
رسالة النقد الاجتماعي تحليلات ودراسات في المجتمع والسياسة في العالم العربي والشرق الأوسط Burhan Ghalioun is presently a Professor of Political Sociology at the Universite La Sorbonne Nouvelle. He is the author of several authoritative books as well as over a hundred academic articles in various journals on political Islam, Arab political culture and state and society relations in the Arab World. https://www.facebook.com/BurhanGhalion
lundi, novembre 16, 2009
سقوط جدار برلين من منظور عربي
في التاسع من تشرين الأول/نوفمبر احتفل العالم الغربي بأكمله بسقوط جدار برلين قبل عشرين عاما بوصفه مؤسسا لحقبة ما بعد الحرب الباردة التي شهدت توحيد القارة الاوروبية ودمج دولها جميعا، بما في ذلك تلك الخارجة من الحقبة السوفييتية، في نظام واحد، أعني في الاتحاد الاوروبي الذي أصبح ينافس اليوم بقوته الاقتصادية العملاق الأمريكي. وكان النظام الشيوعي الألماني قد أشاد الجدار الشهير في 13 اغسطس / آب 1961 لمنع هرب الألمان الناقمين على السلطة الشمولية نحو الغرب، ولتكريس الحدود الجيوسياسية التي نجمت عن اتفاقيات مالطا التي قسمت مناطق النفوذ بعد الحرب العالمية الثانية بين المعسكرين العظميين الخارجين من حرب طاحنة ضد ألمانيا النازية.
وفي جميع المناقشات التي قدر لي متابعتها بهذه المناسبة في التلفزيونات الأوروبية، تركزت الأضواء في شرح مغزى سقوط الجدار على الجانب السياسي، أي على انهيار الشيوعية، فتعاملت وسائل الإعلام الغربية مع الذكرى على أنها عيد الحرية، ليس في أوروبة فحسب ولكن في العالم أجمع. ونظر إلى هدم الجدار وكأنه رمزا لتحرير للشعوب من نير الشيوعية، وغيبت إلى حد كبير مسألة الحرب الباردة التي لم تكن مسؤولية المعسكر الغربي في استمرارها لما يقارب نصف قرن أقل من مسؤولية المعسكر الشيوعي. وحتى عندما تثار مسألة الحرب الباردة التي وضع سقوط الجدار حدا لها، تبرز نزعة قوية عند المحللين الغربيين، وعند الكثير من العرب أيضا للأسف، إلى تعميم نتائج هذا السقوط في أوروبة على العالم أجمع، كما لو أن نهاية الحرب الباردة في أوروبة والغرب عموما قد أنهى الحروب في كل مكان، أو كما لو أن مثال إعادة توحيد هذه القارة يمكن سحبه على جميع البلدان والقارات المقسمة أو المنقسمة على نفسها.
ويسعى البعض إلى استغلال هذه المناسبة لعقد مقارنة بين إرادة التحرر التي مكنت الشعوب الأوروبية من الانتصار على الأسوار وتهديم الجدران والانعتاق من أسر الشيوعية، وعجز الشعوب العربية عن التغيير أو ضعف إرادة التحرر عند أعضائها. كما لو كان المقصود تبرئة الدول الكبرى من نصيبها من المسؤولية عما يحصل في المشرق العربي وتحميل الشعوب، بسبب ثقافتها أو دينها أو تفكك بنياتها، المسؤولية الرئيسية في جمود الأوضاع وغياب فرص التغيير وانعدام الحرية وسيطرة النزاعات المذهبية والعرقية. والحقيقة أن الشعب الألماني، مثله مثل شعوب أوروبة الشرقية الأخرى، لم ينجح في تهديم الأسوار المادية التي كان يمثلها جدار برلين إلا لأن الأسوار المعنوية، أي الكامنة في الأفكار والمعاني، كانت قد سقطت قبل ذلك في الاتحاد السوفييتي نفسه، بعد انكشاف عطالة النظام وعدم نجاعته، على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية والعلمية. لقد سقطت الشيوعية ونظمها في المنافسة الاقتصادية والتقنية والعسكرية كما مثلتها استراتيجية حرب النجوم قبل أن تسقط في الواقع المادي. وهذا هو الذي سمح لمقاومة الشعوب الأوروبية أن تثمر بعد أن بقيت لعهد طويل عقيمة أو عاجزة عن الانجاز في بولونيا وتشيكوسلوفاكيا والمجر وغيرها في الستينات والسبعينات.
وقد سارت الأمور على عكس ذلك في العالم العربي. فسقوط جدار برلين الذي أعلن نهاية الحرب الباردة في أوروبة والغرب قد فتح حقبة من الحرب الساخنة والباردة في المشرق العربي قوامها تعبئة الرأي العام الغربي والديمقراطي ضد العالم الاسلامي وتشويه صورته ومعتقداته، باسم الحرب العالمية على الارهاب، والخلط غير الأخلاقي بين الاسلام والتطرف والعنف وكره الآخر والعداء للغرب. وسقوط جدار برلين الذي أطلق موجة تحررية جديدة في أوروبة التي كانت لا تزال خاضعة لحكم النظم الشمولية، عزز بالعكس نظم الشرق الأوسط المطلقة وفي مقدمها نظام التفرقة العنصرية في إسرائيل، وأعطى دفعة قوية لإرادة السيطرة والتسلط والاستيطان اليهودي في فلسطين. وهكذا وجدنا جدار التمييز والتفرقة والقطيعة والإقصاء ينتقل من برلين إلى الضفة الغربية وغزة، كما وجدنا الحرب الأمريكية الأطلسية تزرع العنف والفوضى في العراق وتزعزع استقرار شعوب المنطقة وتهز توازناتها الأقليمية. وفي موازاة ذلك وتكملة له، جاءت حروب اسرائيل المتكررة التي هدفت إلى نشر الرعب ولدمار في فلسطين ولبنان وعموم المنطقة.
وسبب ذلك أن نهاية الحرب الباردة التي أعلنت تفكك المعسكر السوفييتي واندثاره قد فتحت شهية الدولة العظمى الوحيدة التي بقيت على وجه المعمورة، وأوحت لها بأن لها رسالة كونية تدعوها إلى عدم الخوف من إعلان قيادتها العالمية والسعي بجميع الوسائل لبسط سيطرتها ونفوذها في العالم والانفراد في كتابة أجندة السياسة الدولية. وهكذا وجد أصحاب نظرية صراع الحضارات والمحافظون الجدد طريقهم بسرعة إلى قلوب الأمريكيين مرورا بالبيت الأبيض نفسه. وكان من الطبيعي أن يكون الشرق الأوسط هو مسرح الحروب الجديدة، الساخنة والباردة معا، وأن تدخل إسرائيل شريكا استراتيجيا في الصراع ضد العرب مع التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة.
في هذه الحروب،حل الاسلام محل المعسكر السوفييتي، ووضعت الديمقراطية وعقيدة الحرية التي يدعيها المعسكر الغربي في مواجهة ما سمي تعصب المسلمين وتطرف الاسلام واستبداده. وعلى هامش هذه المواجهة ستنشأ وتترعرع الجهاديات الاسلامية والغربية معا، ويدخل الشرق الأوسط، والعالم العربي بشكل خاص، في دوامة عنف لم يخرج منها بعد، ولن يخرج منها بسهولة، جعلت من مجتمعاته استثناءا بين المجتمعات وأفقدت ثقة رأيه العام بنفسه ورسخت الاعتقاد بتخلفها وعجزها وبعدها عن المدنية والحضارة.
dimanche, novembre 08, 2009
لثورة في عصر الردة!
الاتحاد 8 نوفمبر 09
mardi, octobre 27, 2009
تحية تقدير لمحمد السيد سعيد في أربعينه
الاتحاد 21 اكتوبر 09
اكتشفت محمد السيد سعيد من خلال مداخلاته ومقالاته الصحفية قبل أن تجمعنا صداقة الفكر والممارسة والعمل السياسي والانساني. وكان محمد السيد في نظري باحثا لامعا تميز بنزاهة علمية نادرة وبسداد رأي استثنائي. فهو أحد ألمع المفكرين العرب المعاصرين وأبرز مثقفي جيله وأكثرهم نشاطا وإخلاصا وصدقية
ففي مجتمعات عربية ضلت أو تشعر غالبية أبنائها أنها ضلت طريق التقدم الذي كانت تحلم به قليل من المثقفين أو أصحاب الرأي لم يتعرض للاحباط واليأس. وبينما اختار القسم الأكبر من هؤلاء الانحناء للأمر الواقع، ومسايرة الوضع متخلين عن أحلامهم التغييرية، القومية أو الاشتراكية أو الديمقراطية، وانقلب قسم آخر على مواقفه السابقة أو تنكر لها باسم الواقعية أو التحولات التاريخية أو الانفتاح على العالم، ورضي قسم آخر بالانسحاب والانكفاء على النفس، بقيت أقلية من المثقفين، ومنها محمد السيد سعيد مصرة على الاختيارات التي ألهمت الحركات الاجتماعية والوطنية في البلاد العربية منذ بداية النهضة العربية أو ما نطلق عليه اسم النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعني الايمان بإمكانية تحويل العالم العربي والارتقاء به إلى مصاف المجتمعات الحديثة وتجديد بنياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية.
وبعكس المثقفين الآخرين الذين تخلوا بشكل أو آخر وعلى طريقتهم الخاصة عن أحلام التغيير ومشاريعه، أو أولئك الذين احتفظوا بعكس الأوائل، بأفكارهم ومواقفهم كما هي ورفضوا الاعتراف بالأمر الواقع، طرح هذا الموقف منذ البداية ولا يزال، أعني موقف التمسك بمشروع التغيير والتجديد والتحديث، تحديا نطريا وعمليا كبيرا، صرف محمد السيد سعيد، كما فعلت القلة القليلة التي سلكت الطريق نفسه في مصر وغيرها من البلاد العربية، كل وقتهم لمواجهته والرد عليه. فبينما لا تستدعي مسايرة الأمر الواقع القائم سوى تشغيل ملكة التكيف البسيط، التي تبررها الواقعية والابتعاد عن الأحلام التي لا يمكن تحقيقها، ولا يطرح الحفاظ على المواقف التقليدية أي تساؤل جديد، يتطلب الحفاظ على حلم التغيير، في سياق الانكفاء والردة وانحسار الآمال، جهدا استثنيائيا وهذا ما نسميه بالتكيف أو التكييف الإبداع بين الحلم والواقع، وما يترتب عليه من مراجعة مزدوجة يتعلق جزء منها بإعادة تقويم الحلم نفسه ومراجعة فكرته والجزء الآخر بإعادة تحليل الواقع نفسه والتمعن في ما تبدل فيه وجعل الأفكار والشعارات المطروحة في مرحلة ما مقطوعة عنه أو بعيدة المنال.
باختصار، كيف يمكن الاستمرار في معركة التغيير العربي، الاجتماعية والسياسية والثقافية، في واقع الهزيمة وتراجع المجتمعات نفسها عن أحلامها القديمة وسيطرة الأفكار المحافظة ونزعة الارتداد عن مشروع الحداثة وعليها سعيا وراء هوية ثابتة أو أصالية؟ وبمعنى آخر كيف يمكن الحفاظ على حلم التغيير وقيمه وإبقاء شعلة التحرر الانساني قائمة في مواجهة موجة اليأس الكاسحة التي لا تعني شيئا آخر في نهاية التحليل سوى التسليم للأمر الواقع والاستسلام؟ الرد على هذا التحدي هو الذي شكل محرك تفكير محمد السيد ومحتوى نضالاته العملية وغايته في آن. وهو الذي لا يزال يشكل محور تفكير وعمل الكثير من المثقفين الآخرين الذين رفضوا القبول بالهزيمة، أي التسليم بالأمر الواقع والتعامل مع إجهاض مشروع الحداثة العربية كما لو كان أمرا محتما ونهائيا.
وفي سياق هذا الرد انصبت جهود هؤلاء، وفي مقدمهم السيد سعيد على محورين:
الأول إعادة البناء النظري لمشروع التغيير نفسه،وترشيده، أي إخضاعه للنقد التاريخي والعقلي وإبراز ما كان جوهريا فيه يرتبط بحاجات اندراج المجتمعات في عصرها وتاريخ حضارتها، وما كان ثانويا أي ثمرة الظرف الخاص الذي ولد فيه ولم يعد موجودا ولا راهنا ولا مهما. وليس مثل هذا العمل بالأمر البسيط والواضح. ذلك إن التقدم فيه يستدعي مقدرة على أخذ مسافة عن أفكارنا المسبقة وعن العقائديات والتصورات السابقة التي درجنا على تبريرها والدفاع عنها إن لم على تقديسها خلال حقبة طويلة. وهذا ما يصعب تحقيقه من مقدرة موازية على الارتفاع عن النماذج المجردة وإعادة النظر إليها على ضوء القيم والمقاصد العليا التي يبرر الحفاظ عليها وحده عملية التضحية بها والتجرؤ على تبديلها هكذا لم يكن من الممكن، على سبيل المثال، مراجعة فكرة القومية التي ارتبطت بالوحدة والقوة والاستقلال من دون إبراز فكرة الشعب والأمة وحقوقها السياسية والمدنية، أي من دون الاسترشاد بالمواطنية كقيمة سياسية وأخلاقية وطنية معا. وما كان من الممكن التخلي عن النماذج السوفييتية وشبه السوفييتيه التي ارتبطت بالاشتراكية من دون العودة إلى قيم العدالة الاجتماعية والمساواة السياسية والأخلاقية وأخلاقيات الحرية التي تأسست عليها سياسة الأمم الحديثة. وبالمثل ما كان من الممكن مراجعة الفكرة العربية كما تبلورت في الخمسينات وأشكال تجسيدها وسبل العمل لتحقيقها كما خطت على يد أصحاب الدعوة القومية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين وقادت إلى إخفاقات وخيبات أمل كفرت قطاعات واسعة من الرأي العام العربي ، أقول ما كان من الممكن ذلك من دون إعادة بناء فكرة العروبة بارتباطها بالقيم العصرية الجديدة التي حولتها إلى محور لاستراتيجية تقارب وتقريب بين الأقطار العربية وتأسيس لجغرافية سياسية تفتح آفاق التنمية الاقتصادية وترسخ أسس الاستقرار والسلام في المنطقة، وبين الشعوب العربية
والثاني، تجديد أسس الممارسة وأساليب العمل وأهدافه المرحلية. وكما كان الرجوع إلى قيم التغيير وغاياته، مما لا يتوفر إلا لأصحاب المباديء طريقا لأعادة النظر في التصورات والصيغ والنماذج الجاهزة الموروثة للتغيير، كان الرجوع إلى معيار النجاعة والفاعلية والتواصل مع الكتلة الاجتماعية المستهدفة في أي مشروع تغيير منطلقا لتجديد أساليب العمل وإبداع مقاربات استراتيجية جديدة لضمان استمرار حركة التغيير وتقدمها. وهذا ما أدى بنا إلى اكتشاف العمل على صعيد المجتمع المدني وتطوير وسائل التواصل المختلفة مع جمهور يشكل عزله وتهميشه وإسكاته الشرط الأول لأعادة إنتاج النظم الاجتماعية والسياسية القائمة.
في هذا النقد المزدوج النظري والعملي للوضع القائم، كان محمد السيد من دون أدنى شك رائدا. وقد كانت مجلة البديل التتويج الأخير لفكره وعمله. ولا تشير البديل هنا إلى نظام آخر غير النظام الاجتماعي القائم فحسب ولكن إلى بديل آخر للعمل النقدي أو للنقد العملي وللمعارضة بالمعنى الجديد أيضا.
فمن باب الوفاء لفكرة العدالة والمساواة أعاد محمد السيد سعيد النظر في أنماط التفكير الاشتراكي واليساري عموما، وربطها بالديمقرطاية وبالمجتمع المدني، حتى جعل من هذه الأبعاد الأخيرة محور عمله ونشاطه، السياسي والمدني. ومن باب الوفاء لقيم الحداثة والتنمية والاستقلال الوطني والسيادة القومية أعاد النظر أيضا في الفكرة القومية العربية الناصرية وغير الناصرية، ولم يوفر فرصة لتأكيد خيار التقارب والتكامل والاندماج بين البلاد العربية وبعكس الكثير من المثقفين وأصحاب الرأي الذين دفعهم اكتشاف الديمقراطية إلى الانخراط في ما ينبغي تسميته نزعة العداء للهوية والافتتان بالنزعة الليبرالية الاستعمارية أو شبه الاستعمارية، دافع محمد السيد بكل قوة واقتناع عن الارتباط الذي لا ينفصم بين قيم الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. وبعكس الكثير من المثقفين الذين مرت عليهم خدعة مشاريع الدمقرطة التي أطلقتها إدارة الرئيس بوش الأمريكية، وأيدتها الدول الأوروبية، بقي ايمان محمد السيد لا يتزعزع في استقلالية حركة التغيير العربية، وفي الارتباط الذي لا ينفصم بين مطلب الديمقراطية ومطلب السيادة الوطنية.
كان من الطبيعي والحالة هذه أن يتخطى محمد السيد خطوط الفصل القاطعة التي اصطنعها مثقفونا وأحزابنا في مجتمعاتنا السياسية، تلك التي تكرس إعادة إنتاج الوضع القائم أيضا، بتكريسها القطيعة والعداء بين القوميين والقطريين، والعلمانيين والاسلاميين، والليبراليين والاشتراكيين، وأن يبني لنفسه موقعا في ما وراء ذلك، يتجاوز هذه المواقف ويجمع بينها معا، معياره التغيير والنجاعة والفعل، وأن يطمح من خلال ذلك إلى تحرير آجيال الشباب من رواسب صراعات الماضي الميت ونقاشاته المكبلة، ويسعى إلى تعبئتهم وشدهم إلى معركة التغيير وتجديد مجتمعاتهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية. بهذا المعنى كان محمد السيد، كما ذكر هو عن نفسه، يساريا بين الليبراليين وليبراليا بين اليساريين، قوميا بين القطريين ومصريا بين القوميين، أي صلة الوصل بينهم أيضا. وجوهر هذه الصلة هو ابتداع خطة عملية لدفع عملية التغيير، بمعناه العميق، أي تغيير الواقع نفسه لا فكرته.
وهذا التغيير هو الذي جعل محمد السيد يكتشف أيضا الحركة المدنية وينخرط فيها كما لم يفعل أي واحد منا. لقد كان السيد مفكرا عمليا وثوريا بالمعنى الحقيقي للكلمة، لم يترك فرصة للتأثير في الواقع، نظرية كانت أم عملية، لم يستغلها ويستثمرها. وكان لهذا السبب أيضا حاضرا في كل المناسبات النضالية، واثقا من عمله متفائل العقل، بالرغم من صعوبات العمل وتحديات الواقع الكبيرة جميعها.
ولأنه وهب نفسه لمشروع تغيير الواقع العربي لم يترك ميدانا للعمل لم ينخرط فيه، من المقالة إلى السياسة إلى المقاومة والمظاهرة والاضراب. لكن إخلاصه لمبادئه وذكائه الاستثنائي الذي جنبه خداع الذات وتغذية الأوهام التي غالبا ما يقع فيها الناشطون العموميون، السياسيون والمدنيون، عن أنفسهم وعن الآخرين وعن الواقع الاجتماعي أيضا جعلت منه رجل بصيرة استثنائي. فكان بامتياز رجل علم من دون ادعاء التجرد عن الايديولوجية والاختيارات السياسية والفكرية، ورجل سياسة من دون أي تطلع لمواقع السلطة. لقد كان رجل قيادة فكرية بالمعنى الحقيقي للكلمة، مثقف الكلمة الحرة والفكرة الثورية والمنهج الحواري والعقلاني الهاديء والوفي في الوقت نفسه. رجل التضحية والشجاعة والتواضع ونكران الذات والمسؤولية
dimanche, octobre 25, 2009
فشل المصالحة إمعان في الانهيار
الاتحاد 25 اكتوبر2009
د. برهان غليون
لم يكن هناك شك عند أي مراقب للوضع الفلسطيني في أن تأجيل نقاش تقرير جولدستون سوف يعرض المصالحة الفلسطينية لامتحان خطير. وجاء خطابا كل من خالد مشعل ومحمود عباس في 11 نوفمبر الجاري، وما تلاهما من تصريحات لمسؤولي “فتح” و”حماس”، ليؤكدا ذلك وليضعا نهاية مأساوية لمحاولات رأب الصدع التي قامت بها شخصيات وقوى محلية ودولية عديدة للخروج من الأزمة الفلسطينية، وبهدف إيجاد شروط أفضل لإطلاق مفاوضات التسوية مع إسرائيل. فرغم إعلان عباس تمسكه بالمصالحة الوطنية وتأكيده على رفض تأجيل موعد التوقيع عليها، كما حددته الخارجية المصرية في 26 من الشهر الجاري، فإنه لم يوفر فرصة لمهاجمة “حماس” واتهامها بأشنع الأفعال، بما في ذلك العمل لصالح إسرائيل، كما لم ينس التذكير بـ “الانقلاب الظلامي” الذي قامت به في القطاع، ووصفها بالقول إنها قوة متمردة على الشرعية الفلسطينية.
ولم يكن خطاب مشعل أقل اتهامية وعنفاً من خطاب عباس، إن لم يكن أشد منه؛ فقد حمل على ما سماه “الفريق المسيطر على السلطة الفلسطينية”، متهماً إياه بالعمل لخدمة إسرائيل والتفاهم معها، في قطيعة مع تاريخ “فتح” ومع إرادة الشعب الفلسطيني ومصالحه الوطنية. واشترط مشعل لتوقيع المصالحة الوطنية محاسبة القيادة الفلسطينية الراهنة ووضع مرجعية وطنية تحول دون ارتكاب أخطاء جديدة في المستقبل وتحافظ على الثوابت الفلسطينية. ولم ينس أيضاًِ أن يذكر بموقف “حماس” القائل بأن المقاومة خيار استراتيجي بالنسبة لها، وأنها لن تفرط في الثوابت الفلسطينية كالقدس وحق العودة ورفض الاستيطان.
كان واضحاً من الخطابين أن أياً من الرجلين لم يكن مهتماً أو حريصاً على الاحتفاظ بخط الرجعة أو ترك الباب مفتوحاً للمصالحة. بل ظهر بوضوح تام، من خلال الخطابين، أن المصالحة لم تكن بالفعل مسألة مركزية في تفكيرهما وسياستهما معاً، وأنها ليست نابعة من اقتناع عميق بأهميتها بالنسبة لمواجهة الوضع الذي تمر به القضية الفلسطينية حالياً. لقد كانت ولا تزال تكتيكاً اتخذه الطرفان لتحقيق أهداف جزئية وظرفية، وبشكل خاص إرضاءً للأطراف العربية التي تخشى أن يؤدي الانقسام الفلسطيني إلى انكشاف خطير للموقف العربي بأكمله، وتوريطها هي أيضاً في أزمة تجاه رأيها العام.
وليس التأكيد المشترك من قبل عباس ومشعل على أنه لا حل للأزمة ولا مصالحة في النهاية إلا من خلال انتخابات شعبية تسمح للفلسطينيين بحسم الموقف، وتزيل الانقسام القائم، وتلغي الحاجة إلى تسوية بين مواقف فلسطينية لا يمكن التوفيق بينها… أقول ليس هذا التأكيد من قبل الطرفين على أولوية الانتخابات إلا دليل على غياب التفاهم وانعدام وجود أي تسوية سياسية فعلية، قبل قضية التقرير ومأساته.
من هنا يمكن القول إن كلا الطرفين وجدا في تأجيل مناقشة تقرير جولدستون فرصة للتراجع عن “التزاماته” السابقة بخصوص المصالحة، والعودة إلى مواقفه الأساسية.
فبدل أن يعترف عباس بالخطأ الذي وقع نتيجة قرار خاطئ اتخذه على الشعب الفلسطيني وقضيته، فضل التعبير عن غضبه من الجدل الصاخب حول ذلك القرار، مذكراً من جديد -لتبرير قراره- بتوافق مختلف المجموعات في مجلس حقوق الإنسان (العربية والإسلامية والأفريقية وعدم الانحياز) حول سحب التقرير. وكان بإمكانه أن يعترف بالخطأ ويعلن تحمله المسؤولية.
وبالمثل، ليس مقنعاً ما ذكره مشعل لتبرير التراجع عن المصالحة، ومن ورائها كما ظهر في الخطاب، التشكيك في إمكانية أي مصالحة مع فريق عباس. فلا يعني السير في المصالحة، كما قال، الموافقة على قرار عباس أو إضفاء الشرعية على الأخطاء التي تقوم بها سلطته. فالجمهور الفلسطيني والعربي يعرف موقف “حماس” كما يعرف موقف السلطة الفلسطينية، ولن يخلط بين الأمرين. بل يمكن لـ “حماس” أن تربح نفوذاً سياسياً أكبر لو أبدت حرصاً أكثر على المصالحة والوحدة في هذا الظرف الصعب. فالمفترض أن “حماس” لا تقوم بالمصالحة مع عباس أو الفريق الذي تتهمه بالوقوف مع القرار، وإنما تعمل من خلال المصالحة على تجاوز الصدع الفلسطيني الذي مس الأرض والمؤسسات والقوى الفلسطينية، أي الذي قسم الفلسطينيين وسمح لإسرائيل باللعب على تناقضاتهم ومحاولة تعبئة قسم منهم ضد القسم الآخر. وهي الوسيلة الوحيدة لإفشال ما سعت إليه إسرائيل منذ الاحتلال وأخفقت في تحقيقه حتى وفاة ياسر عرفات، أعني تفجير الحرب الفلسطينية الفلسطينية التي تريد من إشعالها التخفف من عبء الاحتلال ودفع الفلسطينيين إلى تبديد جهودهم بدل توحيدها ضد عدوهم المشترك والوحيد.
وما كان وفد “حماس” ليخسر شيئاً لو ذهب إلى القاهرة في الموعد المحدد، بل لكان استفاد من جو الغضب الشعبي الراهن ضد قرار تأجيل التصويت على تقرير جولدستون، وأظهر للرأي العام الفلسطيني والعربي أنه مؤمن فعلا بضرورة توحيد الجهد الفلسطيني بأي ثمن. لكن في اعتقادي أن “حماس” خسرت فرصة كبيرة لإظهار أنها ليست فريقاً فلسطينياً يدافع عن نفسه ومصالحه ضد فريق آخر مستفرد بالسلطة ومستفيد منها، بل إنها قيادة وطنية حريصة وقادرة على الجمع وتوحيد الشعب والإرادة الفلسطينيين!
وفي ماوراء انحسار أمل الوحدة الوطنية وتأكيد الانقسام، حتى بعد تصويت مجلس حقوق الإنسان على التقرير، الجمعة الماضي، يكمن الواقع المر الذي لا يمكن من دونه فهم ما يجري داخل الصف الفلسطيني، والعربي أيضاً، أعني انهيار آفاق مفاوضات التسوية السياسية العربية الإسرائيلية بعد أن أظهرت إدارة أوباما، والتي بُنيتْ عليها آمال عريضة طوال عدة أشهر، أنها غير مستعدة لثني إسرائيل عن متابعة مشروعها الاستيطاني الشامل، والذي يلغي أي احتمال لإمكانية قيام دولة فلسطينية.
mercredi, octobre 07, 2009
العلاقات السورية التركية ودرس الديمقراطية
الاتحاد 7 اكتوبر 09
التطور الذي تشهده العلاقات السورية التركية منذ بعض السنوات يثير الاهتمام والتأمل من عدة زوايا. الاولى والأهم تنبع من أنه يشكل، بما يميزه من روح الاستمرارية، والالتزام بالاستحقاقات والأسس القانونية، والتقدم المطرد على ميادين عمل متعددة، استراتيجية وسياسية واقتصادية وعلمية، الحالة الوحيدة الناجحة من التعاون بين قطرين في المنطقة، بما في ذلك بين الأقطار العربية. والثانية ترتبط بدور الايديولوجية ومكانها في نمو العلاقات بين الدول والشعوب. فمن المعروف أن جزءا كبيرا من تراث القومية العربية التي لا تشكل عقيدة الحكم فحسب ولكن الشعب، أو غالبيته، أيضا، في سورية، قد نما في الصراع مع الفكرة الطورانية والتشهير بسياسة العثمانيين الأتراك وتحميلهم مسؤولية انحطاط الثقافة والحضارة العربيتين. والزاوية الثالثة تحيل إلى تاريخ من العداء الدائم تقريبا منذ تكوين الجمهوريتين السورية والتركية في مطلع القرن الماضي حتى سنوات قليلة سابقة. وإذا كان هذا العداء قد تركز في بداية الاستقلال السوري على ذكرى الاضطهاد العثماني ثم ضم تركيا مقاطعة لواء اسكندرون عام 1938 فإنه لم يلبث حتى شمل قضايا كثيرة أخرى، وأهمها من دون شك الاختيارات الاستراتيجية المتعارضة للبلدين، الاطلسية في تركيا واليسارية في سورية. وفي هذا الإطار دخل البلدان أكثر من مرة في حالة نزاع كادت تفضي لحرب مدمرة. وليس هناك شك في أن الخوف من اجتياح عسكري تركي لسورية عام 1957 قد لعب دورا كبيرا في دفع الضباط السوريين المتنافسين على السلطة في دمشق إلى الذهاب إلى مصر وتوقيع اتفاقية الوحدة السورية المصرية عام 1958. وقد اتهمت مصر في ذلك الوقت أنقرة بالعمل لصالح الولايات المتحدة وبريطانيا لقلب الحكومة السورية القائمة، وهي حكومة ليبرالية، في إطار سعيهما المشترك لفرض حلف بغداد على العرب في إطار الحرب الباردة. وقد نظر الغرب بالفعل إلى حكومات سورية، منذ حرب السويس وتدمير أنابيب نفط العراق المارة عبر الأراضي السورية على أنها حكومات خاضعة لضغط اليساريين وسائرة بتوجيههم، خاصة بعد أن عقدت دمشق صفقة شراء السلاح من تشيكوسلوفاكيا عام 1955 وتقربت من الاتحاد السوفييتي في عهد رئس الوزراء خالد العظم.
وقد تجدد النزاع السوري التركي في التسعينات من القرن الماضي. واتهمت دمشق أنقرة بحجزها مياه الفرات عنها، وإرسالها المياه الملوثة عبر النهر، وتجفيف نهر الخابور، وطالبت بتوقيع اتفاقية لتقاسم المياه على أسس دولية رفضتها أنقرة حتى الآن. وتصاعدت حدة النزاع السوري التركي بسبب التعاون العسكري المتنامي بين تركيا وإسرائيل، واعتبرت دمشق، مثلها مثل الدول العربية جميعا، أنقرة أحد العواصم المعادية للقومية العربية والمتحالفة مع خصومها. وقد وصل النزاع إلى ذروته عام 1998 عندما هددت تركيا باجتياح الأراضي السورية لوضع حد لهجمات حزب العمال الكردستاني الذي كان يتلقى الدعم من سورية. وقد أسفرت الأزمة عن توقيع اتفاقية أضنة قبلت دمشق بموجبها وقف التعاون مع الحزب الكردي كما تراجعت عن المطالبة التاريخية باسترجاع لواء اسكندرون الذي كان نقطة خلاف دائمة وأبدية بين حكومات دمشق وأنقرة جميعا. لكن عهد التقارب الجدي الذي سيقلب الاتجاه شيئا فشيئا، محولا حالة العداء التاريخي إلى حالة من اللقاء الاستثنائي، إن لم نقل إلى ما يشبه الوحدة بين البلدين، بدأ عام 2004 عندما دفعت العزلة التي فرضتها الدول العربية وفي طليعتها مصر على النظام السوري، بل القبول بتقديم نظام الأسد كبش فداء للإدارة الأمريكية التي كانت عازمة على التخلص من أنظمة البعث السورية والعراقية في إطار إعادة ترتيب أوراق السيطرة على المنطقة. فلم تجد سورية خلال سنوات العزلة والحصار الطويلة، خاصة بعد اغتيال الحريري، سوى أنقرة للعب دور الوسيط بينها وبين الغرب، ومساعدتها على عبور المرحلة الصعبة.
هكذا، خلال أقل من خمس سنوات، كسرت العلاقات التركية السورية كل المحظورات وبوتيرة ملفتة. فتجاوز الحكام البعثيون في دمشق حواجز الثقافة والعقيدة السياسية، الرسمية والشعبية، وضغط الذاكرة التاريخية الحافلة بالمآخذ على أنقرة، بل وبالأحكام المسبقة عن الأتراك، فأقاموا مع هؤلاء، بصرف النظر عن استمرار تعاون أنقرة مع إسرائيل وعضويتها في الحلف الاطلسي، علاقات ثقة تتنامى كل يوم بشكل اكبر، حتى أصبحت أنقرة راعية المفاوضات السورية الاسرائيلية الرئيسية، والمدافع الأكثر حماسا عن النظام السوري في وجه الاتجاهات الغربية، الأمريكية والأوروبية، العدائية. ولم يتوقف التعاون على الميدان السياسي ولكنه سرعان ما انتقل إلى الميادين الاقتصادية والاستراتيجية. فبعد التوقيع عام 2004 على اتفاقية التجارة الحرة ، والبدء بتطبيقها عام 2007 ، أعلن البلدين، أثناء حفل إفطار أقامه رئيس الوزراء التركي للرئيس السوري في منتصف الشهر الماضي، عن فتح الحدود بين البلدين من دون سمة دخول. كما أعلنا عن تكوين مجلس للتعاون الاستراتيجي يجتمع بشكل منتظم، ويضم كبار مسؤولي الدولتين، بالإضافة إلى عشرات الاتفاقيات الأخرى. وما يلفت النظر في كل ذلك هو أن الاتفاقات الموقعة تنفذ بحذافيرها وفي موعدها المحدد إن لم تستبقه، ولا ينتهي مفعولها، كما هو الحال بالنسبة لمعظم الاتفاقيات الموقعة بين أعضاء الجامعة العربية، مثل اتفاقية منطقة التجارة العربية الكبرى بانفضاض حفل التوقيع. ويستطيع المرء معاينة ذلك من خلال التبادل المستمر للوفود من رجال الأعمال السوريين والأتراك، والإعلان عن استثمارات وشركات مشتركة بينهم، وبشكل خاص من خلال حضور البضائع التركية الكثيف في الأسواق السورية. وليس هناك شك في أن حجم التجارة السورية التركية الذي وصل خلال سنوات معدودة إلى ما يقارب الملياري دولار، والذي يتوقع أن يصل إلى خمس مليارات دولار خلال الأعوام القليلة القادمة يجعل من تركيا الشريك التجاري الأول لسورية.
ليس هناك سر في التقارب السوري التركي. فدوافعه واضحة ومعروفة بالنسبة للطرفين، والمصالح المتبادلة كبيرة أيضا لا يمكن لأحد أن يشك فيها، في الميادين السياسية والاقتصادية والتقنية والعلمية معا. السؤال:
لماذا نجحت تركيا في ما أخفقت فيه الدول العربية، وفي طليعتها القاهرة والرياض اللتين شكلتا مع دمشق المثلث الذي استند إليه استقرار المشرق العربي لعقود طويلة ماضية؟ بل لماذا أخفقت طهران أيضا في تقديم مرفأ آمن لسفينة دمشق الحائرة؟
السبب لأن تركيا بعكس العرب دولة مستقلة وناجحة، وبعكس ايران أيضا ذات علاقة قوية بالغرب. وإذا كانت طهران مفيدة لدمشق في أي مسعى للتمرد والاحتجاج، فأنقرة هي الجسر الوحيد نحو هذا الغرب الذي لا يزال يملك وحده مفاتيح الحل والربط في المنطقة. والأفراد يسيرون في النهاية وراء أصحاب الملاءة والفاعلية أملا في الاستفادة منهم، ولا يهتمون بمن هو أضعف منهم أو من يحتاج هو نفسه إلى من يساعده.
لكن إذا كانت تركيا دولة فاعلة اليوم تشد إليها سورية وغيرها فلأنها حلت مشاكلها الداخلية، ونجحت في سياستها الاقتصادية، واتبعت طريقا صحيحا في التعاون الدولي. فتركت منطق المجابهة لصالح العمل الايجابي الصعب والصبور والطويل المدى، فاكتسبت رصيدا كبيرا وثقة ثابتة، بينما لا تزال حكوماتنا العربية منقسمة بين أصحاب خط المزاودة القومية الفارغة من المضمون والمعنى، أو خط المناقصة وتقديم التنازلات المجانية على حساب استقلاليتها باسم الواقعية والفائدة. وسبب المزاودة والمناقصة في سياساتنا الخارجية واحد: افتقار نظمنا للشرعية الشعبية، وتوزعها بين من يبحث عن التعويض عن ذلك في الالتحاق بشكل أكبر بالدول الكبرى والدخول تحت حمايتها وقبول استراتيجياتها ومن يسعى إلى تعزيز سيطرتها الداخلية من خلا من خلال التلويح بورقة توت الوطنية الكاذبة وتضخيمها.
عندما تحل مسألة السلطة بشكل صحيح في بلادنا العربية، سيكون من الممكن الأمل بولادة سياسات خارجية عربية سليمة، عقلانية بالفعل وفاعلة، أي قادرة على تحصيل مكاسب وانتصارات، وبالتالي على جذب الآخرين واستقطابهم كما تفعل اليوم السياسة التركية.
لذلك لا ينبغي ان نشك في صدق اردوغان عندما يقول لزواره العرب إن أساس تقدم تركيا الاقتصادي والاجتماعي وتوسع نفوذها الخارجي هو الديمقراطية. فهي الكفيلة، وحدها فعلا، بتغيير قدر البلاد العربية وتخفيف البؤس المادي والسياسي الذي تعيش فيه جماهيرها الواسعة .
هارا كيري في القيادة الفلسطينية
الجزيرة نت 7 اكتوبر 09
كائنا من كان المسؤول الفلسطيني الذي اتخذ قرار مطالبة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتأجيل مناقشة تقرير غولدستون بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن ما حدث لا يشكل استهانة لا حدود لها بحياة الفلسطينيين الذين قضوا بسلاح الدمار الشامل الذي استخدمته إسرائيل، ولا بحياة أولئك الذين سيقضون به بعد الآن، ولكنه يمثل أكثر من ذلك ضربة أليمة للقضية الفلسطينية برمتها، وبشكل خاص لجميع أولئك الذين يكافحون في بيئة دولية معادية ومنحازة لتل أبيب في السراء والضراء، للكشف عن حقيقة ما يجرى في فلسطين، وتسليط الضوء على ما يعانيه شعبها من هدر للحقوق، وما تعتمد عليه إسرائيل، في سعيها لتوسيع رقعة الاستيطان وللابقاء على الاحتلال، من انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان.
جميع الأسباب التي يقدمها مسؤولون فلسطينيون لتبرير قرارهم الفريد مرفوضة من قبل الرأي العام العربي ولا تصمد أمام أي تحليل سياسي، سواء ما تعلق منها بالضغوط الأمريكية القوية التي ذكرت صحيفة ها آرتس أنها مورست على الرئيس الفلسطيني باسم حماية مفاوضات السلام من التردي، أو التهديدات التي ذكرت بعض المصادر الدبلوماسية أنها وجهت إلى رئيس وزرائه بقطع كافة المساعدات التي تمنحها الإدارة الأميركية للسلطة الفلسطينية، وكذلك توقيف إسرائيل عائدات الضرائب التي تعتمد عليها السلطة في دفع رواتب موظفيها، أو المخاوف من أن تنعكس نتائج ذلك على الأداء الاقتصادي في الضفة الغربية. أما التذرع بقبول الدول العربية والاسلامية بالقرار أو مشاركتها فيه، وهو ما ثبت بطلانه بعد التصريحات التي صدرت عن العديد من ممثليها، فهو حجة أقبح من ذنب. ذلك أن المسؤول عن مصير الشعب الفلسطيني والمخول في اتخاذ القرار المطلوب للحفاظ على حقوقه هو القيادة الفلسطينية. ومن واجبها أن تتخذ القرار الصائب سواء حصلت على تأييد الدول العربية والاسلامية أم لا.
فالحال أن الرأي العام العربي، الملدوغ أكثر من مرة من جانب العدالة الدولية، بالكاد صدق صدور مثل هذا التقرير واحتمال تحويله إلى مجلس الامن. فقد وقعت إسرائيل لأول مرة تقريبا في الفخ، ووجدت نفسها، بسبب مغالاتها في الاستهتار بالرأي العام العالمي، واعتدادها بمقدرتها على طمس الحقائق، ونتيجة صورة المعاناة القاسية التي نقلتها أجهزة الإعلام عن الحرب غير المشروعية وغير المبررة التي خاضتها ضد شعب غزة، وتحت ضغوط قوية ومتواصلة لقطاعات واسعة من الرأي العام ومئات منظمات حقوق الانسان الدولية، أقول وجدت إسرائيل نفسها أمام ما يمكن أن نسميه احتمال التعرض لمحاسبة سياسية وقانونية وأخلاقية نادرة الحصول على ممارساتها اللاإنسانية المستمرة في فلسطين منذ أكثر من خمسين عاما. وكان العرب، مثلهم مثل أنصار الحق الفلسطيني في العالم كله، ينتظرون بفارغ الصبر مثل هذه الفرصة ليضعوا حكومات العالم "الديمقراطي والحر" التي تدعم إسرائيل، وتغض النظر عن جميع ما تقوم به من تصرفات، وترتكبه من جرائم أمام الحقيقة، وتوقف مساعيها الدائمة لحماية إسرائيل وتجنيبها المحاسبة والعقاب.
في هذا السياق النادر الحصول، أمكن لأول مرة تشكيل لجنة تحقيق دولية ونشر تقرير من قبل وفد تابع للأمم المتحدة، أنيطت رئاستة بشخصية جنوب أفريقية لا يستطيع أحد من أنصار إسرائيل أن يتهمها بالانحياز للعرب أو الفلسطينيين. وصدر التقرير المنتظر يندد، بالرغم من نقائصة العديدة، بسياسة الحرب الاسرائيلية، وينتقد استخدام إسرائيل لأسلحة دمار شامل، مثل قنابل الفوسفور الأبيض والقذائف المسمارية في مناطق مأهولة بالسكان. ويبين على لسان أطباء أجانب إن الجيش الإسرائيلي استخدم قنابل دايم ضد المدنيين، منبها إلى خطورة هذه القنابل رغم أنها غير محظورة في القانون الدولي، كما يشير إلى احتمال استخدام الجيش الاسرائيلي قنابل اليورانيوم المنضب وغير المنضب. ولا يخفي التقرير ما قام به الجيش الإسرائيلي من اعتداءات على أسس الحياة المدنية في قطاع غزة، وتدميره البنية الصناعية التحتية، وشبكات الإنتاج الغذائي، ومنشآت المياه، ومعالجة مياه الصرف الصحي والسكن. وهو ما يشكل -حسب التقرير- انتهاكا للقانون الدولي، ويمكن أن يشكل جريمة حرب.
بانكشاف مثل هذه الحقائق للرأي العام، لم يكن هناك أدنى شك في أن إسرائيل كانت ستتعرض لإدانة علنية، وربما إلى ملاحقات قانونية لبعض قادتها ومسؤوليها العسكريين الذين أثبت التقرير أنهم قاموا بجرائم حرب عندما استخدموا المدنيين الفلسطينيين دروعا بشرية، وقصفوا مؤسسات يعرفون أنها تحولت إلى ملاجيء للمدنيين الفارين من القصف الهمجي، وفي مقدمها مقر الأونروا الذي كان يحوي ما بين 600 و700 مدني، ومستشفى الوفاء في مدينة غزة وتقاطع الفاخورة قرب مدرسة تابعة للأونروا في جباليا كانت تؤوي 1300 مدني.
وبالكاد يصدق الإنسان أن القيادة الفلسطينية اتخذت مثل هذا القرار الذي ستكون الخاسرة الوحيدة منه. فهو لن يعزز سلطتها المترنحة منذ وقت طويل ولكنه يوجه لها ضربة قاضية من الصعب أن تقف على رجليها بعدها. وبعكس ما اعتقد أصحاب هذا القرار، لن يدفع التبرع بإخراج إسرائيل من هذا الفخ تل أبيب إلى تليين موقفها أو التعامل بصورة أفضل مع السلطة الفلسطينية ولكنه سيزيد من استهتارها بها واحتقارها لها بقدر ما سيعزز ثقة قوى التطرف الاسرائيلية القابضة على الحكم في إسرائيل، بصحة سياساتها ونجاعتها. وقد أعلنت قيادات حماس منذ الآن أن من المستحيل عليها الجلوس مع من اتخذ هذا القرار، مما يعني أن أحد أسوأ آثاره تعطيل عملية المصالحة الوطنية الفلسطينية التي كدنا نعتقد باستحالتها قبل أن يعلن بعض المسؤولين الفلسطينيين عن قرب انعقاد مؤتمرها في القاهرة في نهاية هذا الشهر. وبقدر ما سيشجع هذا القرار المشؤوم إسرائيل على الاستمرار في سياستها التقليدية المستهترة بأي قانون، سوف يحبط جميع أولئك الذين يعملون من أجل العدالة والإنصاف في العلاقات الدولية، وفي مقدمهم المنظمات المدنية التي بذلت وتبذل جهودا استثنائية من أجل كسر جدار الصمت والحماية المحيط بإسرائيل. وقد أجهز هذا القرار منذ الآن على معنويات جميع أولئك الذين كانوا يراهنون على تفعيل القانون وتفعيل ضغط الرأي العام من أجل الدفع في اتجاه حل تفاوضي يقطع الطريق على الحرب والتطرف معا. ومما يزيد من أثر المأساة أن قادة فلسطينيين كان من المنتظر منهم أن يستغلوا مثل هذا الحدث أقصى إستغلال للضغط على إسرائيل وحرمانها من إمكانية التستر الدائم على جرائم انتهاك حقوق الفلسطينيين كانوا شركاء في جريمة قتل القانون وإجهاض التضامن العالمي مع حقوق الفلسطينيين وإحباط كل من يأمل بحل سياسي للنزاع الدموي القائم.
لا شيء يمكن أن يعوض الخسائر الكبرى الناجمة عن هذا القرار الذي حرم الشعب الفلسطيني من حقه في أن يعرف الرأي العام بمعاناته التاريخية وما يتعرض له يوميا من تنكيل واضطهاد، بمثل ما حرم الرأي العام العالمي من حقه في معرفة ما يجري في فلسطين من مصادر لا يشك أحد في احتمال انحيازها للعرب والفلسطينيين.
ماذا تستطيع تصريحات المسؤولين الفلسطينيين التي تسعى إلى التخفيف من وقع الصدمة الفضيحة بالتأكيد على أن القرار يقضي بتأجيل النقاش على التقرير ولا يعني إلغاءه؟ وفي أي مناخ سوف تحصل مناقشة التقرير في آذار مارس القادم بعد أن جاءت الضربة القاسية للدول والمنظمات المدنية المدافعة عن حقوق الفلسطينيين من الفلسطينيين أنفسهم؟ وأي جدوى لاستمرار العمل على فضح انتهاكات اسرائيل لحقوق الانسان إذا كان قادة الفلسطينيين هم أول المساهمين في تجنيب إسرائيل المساءلة وفي الاستهتار بحقوق شعبهم والتضحية بها؟ وماذا يستطيع تشكيل لجنة تحقيق أن يفعل بعد أن تم إجهاض التقرير، وانهارت الثقة بالسلطة الفلسطينية التي اتخذته، ودخلت قضية الوحدة الوطنية في أزمة جديدة حادة، وأثبتت الولايات المتحدة أيضا، بهذه المناسبة، أن أسلوبها في العمل من أجل السلام، والقائم على تأكيد حرصها على مصالح إسرائيل وإرضاء قادتها مهما كانت مطالبهم وممارساتهم، لا يعمل من أجل تحقيق تسوية عادلة تنهي النزاع الشرق أوسطي ولكنه يقود بشكل مستقيم، وهذا ما يحصل منذ سنوات، إلى تقويض ثقة الشعب الفلسطيني بقيادته وتكريس الوضع القائم الذي تريده اسرائيل لاستكمال مشروعها الاستيطاني العلني والرسم؟
ليس هناك ما يمكن أن يعيد للرأي العام الفلسطيني الثقة ويطمئن المنافحين عن حقوق الفلسطينيين في العالم العربي والخارجي معا سوى تقديم أولئك المسؤولين لاستقالاتهم وإفساح المجال أمام جيل جديد من القادة، أكثر إحساسا بمعاناة الفلسطينيين واحتراما لمشاعرهم وتفكيرهم، للحلول محلهم. فنحن لسنا هنا أمام سياسة يمكن فهمها وتبريرها وإنما أمام ما ينبغي تسميته "هارا كيري" فلسيطيني سوف يترك آثارا لا تمحى على مسار القضية الفلسطينية لأعوام عديدة قادمة. ولا تستطيع القيادة القائمة بعد الآن أن تتحدث باسم الفلسطينيين ولم تعد تملك الصدقية التي تخولها الدفاع عن حقوقهم.
العلاقات السورية التركية ودرس الديمقراطية
التطور الذي تشهده العلاقات السورية التركية منذ بعض السنوات يثير الاهتمام والتأمل من عدة زوايا. الاولى والأهم تنبع من أنه يشكل، بما يميزه من روح الاستمرارية، والالتزام بالاستحقاقات والأسس القانونية، والتقدم المطرد على ميادين عمل متعددة، استراتيجية وسياسية واقتصادية وعلمية، الحالة الوحيدة الناجحة من التعاون بين قطرين في المنطقة، بما في ذلك بين الأقطار العربية. والثانية ترتبط بدور الايديولوجية ومكانها في نمو العلاقات بين الدول والشعوب. فمن المعروف أن جزءا كبيرا من تراث القومية العربية التي لا تشكل عقيدة الحكم فحسب ولكن الشعب، أو غالبيته، أيضا، في سورية، قد نما في الصراع مع الفكرة الطورانية والتشهير بسياسة العثمانيين الأتراك وتحميلهم مسؤولية انحطاط الثقافة والحضارة العربيتين. والزاوية الثالثة تحيل إلى تاريخ من العداء الدائم تقريبا منذ تكوين الجمهوريتين السورية والتركية في مطلع القرن الماضي حتى سنوات قليلة سابقة. وإذا كان هذا العداء قد تركز في بداية الاستقلال السوري على ذكرى الاضطهاد العثماني ثم ضم تركيا مقاطعة لواء اسكندرون عام 1938 فإنه لم يلبث حتى شمل قضايا كثيرة أخرى، وأهمها من دون شك الاختيارات الاستراتيجية المتعارضة للبلدين، الاطلسية في تركيا واليسارية في سورية. وفي هذا الإطار دخل البلدان أكثر من مرة في حالة نزاع كادت تفضي لحرب مدمرة. وليس هناك شك في أن الخوف من اجتياح عسكري تركي لسورية عام 1957 قد لعب دورا كبيرا في دفع الضباط السوريين المتنافسين على السلطة في دمشق إلى الذهاب إلى مصر وتوقيع اتفاقية الوحدة السورية المصرية عام 1958. وقد اتهمت مصر في ذلك الوقت أنقرة بالعمل لصالح الولايات المتحدة وبريطانيا لقلب الحكومة السورية القائمة، وهي حكومة ليبرالية، في إطار سعيهما المشترك لفرض حلف بغداد على العرب في إطار الحرب الباردة. وقد نظر الغرب بالفعل إلى حكومات سورية، منذ حرب السويس وتدمير أنابيب نفط العراق المارة عبر الأراضي السورية على أنها حكومات خاضعة لضغط اليساريين وسائرة بتوجيههم، خاصة بعد أن عقدت دمشق صفقة شراء السلاح من تشيكوسلوفاكيا عام 1955 وتقربت من الاتحاد السوفييتي في عهد رئس الوزراء خالد العظم.
وقد تجدد النزاع السوري التركي في التسعينات من القرن الماضي. واتهمت دمشق أنقرة بحجزها مياه الفرات عنها، وإرسالها المياه الملوثة عبر النهر، وتجفيف نهر الخابور، وطالبت بتوقيع اتفاقية لتقاسم المياه على أسس دولية رفضتها أنقرة حتى الآن. وتصاعدت حدة النزاع السوري التركي بسبب التعاون العسكري المتنامي بين تركيا وإسرائيل، واعتبرت دمشق، مثلها مثل الدول العربية جميعا، أنقرة أحد العواصم المعادية للقومية العربية والمتحالفة مع خصومها. وقد وصل النزاع إلى ذروته عام 1998 عندما هددت تركيا باجتياح الأراضي السورية لوضع حد لهجمات حزب العمال الكردستاني الذي كان يتلقى الدعم من سورية. وقد أسفرت الأزمة عن توقيع اتفاقية أضنة قبلت دمشق بموجبها وقف التعاون مع الحزب الكردي كما تراجعت عن المطالبة التاريخية باسترجاع لواء اسكندرون الذي كان نقطة خلاف دائمة وأبدية بين حكومات دمشق وأنقرة جميعا. لكن عهد التقارب الجدي الذي سيقلب الاتجاه شيئا فشيئا، محولا حالة العداء التاريخي إلى حالة من اللقاء الاستثنائي، إن لم نقل إلى ما يشبه الوحدة بين البلدين، بدأ عام 2004 عندما دفعت العزلة التي فرضتها الدول العربية وفي طليعتها مصر على النظام السوري، بل القبول بتقديم نظام الأسد كبش فداء للإدارة الأمريكية التي كانت عازمة على التخلص من أنظمة البعث السورية والعراقية في إطار إعادة ترتيب أوراق السيطرة على المنطقة. فلم تجد سورية خلال سنوات العزلة والحصار الطويلة، خاصة بعد اغتيال الحريري، سوى أنقرة للعب دور الوسيط بينها وبين الغرب، ومساعدتها على عبور المرحلة الصعبة.
هكذا، خلال أقل من خمس سنوات، كسرت العلاقات التركية السورية كل المحظورات وبوتيرة ملفتة. فتجاوز الحكام البعثيون في دمشق حواجز الثقافة والعقيدة السياسية، الرسمية والشعبية، وضغط الذاكرة التاريخية الحافلة بالمآخذ على أنقرة، بل وبالأحكام المسبقة عن الأتراك، فأقاموا مع هؤلاء، بصرف النظر عن استمرار تعاون أنقرة مع إسرائيل وعضويتها في الحلف الاطلسي، علاقات ثقة تتنامى كل يوم بشكل اكبر، حتى أصبحت أنقرة راعية المفاوضات السورية الاسرائيلية الرئيسية، والمدافع الأكثر حماسا عن النظام السوري في وجه الاتجاهات الغربية، الأمريكية والأوروبية، العدائية. ولم يتوقف التعاون على الميدان السياسي ولكنه سرعان ما انتقل إلى الميادين الاقتصادية والاستراتيجية. فبعد التوقيع عام 2004 على اتفاقية التجارة الحرة ، والبدء بتطبيقها عام 2007 ، أعلن البلدين، أثناء حفل إفطار أقامه رئيس الوزراء التركي للرئيس السوري في منتصف الشهر الماضي، عن فتح الحدود بين البلدين من دون سمة دخول. كما أعلنا عن تكوين مجلس للتعاون الاستراتيجي يجتمع بشكل منتظم، ويضم كبار مسؤولي الدولتين، بالإضافة إلى عشرات الاتفاقيات الأخرى. وما يلفت النظر في كل ذلك هو أن الاتفاقات الموقعة تنفذ بحذافيرها وفي موعدها المحدد إن لم تستبقه، ولا ينتهي مفعولها، كما هو الحال بالنسبة لمعظم الاتفاقيات الموقعة بين أعضاء الجامعة العربية، مثل اتفاقية منطقة التجارة العربية الكبرى بانفضاض حفل التوقيع. ويستطيع المرء معاينة ذلك من خلال التبادل المستمر للوفود من رجال الأعمال السوريين والأتراك، والإعلان عن استثمارات وشركات مشتركة بينهم، وبشكل خاص من خلال حضور البضائع التركية الكثيف في الأسواق السورية. وليس هناك شك في أن حجم التجارة السورية التركية الذي وصل خلال سنوات معدودة إلى ما يقارب الملياري دولار، والذي يتوقع أن يصل إلى خمس مليارات دولار خلال الأعوام القليلة القادمة يجعل من تركيا الشريك التجاري الأول لسورية.
ليس هناك سر في التقارب السوري التركي. فدوافعه واضحة ومعروفة بالنسبة للطرفين، والمصالح المتبادلة كبيرة أيضا لا يمكن لأحد أن يشك فيها، في الميادين السياسية والاقتصادية والتقنية والعلمية معا. السؤال:
لماذا نجحت تركيا في ما أخفقت فيه الدول العربية، وفي طليعتها القاهرة والرياض اللتين شكلتا مع دمشق المثلث الذي استند إليه استقرار المشرق العربي لعقود طويلة ماضية؟ بل لماذا أخفقت طهران أيضا في تقديم مرفأ آمن لسفينة دمشق الحائرة؟
السبب لأن تركيا بعكس العرب دولة مستقلة وناجحة، وبعكس ايران أيضا ذات علاقة قوية بالغرب. وإذا كانت طهران مفيدة لدمشق في أي مسعى للتمرد والاحتجاج، فأنقرة هي الجسر الوحيد نحو هذا الغرب الذي لا يزال يملك وحده مفاتيح الحل والربط في المنطقة. والأفراد يسيرون في النهاية وراء أصحاب الملاءة والفاعلية أملا في الاستفادة منهم، ولا يهتمون بمن هو أضعف منهم أو من يحتاج هو نفسه إلى من يساعده.
لكن إذا كانت تركيا دولة فاعلة اليوم تشد إليها سورية وغيرها فلأنها حلت مشاكلها الداخلية، ونجحت في سياستها الاقتصادية، واتبعت طريقا صحيحا في التعاون الدولي. فتركت منطق المجابهة لصالح العمل الايجابي الصعب والصبور والطويل المدى، فاكتسبت رصيدا كبيرا وثقة ثابتة، بينما لا تزال حكوماتنا العربية منقسمة بين أصحاب خط المزاودة القومية الفارغة من المضمون والمعنى، أو خط المناقصة وتقديم التنازلات المجانية على حساب استقلاليتها باسم الواقعية والفائدة. وسبب المزاودة والمناقصة في سياساتنا الخارجية واحد: افتقار نظمنا للشرعية الشعبية، وتوزعها بين من يبحث عن التعويض عن ذلك في الالتحاق بشكل أكبر بالدول الكبرى والدخول تحت حمايتها وقبول استراتيجياتها ومن يسعى إلى تعزيز سيطرتها الداخلية من خلا من خلال التلويح بورقة توت الوطنية الكاذبة وتضخيمها.
عندما تحل مسألة السلطة بشكل صحيح في بلادنا العربية، سيكون من الممكن الأمل بولادة سياسات خارجية عربية سليمة، عقلانية بالفعل وفاعلة، أي قادرة على تحصيل مكاسب وانتصارات، وبالتالي على جذب الآخرين واستقطابهم كما تفعل اليوم السياسة التركية.
لذلك لا ينبغي ان نشك في صدق اردوغان عندما يقول لزواره العرب إن أساس تقدم تركيا الاقتصادي والاجتماعي وتوسع نفوذها الخارجي هو الديمقراطية. فهي الكفيلة، وحدها فعلا، بتغيير قدر البلاد العربية وتخفيف البؤس المادي والسياسي الذي تعيش فيه جماهيرها الواسعة .
jeudi, septembre 24, 2009
عودة القرون الوسطى
أصبح لفظ القرون الوسطى مرادفا لعصر اجتمعت فيه النزاعات الكثيرة والطويلة بين الجماعات والزعماء والأمراء المتنافسين على السلطة والمغانم، وسيطرة الكنيسة البابوية وفكرها الايديولوجي الواحدي على الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية معا. وكان يوصف لذلك بعصر الفوضى والظلمات بالرغم من النظام الصارم الذي كانت تفرضه الكنيسة على رجالها ومن خلالهم على سلوك الأفراد. وكما هو واضح ليس لهذا المضمون أي علاقة بما حفظته الذاكرة عن هذه الحقبة نفسها في التاريخ الاسلامي أو الآسيوي أو الأفريقي. بل ليس من المبالغة القول إن العصر الوسيط الاسلامي هو بمعنى الكلمة عصر الأنوار حيث عرفت الدولة والثقافة والاقتصاد ازدهارا لا منافس له.
وربما يكون العامل الذي حفزنا على إطلاق لفظ عصر ظلام على حقبة القرون الوسطى الغربية وعصر أنوار على الحقبة نفسها كما عاشها العالم الاسلامي هو نفسه الذي يجعلنا اليوم نرى في العصر الحديث عصر فوضى ومنازعات وتقلبات لا تهدأ في العالم العربي، وعصر ازدهار وتقدم مدني واقتصادي لا ينافس أيضا في الغرب الذي بالكاد نستطيع أن نسميه مسيحيا الآن. وليس هذا العامل شيئا آخر سوى الدولة نفسها، ليس من حيث هي إدارة للنزاعات وضبط للعنف، وإنما من حيث هي وسيلة لتنظيم المصالح والشؤون العمومية، وهو ثمرة ولادة القانون ورسوخ معناه عند الحاكمين والمحكومين، وتنامي قدسيته كأساس لاستقرار العلاقات وانتظامها بين الجميع.
ولأن الدول وتقاليدها ظلت قائمة، بالرغم من الازمات التاريخية التي مرت بها هنا وهناك، غلب على علاقة الدين بالدولة في معظم أقطار العالم القديم خضوع النخبة الدينية للسلطة الزمنية ومسايرتها لها، وأحيانا التحالف معها، وبهذا المعنى أوروبة المسيحية هي التي شكلت استثناءا نادرا في العصر الوسيط. وهو الاستثناء الذي ستكون له نتائج غير مسبوقة في ما بعد، سواء في تطوير مفهوم الدولة ومكانتها في المجتمع، أو في إعادة بناء مفهوم الدين وتمييزه عن مفهوم السياسية ومسألة تنظيم الحياة الدنيوية. ففي هذه القارة وحدها نجحت النخبة الدينية في أن تفرض سلطانها على المجتمع وأن تلحق بها، بصورة أو أخرى، السلطة السياسية وتفرض وصايتها الروحية عليها، كما جسد ذلك لفترة طويلة خضوع الأفراد لسلطة رجل الدين وقيادته الروحية والزمنية وحرص الملوك الأوربيين أيضا على انتزاع موافقة البابا أو مصادقته على مشاريعهم السياسية وغير السياسية.
حدث ذلك في نظري نتيجة التقاء عاملين مهمين: التنظيم القوي والفعال للنخبة الدينية وللكنيسة التي تكونت في حجر تشكيلات اجتماعية سابقة ومتقدمة، واتخذت طابعا عابرا للدول والقوميات. والثاني الفراغ الذي خلفه انهيار نموذج الدولة الامبرطورية في أوروبة، وضياع تقاليدها وفساد مفهومها على أثر الغزوات البربرية، وإخفاق محاولات شارل مارتيل، مؤسس الامبرطورية الكورلنجية، وسلالته من بعده، في إعادة بناء الإمبرطورية المقدسة التي كان الجميع يحلم بها.
في إطار عالم تسوده الفوضى الفكرية والسياسية معا، وتتنازع فيه القوى والجماعات، من دون ضابط أو قاعدة مشتركة، وجدت الكنيسة نفسها مدفوعة إلى لعب دور سياسي بارز، إلى جانب دورها الديني الرئيسي، في توحيد العالم الأوروبي وبث الحد الأدنى من النظام والاتساق الفكري والسياسي فيه. وقد فرض هذا الدور نفسه مع تزايد الطلب الاجتماعي على الكنيسة البابوية وتدخلها في الشؤون السياسية والاجتماعية، وذلك من قبل الجماعات الأهلية ومن قبل الملوك الأقطاعيين المتنازعين معا، بموازاة إخفاق هؤلاء جميعا، خلال قرون عديدة، وحتى القرن الثالث عشر، في إقامة الدولة القادرة على الوفاء بحاجات بناء حياة قانونية سليمة وحفظ الأمن والنظام والسلام العام وضمان التكافل والتعاون الاجتماعيين.
ويبدو لي أن الأسباب التي أدت إلى انتصار الكنيسة وسيطرتها الشاملة في أوربة القرون الوسطى تكاد تبرز، ولو بشكل معدل كثيرا، من جديد في عالمنا العربي الراهن. فنزوع النخب الدينية إلى تقديم نفسها كبديل عن النخب السياسية في إدارة شؤون المجتمعات وتسييرها، وخوضها الحروب، كما حصل في العديد من الأقطار العربية وأخرها اليوم اليمن، في سبيل انتزاع السلطة والإشراف على تنظيم حياة المجتمعات المدنية، ومراقبة تفكيرها وبناء ضميرها، ينمو بموازاة الانهيار المتواصل للدولة، كما في الصومال وأفغانستان ودار فور وغيرهم، أو انكشاف إفلاسها المعنوي، كما هو الحال في معظم البلاد العربية.
فالحال أن الدولة قد ارتبطت منذ ولادتها، في معظم بلاد العالم الاسلامي الحديث، والعربي منه بشكل خاص، بمنظومة استعمارية أجنبية، وظلت إلى يومنا هذا حبيسة جيوستراتيجياتها الامبريالية. وما كادت فكرتها تتجسد قليلا في الواقع وتدخل التجربة العملية، في العقود الأولى من القرن العشرين، حتى بدأت تتعرض لتحديات خارجية وداخلية غير مسبوقة، ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وتظهر عجزها عن الوفاء بوعودها. فلا كانت إطارا لتحقيق التضامن الإنساني كما تعد بذلك الوطنية، ولا وسيلة لإعادة بناء علاقات التواصل والتبادل بين بلدان سيزداد تقوقعها على نفسها وانغلاقها مع ترسخ مفهوم السيادة، ولا مركزا للانتاج والابداع والتأهيل العلمي والتقني، ولا من باب أولى مناسبة لتفتح الحريات الفردية وتأمين الحقوق الأساسية وضمان احترامها.
ستظهر الدولة هنا أكثر فأكثر كوسيلة استلاب روحي وقهر سياسي واقتصادي، وتترك فراغا فكريا وتنظيميا متناميا سيسعى أصحاب الدين، على مختلف أصنافهم، لملئه. لكن هذه المرة من دون جدوى. والسبب أن المجتمعات، ومجتمعات المسلمين خاصة، لم تعد تعيش الدين كما كانت تعيشه مجتمعات القرون الوسطى، كما أنها غير قادرة على تصور الاسلام بمعزل عن تجربة أربعة عشر قرنا ونيف انعقدت فيها السيادة بشكل دائم تقريبا للدولة. ثم إن من المستحيل، مهما حصل من قطيعة ثقافية ونفسية مع الغرب، أن تمحى من ذاكرة الشعوب ووعيها آثار العصر الراهن وقيمه وحوافزه المادية والثقافية، ولا أن تقلص تطلعات المسلمين الإنسانية بحيث تزول جاذبية الحضارة العصرية. والدليل أنه حتى عندما توفر لايران ما يشبه الكنيسة والسلطة الكهنوتية الهرمية، ونجحت النخبة الدينية الموحدة في السيطرة على جهاز الدولة وتسييره، لم تستقر أمور النظام "المقدس" الجديد، ولم تنشأ الجنة الموعودة على الأرض. ثم إن أحدا لم يعد يقبل اليوم التضحية بقيم الحرية والعدالة والمساواة لصالح ضمان الخلاص الروحي، بالإضافة إلى أن أحدا لم يعد يصدق إن مثل هذا الخلاص لا يتم إلا على يد رجال دين، مهما كانت كراماتهم ومعجزاتهم.
لكن لا يعني ذلك أن النتيجة محسومة. ففي مجتمعاتنا، لن يكون التعويض عن انهيار الدولة القانونية وإفلاس فكرتها وتجربتها اليوم ولا الكنيسة أو الدولة الدينية وإنما انتشار الطائفية، كما حصل دائما في فترات ضعف الدولة وتفككها. وإذا كانت الحرب الغربية في العراق قد هددت بإرجاعنا، منذ بضع سنين فقط، إلى ما قبل الثورة الصناعية، فأن اغتيال فكرة الدولة وتفريغها من مضمونها، كما نفعله اليوم بإيدينا، تهددنا بالعودة إلى القرون الوسطى، أو بولادة قرون وسطى جديدة، من الأمانة تسميتها هذه المرة إسلامية.
mercredi, septembre 09, 2009
مفاوضات بالوكالة
على مشروع استئناف مفاوضات التسوية السياسية الذي تسعى إدارة الرئيس باراك أوباما إلى إعادته إلى الحياة أو إعادة الحياة إليه، جاء رد رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتينياهو فريدا من نوعه، حتى لو لم يكن خارجا عن التقاليد الاسرائيلية. فقد قبل علنا أو على مستوى الخطاب والتصريح بمبدأ تجميد الاستيطان، لكنه لم يتوقف على المستوى العملي عن فعل كل ما هو مخالف لذلك تماما. فقبل أن يبدأ ميتشيل جولته نشرت الصحافة خبر توقيع وزير الدفاع الاسرائيلي على مشروع بناء 2500 مستعمرة جديدة، ولم تلبث الحكومة الاسرائيلية حتى أعلنت أن الاستيطان في القدس لا يخضع لعملية التجميد، كما لا يخضع لها بناء المباني العامة الحكومية وغير الحكومية من مستوصفات وحدائق ومرافق مختلفة. وأخيرا أعلن في الرابع من الشهر الجاري، من مواربة، مستبقا عودة جورج ميتشيل في جولته الثانية، التحضير للتجميد من خلال إعطاء زخم أقوى للاستيطان، معززا موقفه بموقف مجلس ممثلي المستوطنين (يشا) الذي يصر على أن التجميد لا يشمل مشاريع البماء الخاص، أي التي يقوم بها الأفراد بمحض إرادتهم. باختصار قال نتنياهو نعم للتجميد (شرط استئناف مفاوضات السلام) واستمر في مصادرة الأراضي الفلسطينية والدفع بعجلة بناء المستوطنات أسرع من أي وقت سابق.
على هذه المواقف والأعمال الاسرائيلية الاستفزازية رد الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض بنشر بيان عبر فيه عن أسف واشنطن. وقال إن الاستمرار في البناء في المستوطنات لا يتطابق مع التزامات إسرائيل. وأن الولايات المتحدة لن تعترف بشرعية التوسع المستمر في المستعمرات. وهي تطلب ايقافه. فمن المؤكد، كما قال البيت الأبيض "أن مثل هذه الأعمال لا تخلق جوا مناسبا لإطلاق المفاوضات". ولم يتردد أيضا الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي في إدانة موقف نتنياهو من تسريع عملية بناء المستوطنات ووصفها الناطق الرسمي باسم الخارجية بأنها "مناقضة تماما لديناميكية عملية السلام" . أما جافيير سولانا، ممثل الاتحاد الاوروبي، ومسؤول السياسة الخارجية فأكد "أن الاتحاد يدعو إلى توقف جميع أعمال الاستيطان". وباستثناء محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية الذي وصف تصريحات نتنياهو الاستيطانية بأنها غير مقبولة لم يصدر عن الحكومات العربية أي مواقف علنية.
لم يكن بإمكان واشنطن ولا العواصم الأوروبية الكبرى، وفي مقدمها باريس التي تبنت مشروع إعادة إطلاق مفاوضات التسوية السياسية المسماة سلاما أن تلتزم الصمت من دون أن تتكبد خسائر كبيرة في هيبتها وصدقيتها السياسية والأخلاقية. لكن السؤال : ما هدف نتنياهو من تأكيده العلني نيته في دعم الاستيطان وتسريع وتيرته قبل المفاوضات في الوقت الذي لا تزال واشنطن والسلطة الفلسطينية تربطان الدخول فيها بتجميد الاستيطان؟ وما الذي يسمح لنتنياهو بأن يتعامل بهذه الطريقة المهينة مع حلفائه الطبيعيين، الذين يمثلون، في الوقت نفسه، دولا كبرى؟
يقول أغلب المحللين أن الدافع هو حرص رئيس الوزراء الاسرائيلي على تماسك التآلف الذي تستند إليه حكومته ومنعه من الانهيار. فالجناح اليميني من حزب ليكود يهدد، مع الأحزاب الأخرى اليمينية المشاركة في الحكومة، بالخروج منها إذا قبل نتنياهو بالتجميد الكامل للاستيطان. والواقع أن رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي لا يقل تطرفا عن حلفائه في الحكومة العتيدة يستخدم هذا التشدد لفرض شروطه المسبقة على الأمريكيين وسطاء عملية السلام. فالمفاوضات بدأت في الواقع منذ أن أعلنت الإدارة الامريكية الجديدة عن نيتها في العودة إلى مشروع مفاوضات السلام الشرق أوسطية وعينت لها مبعوثا خاصا في شخص جورج ميتشيل. ورئيس الوزراء الاسرائيلي لا يفعل أكثر مما فعله أسلافه حكام إسرائيل من تحويل مشروع المفاوضات السلمية إلى وسيلة للحصول على المزيد من المكاسب، المالية والاقتصادية والسياسية، لكن أيضا الترابية المجسدة في إكراه الامريكيين على القبول بالأمر الواقع، أي ببساطة بالاستيطان وبالاحتلال. وهو ما حصل حتى الآن.
لكن ما الذي يدعو الامريكيين، وهم القوة العظمى، ومعهم الاوروبيين، إلى طأطـأة الرأس والتسليم لابتزاز الحكومات الاسرائيلية والقبول بشروطها؟
يقول بعض المحللين السياسيين أن واشنطن والعواصم الاوربية الحليفة لا خيار لها، فإما أن تقبل بالشروط التي يفرضها المفاوض الاسرائيلي حتى تنطلق المفاوضات، وتؤكد للعرب والرأي العام نجاحها في إطلاق مبادرة السلام التي وعدت بها، أو ترفض الابتزاز الاسرائيلي وتقبل بالتحدي الذي يمكن أن ينجم عنه انهيار الحكومة الاسرائيلية ودخول اسرائيل في أزمة سياسية طويلة وعدم استقرار يغلق من جديد أي أمل بالتوصل إلى سلام.
نتنياهو يدرك أنه ليس لدى واشنطن ولا حلفائها الغربيين خيارا آخر سوى التسوية مع إسرائيل. فالضغوط لا تجدي، لأن إسرائيل تملك مفاتيح بدء المفاوضات أو تعطيلها. وواشنطن وحلفاؤها في حاجة اليوم، لتعاون تل أبيب من أجل استعادة صدقيتهم السياسية، وكسب بعض ثقة الشعوب العربية، وضمان الأمر الواقع الإقليمي، بما في ذلك استقرار الدول الحليفة في المنطقة. وتعرف إسرائيل أنها تستطيع أن تتقاضى منافع كبيرة لقاء هذا التعاون.
أين تكمن المشكلة إذن؟
اعتدنا نحن على القول إن اللوبي الاسرائيلي هو الذي يتحكم بواشنطن والعواصم الاخرى. ولذلك فلن تستطيع هذه الأخيرة أن تضغط على تل أبيب مهما تغيرت الإدارات ونوعية الرؤساء.
إذا كان هذا هو الواقع بالفعل فما الداعي للحديث عن مفاوضات سياسية، ولماذا الدخول فيها وعلى ماذا نراهن نحن العرب في هذا القبول؟
الحقيقة أن الحديث عن سيطرة اللوبي الاسرائيلي على واشنطن والتقليل من هامش المناورة التي يملكها الرئيس الأمريكي تجاه هذا اللوبي واللوبيات العديدة الأخرى، وتبسيط صورة عملية اتخاذ القرار وبلورة السياسة في الولايات المتحدة وأوروبة الغربية عموما، لا يهدف إلا إلى التغطية على الفراغ السياسي والدبلوماسي الذي يعيشه الوضع العربي. ولو تأملنا قليلا في ما يحصل لاكتشفنا بسرعة أن أصل المشكة هي انسحابنا العملي، الاستراتيجي والسياسي بل والدبلوماسي من المواجهة، وتسليمنا الأمر إلى الولايات المتحدة، التي يتفاوض مبعوثها، جورج ميتشيل، مع إسرائيل بالنيابة عنا. وكأي وسيط أو نائب، يسعى ميتشيل لتحصيل ما يمكن تحصيله لنا. وهذا هو دور الوسيط والعامل بالوكالة. ولا علاقة لبؤس العوائد بشخصية ميتشيل ولا بحسن نواياه وإنما هي النتيجة الحتمية والطبيعية لميزان القوى القائم الذي قبلنا بتكريسه ولم نعمل شيئا لتعديله منذ عقود: إسرائيل تفعل على الأرض ونحن نطالب بالتدخل الغربي لاسترجاع حقوق عربية. في مثل هذه الشروط لن يستطيع باراك أوباما، مهما بذل من جهد، ولا أي مبعوث له، حتى لو كان محبا للعرب، بل عربيا مسلما، أن يحقق للعرب ما رفضوا أو يرفضون هم أنفسهم تحقيقه بالأصالة.
لماذا لا يدخل العرب في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، ويدافعون عن حقوقهم بأيديهم؟ ببساطة لأن مباشرة المفاوضات بالأصالة تقتضي أن يكون وراء المفاوض قوة كافية لردع الخصم عن التمادي في مطالبه أو تعنته، وإلا عرض نفسه للاستهزاء والسخرية والإهانة. وهذا بالضبط ما نخاف منه. فلم تكن المفاوضات في أي يوم بديلا عن وجود القوة أو ممكنة من دونها. أليس إدراكنا لاختلال توازن القوة هو الذي دفعنا نحن العرب إلى ايكال مهمة التفاوض مع إسرائيل إلى الأمريكيين والغربيين عموما ؟ لكن هيهات أن يحقق الإنسان بقوة غيره ما يعجز عن تحقيقه بقوته الذاتية. ومهما تشدد الامريكيون في موقفهم وضغوطهم، تعرف إسرائيل يقينا أنها في مواجهة أصدقاء وحلفاء حقيقيين. ولا يعض الكلب، كما يقول مثلنا الشعبي، ذنب أخيه. سبب واحد يمكن أن يبرر رفضنا للمفاوضات المباشرة وقبولنا بالاتكاء على المجموعة الدولية، هو كسب للوقت لتعديل ميزان القوى الاستراتيجية بما يسمح بخوض مفاوضات جدية. ما عدا ذلك نصبح كالنعامة التي تخفي وجهها في الرمل. وهل حصدنا من المفاوضات التي نخوضها منذ عقود طويل سوى المزيد من الخسائر والتنازلات المجانية والإهانات؟
mercredi, août 26, 2009
النخب المارقة
في ما وراء النزاعات الأهلية والاضطرابات والتخبط والتطرف وانعدام التنمية ورفض التغيير تكمن أزمة السياسة، أي أزمة نمط الإدارة والتسيير والقيادة التي تسود القسم الأعظم من البلاد العربية، وفي صلبها أزمة النخب الاجتماعية. وتطلق أدبيات العلوم الانسانية اسم نخبة على تلك المجموعات التي تتمتع، بقدر يزيد او ينقص، من النفوذ إلى الموارد المجتمعية، من سلطة وثروة ومواقع اجتماعية ومعرفة، والتي تتعدد أشكالها بين نخبة اقتصادية، واجتماعية وسياسية وثقافية ودينية وعسكرية. ويضمر ذلك أن وصولها إلى الوضع الذي تحتله في المجتمع مرتبط بكفاءاتها ومقدراتها الخاصة. ومن هنا سمة النخبة التي التصقت بها.
بيد أن الواقع العملي يقدم غالبا أمثلة لا يكون وصول الأفراد فيها إلى مواقع النخبة، أي حق النفوذ إلى الموارد الرئيسية في المجتمع والإشراف عليها، مرتبطا بكفاءاتها أو جدارتها ودرجة تأهيلها أي بفضائل خاصة تميزها، وإنما بوسائل أخرى لا علاقة لها بالمواهب والمقدرات الشخصية الاستثنائية أو المتميزة. وأوضح مثال على ذلك النخب التي توضع بدعم من احتلال أو نفوذ خارجي، أو تلك التي تصعد إلى مواقع المسؤولية عن طريق الانقلابات العسكرية، أو تلك التي تحتل مكانها أخيرا بأسلوب الوراثة، الارستقراطي القديم أو الزبائني الحديث، الذي يميز نظام سلطة لا يتيح التنافس النزيه والموضوعي بين أصحاب المواهب، ويقدم الولاء على الكفاءة، في جميع أشكالها العلمية والإدارية والسياسية. بل حتى في حالات غير استثنائية، يلعب الإرث العائلي، المادي أو السياسي أو الاجتماعي دورا كبيرا في تقديم بعض الأفراد على البعض الآخر، ودفعهم إلى احتلال مواقع المسؤولية أو السيطرة على الموارد الاجتماعية.
من هنا ينبغي استخدام مفهوم النخبة بروية ومع الكثير من التحفظات. من هذه التحفظات عدم تجاهل الالتباس الحاصل في المفهوم بسبب الربط العفوي وغير المفكر فيه بين طابعه الوصفي الذي يقصر استخدامه على تحديد أو تعريف جميع أولئك الأفراد الحائزين على الثروة ومواقع المسؤولية والمعرفة والوجاهة الاجتماعية، واعتبارهم يشكلون نخبة اجتماعية، بصرف النظر عن خصائصهم الشخصية وكفاءاتهم الذاتية والطريقة التي أوصلتهم إلى سدة المسؤولية وحيازة الموارد الاجتماعية، وطابعه المعياري الذي يبرز بشكل واضح في المعنى اللغوي للفظ النخبة، والذي يشير إلى فئات متميزة بكفاءاتها وأهليتها، وهو ما يبرر تنسمها مراكز المسؤولية وتقلدها مقاليد القيادة والثروة. وهذا ما يميز النخبة عن الصفوة. والتطابق بينهما ليس أمرا عفويا وإنما هو موضوع صراع داخل المنظومات الاجتماعية، بل هو ملخص برنامج المساواة السياسية، أي الوصول إلى تحقيق قاعدة تكافؤ الفرص. من هنا يشكل التوتر الناجم عن الخلط بين المفهومين مصدر الحراك الاجتماعي والتطور السياسي.
والتحفظ الثاني يتعلق بالفصل بين الوجود المادي للعناصر الحائزة على النفوذ والسلطة والوجود السياسي الذي يعني مقدرتها على التصرف كنخبة، أي كجماعة واحدة متسقة. فالحديث عن عناصر أو مجموعات أو أفراد تمكنهم كفاءاتهم أو ظروف استثنائية من احتلال مواقع المسؤولية في ميادين النشاط المختلفة يقصر عن فهم جدلية علاقات السلطة الاجتماعية. والقصد، لا يمكن أن يستقيم الحديث عن نخبة ما لم تتجاوز هذه العناصر التي تسيطر على الموارد الاجتماعية أو تستحوذ على حق الإشراف عليها مستوى الوجود المادي الذي يسمها بالضرورة بالتنوع والتشتت، وتنجح في توحيد رؤيتها أو إنتاج رؤية مشتركة، وأسلوب عمل واضح ومعروف، أي في الاتفاق على مجموعة من القواعد المستبطنة من قبل الجميع والمرتبطة هي نفسها بتحقيق غايات مشتركة.
وهذا ما يفسر نجاح العناصر المنبثقة من قلب القوى المختلفة وأحيانا المتنافسة والمتنازعة، أي من الطبقات الاجتماعية العديدة والمخترقة هي نفسها بتناقضات داخلية، في تجاوز انتماءاتها وانحيازاتها الطبقية أو بالأحرى الفئوية الضيقة، لبناء انتماء جديد مشترك، يسمح بتكوين جماعة قائمة بذاتها ومتميزة عن أصولها المختلفة، تتمتع بحد كبير من التفاهم أو الانسجام، وتسعى إلى تعزيزه وتعميقه من خلال الخيارات الإيديولوجية والسياسية التي تتبناها وتفرضها على المجتمع ككل.
والتحفظ الثالث هو أن النخبة، بالمعنى الوظيفي للكلمة، لا يمكن أن توجد وتستقل نسبيا عن انحيازاتها الاجتماعية البدائية، ولا أن تعمل كفريق واحد، وترتفع، اكثر من ذلك، إلى مستوى المسؤولية العمومية والرؤية الكلية والنظرة المستقبلية، إذا لم تتمتع بحد أدنى من القيم ومعايير السلوك وأساليب الأداء التي تؤهلها للعب دور المنسق والموجه والمحفز للمجتمع. ومن دون ذلك لا تتجاوز عناصر النخبة أو ما يسمى كذلك شرط وجودها المادي كقوى مسيطرة لا تسعى إلا إلى تعظيم مصالحها الخاصة والضيقة والدفاع عنها، من دون مراعاة أي مصالح ثانية، بما في ذلك مصالح فئات النخبة الأخرى. فالسيطرة البدائية من قبل مجموعة من المرتزقة مثلا، كما حصل في بعض الأقطار الصغيرة، على الدولة وموارد المجتمع، لا تسمح بالحديث عن نخبة اجتماعية، ولا عن نظام سياسي اجتماعي تكون النخب حاملته وصاحبة الفضل في تشغيله وتسييره لصالح المجتمع عموما ولصالحها خصوصا، ولا يستمر إلا بقدر ما تتقاطع فيه مصالح الطرفين إلى هذا الحد او ذاك.
هذا يعني أنه لا يمكن لنخبة أن تنشأ وتكون فاعلة وقادرة على بناء جماعة سياسية من دون تحقيق شرطين: الاستقلال عن أصحاب المشاريع والأعمال والمال من جهة، وتكوين وعي واضح بالمسؤولية تجاه المجتمع والرأي العام من جهة ثانية. وعلى درجة هذا الاستقلال وقوة الشعور بالمسؤولية لدى النخب تتوقف مقدرتها على تأسيس جماعة سياسية مستقرة وفاعلة. في هذه الحالة يمكن الحديث عن نخبة بالمعنى السياسي والفكري تحتل مواقع المسؤولية في توجيه المجتمع داخل الدولة وعلى مستوى الرأي العام معا. وهي التي نقصدها هنا عند الحديث عن النخبة الاجتماعية، لتمييزها عن الفئات التي تعيش شرطها الوجودي من دون طموح إلى لعب دور في قيادة المجتمع أو توجيه شؤون الدولة.
ويعني أيضا أن النخب السياسية والثقافية المعنية بوضع رؤية عامة، والسعي إلى تحقيقها، لا تشكل امتدادا مباشرا للطبقة المالكة أو المسيطرة على الثروة المادية والرمزية، من دون أن يعني ذلك أنها لا ترتبط بها، أو لا تنتمي إليها ولا تولد في حجرها. لكنها ليست نفسها. فهي تدخل في دينامكية خاصة بها منذ اللحظة التي تحتل فيها موقعا مختلفا، يتعلق بالقيادة والتوجيه العموميين.
ومن هنا تشكل دراسة النخب، وطريقة تكوينها، وأسلوب إعادة إنتاجها، ونوعيتها، مدخلا أساسيا لفهم قيام الدول ومصير المجتمعات السياسية، وأسلوب ممارسة السلطة وتطبيق السياسات العامة الكبرى، وخصائص نظم الحكم، وهو ما ينعكس على النظام العام وعلى الطبقات المالكة ذاتها. فهذه العوامل هي التي تحدد طبيعة علاقات النخب بالطبقات الاجتماعية وتصورها الذاتي لدورها وهويتها والمهام المطلوبة منها. فارتباط النخبة الأمريكية بطبقة رجال الإدارة والأعمال، وسيطرة القيم الليبرالية القوية على إيديولوجيتها، يعكس هو نفسه سيطرة مجتمع الإدارة والأعمال ونفوذه الواسع في المجتمع ككل، بما في ذلك على تكوين النخب السياسية والثقافية، حيث تسيطر منظومة الجامعات الخاصة الحرة المرتبطة هي ذاتها بنظام المشروع الخاص والممولة منه. بالمقابل يغلب على النخبة الفرنسية التي نشأت في سياق تأكيد دور الدولة القومية ومركزيتها، والتي تعتمد في تكوينها على نظام تعليمي عمومي (مندراني أو شبه مندراني نسبة إلى المندرينا الصينية الكلاسيكية) تموله الدولة وتشرف عليه، طابع النخبة التقنوقراطية. وهو ما يدفعها إلى إظهار استقلالية أكبر تجاه أصحاب المشاريع وبلورة رؤية مختلفة لدور الدولة ومكانتها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية أيضا. لكن تظل النخبة في الحالتين أداة التواصل والتوحيد بين جميع القوى والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين.
بالتأكيد يجري الحديث هنا عن نموذج مثالي، أي مجرد، لا ينطبق على الواقع إلا جزئيا وتاريخيا. وهو يعكس نزوعا سائدا لا حالة جامعة. فاستقلال النخب عن أصحاب الثروة والمال، وشعورها بالمسؤولية تجاه المجتمع، وتمثلها مفهوم المصلحة العامة، يبدو أكثر وضوحا اليوم في المجتمعات الديمقراطية الحديثة التي أنجزت ثورتها السياسية والصناعية، وتمثلت قيم المساواة والعلاقات الفردية والمواطنية. أما في المجتمعات التي لم تتحول إلى مجتمعات صناعية، ولم تحل علاقات العمل الرأسمالي عرى تشكيلاتها الجماعية التقليدية، العشائرية أو الطائفية أو العائلية، فالأمر يختلف. إذ
لا يكاد التطابق هنا بين أصحاب السلطة (الذين يحتلون مركز المسؤولية والقرار)، وأصحاب الثروة والجاه، يترك مجالا ولو محدودا لأي حراك اجتماعي. وهو يدين أبناء الطبقات الدنيا بالبقاء في موقعهم مهما بذلوا من الجهود، باستثناء حالات نادرة ترتبط بالحظ والصدفة والحذاقة الشخصية وأحيانا كثيرة الانتهازية والخيانة الطبقية. ومع هذا، حتى في المجتمعات الصناعية، تبقى العلاقة قوية بين الثروة وفرص احتلال مناصب المسؤولية، نتيجة تأثير الحالة الاجتماعية والمادية في تكوين الأبناء وتأهيلهم للحصول على المهارات الفنية والمهنية.
mercredi, juillet 29, 2009
من التسلطية إلى القيصرية
طرحت الأرقام المخيفة التي أشار إليها تقرير التنمية العربية الذي صدر هذا الشهر عن 2009 مجددا وبصورة أكثر حدة من قبل مسألة الاصلاح التي اعتقد العديد من الحكومات العربية أنها دفنت نهائيا. وكانت بعض الدول العربية قد حاولت، في محاولتها لتخفيف الضغوط الأمريكية، إجراء بعض الاصلاحات الديكورية في الممارسة السياسية، بما في ذلك تعديل قوانين أو إنشاء مؤسسات شكلية إضافية تهدف إلى توسيع القاعدة الزبائنية، وتبدو من حيث المظهر توسيعا للمشاركة السياسية.
في المقابل نحا بعضها الآخر، بالعكس، منحا آخر تماما. فقد استفاد من نتائج الحملة الامريكية الفاشلة لإدارة الرئيس بوش الابن على المنطقة المشرقية كي يعزز مواقعه ويخرج أقوى مما كان من قبل. وقد استغل حصول الإجماع في الداخل، والخارج، على أسبقية الاستقرار على أي هدف آخر، ليعيد بناء التوازنات الداخلية والخارجية على أسس جديدة، تضمن مزيدا من احتكار السلطة وشخصنتها. وفي سياق تحول الاستقرار إلى الخيار الرئيسي للمنظومة الدولية، وتلقي النظم المزيد من الدعم الخارجي تجنبا لخيار الفوضى والعنف (الاسلاموي) أو الإرهابي، والإحباط المتجدد للرأي العام، نجح العديد من النظم في التحول من نظم تسلطية إلى نظم قيصرية أو قيصرية جديدة. والقيصر هو بشكل أو آخر، ملك إله، يقضي في شؤون الناس ومصالحهم على هواه بمقدار ما يعتبر نفسه، ويصور من قبل أعوانه كشخص ملهم، لا يخطيء بمقدار ما هو منزه عن المصالح والأهواء.
والقيصرية السياسية ليست ثمرة طبيعية تولد من تلقاء نفسها، بسبب الطبيعة الثقافية أو النفسية، أو التراث التاريخي لشعب، ولا حتى الأهواء الشخصية. إن ولادتها تحيل إلى سياق اجتماعي سياسي هو هنا التحالف اللامنسجم واللامتجانس لفئات مصالح لا يجمع فيما بينها ويضمن استمرار تسيدها وتحقيق ذاتها سوى الولاء المشترك والكامل للسلطة وخضوعها الكلي لها وتسليمها لواحد أحد يحكم فيما بينها ويفصل في شؤونها. فبهذه الطريقة يتميز القيصر عنها جميعا ويتحول إلى كيان شامل أو رمز لشمولية الدولة والمجتمع، ومركز تماه جمعي، بل يتحول إلى تجسيد لشعب بأكمله قبل أن يكون ممثلا للطبقة اللمامة التي يستند النظام القائم إليها.
فالقيصرية نظام يقوم بالأساس على، أو بالأحرى لا قيام له من دون، هذه الوظيفة الجامعة والشاملة التي يمثلها القيصر، والموقع المتميز والمشرف والمستقل، وبالتالي المقدس أو شبه المقدس الذي يعطى له، والذي يجعل الجميع أمامه على القدر نفسه من العبودية والحرمان من السيادة والأهلية، مهما عظم شأنهم الاقتصادي وعلا كعبهم الاجتماعي. والتسليم للملك الإله، وإعلان الولاء الجامع له، من دون استثناء أو انتقاص أو تردد، هو شرط تكونه كقيصر، لا يشك في ولائه أو إلهامه أو إخلاصه ووفائه وسداد رأيه. وبعكس الحاكم السياسي، أي البشري، لا تستقيم صورة القيصر ولا تستقر في الذهن كسلطة فائقة الرمز والقوة والقيمة والنجاعة، إلا برفع الحاكم الفرد، ملكا كان أو رئيسا، إلى مرتبة استثنائية، غير طبيعية، وتجنب مقارنته بغيره من الحكام. فممارساته، مهما كانت، فوق بشرية، لا تخضع لمعايير العقل أو المنطق أو السياسة أو المصلحة أو الأخلاق، أي لمعايير ومنطق الصح والخطأ، والحق والباطل والخير والشر. منطقها الوحيد هو الحكمة الكامنة فيها والتي لا يعرفها إلا أهل الذكر والقيمين على السر، ولا تتجلى حقيقتها إلا في تاريخ لاحق.
وبعكس ما يبدو في الظاهر، لا تنبع قوة القيصر من صفاته الشخصية، العقلية أو النفسية، وإنما من الموقع الذي يحتله في النظام والقوة التمييزية المطلقة التي تمنح له من قبل الأطراف المشاركة في النظام. لذلك ليس لقوة الشخصية قيمة هنا، بل ربما كان ضعف الشخصية سببا إضافيا في تعزيز السياسة القيصرية. إذ يميل الشخص ضعيف الثقة بالنفس إلى استغلال القوة التمييزية التي يعطيها له النظام بأكملها، وعدم التساهل في أي جزء منها. وبالإضافة إلى مصدر القوة الرئيسي هذا، لا تقوم القيصرية من دون عمل يومي دؤوب يقوم فيه كهنة النظام والقيمين عليه، من أنصار وايديولوجيين، ورجال دين مقربين، ورجال دولة وأمن، وأطراف اجتماعية مشاركة في النظام ومستفيدة رئيسية منه، بالمشاركة الحية في بناء القيصرية كمصدر سلطة استثنائية، مقدسة وملهمة وناجعة معا، ورسم صورة رمزها كما ينبغي أن تكون. وتهدف هذه المساهمة إلى التاكيد اليومي والدائم، في الممارسة والخطاب معا، على الطابع الفريد والامتيازي لنظام الحكم وللحاكم معا، وقمع أي سلوك أو كلام من شأنه التشكيك باستثنائية الوضع وشخص القيصر أو بمناقشة أفعاله وأقواله أو إخضاعها لمقياس العقل أو السياسة أو المنطق الطبيعي، وفي المقابل تكريس سلطة الحاكم الفرد المطلق كواقع طبيعي وحتمي، منزه عن الأغراض والأهواء والمصالح والأخطاء.
لا يصبح القيصر قيصرا إلا بمقدار ما يسلم له الجميع، وفي مقدمهم بالطبع القوى الاجتماعية التي تشكل قاعدة النظام، والنخب الثقافية وغير الثقافية التي تدور حولها، بالأمر، ويقبلون به وكيلا لذواتهم جميعا قبل أعمالهم. والتسليم فعل من أفعال الايمان، لا يقبل إلا إذا كان مخلصا وصادقا وكاملا لا يدخله أي شك أو تردد أو اعتبار سوى الثقة بمقدرة الملك الإله وحكمته وطبيعته الخيرة. من هنا يحتل القيصر، كحاكم فرد مطلق ومنزه عن الاهواء والأغراض، رئيسا كان أم ملكا، كل الواجهة السياسية، أي كل فضاء العمومية، ويحول جميع المؤسسات والسلطات الخاضعة له، عسكرية واقتصادية وسياسية وإدارية وثقافية وأهلية، بما في ذلك المسؤولين فيها، إلى أدوات يستخدمها في تحقيق إدارة ليست من السياسة وإنما هي من الحكمة اللدنية، لا تخضع لأي معيار موضوعي وقانوني، سوى ما يراه هو من خير وفائدة للمجتمع والبلاد. الحكم حسب إرادة الحاكم ورغبته وتمنياته، والاستجابة لتصوراته وأهوائه، الخيرة بالضرورة، من دون أي محاسبة أو مراقبة حتى من قبل من يحيط به من رجال السلطة أو من طرف القوى المالكة التي تشكل قاعدة نظامه الاجتماعية، هو جوهر الايمان والتسليم، ومن وراء ذلك راحة البال وحسن المآل في الدنيا والآخرة.
في هذا السياق، لم يكن من المستغرب أن يكون تقرير عام 2009 للتنمية البشرية، بصرف النظر عما تعرض له من تزيين، أكثر إدانة لواقع المجتمع والسياسة العربيين من التقارير السابقة، التي شكلت عندما صدرت عام 2009 صدمة حقيقية للوعي العربي، العام والمختص معا. فجميع المؤشرات، ما تعلق منها بالنمو الاقتصادي أو التكافؤ الاجتماعي أو البطالة أو الفقر أو التعليم، فما بالك بالمشاركة السياسية والتقدم على طريق تحقيق المطالب الديمقراطية والحقوق الانسانية، تشير إلى تجاوز الخطوط الحمر. ومع نسبة بطالة تزيد على 14 بالمئة، ومستقبل قاتم للتنمية المستدامة، وانعدام أي آفاق لتعاون اقتصادي وتقني وعلمي جدي بين البلدان العربية، لن يكون من المستغرب أن تتدهور بشكل أكبر معاني الحكم السياسي المدني ومفاهيمه، لتحل محلها المحسوبيات الشخصية والطائفية والعشائرية، أي أن يترسخ أكثر فأكثر خروج العالم العربي، أو قسما كبيرا منه، من السياسة الحديثة.
vendredi, juillet 24, 2009
ايران وحقبة ما بعد الثورة الاسلامية
كما كانت الثورة الاسلامية في ايران إعلانا عن افتتاح حقبة جديدة في العالمين العربي والاسلامي سيطرت فيها العقيدة الدينية على الحياة السياسية، حتى في تلك البلدان التي لم تخضع لحكم إسلامي، تشكل الهزة العنيفة التي شهدتها الجمهورية الاسلامية إرهاصا بحقبة جديدة يمكن ان نطلق عليها ما بعد إسلاموية. وليس المقصود بما بعد هنا العودة عن إنجازات الحقبة الاولى وإنما تجاوزها، أي الاحتفاظ بما فيها من ايجابي وضم عناصر جديدة إليها، أو بالأحرى إعادة النظر في مكانة رجال الدين ودورهم في الحياة السياسية، انطلاقا من تجربة غنية وأساسية هي تجربة الجمهورية الاسلامية الايرانية، كما جسدتها ولاية الفقيه وأسبقيته السياسية، المعمول بها في طهران رسميا منذ عام 1979. وبعكس ما يبدو على السطح، لا تشكل حركة الاحتجاج الأخيرة نفيا للجمهورية الاسلامية الايرانية، وإنما تعبيرا عن انتصار فكرتها، والحلم المتنامي بتحريرها من أغلالها وإعادة تأسيسها.
من هذا المنظور تمثل الأوضاع الايرانية الراهنة لحظة تاريخية، وتنطوي على ديناميكية، وتعبر عن خيارات، هي نفسها التي تعيشها المجتمعات العربية، من دون أن تستطيع التعبير عنها، بسبب القهر والكبت السياسيين والفكريين، ومن باب أولى أن تتطلع إلى الخروج منها. فكما كان العرب سباقين في التعبير عن المرحلة القومية التي عاشتها شعوب كثيرة في العالم الثالث، في الخمسينات والستينات، وأخفقت طهران في الولوج إليها بسبب السيطرة الغربية الطاغية، وهو ما عبر عنه إحباط الحركة المصدقية عام 1953، كانت ايران سباقة في الثمانينات إلى قيادة الحقبة ما بعد القومية. ومصدر سبقها أنها لم تكن تستطيع تحقيق الاستقلال وتأكيد الهوية الثقافية، من دون أن تبتدع نموذجا سياسيا وفكريا يقطع مع الغرب ويحقق أهداف التقدم التقني والاجتماعي في الوقت نفسه. وهذا ما جعلها تبدو وكأنها تفتح أفقا جديدا للبلدان النامية، والاسلامية منها بشكل خاص، يحمل فرص إخراج ملايين البشر من الهامشية وانعدام الثقة بالنفس، ويمكنهم من استعادة إنسانيتهم، والمصالحة مع ذواتهم وتاريخهم. وهو ما جعل أيضا من ايران منارة قوى الاحتجاج الإقليمية، ودفع قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي إلى الاحتفاء بثورتها الاسلامية بوصفها لحظة من لحظات تاريخ تحرر البشرية.
وكما هو معروف، جاءت الثورة الاسلامية ردا على حداثة قاهرة وسالبة معا، لا تعمل على تحقير الذات والتحلل من الهوية فحسب، ولكنها تحكم على الأغلبية الساحقة من الناس بالفقر بالعطالة والذل والمهانة الأبدية. وهذا ما عبر عنه وجسده حكم الشاه الذي عمل حارسا للمصالح الغربية، وكان من أقسى النظم وأكثرها فسادا وتمييزا ضد عامة الشعب. وفي ردها الاعتبار للناس العاديين - الذين احتقرهم النظام الأسبق وهمشهم تماما ورفض أن يعترف بأهليتهم السياسية، أي بمعاملتهم كمواطنين متساوين، وهو مكسب تجاوز في أهميته بكثير المكاسب المادية الاخرى - ردت الاعتبار في الوقت نفسه للعقيدة التي كانوا يحملونها، والتي تشير إلى هويتهم الثقافية، وتعبر عن شخصيتهم التاريخية، في مقابل العقيدة القومية المتعصبة والفكرة الآرية التي ارتبطت بها. وهذا هو جوهر الترابط الذي حصل بين الاسلام والسياسة الايرانية.
وقصدي ان ما حرك الجمهور الواسع في ايران ضد نظام الطغيان الشاهنشاهي لم يكن، كما سعى رجال الدين إلى تصويره في مابعد، إتاحة فرصة أكبر لممارسة الشعائر الدينية، ولا صبغ معالم الحياة والعمل والتفكير جميعا بالصبغة الدينية أو الإلهية، ولا كان فرض الحجاب ومراقبة سلوك الأفراد الأخلاقي، ولا بناء جدران تعزل الشعب الايراني عن العالم باسم القومية أو الدين. ولا كان التسليم بسلطان الولاية الدينية وفرض وصاية رجال الدين على الحياة السياسية. ففي ما وراء المظهر الديني للحركة الشعبية التي أطاحت بالشاه ونظامه، كان محرك الثورة الاسلامية العميق الانعتاق من حياة الذل والهامشبة والتمييز الاجتماعي والثقافي وإسقاط الأهلية السياسية عن أغلبية الشعب بما تعنيه من من تكريس مبدأ المساواة واحترام الحقوق الانسانية في الحرية والمشاركة السياسية.
لكن الدور الذي لعبه الاسلام في تفجير هذه الثورة التحررية وقيادتها، قد حجب عن عيون الناس، ايرانيين وأجانب، مقاصد الثورة الرئيسية ومصدر شرعيتها الحقيقية. فقد غطت الايديولوجية الدينية، التي لعبت الدور الأول في بلورة الوعي بالمطالب السياسية والإنسانية من جهة، على عملية المصادرة التدريجية التي تعرضت لها الحركة الشعبية. كما عزز الدور المركزي الذي قامت به الحوزة الشيعية الايرانية في تنظيم قوى الثورة وتوجيهها وقيادتها من شرعية سيادة رجل الدين وأسبقيته على رجل السياسة من جهة ثانية. وكان لشخصية الخميني نصيبها أيضا في دفع الأفراد إلى التسليم بريادة الفقية الولي، واعتباره الأمين على السلطة، والقيم على حسن ممارستها، بما يتميز به من بصيرة وشجاعة ونزاهة وابتعاد عن المصالح الشخصية. وجاءت الحرب العراقية الايرانية، التي جاءت تتويجا لحروب تدخل خارجية طويلة، مناسبة للتكريس النهائي لولاية الفقيه ووصاية السلطة الدينية، وبالتالي حرمان الناس بشكل أكبر من سيادتهم الشخصية.
لم يساعد هذا الوضع الجمهورية الاسلامية على انتهاج الطريق الذي كان متوقعا لها. ودفعها إلى الانخراط بشكل متواصل في طرق مسدودة حطمت شيئا فشيئا جميع الآمال التي كانت معقودة عليها. وستعقب حقبة الانجازات الكبرى حقبة ثانية طويلة من الاحباط والعجز عن الوفاء بالوعود المعقودة والتورط المتزايد في سياسات لمزايدة القومية والدينية والمواجهة الخارجية. ولم تلبث الثورة الاسلامية أن فقدت بوصلتها. فصار الحفاظ على الهوية الدينية، التي تبرر سيطرة النخبة القائمة وتضفي عليها الشرعية، غاية بديلة عن تحرير الأفراد وتحسين شروط حياتهم الإنسانية، وصار البحث عن القوة والعظمة استراتيجية الدولة الأولى المقدمة على برنامج تحقيق المواطنة الحقيقية، وأصبح الحفاظ على النظام الثوري وضمان أمنه أولوية وجودية، وتعويضا عن الفشل في بناء شروط المساولة وتحرير الفرد من الاستلاب لسلطة خارجية. فلن يتأخر الوقت قبل أن تظهر الهرمية الجديدة في السلطة، مع ما يعني ذلك من إعادة بناء علاقات السيطرة والإخضاع، والمشاركة والاستبعاد لشرائح اجتماعية مختلفة. وكما سيحرم الحصار الذي فرض عليها، كباقي الثورات التاريخية، الثورة الايرانية من توفير شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للرد على حاجات السكان، سيساهم التفاوت المتزايد في ممارسة الحقوق والحريات الموعودة - الذي ارتبط بطابعها الديني والمذهبي - في تنامي التوترات والتناقضات والاحتقانات.
هكذا لم تكن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة هي السبب في تفجير حركة الاحتجاج الايرانية الواسعة، ذات الطابع الثوري أي القطعي، وإنما كانت الصاعق الذي فجر قنبلة موقوتة. ولا يغير في مغزى ما حصل عدم حصول تزوير في الانتخابات بل إنه يفاقمه ويبرز بشكل أكبر مدى الانكشاف السياسي والايديولوجي لنظام الملالي الايرانيين، ونفاذ صبر قطاعات واسعة من الرأي العام الايراني وتوقها الشديد إلى التغيير وقطعها تماما مع أوهام الجمهورية الاسلامية ووعودها.
عوامل عديدة ساهمت في سقوط الاوهام، وتنامي الشعور بمصادرة الثورة من قبل فئات المصالح وأصحاب النفوذ، وسعيهم إلى تجميد الأوضاع في مكانها، وحرمان الآخرين، إلا ما كان على سبيل الدعاية والرشوة الجماعية، من ثمرات تضحياتهم. من هذه العوامل رئاسة أحمدي نجاد وما اتسمت به من تشدد ديني وسياسي داخلي، ومن تكريس سيطرة النخبة الدينية وتعزيز مواقعها ودورها في توجيه دفة السياسة الوطنية الداخلية والخارجية. والتراجع التدريجي عن الحريات المكتسبة، والعمل بصمت على إعادة إنتاج النظام القمعي التقليدي المستند إلى أجهزة الأمن والميليشيات الخاصة التابعة للنخبة الحاكمة. وهذا ما أثار تململا داخل العديد من الأوساط الاجتماعية الميالة إلى التسامح والتعامل الطبيعي مع العصر وقيمه ومراكز الحضارة العالمية، بما في ذلك بعض أطراف النخبة الدينية التي تخشى مركزة السلطة جميعا في يد الولي الفقيه وذراعه الرئاسية. ومنها أيضا التبدل الايجابي الذي حصل على صعيد السياسة الإقليمية نتيجة الإخفاق الذريع لاستراتيجية جورج بوش العدوانية، وتبني الإدارة الأمريكية الجديدة استراتيجية التهدئة، ومدها يد المصالحة إلى العالمين العربي والاسلامي، وإعلانها عن رغبتها في الانفتاح على طهران والحوار الجدي معها في سبيل التوصل إلى تسوية في مسألة التقنية النووية.
لكن بداية انحسار عصر الثورة الاسلامية لا يعني أبدا نهاية النظام، وأقل من ذلك زوال نفوذ الدولة الايرانية أو تهديد وجودها. فالنظام مجموعة قوى ومصالح متآلفة، أصبحت مستقرة بمعزل عن المباديء الثورية والشعارات والقيم الملهمة الدينية والقومية. وهي لا تزال تملك هنا وسائل لا حد لها للدفاع عن نفسها والاحتفاظ بالسيطرة السياسية. إنها تعني تراجع الثورة لصالح الدولة. وهذا بمعنيين، الأول تآكل الرصيد المعنوي والأخلاقي والفكري للنظام الثوري، والثاني بروز مطالب الحرية والمساواة والحياة القانونية السليمة التي تميز الدول الحديثة الناجزة، أي العودة إلى حياة دستورية طبيعية وعادية ونموذجية والقطع مع الأوضاع الاستثنائية المرافقة للثورات.
ومع تراجع شرعية النظام الثوري الذي أصبح استمراره يتناقض مع تحقيق مفهوم دولة المواطنة وقانونها، سيصبح من الصعب على أصحابه الحفاظ على توازن السلطة وإعادة إنتاجها من دون توسيع دائرة استخدام العنف والقمع والحد من الحرية. وهذا هو الثمن الحتمي لانحسار الشرعية، أي لتراجع رصيد الولاء الطوعي وروح الانتماء والتماهي مع السلطة، ايمانا بثوريتها، أي بنزاهة أهدافها وإنسانيتها. وهو الرصيد المعنوي والرمزي الذي يزود الثورات عموما بقوة دفع استثنائية في حقبتها الأولى. وفي موازاة اللجوء المتزايد للعنف للحفاظ على الوضع القائم، ستجد السلطة الاسلاموية نفسها مكرهة أكثر فأكثر على الإنكفاء على العصبية، وتغذية مشاعر التضامن البدائية ضد الغريب والمختلف والأجنبي، على حساب قيم الحرية والمساواة والأخوة الانسانية، وذلك حتى تضمن استمرارها وتعوض عن انحسار صدقية مشروعها وشرعيتها معا.
لا يختلف ما تعيشه الثورة الاسلامية في ايران اليوم عما عرفته في الخمسينات والستينات جميع الحركات والثورات الشعبية، الاشتراكية والقومية، في منطقتنا، وفي البلاد الأخرى، على حد سواء. فهي تتعرض اليوم إلى مراجعة قوية وعميقة الجذور يصعب استئصالها. لكن بعكس ما حصل في البلاد العربية التي نجحت النخب القومية والثورية في تدجينها وفرض الموت السياسي عليها، لن تستطيع سلطة الملالي مقاومة المعارضة الشعبية لفترة طويلة. وسوف تضطر عاجلا أم آجلا إلى الانفتاح على مطالبها التحررية، أو تحكم على نفسها بالهلاك وعلى ايران بالتخبط في وحول ثورة انحرفت عن أهدافها، تماما كما تتخبط المجتمعات العربية منذ عقود طويلة في رواسب ثورة "قومية" مخفقة وتدفع غاليا ثمن إجهاضها. فقد احتاجت النخب العربية القومية والثورية بالذات إلى نصف قرن من العنف الأعمى وعمليات الإغتيال وحروب التطهير السياسي، وحملات الانتقام والتأديب لإخماد الانتفاضات الشعبية، وتأبيد نظام الاحكام العرفية وحالة الطواريء، حتى تتمكن من القضاء على أوهام الحرية والعدالة والمساواة والكرامة التي فجرتها الحركة الشعبية، وحتى تعيد الجماهير التي كانت تتغنى بنضالاتها إلى "أوكارها"، وتنسيها معنى الحقوق المدنية والسياسية. ولا تزال هذه الحرب مستمرة إلى اليوم، إذ ماذا يعني نظام الديكتاتورية، التي تكاد تصبح ماهية السياسة في بلادنا، غير تنظيم حالة الحرب هذه ومأسستها في سبيل إدامة أوضاع السيطرة اللاشرعية فترة أطول وزيادة فعالية الحكم بالقوة وردعيته معا.
وفي اعتقادي، ليس هناك أي حتمية في أن تنجح سلطة الملالي في قهر إرادة التحرر لدى الشعوب الايرانية وتعريض ايران إلى مخاطر التخبط والفوضى والاقتتال الأهلي الذي يميز دول المنطقة العربية. وإذا نجحت ايران في أن تشق لنفسها طريقا جديدة للمستقبل، فسيكون ذلك، من دون شك، فاتحة تحرر المنطقة برمتها من أزمتها الفكرية والسياسية التي لعبت الثورة الاسلامية الايرانية دورا رئيسيا فيها.
mercredi, juillet 15, 2009
نهاية الحقبة الاسلامية
كما كانت الثورة الاسلامية في ايران إعلانا عن افتتاح حقبة جديدة سيطرت فيها العقيدة الدينية على الحياة السياسية، حتى في تلك البلدان التي لم تخضع لحكم إسلامي، تشكل الهزة العنيفة التي شهدتها الجمهورية الاسلامية إرهاصا بنهايتها أو بالخروج منها.
من هذا المنظور تمثل الأوضاع الايرانية الراهنة لحظة تاريخية وتنطوي على ديناميكية، وتعبر عن خيارات، هي نفسها التي تعيشها المجتمعات العربية، لكن في ظروف الكبت والعجز والحرمان من التعبير عنها أو التفكير في مضمونها وأفق الخروج منها. فكما كان العرب سباقين في التعبير عن المرحلة القومية التي عاشتها شعوب كثيرة في العالم الثالث في الخمسينات والستينات، وأخفقت طهران في الولوج إليها بسبب السيطرة الغربية الطاغية، وهو ما عبر عنه إحباط الحركة المصدقية عام 1953، كانت ايران سباقة في الثمانينات في قيادة الحقبة ما بعد القومية. ومصدر سبقها أنها لم تكن تستطيع تحقيق الاستقلال وتأكيد الهوية الثقافية، من دون أن تبتدع نموذجا سياسيا وفكريا يقطع مع الغرب ويحقق أهداف التقدم التقني والاجتماعي في الوقت نفسه. وهذا ما جعلها تبدو وكأنها تفتح أفقا جديدا للبلدان النامية، والاسلامية منها بشكل خاص، يحمل فرص إخراج ملايين البشر من الهامشية وانعدام الثقة بالنفس ويمكنهم من استعادة إنسانيتهم والمصالحة مع تاريخهم. وهو ما جعل أيضا من ايران منارة قوى الاحتجاج الإقليمية، ودفع قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي إلى الاحتفاء بثورتها الاسلامية بوصفها لحظة من لحظات تاريخ تحرر البشرية.
وكما هو معروف، جاءت الثورة الاسلامية ردا على حداثة قاهرة وسالبة معا، لا تعمل على تحقير الذات والتحلل من الهوية فحسب، ولكنها تحكم على الأغلبية الساحقة من الناس بالفقر والعطالة والذل الأبدي. وهذا ما عبر عنه وجسده حكم الذي عمل حارسا للمصالح الغربية وكان من أقسى النظم وأكثرها فسادا وتمييزا ضد عامة الناس. وفي ردها الاعتبار لهؤلاء، وهو مكسب تجاوز في أهميته بكثير المكاسب المادية الاخرى، ردت الاعتبار في الوقت نفسه للعقيدة التي يحملونها والتي تمثل هويتهم وشخصيتهم في مقابل العقيدة القومية المتعصبة والايديولوجية الآرية التي ارتبطت بها. وهذا هو جوهر الترابط الذي حصل بين الاسلام والسياسة الايرانية.
فلم يكن تحقيق المطالب الدينية، ولا توفير فرص أكبر لممارسة الطقوس والعبادات، ولا صبغ معالم الحياة والعمل والتفكير جميعا بالصبغة الدينية أو الإلهية، هو مصدر ولاء الجمهور للجمهورية الجديدة، وأقل من ذلك التسليم بسلطان الولاية الدينية المطلق وفرض وصايتها على الحياة السياسية.
لكن ليس هناك شك في أن هذا الترابط الذي حصل بين الثورة التحررية والاسلام قد حجب عن عيون الناس، ايرانيين وأجانب، مقاصد الثورة الرئيسية ومصدر شرعيتها الحقيقية. وغطت الايديولوجية الدينية على عملية المصادرة التدريجية التي تعرضت الحركة الشعبية لحقبة طويلة سابقة. وعزز ذلك الدور المركزي الذي قامت به الهيئة الدينية الايرانية بما قدمته من قوة تنظيمية وتوجيهية جاهزة لإعادة بناء قوة التغيير. وكان لشخصية الخميني نصيبها أيضا في دفع الأفراد إلى التسليم بريادة الفقية الولي واعتباره الأمين على السلطة والقيم على حسن ممارستها بما يتميز به من بصيرة وشجاعة ونزاهة وابتعاد عن المصالح الشخصية. وجاءت الحرب العراقية الايرانية، التي جاءت تتويجا لحروب تدخل خارجية طويلة، مناسبة للتكريس النهائي لولاية الفقيه ووصاية السلطة الدينية، وبالتالي حرمان الناس بشكل أكبر من سيادتهم الشخصية.
لكن الثورة الاسلامية، كجميع الثورات التي سبقتها، لن تحقق مكاسب فحسب ولكنها ستنتج إحباطات كثيرة وعميقة أيضا، وذلك على مقدار ما ستبرز، في التطبيق العملي، التباين الواسع بين الطوبى الملهمة والممارسة الفعلية، وما ستعيد بناءه من أوضاع السيطرة والإخضاع، والمشاركة والاستبعاد لشرائح اجتماعية مختلفة. وكما حرمها الحصار الذي فرض عليها، كباقي الثورات التاريخية، من توفير شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للرد على حاجات السكان، ساهم التفاوت المتزايد في ممارسة الحقوق والحريات الموعودة الذي ارتبط بطابعها الديني والمذهبي في تنامي التوترات والتناقضات والاحتقانات الحاملة لمخاطر عديدة.
عوامل عديدة ساهمت في سقوط الاوهام، وإدراك مسار الانحسار والتراجع في شعارات الجمهورية الاسلامية، وربما، أكثر من ذلك، خاصة بعد الانتخابات الإشكالية الأخيرة، تنامي الشعور بمصادرة الثورة من قبل فئات المصالح وأصحاب النفوذ، وسعيهم إلى تجميد الأوضاع في مكانها، وحرمان الآخرين، إلا ما كان على سبيل الدعاية والرشوة الجماعية، من ثمرات تضحياتهم. وهو ما شجع جمهورا كبيرا على القطع مع أسطورة الثورة التحررية، والنزول إلى الشوارع للتعبير عن رفضه التمديد للأوضاع القائمة. من هذه العوامل رئاسة أحمدي نجاد وما اتسمت به من تشدد ديني وسياسي داخلي، ومن تكريس سيطرة النخبة الدينية وتعزيز مواقعها ودورها في توجيه دفة السياسة الوطنية الداخلية والخارجية. والتراجع التدريجي عن الحريات المكتسبة، والعمل بصمت على إعادة إنتاج النظام القمعي التقليدي المستند على أجهزة الأمن والميليشيات الخاصة التابعة للنخبة الحاكمة. وهذا ما أثار تململا داخل العديد من الأوساط الاجتماعية الميالة إلى التسامح والتعامل الطبيعي مع العصر وقيمه ومراكز الحضارة العالمية، بما في ذلك بعض أطراف النخبة الدينية التي تخشى مركزة السلطة جميعا في يد الولي الفقيه وذراعه الرئاسية. ومنها أيضا التبدل الايجابي الذي حصل على صعيد السياسة الإقليمية نتيجة الإخفاق الذريع لاستراتيجية جورج بوش العدوانية، وتبني الإدارة الأمريكية الجديدة استراتيجية التهدئة، ومدها يد المصالحة إلى العالمين العربي والاسلامي، وإعلانها عن رغبتها في الانفتاح على طهران والحوار الجدي معها في سبيل التوصل إلى تسوية في مسألة التقنية النووية.
لكن بداية انحسار عصر الثورة الاسلامية لا يعني أبدا نهاية النظام وأقل من ذلك زوال نفوذ الدولة الايرانية أو تهديد وجودها. فالنظام مجموعة قوى ومصالح متآلفة مستقلة عن المباديء الثورية والشعارات والقيم الملهمة، وهي لا تزال تملك هنا وسائل لا حد لها للدفاع عن نفسها والاحتفاظ بالسيطرة السياسية. إنها تعني تآكل الرصيد المعنوي والأخلاقي والفكري للنظام، وهو ما سيضطر أصحابه للحفاظ على توازن السلطة وإعادة إنتاجها إلى توسيع دائرة استخدام العنف والقمع والحد من الحرية على حساب المراهنة على الولاء الطوعي وروح الانتماء والتماهي مع السلطة ايمانا بثوريتها، أي بنزاهة أهدافها وإنسانيتها. وهو ما يزود الثورات عموما بقوة دفع استثنائية في حقبتها الأولى. وفي موازاة اللجوء المتزايد للعنف للحفاظ على الوضع القائم، ستجد السلطة الاسلاموية نفسها مكرهة أكثر فأكثر على الإنكفاء على العصبية وتغذية مشاعر التضامن البدائية ضد الغريب والمختلف والأجنبي، على حساب قيم الحرية والمساواة والأخوة الانسانية، حتى تضمن استمرارها وتعوض عن انحسار صدقية مشروعها وشرعيتها معا.
لا تختلف ما تعيشه الثورة الاسلامية في ايران اليوم عما عرفته جميع الحركات والثورات الشعبية، الاشتراكية والقومية، في منطقتنا، وفي البلاد الأخرى، على حد سواء. فقد احتاجت النخب العربية القومية والثورية بالذات إلى نصف قرن من العنف الأعمى وعمليات الإغتيال وحروب التطهير السياسي، وحملات الانتقام والتأديب لإخماد الانتفاضات الشعبية، وتأبيد نظام الاحكام العرفية وحالة الطواريء، حتى تتمكن من القضاء على أوهام الحرية والعدالة والمساواة والكرامة التي فجرتها الحركة الشعبية، وتعيد الجماهير التي كانت تتغنى بنضالها إلى "أوكارها"، وتنسيها معنى الحقوق المدنية والسياسية. ولا تزال هذه الحرب مستمرة إلى اليوم، إذ ماذا يعني نظام الديكتاتورية، التي تكاد تصبح ماهية السياسة في بلادنا، غير تنظيم حالة الحرب هذه ومأسستها لضمان إنتاجية أكبر للعنف وبقاء أطول للنظام؟
ستظل إيران لفترة طويلة ضحية شعارات ثورتها وجمهوريتها الاسلاميتين قبل أن تنجح في شق طريق جديد للمستقبل، تماما كما بقيت مجتمعاتنا العربية ولا تزال تتخبط منذ عقود في رواسب ثورتنا "القومية" وتدفع غاليا ثمن إجهاضها.
lundi, juillet 13, 2009
عودة إلى مسألة الإصلاح والتغيير
لم يكن المواطن العربي بحاجة إلى تقرير التنمية البشرية الجديد حتى يدرك أن العالم العربي يعيش مشكلة داخلية حقيقية تتعلق بأسلوب عمله وتطوره، لا تقل أهمية عن المشكلة الخارجية المتمثلة في استمرار الاحتلال وضغط القوى الدولية.
وأصل هذه المشكلة هو إخفاق ما كنا نسميه في الأدبيات الدولية حركة التحرر الوطني
بما كانت تعنيه من تبلور قوة محلية سياسية وأجندة للعمل الجمعي وغايات واضحة توجه القادة والرأي العام معا وتبين مدى نجاحهم أو فسلهم في تحقيق البرنامج الوطني المجمع عليه. ويعني هذا الإخفاق فراغا فكريا وسياسيا وقياديا أيضا يجعل من الصعب تحديد المهام التاريخية المجمع عليها فما بالك بمواجهتها والتوافق على قيم وأهداف وغايات جماعية.
هكذا أصبح التغيير، أي سد الفراغ الفكري والسياسي والرمزي الذي تركه إخفاق نموذج حركة التحرر الوطني النظري والعملي، هدفا في ذاته بعد أن كان وسيلة لتحقيق أهداف واضحة ومنشودة، وأصبح استبدال النظم السابقة بنظم جديدة تعيد بناء العلاقة بين النخب والقيادات وتحيي معنى الشرعية والمشاركة السياسية، مقدمة لإطلاق ديناميكية العمل والنشاط الاجتماعيين وإخراج المجتمعات من الطريق المسدودة التي دخلت فيها، أي لعودة الايمان بإمكانية التقدم، على محدوديتها، ونجاعة الاستثمار في جميع مستوياته الاقتصادية والفكرية والمدنية.
وعندما نفكر اليوم بمصير الكتل القارية العديدة، نجد أنفسنا مدفوعين تلقائيا إلى أن نتحدث عن ديناميكيات التغيير الخاصة التي نقلت الشعوب والمجتمعات من حقبة نموذج التحرر الوطني إلى الحقبة الجديدة التي تلعب المشاركة الشعبية الفاعلة دورا أساسيا في بناء مشروعيتها وبناء الثقة العامة اللازمة لاستقرارها واستمرارها. وفي هذا السياق تقفز إلى ذهننا تجارب ناجحة عديدة. أولها تجربة دول أمريكا اللاتينية التي قبلت النخب المعارضة فيها، وكان لمعظمها ميليشيات ومواقع عسكرية قوية في البلاد، من خلال الحوار والتنازلات المتبادلة، بالاندماج في النظم القائمة والتخلي عن تمردها مقابل تخلي النظم الأوليغارشية عن احتراف القهر والقمع والاستبداد. وثانيها تجربة الدول الأفريقية التي كانت تتميز بتبعيتها والتي انتقلت إلى مواقع ديمقراطية تعددية. ولا شك أنه كان للضغوط الخارجية وضمان الدول الحامية التقليدية دور كبير في هذا التحول. وربما سيبقى لفترة طويلة شرط استمراره.
ويختلف عن ذلك نموذج تجربة شرق أوروبة الذي جمع بين التدخل الخارجي والديناميكية السياسية الداخلية. فلا يشك أحد في أثر زوال الاتحاد السوفييتي وإغراء الاندماج بالغرب الرأسمالي في دفع حركة المعارضة الثقافية وإطلاق حركة التغيير الشعبية التي أدت إلى إسقاط النظم الشمولية وإقامة نظم ديمقراطية مكانها.
وبالمقابل جمع النموذج العربي بين غائبين. أولهما انعدام أي تعاطف خارجي حقيقي مع الشعوب، وبالتالي صعوبة نشوء سياق يسمح بتكوين حركات انشقاق قوية وبناء ثقة عميقة بإمكانية التغيير عند الرأي العام الواسع، وثانيهما تمتع النظم السياسية والاجتماعية القائمة بهامش كبير من الاستقلالية تجاه الشعوب، إما بسبب التحالف الوثيق الذي يربطها بالدول الكبرى أو بسبب وجود موارد ريعية مادية ومعنوية غزيرة خلفتها الحركة القومية أو أخيرا بسبب نجاح هذه النظم في تدمير المجتمع المدني وفرض العزلة الثقافية والنفسية على الشعوب. والنتيجة استعصاء مديد في هذه المنطقة على أي تغيير في اتجاه التحولات العالمية وإنجاز المهمات التاريخية، كان من عواقبه انحسار الشرعية، وعلى هامشها استمرار التدخل الخارجي شبه الاستعماري الذي شكلت الحرب الأمريكية على العراق وجهه الكارثي الأبرز، وفرعنة نظم سياسة لا تجد مبررا لفتح أي حوار مع حركات الاحتجاج ومع الرأي العام ككل. وهي لا تزال مستمرة في تعبئة شعوبها بالطرق الكلاسيكية الشمولية نفسها، باستعداء الخارج وتهييج المشاعر القومية وتأليب الرأي العام على قوى المعارضة الجنينية. وهو ما يجعل العالم العربي يبدو وكأنه يعيش في حقبة ماضية، ويخرج من التاريخ الحي الذي تعيشه الشعوب الأخرى، ببرامجه الجديدة وقيمه وغايات إنسانه. كما يجعل الإنسان يشعر في هذا العالم بالضياع وانعدام الوجهة وضياع الأمل معا، ويغذي التوقعات الأكثر سلبية وسوداوية في مستقبل المجتمعات..
يشجع الجمود الذي يسم الأوضاع العربية منذ عقود طويلة، والتعثر الذي لا تزال تشهده
المسيرة الاصلاحية على تزايد دور الدول الاجنبية في تكوين التوازنات الإقليمية والداخلية، ونزوع النظام والمعارضات بشكل أكبر إلى الشك في مقدرتهم على البقاء والاستمرار من دون تعزيز التحالف مع الخارج. من هنا ولد الصراع الدائر اليوم حول التغيير في العالم العربي أوضاعا جديدة ذات سمات خصوصية، وأنتج إشكاليات نظرية سياسية لم تكن موجودة من قبل. وأصبحت العلاقة مع الخارج، والغرب منه بشكل خاص، إشكالية مركزية في أي نقاش حول التغيير. وما كان لمثل هذه الإشكالية أن ترى النور لو نجحت قوى المعارضة الداخلية أو القوى الشعبية المدنية كما حصل في العديد من البلدان الأخرى التي عانت من نظم شمولية في أن تنتزع المبادرة من القوى الحاكمة أو أن تجبرها على القيام بالتنازلات الضرورية لشق طريق الاصلاح والعودة إلى الحياة السياسية الطبيعية. وأكثر فأكثر تثبت الأيام أن مثل هذه الاحتمالات التي مكنت المجتمعات التي عاشت ظروفا مشابهة لظروف المجتمعات العربية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وأوروبة الشرقية والكتلة السوفييتية السابقة غير واردة أو صعبة التحقيق في البلاد العربية.
تنبع المشكلة بالفعل من انسداد النظم وانغلاقها وعدم عكسها لحركة المجتمعات وتجميدها للمصالح وتحولها إلى قنوات لتأكيد سيطرة مستمرة وكاملة وأبدية لجماعة مصالح واحدة. ولا يزال السؤال الذي نظرحه منذ عقود دون جواب، أعني كيف يمكن فتح هذه الأنظمة لإطلاق ديناميكية الحراك الاجتماعي وتشجيع الناس على العمل والمبادرة والمشاركة وبذل الجهد. والقضاء بالمناسبة على الطبقة الطفيلية التي تكونت في العقود الماضية وأصبح وجودها منبع الفساد الكبير والصغير، وذلك بمقدار ما تفرض إعادة إنتاجها الرشوة المعممة وأحيانا وفي بلدان كثيرة تأبيد الأحكام العرفية والاستثنائية وانتشار المعاملات المهينة والمذلة للأفراد، وإحلال العصبيات والولاءات الزبائنية والمحسوبيات محل الهوية السياسية والولاءات الوطنية.
ليس هناك خيارات كثيرة في الواقع، فإما أن تتقوى قوى الاصلاح الداخلية كي ما تفرض التغيير بالحوار على الطريقة الأمريكية اللاتينية وما تعنيه من تنازلات متبادلة، أو أن تنجح الضغوط الخارجية في ضمان تحول تدريجي للنظم لقاء مساعداتها السياسية والاستراتيجية
أو أن يتفاقم الفساد ويشمل الانهيار والتفسخ جميع مؤسسات النظم، مع ما يعني ذلك من تدهور شروط معيشة الأفراد المادية والمعنوية، وتزايد احتمال الانفجارات على الطريقة التقليدية/ وما يمكن أن تجره من المزيد من التدخلات الأجنبية.
باختصار، أصبح التغيير بصرف النظر عن مضمونه ومعانيه السمة الرئيسية للحقبة التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم في كل مكان. وعلى قدر النجاح في هذا التغيير تقاس جدارة النظم وشرعية بقائها، لدى الرأي العام الداخلي والخارجي معا.