaire: