رسالة النقد الاجتماعي
تحليلات ودراسات في المجتمع والسياسة
في العالم العربي والشرق الأوسط
Burhan Ghalioun is presently a Professor of Political Sociology at the Universite La Sorbonne Nouvelle. He is the author of several authoritative books as well as over a hundred academic articles in various journals on political Islam, Arab political culture and state and society relations in the Arab World.
https://www.facebook.com/BurhanGhalion
صدمني ما سمعته من رئيس وزراء فرنسا السابق " فرنسوا فيون" الذي كان ينتقد على إحدى القنوات الفرنسية سياسة الرئيس هولاند ويطالب بالعودة إلى التعامل مع الأسد لتأمين مساعدته في الحرب ضد الأرهاب. وكانت حجته في ذلك أن أوروبا الديمقراطية تحالفت مع ستالين ولم يكن أقل همجية من الأسد للوقوف في وجه النازية، وأن الديكتاتورية الدموية تشكل خطرا محدودا يمس سكان البلاد التي تسيطر عليها أما الارهاب فهو كالنازية يشكل خطرا عالميا يهدد الجميع.
وهذا ما يسمى بلغة السياسيين الأوروبيين الذين يتبنون هذا التحليل بالواقعية السياسية.
كان بودي أن أقول للسيد فيون وأصحابه، أنسيتم أنكم أنتم الذين وضعتم نظام الأسد والدولة السورية بسببه، على قائمة الارهاب منذ سنين طويلة قبل الثورة وأن النظام السوري مع حليفه الايراني كان منذ عقود هو الراعي والمنظم والمستخدم للارهاب وأنه لم يتوجه لا هو ولا ميليشيات طهران للحرب ضد داعش ولكنهه استخدمها لضرب المقاتلين الاحرار في سورية، وأن التهمة الرئيسية للأسد والبعث عموما العراقي والسوري كانت استخدامهما للارهاب.
ثم إذا كان من الواقعية تاهيل شخص يطالب الأمين العام للأمم المتحدة بإحالته إلى محكمة الجنايات الدولية حسب ما تدعو له المنظمات الانسانية والحقوقية جميعا، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية وجرائم إبادة جماعية بالكيميائي وبالبراميل المتفجرة والدمار الشامل للمدن والأحياء السكنية،
أليس من المثالية ولا أقول الغباء أن يتصور السيد فيون وجماعته أن ملايين السوريين الذين فقدوا أعزاءهم من أبناء وآباء وزوجات وأخوة تحت القصف أو في أقبية التعذيب وأضاعوا كل ما يملكونه سوف يقبلون بذلك وينصاعون لرغبة السيد فيون، ويتخلون لسواد عيونه عن حقوقهم ولا يشكلون جحافل متطرفة وإرهابية أخرى تستهدف ربما من يدعم الأسد أكثر من الأسد نفسه.
الذين يريدون أن يمرروا جريمة الأسد التي لا تشابهها في العصر الحديث سوى جريمة المحرقة النازية ليسوا منعدمي الضمير والحس الانساني فقط ولكنهم شركاء في الجريمة وسياسيون رخيصون لاقيمة لهم. من يستهتر بحياة الإنسان وحقوقه ومصيره لا يمكن أن يكون مسؤولا عنه.
أكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، من مؤلفاته: "بيان من أجل الديمقراطية" و"اغتيال العقل" اً
بدخول القوات الروسية الكثيف إلى الساحل السوري، دخلت القضية السورية مرحلة جديدة. لم يعد النقاش يدور، كما كان في المرحلة الأولى التي تم الاتفاق فيها على بيان "جنيف 1" حول الطريقة التي ينبغي على الأسد أن يتنحى فيها عن الحكم، ليتيح للسوريين الانتقال إلى نظام سياسي جديد، يلبي تطلعاتهم إلى الحرية التي ثار شبابهم من أجلها، ولا حول استبعاد الحل العسكري، وإعطاء الأسبقية للحل السياسي، كما حصل في المرحلة الثانية التي قادت إلى انعقاد مؤتمر مونترو ومفاوضات جنيف 2، على طريق دفع الأطراف إلى الانخراط في هذا الحل. إنه يدور، الآن، في هذه المرحلة الجديدة حول الطريقة التي ينبغي، أو يمكن فيها إعادة تأهيل الأسد، وفي أية شروط، ولأي فترة، وبأية صلاحيات. يشكل هذا التحول في الموقف الدولي انقلاباً بمقدار 180 درجة عن نقطة البداية. فقد انطلق الجهد الدبلوماسي منذ عام 2011 من نقطة واضحة، هي إرضاء مطالب الشعب السوري الذي ثار على نظامٍ لا ينكر أحد من المسؤولين الدوليين طبيعته الدموية، وهو ما برهن عليه وأكده، بشكل أكبر، رد النظام وأجهزته على المسيرات السلمية بالسلاح الناري، منذ الأيام الأولى، قبل إدخال الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وتالياً استخدام الأسلحة الكيمياوية. وعلى الرغم من التلفيق الدعائي المنقطع النظير للنظام، وجيوشه الإلكترونية وأجهزة إعلام حلفائه، ودفاع هؤلاء عنه، بكل الوسائل واتهاماتهم للشعب والمعارضة وتشويه سمعتهما. لم تعرف تلك المرحلة سوى الإدانات القاسية للنظام القائم على ضوء ما كانت تنشره، ولا تزال، المنظمات الحقوقية والإنسانية من تقارير ووثائق تثبت تورط النظام وأجهزته في جرائم وصفت، دائماً، بأنها ترقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، ومنها جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية. وكان من نتيجة ذلك تشكيل تجمع أصدقاء الشعب السوري من أكثر من مائة دولة، والتصويت على مجموعة مهمة من القرارات في مجلس الأمن والجمعية العامة، تؤكد جميعها تجريد الأسد ونظامه من الشرعية، والاعتراف بالمعارضة السورية ممثلة شرعية للشعب السوري. وقد زاد، في هذه المرحلة، حماس الدول والمنظمة الدولية لفكرة الانتقال السياسي، وصدرت القرارات التي تؤكد حق السوريين في التغيير السياسي، واختيار ممثليهم بحرية، وإعادة بناء نظامهم السياسي على أسس ديمقراطية. وبعد أن تركّزت الجهود الدولية، في البداية، على تأكيد شرعية المطالب الشعبية السورية التي تبنتها غالبية الدول، بدأت الجهود تتركّز، بشكل أكبر، في المرحلة الثانية على إيجاد الوسائل والطريقة المثلى لتحقيق هذا الهدف.
من تطلعات الشعب السوري إلى الحرب على الإرهاب لم يغيّر استخدام موسكو حق النقض في مجلس الأمن من هذا التوجه العالمي الشامل نحو إدانة النظام ورجالاته، ووضعهم جميعاً على قائمة العقوبات الدولية، ولا من الإجماع على شرعية
الانتقال السياسي في سورية، وضرورة تنحّي الأسد، ورحيل نظامه الدموي. كل ما نجح فيه هو وضع العراقيل أمام وصول الجهود الدولية إلى غايتها، وتحقيق ما كان العالم كله ينتظره من تغيير سياسي، ووقف لعمليات القتل المنظم والمدروس للمدنيين السوريين. وكان النظام وحلفاؤه لا يزالون على خط الدفاع، وتحت الهجوم السياسي والقانوني والأخلاقي والعسكري أيضاً، يكاد أكثرهم لا يتجرأ على الإعلان الصريح عن دعمه له. أما موسكو فلم تكن لتجد ذريعةً للتغطية على تورطها إلى جانب النظام، إلا في رفضها نموذج حرب التدخل العراقية والليبية، أي الخوف من الفوضى، وتأكيد تمسكها بالشرعية القانونية، وهي غير الشرعية السياسية المفقودة، ورفضها مبدأ التدخلات الدولية. لكن، منذ انهيار محادثات جنيف 2، بتصميم مشترك روسي إيراني، شهد المناخ الدبلوماسي الدولي تحولاً مضطرداً في النظر إلى القضية السورية، بدأ من خلال القبول المتزايد، ولو على مضض، إنما بشكل أكثر إلحاحاً، وبمشاركة بعض دول تجمع أصدقاء الشعب السوري، بتسويق فكرة تقاسم السلطة بين النظام والمعارضة. وبينما كان ممثلو النظام لا يزالون مستمرين برفض الاعتراف بوجود معارضة أصلاً، واعتبار ما حصل من احتجاجات شعبية مؤامرةً دوليةً ضد نظام الحكم الممانع، حاول الروس، بإصرار، فرض تفسيرهم الخاص لقرار مجلس الأمن رقم 21118 الذي أراد أن ينقذ "جنيف 1" بتقديم آلية، كانت مفتقدة، لتطبيقه، هي البدء بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية كاملة الصلاحيات، تتشكل بالتوافق بين أطراف من النظام والمعارضة، وتمثل نوعاً من انتقال مرحلي أول للسلطة، يضمن تنفيذ بنود اتفاق جنيف العديدة، بما فيها وقف إطلاق النار وتحديد شكل النظام المقبل، وترميم مؤسسات الدولة وإصلاحها، والقيام بأعمال الإغاثة، ثم إعادة الإعمار. وسرعان ما استخدم الأسد وحلفاؤه التفسير الروسي لشكل الهيئة الانتقالية وصلاحياتها، من أجل تقويض فكرة المفاوضات نفسها، وكسب مزيد من الوقت، على أمل تحقيق الحسم العسكري، وتشتيت المعارضة. وهذا ما ساهمت به، أيضاً، موسكو والقاهرة وطهران، في رفضها جميعاً الاعتراف بتمثيلية "الائتلاف"، وتشويه سمعته، والعمل على تجاوزه، من خلال الدعوة إلى مؤتمرات وتجمعات بديلة، من جهة، والتركيز، من جهة أخرى، على تمدد القوى المتطرفة، وفي مقدمها داعش، بل تشجيعها على التقدم في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، للوصول إلى ما كان الأسد وحلفاؤه يحلمون به دائماً، وهو وضع المجتمع الدولي أمام أحد خيارين لا ثالث لهما، التعامل مع نظام الأسد، مقدمة لإعادة تأهيله، أو القبول بسيطرة داعش وأخواتها. خلال الأشهر الماضية، أحرزت هذه الاستراتيجية تقدماً كبيراً. فبدأت دول أوروبية كثيرة تتأثر ببعض الحجج والذرائع الروسية، وتظهر خوفاً متنامياً من تمدد الإرهاب على حساب التجاهل المتزايد لحقوق الشعب السوري ومصيره، ولم تعد تنظر إلى الأسد ونظامه من منظور انتهاكاته الخطيرة لحقوق الإنسان، وإنما من منظور ما يمكن أن يقدمه، بصرف النظر عن الجرائم التي ارتكبها بحق شعبه، في الحرب على الإرهاب. وفاقم من هذا التوجه عند بعضهم الفشل الذريع الذي منيت به الخطط الأميركية في هذا المجال، والخوف من الانهيار الوشيك لنظام الأسد، وتمكّن القوى الإسلامية المتطرفة، وغير المتطرفة، من السيطرة على العاصمة السورية.
رئيس أم ذريعة للتدخلات الأجنبية؟ في هذا السياق، يأتي التدخل الروسي العسكري على الأرض، ليستفيد من تخبط الاستراتيجية الغربية في المسألة السورية، ليسترد زمام المبادرة التي فقدها، ويفرض الأمر الواقع الذي لم يكن من الممكن حتى التفكير فيه في بداية الثورة، وتحقيق ما كان النظام يحلم به، منذ اليوم
الأول الذي قرر فيه استخدام أقصى درجات القوة والعنف، لقلب الوضع على المتظاهرين السلميين، ووأد الثورة في مهدها. ومن خلال مشاركته في تثبيت نظام الأسد، وإعادة فرضه على السوريين، بالقوة، يحلم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بقلب الطاولة على الدول الغربية، واستعادة المبادرة الدولية، أو على الصعيد الدولي، وإجبار الولايات المتحدة وأوروبا على التراجع عن العقوبات التي فرضتها عليه، والتنازل له في أوكرانيا وفي بقاع العالم الأخرى. إنقاذ الأسد، وتثبيت حكمه ونظامه، هو اليوم الورقة الرئيسية، "الجوكر"، الذي يحلم بوتين أن يتخلص، بفضلها، من أزمته، ويفرض روسيا على العالم قوة رئيسية، وقطباً عالمياً لا مجال لتجاوز إرادتها ومصالحها، ولا مهرب من التعامل معها نداً، وعدم القبول بأي إجراءات عقابية ضدها، مهما كانت سياستها، تماماً كما أن أحداً لا يتصور أن تعلن مجموعة من الدول العقوبات ضد الولايات المتحدة. هذا يعني أن معركة نظام الأسد تحولت إلى معركة روسيا نفسها ضد الغرب، وهذا ما كانت موسكو تخطط له منذ البداية. فهي لم تر في سورية شيئاً آخر، لا شعباً ولا حقوقاً ولا قانوناً ولا نظاماً ولا أسد ولا فأراً. لم تر فيها إلا أنها نافذة فرص للانقضاض على الغرب وإجهاض استراتيجية في الهيمنة والتنطع للقيادة العالمية التي فرضها أو يريد أن يستمر في فرضها على العالم. وهذا ما حصل من قبل مع إيران الخامنئية التي لم تر، أيضاً، في سورية التي مازالت أقدامها بفعل الثورة، وتفجر الصراع الداخلي، لا نظاماً بعثياً ولا شيعة ولا سنة ولا شعباً ولا حقاً، ولا من باب أولى ممانعة أو مواجهة لإسرائيل. رأت في سورية فرصةً لا تقدّر بثمن للتوسع الإقليمي واستعراض القوة والنفوذ ما كانت تحلم به في أي وقت. فكان خيارها في دعم الأسد، وتثبيت حكمه، ومده بكل وسائل القوة وسيلتها المنزلة من السماء للضغط على الغرب، ونيل ما تريده منه، من فك الحصار ورفع العقوبات وتوقيع الاتفاق النووي، والاعتراف بها قوة إقليمية رئيسية. لم يأت الروس لشن الحرب على داعش والمنظمات الإرهابية، وإنما لحجز مقاعدهم في أي تسوية محتملة مقبلة، وليست الحرب ضد الإرهاب إلا ذريعة يستخدمونها، كما استخدمها من قبلهم الإيرانيون، وعملوا على تسهيل تمددها، ليدفعوا العراقيين والسوريين، وفي ما وراءهم المجتمع الدولي، إلى التساهل مع مشروعهم للهيمنة الإقليمية، وتبرير وضع يدهم على نظام الأسد، ومن ورائه على القرار السوري وسورية نفسها، بل إلى دفع المجتمع الدولي إلى توسل دعمهم وتعاونهم بعد قطيعة دامت عقوداً. وهذا ما فعله نظام الأسد نفسه من قبل، عندما أطلق سراح معتقلي المنظمات المتطرفة القاعدية،
وغير القاعدية، ليستخدم هذا التطرف بالذات فزّاعة في وجه المجتمع السوري والمجتمع الدولي معاً، ويبتز به الجميع، لتبرير رفض أي تنازلات، وبالتالي، أي مفاوضات، وتثبيت الوكالة الحصرية التي أعطيت لأبيه في حكم سورية والاستفراد بملكيتها. هكذا، نعيش اليوم ربما أشنع لحظة في تاريخ القضية السورية، حيث أدت المناورات والتناقضات والخيانات وأعمال الغدر، هنا وهناك، إلى أن ينقلب الوضع السياسي والدبلوماسي رأساً على عقب، فيصبح الحفاظ على نظام الأسد وتمكينه، عسكرياً وسياسياً، بذريعة الوقوف في وجه تمدد الإرهاب، الذي أطلق هو نفسه شياطينه، غاية المساعي الدولية من إنهاء النزاع في سورية، وليس إنقاذ الشعب السوري من محنته الدموية، وتلبية تطلعات السوريين، وتطمينهم على مصيرهم وحقوقهم، سواء جاء هذا التمكين بالحسم العسكري، أم بالمفاوضات، لقاء ثمن بخس، هو تشكيل حكومة "وحدة وطنية"، أي تطعيم حكومة الأسد القديمة بمزيد من شخصيات المعارضة الانتهازية والوصولية. وهكذا، أصبح مصير الشعب السوري قضية إنسانية، تتعلق بإغاثة اللاجئين واستقبالهم، بينما أصبح تأهيل نظام الأسد المنهار البند الأول في أعظم قمة دولية سياسية، تعقد لمناقشة الشؤون العالمية. لن يكون مصير التدخل الروسي أفضل من مصير التدخل الإيراني الذي سبقه. لكن، إذا قيّض لهذا المشروع الروسي الإيراني السوري أن ينجح، وتتحول جلسة الجمعية العامة إلى جلسة مناقشة في مصير الأسد، وإنقاذ نظامه، بدل الإجماع على دفع ملفه إلى محكمة الجنايات الدولية، كأكبر قاتل في هذا العصر، سيعني ذلك، بصرف النظر عن الأسباب ومسؤوليات المعارضة السورية وأداء الدول الحليفة والصديقة وأخطائها وحيثياتها، أنه لم يعد هناك فارق كبير في الحياة الدولية بين السياسة والجريمة المنظمة، وأن إدارة الدولة والنظام الدولي لم تعد تختلف كثيراً في عصرنا عن إدارة المافيا أعمالها ومصالحها الإجرامية. هذا هو العالم الذي تريد روسيا البوتينية أن تقودنا إليه.
- See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/9/27/%D9%87%D9%84-%D9%86%D8%AD%D9%86-%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%86%D9%82%D9%84%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9#sthash.PquVTGI8.dpuf
أكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، من مؤلفاته: "بيان من أجل الديمقراطية" و"اغتيال العقل"اً
في أقل من أسبوع، انقلب مزاج المراقبين والمعنيين بالشأن السوري، من النقيض إلى النقيض. فقد جاءت التصريحات المتعاقبة للمسؤولين الروس، لتقضي على كل الآمال في احتمال التوصل إلى بداية حلحلة للأزمة السورية، ووضع حد لعملية القتل المنظم المستمر منذ سنوات.
وكان السبب الأول في نمو توقعات المراقبين بإمكانية انفراج في الأزمة السورية ما أشيع عن بداية تفاهم بين الروس والأميركيين الممسكين، في النهاية، بخيوط الصراع، على تكثيف الجهود وتسريع المفاوضات من أجل التوصل إلى تسوية مقبولة من الأطراف، حتى اعتقد بعضهم أن واشنطن أوكلت إلى موسكو إيجاد حل للأمر، وأن موسكو أصبحت على استعداد للتخلي عن الأسد في مقابل الحفاظ على النظام. وساهم في إشاعة هذا المناخ الإيجابي التطور البارز الذي طرأ على العلاقات الروسية السعودية، والروسية العربية عموماً، والاتفاقات التي وقعت بين الجانبين، والتنسيق الدبلوماسي العالي الذي حصل بين الروس والأميركيين، وأنتج الإجماع على البيان الرئاسي لمجلس الأمن، وتبني هذا المجلس نفسه خطة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. وجاء ذلك كله عقب الاتفاق على إغلاق الملف النووي الإيراني، والاعتقاد المتزايد أن طهران المتصالحة مع الغرب سوف تميل إلى تغيير سلوكها في المنطقة، والرهان على التفاهم والعمل الإيجابي بدل الاستمرار في المراهنة على سياسة التخريب وزعزعة الاستقرار التي كانت تهدف إلى الضغط على الغرب، من خلال الضغط على ما تعتبره مصالحه في المشرق العربي، وخصوصاً في الخليج وجواره.
قيادة العملية السياسية أم الانقلاب عليها؟ وكان تبدل موقف روسيا، نتيجة خوفها من تفاقم تدهور الموقف في سورية والعراق، وخطر سيطرة المتطرفين وانعكاسات ذلك عليها، واحتمال استعدادها للتعاون أكثر مع الغرب للتوصل إلى حل، هو الحجة الرئيسية التي استخدمها فريق المبعوث الدولي، دي ميستورا، لإقناع المعارضة السورية بجدوى المشاركة في فرق الحوار أوالتشاور التي اقترح تشكيلها لإطلاق العملية السياسية، وتجنب صدمة المفاوضات المباشرة، والمساعدة على بلورة المواقف للفرقاء السوريين. والحال، نحن اليوم أمام مناخ مختلف تماماً. فالتصريحات الروسية الجديدة التي جاءت لتؤكد
للجميع أنها لم ولن تغير موقفها في موضوع بقاء الأسد والنظام، وأنها لا تزال متمسكة بخطة بوتين الرامية إلى تكوين حلف عسكري، يجمع إيران والسعودية والعراق وتركيا والنظام السوري، لمواجهة التطرف والتنظيمات الإرهابية، ليضع حداً للتفاؤل الذي ساد في الأشهر الماضية، خصوصاً بعد أن أعادت موسكو تأكيد شرعية الأسد، ما يعني دمغها جميع المقاتلين ضده، معتدلين وغير معتدلين، بسمة التمرد والإرهاب. كما أن استئناف دعمها العسكري المكثف للنظام السوري، بأسلحة متطورة، وذخائر جديدة، والحديث عن بناء قاعدة عسكرية لها في محافظة اللاذقية، وفي مصادر أخرى، عن إرسال قوات عسكرية روسية إلى المنطقة، كما كشفت الصحافة الدولية. ويوحي ذلك كله إلى أن هناك انقلاباً في الموقف الروسي، ويطيح جميع الآمال التي بنيت على إمكانية إبعاد موسكو، ولو جزئياً، عن طهران، والمراهنة على ضغوطها لإقناع إيران بتغيير سياساتها. وقد ربطت بعض قوى المعارضة، وفي مقدمتها الائتلاف الوطني السوري، بين تطورات السياسة الروسية تجاه الأسد، وخطة دي ميستورا والانفتاح المفاجئ الذي أبدته أوروبا في موضوع اللاجئين السوريين، وتبنيها خطة استقبال عدد متزايد منهم، وإعادة النظر في إجراءات اللجوء. فرأت فيه تواطؤاً أوروبياً مع خطة طهران وموسكو، لإفراغ سورية من سكانها، لتسهيل السيطرة عليها وتغيير بنيتها السكانية. وليس هناك شك في أن التناغم الحاصل بين تصريحات المسؤولين الإيرانيين والروس والرد الأميركي الضعيف على تحركات موسكو في المنطقة، تترك انطباعاً قوياً بأننا على أعتاب مرحلة جديدة، معاكسة تماماً لما كان متوقعاً من احتمال بدء مفاوضات متوازنة للحل السياسي، دفع إليها إدراك دولي متزايد لعظم المخاطر الناجمة عن استمرار الوضع الملتهب القائم. وقد ذهب الأمر إلى درجة استخدام محللين عبارة الغزو الروسي، لوصف ما أقدم عليه الروس من مظاهر الدعم المكثف للنظام، والتعاون مع طهران، من أجل منع قوى الثورة من الانتصار، ومساعدة النظام على استعادة السيطرة على البلاد، أو على الأقل ضمان حصول العاصمتين على موطئ قدم ثابت في القسم الغربي منها، حيث لا يزال لموسكو نفوذ قويّ فيه. وفي سياق ذلك، تزداد المخاوف عند قطاعات واسعة من الرأي العام من أن تكون سياسة الانفتاح
الأوروبي المفاجئ على اللاجئين وسيلة للتغطية على التراجع السياسي، والانضواء، في النهاية، تحت سقف المقترحات الروسية المؤيدة لبقاء الأسد. وهذا ما أوحت به، أيضاً، التصريحات الأخيرة لبعض وزراء خارجية الدول الأوروبية التي دافعت عن إمكانية، أو حتى ضرورة، الحديث مع الأسد. السؤال: هل نحن أمام مزاودات اللحظة الأخيرة في عملية تسوية دولية على وشك أن تبدأ، وتريد روسيا أن تضمن لنفسها فيها مصالح أكبر، بعد أن اكتشفت التخلي النسبي للولايات المتحدة، والانكشاف النسبي، أيضاً، لجبهة الدول الداعمة للمعارضة، وتقربها من موسكو نفسها، لتعزز موقفها، والتراجع الملحوظ في الموقف الأوروبي تجاه الأسد ونظامه، وبداية القبول تحت ضغط الخطر الذي يمثله داعش بفرضية بقاء نظام الأسد، وربما أيضاً، تعزيزه؟ أم هي قلب لطاولة الحل، وبداية تدخل روسي مباشر يقطع الطريق على طهران، ويحفظ مصالح روسيا، قبل أي طرف آخر، ويضع حداً للعبة الاستنزاف الطويلة للأطراف، بالتفاهم الضمني أو الفعلي مع واشنطن وأوروبا والمجتمع الدولي الممثل بالأمم المتحدة وبالمبعوث الدولي، والحد من الخسائر المتبادلة، قبل أن يصبح الوقت متأخراً، لإنقاذ أي استثمارات أو رهان؟
مصالح روسيا في سورية والشرق 1- ينبغي أن نعترف أن موسكو أظهرت، منذ بداية الأزمة السورية، أي بعد تعثر الثورة، اهتماماً كبيراً بمصيرها، ولم يضعف هذا الاهتمام في أي لحظة، لكنه تضاعف مع مرور الوقت، ما يؤكد أن موسكو تعتقد أن لها مصالح أساسية في سورية، وأن تحول النظام القائم فيها أوتغييره، يعنيها جدياً، وأنها لن تسمح أن يحصل من دون أن تكون لها كلمة فيه، أو أن تضمن هذه المصالح. 2- على الرغم من تأكيد موسكو الدائم مع محاوريها من المعارضة أن مصالحها الخاصة في سورية ليست مهمة أبداً، وأنها لا تسعى إلى الحفاظ على مصالح خاصة، حتى أنه، في أول محادثات مع المجلس الوطني السوري، أظهر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الكثير من السخرية من الذين يتحدثون عن قاعدة طرطوس التي ليس لها في نظره أي قيمة استراتيجية، وأن دافعها لحماية النظام هو ضمان حقوق الشعب السوري، وأنها ليست متمسكة بالأسد كشخص، وإنما هي حريصة على الشرعية والسبل القانونية، إلا أن من الواضح، أيضاً، أن استمرارها على موقفها الإيجابي من نظام الأسد، بعد التدمير الهائل الذي حل بالبلاد وتشريد ملايين السوريين وقتل مئات الأولوف منهم، يشير إلى أن مصلحة الشعب السوري لا تمثل شيئاً بالنسبة لروسيا، كما تريد أن نعتقد، ولا تدخل في أي حسابات من حساباتها. 3- وأعتقد أن مصالح روسيا الرئيسية في سورية لا تتمثل في مصالح مادية بحتة، وإنما استراتيجية كبرى، وأهمها حضورها في الشرق الأوسط في حد ذاته، وإرادتها في الحفاظ على نفوذها في الدولة، أو البلاد الوحيدة التي ضمنت لها هذا الحضور، خلال عقود طويلة من دون انقطاع، وهو حضور لا يزال استمراره مجسداً في العلاقات الوثيقة مع نخبة من الضباط ورجال الأمن والسياسة الذين اختلطوا بالروس، وتدربوا عندهم، وصاروا شريكهم الأساسي في سورية. ومما يزيد من التمسك بهم أنهم ينتمون إلى المدرسة السياسية نفسها، أي الحكم بالقوة ورفض مبادئ الديمقراطية، وقيم المواطنة الليبرالية، واستثمار العداء للغرب، أو بالأحرى اختلاقه ورعايته وتنميته أساساً لنزعة قومية تجميعية، توحد الشعوب خلف قياداتها ضد الآخر الخصم، طالما أنها عاجزة عن توحيدها من خلال الإنجازات الداخلية، ومشاركة الأفراد في قيم العدالة والحرية والسعادة الإنسانية. وهذا هو نمط القومية المتحولة إلى نعرة وعصبية جماعية، تلعب هنا الدور الرئيسي في دفع الأفراد إلى الانقياد وراء سلطة الدولة المقدسة، القيصرية، في غياب روح الانقياد للقانون التي تستدعي وجود المواطنة ونظام المشاركة السياسية والتضامن في حمل المسؤوليات والالتزامات العامة. ويتخذ الحفاظ على الحضور والنفوذ القوي في سورية والمشرق بالنسبة لموسكو، اليوم، أهمية أكبر مع انتشار الحركات المتطرفة الإسلامية، ومخاوف السلطة الروسية الفعلية من انعكاسات التغيير في سورية على شرائح واسعة من مواطنيها، المسلمين لكن من ورائهم غير المسلمين أيضاً. العدو الأول لروسيا البوتينية هو الثورة الشعبية التي كانت تؤرق، أيضاً، من قبل روسيا
القيصرية، ولا تزال. وجزء كبير من الطابع الاستعراضي والاستفزازي الذي تتخذه السياسة الروسية في تحدي الغرب، في سورية اليوم، لكن في أوكرانيا وغيرها، مقصود من أجل إشعال فتيلة هذه القومية الشعبوية التي تكتفي بالرموز، وتغذيتها لقطع الطريق على أي احتمال لنمو روح الاحتجاج الشعبي، بل ردعه مسبقاً، وقطع الطريق على التفكير فيه. ٤- من هنا، بعكس الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وبلاد أخرى، لم يضعف الاهتمام بالأزمة السورية، مع تفاقم أوضاعها وزيادة تعقيدها وانتشار الحركات المتطرفة فيها، وإنما تضاعف مرات. لم تكن روسيا في أي وقت حريصة على أن تكون على رأس الحل في سورية، كما هي اليوم، والسبب خوفها الوجودي من احتمال انتقال عدوى الثورة، والاحتجاج والتغيير إليها، وبشكل أخص، عودة فتيل التمرد الإسلامي إلى ما كان عليه، بعد أن زاد قوة وتنظيماً للانتقام من أيام قاسية سابقة. بمعنى من المعاني، وأكثر فأكثر، تشعر موسكو أن معركة سورية، اليوم، هي معركتها بالدرجة الأول، قبل أن تكون معركة السوريين أو الغربيين أو العرب أو الإيرانيين. وهي مستعدة للتعاون مع الشيطان للقضاء على من تعتبره العدو والخصم الرئيسي لها، اليوم، وهو الحركات الجهادية وحدها، وليس الصراع أو التنافس مع أميركا أو أوروبا. معركة روسيا في سورية سياسية وفكرية ودينية، وهذا هو بعدها الاستراتيجي، أو بالأحرى ما فوق الاستراتيجي. ٥- ينبغي أن نعترف أن مثابرة موسكو وإصرارها على أن لا يكون حل في سورية، من دون إرادتها ونجاحها في تعطيل أي مبادرة أممية أو دولية، تشك في أنها تتماشى مع ما تريد قد أتت ثمارها. وأن دور روسيا في الأزمة السورية لم يكف عن التطور يوماً بعد يوم، مع إزاحة الخصوم أو تحييدهم. ومنذ أيام، كدنا نعتقد، عن حق، أنها أصبحت بالفعل الوكيل الرسمي لجميع الفاعلين على الأرض السورية والمعنيين بها من خارجها، أو أغلبهم، في العمل على إيجاد التسوية السياسية المنتظرة لإنقاذ ما تبقى من سورية، أو وقف عملية التدمير والقتل المنهجية ودرء مخاطر الخراب النهائي. فقد تمتعت موسكو، منذ البداية، بدعم علني من الصين والهند ودول البريكس، قد تخلت لها الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، عن جزء كبير من هامش المناورة، ولم تحاول مرة أن تحرجها، أو تضغط عليها، أو تتجاوز الخطوط المرسومة لبقاء هذا الهامش، حتى بعد أن عطلت موسكو قرارات مجلس الأمن، أو منعت تنفيذ ما لم يتفق مع رؤيتها منها.
ماذا تنتظر موسكو؟ الحرب في سورية ستكون، أكثر فأكثر، حرب روسيا للقضاء على المجموعات الجهادية، أي في الواقع المسلحة، أي على داعش والنصرة وبقية قوى الثورة المسلحة التي تعتبرها كلها مصدراً للخطر، ولا يهمها بشار الأسد إلا كما همّ طهران من قبل، أي غطاء لحرب التدخل المباشر، وصمام أمان لضمان عدم انهيار النظام، أو تفككه خلال مرحلة الحرب. ولا ترى موسكو تسوية سياسية ممكنة، إلا بإعادة بناء الجيش السوري، وفي التفاف جميع الأطراف
السورية، موالاة ومعارضة، حول الدولة ومؤسساتها، أي الجيش والأمن بالدرجة الأولى. يتقاطع مشروع موسكو مع طهران، في حماية النظام، أو بالأحرى في عدم السماح بأي نصر للثورة السورية، أو للتحالف الداعم لها في تركيا والرياض والخليج، لكنها ربما تتناقض معها في تحويل سورية إلى مزرعة، ومستعمرة خاضعة لسيطرة المليشيات الطائفية والمذهبية. وفي عملها هذا، لا ترى موسكو طهران إلا من منظار ما يمكن أن تساهم به في الحرب ضد الإرهاب التي تريد أن تتحدّى فيها، ومن خلالها، الغرب وتحالفه، وأن تحقق ما فشل في تحقيقه حتى الآن. وهي تعتقد أنها الوحيدة التي لم تتورط بأي شكل في التلاعب بالمنظمات المتطرفة، ولم تتهاون في مكافحتها. التدخل المتزايد لموسكو في الحرب، بكل الوسائل، بما فيها نشر قوات برية محتمل، هو بداية العمل على تنفيذ ما سميت خطة الرئيس بوتين، القائمة حول هدف رئيسي واحد، هو تشكيل تحالف يضم الجميع ضد الإرهاب، ونسيان كل الرهانات الأخرى، وفي مقدمها، قضية كفاح السوريين من أجل الحرية، والخلاص من حكم الفساد والاستبداد وديكتاتورية الأجهزة الأمنية والمخابراتية. ما تريده موسكو هو باختصار تحقيق أجندتها الوطنية الخارجية المكونة من نقطة واحدة، هي القضاء على خطر الحركات المتطرفة المسلحة. وهذه هي، أيضاً، الأجندة الوحيدة التي توّحد، اليوم، جميع الدول الصناعية التي ترتعد أمام انتشار فوضى السلاح ومنظمات التطرف العابرة للحدود، والمهددة لجميع استراتيجيات الأمن الدولية. وليست داعش سوى كلمة السر للدخول إلى حلبة هذه الحرب وإضفاء الشرعية عليها.
- See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/9/12/%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B3%D8%B9%D8%A9-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B7%D8%B1%D9%81%D9%8A%D9%86#sthash.PgrCR38s.dpuf
أكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض،
بينما يسعى مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، إلى جمع أطراف المعارضة السورية على برنامج حوار لا يعرف أحد مآله وماذا ينتظره فيه، يعمل الإيرانيون، بأقصى ما يستطيعون من عزيمة وسرعة، لاستغلال التردد والغموض والتجاذبات القوية في الموقف الدولي، من أجل تكريس أمر واقع على الأرض السورية، يضمن ما يعتبرونها مصالحهم الاستراتيجية في المستقبل، من دون أدنى مراعاة حتى لمصالح حليفهم الأسد في الحفاظ على الحد الأدنى من مظاهر السيادة والاستقلال. فبعد أن وضعوا يدهم على مقاليد السلطة والأمر العسكري في سورية، من خلال تقديم المليشيات الطائفية و"الحشود الشعبية" وتمويلها وتدريبها على حساب تطوير الجيش السوري، وسيطرتهم على قطاعات عسكرية عديدة، وعلى غرف العمليات في جبهات القتال، وجديدها ما نشرته الصحافة، في الأسبوع الماضي، من وثائق عن وضع اللواء 47 دبابات المتمركز في ريف حماة تحت سيطرة الحرس الثوري الإيراني، بقرار من وزير دفاع الأسد، يبدون الآن في عجلة من أمرهم لتوسيع دائرة حضورهم المادي والبشري في المناطق والمدن الاستراتيجية التي يعتقدون أن عليهم الحفاظ عليها مستقبلاً، في إطار تقسيم محتمل لسورية، وتشكيل محمية إيرانية على شاطئ المتوسط الشرقي.
سورية من دون سوريين في هذا السياق، تدخل حرب الإيرانيين المستمرة في القلمون منذ أشهر طويلة، وفيه يبرز تمسكهم في مفاوضات الهدنة التي جمعتهم مع وفد من "أحرار الشام" بإخلاء الزبداني وكامل مدن وقرى الغوطة الشرقية ووادي بردى من سكانه "السنة"، لإعداده لعملية استيطان جديدة بسكان يدينون لهم بالولاء، من المذهب الشيعي، عرباً كانوا أو آسيويين. وفي هذا السياق أيضاً، يأتي إعلان "مواليهم" من نظام الأسد، في الأسبوع الماضي، عن بدء تنفيذ مشاريع في المدن المستهدفة، في حمص ودمشق خصوصاً، تدخل تحت مسمى تنظيم المدن وإعادة الإعمار، وهي، في الواقع، مشاريع مقنعة لعمليات التطهير العرقي وتغيير البنية السكانية للمناطق. وقد نشرت صفحة "دمشق الآن"، المحسوبة على أحد أفرع مخابرات النظام، قبل أيام، صوراً لتصميمات مشروع إعادة إعمار حمص الذي سيقام على مساحة 217 هكتاراً، ويضم 465 مقسما سكنيا، إضافةً إلى مباني الخدمات "المشافي والمدارس والمباني الاستثمارية والتجارية والترفيهية"، وهو يشمل "إعادة إعمار" أحياء بابا عمرو وجوبر والسلطانية، وهي مناطق كانت قد دمرت بالكامل، وهجر أهلها، ومنعوا من العودة إليها، بعد أن شهدت أبشع مجازر النظام بحق سكانها خلال النصف الأول من 2012.
وفي الوقت نفسه تقريباً، أعلنت محافظة دمشق التابعة لحكومة الأسد عن البدء بتنفيذ ما سمي مشروع حلم دمشق، وفي مقدمه بناء المجمع الإيراني الضخم الذي يغطي مناطق واسعة من حي المزة المكتظ بالسكان وسط العاصمة دمشق. وانطلقت، في اليومين الماضيين، بالفعل عمليات هدم منازل المدنيين في منطقة "بساتين المزة"، بينما منعت قوات الأمن التي كان يرافقها محافظ دمشق السكان من الاقتراب من منازلهم بالقوة، وأخرجت من تبقى في المنازل عنوة، ورمت مقتنياتهم وفرشهم في الشارع. وكان سكان المنطقة قد تلقوا إنذارات بالإخلاء في منتصف يونيو/ حزيران الماضي، فيما لم يتلق السكان، حتى الآن، أي تعويض أو بدل سكن أو منزل للإيجار. وكانت مليشيات حزب الله، وحليفتها العراقية التي احتلت مدينة القصير، قد منعت سكان هذه المدينة وريفها من العودة إليها، وأحلّت مكانهم مستوطنين من جنسيات أخرى تابعين لها. ولا تزال مدن عديدة في المنطقة وقراها مغلقة على سكانها، ومنها مدينة حمص القديمة التاريخية التي تنتظر من دون شك مشاريع "إعمار" مماثلة. ويأتي هذا الجهد الاستيطاني ليكمل، أو ليعوض عن خسارة مشاريع عديدة، كانت طهران، قد عملت عليها في العقود الثلاثة الماضية، قبل ثورة مارس/آذار 2011، وبنت، في إطارها، مئات المراكز الدينية والحسينيات في مختلف البقاع، وفي أكثر المناطق تجانسا مذهبيا، وذلك لإيجاد وقائع مادية على الأرض، تحفظ نفوذ طهران، وتفرض الأمر الواقع المرتبط بها. وتعتبر منطقة السيدة زينب قرب دمشق مثالا لهذا الاستيطان الجديد الذي حوّل قرية صغيرة إلى مدينة ضخمة، تحتضن أكبر تجمع مذهبي عسكري ومدني طائفي متعدد الجنسيات في المنطقة. وتستخدم حكومة الحرس الثوري في إيران النظام السوري، بعد أن ورطته في حرب خاسرة، وحشرته في الزاوية، من أجل خلق وقائع جديدة صلبة لا يمكن تغييرها. وهي تستفيد من تعبئة المهاجرين الشيعة في إيران نفسها من الأفغان والباكستانيين وغيرهم، وتستثمر الشعور بنشوة النصر لدى طائفة وجماعات عانت طويلاً من الشعور بالعزلة والهامشية والحرمان، من أجل قلب الأوضاع السياسية داخل المنطقة رأسا على عقب، وإعادة رسم الخرائط الجيوسياسية على حسب مطامعها وأحلامها.
بين إعادة الإعمار والاستيطان تشكل مجموع هذه النشاطات، من تدمير منهجي للمدن والقرى وتهجير إجباري للسكان وتفريغ البلاد من سكانها، وتوطين أكبر عدد ممكن من الساكنين الأجانب، من إيران وباكستان وأفغانستان ولبنان والعراق والهند وغيرها، وحرمانهم من حقوقهم ومنعهم من العودة وتدمير منازلهم وبيئتهم الطبيعية وحرق قراهم ومحاصيلهم وخصخصة الأملاك العامة وسطو المليشيات الأجنبية عليها، واحتلال منازل الغائبين وإجلاء السكان عن أحيائهم ومدنهم، مهما أطلق عليها من أسماء، ومهما قدم لها من تبريرات، مشروعاً متكاملا للتطهير العرقي والإحلال السكاني وتمديد رقعة الاستيطان، بهدف تمكين دولة أجنبية من السيطرة على مقدرات الشعب السوري، وانتزاع حقه في تقرير مصيره وفرض مصالحها وأجندتها الإقليمية والدولية عليه. وهو إحلال سكاني مرتبط بمخطط استراتيجي للهيمنة الإقليمية، يستخدم جميع الوسائل، وأكثرها همجية ووحشية، من قتل وتمثيل وتعذيب واغتصاب لتحقيق هدفه. وهو يعكس التفكير الاستراتيجي الإيراني الراهن الذي يعتقد أن إبادة سورية العربية الراهنة الطريق الوحيدة من أجل إحلال سورية أخرى محلها، سورية إيرانية، تخضع لطهران وتندمج فيها، وتتحول إلى واحدةٍ من محافظاتها.
وهذا وحده ما يمكن أن يفسر التكتيك الحربي الوحشي الذي استخدمه قادة الحرس الثوري المؤطرون لجيش الأسد ومليشياته، وهو تكتيك لا يبقي فرصة لأي حوار أو تفاهم أو تسوية بين السوريين، ولا يمكن أن يقود إلا إلى تدمير البلاد وتقسيمها. فمن دون التدمير الشامل والمنظم للبئية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، والاستهداف اليومي للمدنيين، والقضاء على كل أمل في الحياة بقصف المشافي والأسواق الشعبية والمدارس، وفرض الحصار والتجويع وقطع الماء والكهرباء ومواجهة السكان بالأسلحة الكيميائية وكل أنواع العنف الممكنة، ما كان من الممكن تفريغ المدن والمناطق من ساكنيها، وتيئيسهم، وقطع أي أمل لهم بالبقاء، وإجبار أكثر من نصف سكان البلاد على الرحيل عن منازلهم ومدنهم، وتركها خاوية لمن يريد أن يستوطنها. ولا ينفصل هذا المشروع، أيضاً، عن طبيعة الاستراتيجية التي تبنتها قيادة الأسد، بتوجيهات من قادة الحرس الثوري الإيراني وخبرائه، القائمة على عدم الدخول في أي حوار أو تسوية، والاستمرار في الحرب أطول فترة ممكنة، وتعطيل كل المبادرات العربية والدولية. فليس هناك أي ضمانة في أن تنجح سلطة الاحتلال في تغيير الوقائع، وفرض الأمر الواقع الجديد على الأرض، من دون التخفي وراء لهيب الحرب وتبرير خرق كل القوانين والعهود الوطنية والدولية والإنسانية، فمن نافل القول إن حرب كسر العظم التي اتبعتها القوى الحليفة في سورية تجاه الشعب الثائر والمعارض ليست في مصلحة النظام، ولا في مصلحة الطائفة التي يدّعي النظام حمايتها. ولا يوجد مستفيد حقيقي منها سوى سلطة الاحتلال وحلم التوسع الإيراني. ليس لهذه العمليات الممنهجة أي علاقة بإعادة الإعمار، وليس هناك أي منطق في إطلاق عملية إعادة إعمار من طرف واحد، وبمساعدة الحكومة والشركات الإيرانية وحدها، ولا لبناء مساكن ومَشاف وأسواق، بينما تقوم البراميل المتفجرة والمدفعية والصواريخ الاستراتيجية بتدمير مثيلها كل يوم في جميع المدن والأنحاء السورية. وليس هناك منطق في فرض الأمر الواقع، وتوسيع دائرة الاستيطان للجماعات المرتبطة بطهران، في الوقت الذي يطلق فيه المبعوث الدولي وروسيا مفاوضات التسوية السياسية، إلا إذا كان الهدف قطع الطريق على أي مفاوضات، ودفع المعارضة إلى رفض المشاركة فيها. ما يحصل تحت اسم إعادة الإعمار هو تأكيد على منطق الحرب، وتوسيع دائرتها لتشمل عمليات التوطين وتجريد السوريين من ملكياتهم، لخدمة أهداف استراتيجية، وهو يعكس سياسة الهرب إلى الأمام، ويشكل برهانا قاطعا على غياب أي إرادة للانخراط في حلول سياسية. تكاد سياسة "أسد طهران"، وطهران نفسها، تتطابق تماما مع سياسة تل أبيب في فلسطين وتجاه الفلسطينيين الذين لا ترى وسيلة للتعامل معهم سوى الحرب، لإبعادهم وتهجيرهم، أو إخضاعهم لمشيئتها من دون أي تسوية أو تفاهم على حل. وإذا تحدثت عن السلام والمفاوضات، فليس ذلك بهدف التوصل إلى تسويةٍ، تضمن ولو الحد الأدنى من الحقوق السياسية للفلسطينيين، وإنما لكسب مزيد من الوقت، للتمكن من طردهم واستكمال مشروع الاستيطان الكامل لفلسطين، وليس في تصور الإسرائيليين أي مكان للفلسطينيين في فلسطين، باستثناء الاختفاء في تجمعات مغلقة ومعزولة عن بعضها، تماما كما حصل للهنود الأميركيين. وكما تنقض الحكومة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية لتصادرها، وتعلن مشاريع مستوطنات جديدة، رداً على أي عمل فلسطيني قوي ضد الاحتلال، ترسل طهران ودمشق براميلها المتفجرة وآلتها الدموية الرهيبة، لتزرع الدمار والرعب في أي بلدة أو مدينة تخرج عن سيطرتها، لتجبر سكانها جميعاً، أو أغلبيتهم الساحقة على النزوح والهجرة حفاظا على أرواحهم. وكما الحال في المسألة الفلسطينية، لن يكون لمفاوضات شكلية، تنظم للتغطية على فشل الأمم المتحدة وعلى تعارض المصالح الإقليمية والدولية، أي قيمة، ولا أي دور في وقف العنف وإيجاد حل للنزاع، بمقدار ما سوف تستغل من محور الحرب في طهران ودمشق، لكسب مزيد من الوقت، والتغطية على مشروع التقسيم والاستيطان المرتبط به، قبل وضع السوريين والعالم أمام الأمر الواقع. وعلى الذين يعتقدون أن المفاوضات ربما تخلق دينامكيتها، كما يقول دي ميستورا والمبخّرون لمبادرته، نسوق مثال المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من ربع قرن، من دون أي نتيجة تذكر، سوى تمدد الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية، والمزيد من التعنت والتشدد ضد الفلسطينيين من الساسة والرأي العام الإسرائيليين، وبناء مزيد من جدران العزل العنصري التي يشكل وجودها واستمرارها إدانة للعالم أجمع.
لا حل من دون إرادة دولية قوية ما لم تبرز إرادة دولية قوية لوضع حد للحرب، وتسمية المسؤول عن استمرارها وإيقاد نارها بالاسم، وتحديد مسؤوليات الأطراف، وإظهار الرغبة في الانخراط الجدي وتقاسم المسؤوليات تجاه محنة الشعب السوري من الأطراف الدولية، وخصوصاً الدول الديمقراطية، لن يكون هناك أي حل، وسوف تتحول المفاوضات إلى سراب يدفع السوريين إلى الركض وراءه من دون أن يجدوا أمامهم سوى الحرب المستمرة، وفي ظلها تحقيق طهران مزيدا من التطهير المذهبي والإثني الذي تسعى إليه في المناطق الاستراتيجية التي تريد البقاء فيها.
والحال، كما حصل بالنسبة لفلسطين، لا تبدي الدول أي إرادة في الانخراط، ولا في تحمل المسؤولية، ولا تبدي أي موقف واضح من أطماع طهران التي هي اليوم الموقدة الرئيسية في نار الحرب، وتكاد هذه الدول تكون فاقدة العزيمة، وراضية عن التضحية بمبدأ الحق والقانون والعدالة، وقابلة للتخلي عن التزاماتها الدولية في مقابل الحفاظ على مصالح سياسية أو تجارية أو استراتيجية، تنطوي عليها العلاقات الحسنة مع طهران وموسكو وبعض العرب الضالين. وكما أنه لم يوجد من يقول لتل أبيب كفى تهربا وتوسعا واعتداء على حقوق الفلسطينيين، ويتخذ الإجراءات التي تفرضها مواثيق الأمم المتحدة لحماية هذه الحقوق، لم نر اليوم من بين الدول الكبرى والصغرى التي تخفي انتهازيتها وأنانيتها وراء كلمات الحل السياسي المعسولة، من يعترف بما تقوم به طهران في تمديد أمد الحرب الأهلية، لخدمة مصالح لا تخفيها هي نفسها عن أحد، ولا من يطالبها بالتوقف عن اللعب بمصير السوريين، وسحب قواتها ومليشياتها من سورية، وإدانة دفاعها عن رئيس قاصر، دانته جميع تقارير المنظمات الدولية بجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية. وطالما استمرت الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا، في تجاهل حقوق الشعب السوري والتضحية بها، لتعميق تحالفها أو تعاونها أو تفاهمها مع طهران، لن يكون هناك حل، وسوف يستمر السوريون في الدفاع عن حقوقهم والعمل بكل الوسائل لوضع حد للتدخل الإيراني وجميع التدخلات الأجنبية التي دمرت حياتهم وأحرقت وطنهم. لن ينجح الإيرانيون في تحقيق حلمهم الدموي، ولن يحول جورهم دون استمرار السوريين في الدفاع البطولي عن حقوقهم وهويتهم وبلادهم، ولا دون انتصارهم الحتمي. لكنهم سوف يخلفون جرحاً غائرا في سورية والضمير العربي والعالمي، تماما كما هو جرح فلسطين الذي لا يدمل ولن يدمل قبل أن تقلع اسرائيل عن سياسة الإبادة القومية التي اتبعتها، وتعتذر عن ماضيها وأخطائها.
- See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/8/31/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A#sthash.dcyzDTj2.dpuf