-
تسارعت في الآونة الأخيرة وتيرة البحث عن حلول
سياسية للأزمة السورية بعد أشهر طويلة من التصعيد الصاعق للعنف. ولم يتوقف الحديث
في الأيام الماضية عن احتمال وجود اتفاق روسي أمريكي حول مخرج قريب يضع حدا للقتال
الدائر منذ واحد وعشرين شهرا، حتى بعد أن نفى الروس ذلك وأكد الأخضر الابراهيمي
انه لم يأت لتطبيق أي مخطط مسبق متفق عليه بين الدولتين الكبريين.
-
ومن الملفت أن الجميع قد قبل بإعطاء المبادرة
لموسكو كي تساهم في هذا الحل، وكأن المطلوب هو تطمين الروس على مواقعهم ومصالحهم
في أي حل يخرج سورية مما أصبح يعرف وكانه صراع أهلي أكثر منه ثورة شعب مقهور ضد
جلاديه. وبالرغم من أنها كانت ترمي باللائمة على الروس في غياب أي تحرك دولي
لحماية المدنيين أو وقف عنف النظام، إلا أن واشنطن لم تكف منذ بداية الازمة عن
إسداء النصح لنا بعدم القطع مع الروس وبالتقرب منهم والحوار معهم. وأنا اعتقد الآن
أن هناك نوعا من الاعتراف الضمني من قبل واشنطن لروسيا بحقوق خاصة في سورية التي
شكلت منذ نصف قرن جزءا من مناطق نفوذها بالفعل، وهي تسعى دائما منذ بداية الأزمة
إلى أن تؤكد لها دائما أنها لا تطمح إلى انتزاعها منها.
-
وربما كانت واشنطن تفضل حلا سياسيا يضمن
المصالح الروسية في سورية على أي تدخل عسكري تعتقد أنه يمكن ان يكون باهظ
التكاليف. كما أن واشنطن التي تقف بالمطلق إلى جانب إسرائيل ليس لها مصلحة كبيرة
في أن تستثمر كثيرا في سورية، وليس لها أمل في أن تشدها إليها، وربما كان من الأفضل
لها أن تقايض عليها مع روسيا لقاء مصالح استراتيجية أخرى أكثر ديمومة.
-
وربما يتوافق هذا المطلب أيضا مع مطالب معظم
الدول الغربية التي تدافع عن انتقال سلمي للسلطة يجنب البلاد الفوضى أو سيطرة
القوى المتطرفة كما يقولون، وهو ما يعني أيضا الحفاظ على المؤسسات التي تمكن
السلطة الجديدة من ضبط الاوضاع وبسط السيطرة. وهذا ما تقصده الاطراف الدولية
جميعا، وفي مقدمها الولايات المتحدة، عندما تؤكد هي الأخرى على التمسك بالحل
السياسي واستبعاد الحسم لأي طرف من الأطراف. وهذا ما يفسر أيضا إصرار هذه الدول
على التذكير الدائم برفضها القبول بأي شكل من أشكال التدخل العسكري لصالح حماية
المدنيين السوريين من القتل المنظم الجماعي أو لتعزيز قدرة الثوار ومنع النظام من إجهاض
الثورة والعودة بالبلاد إلى الوراء.
-
والواقع أن هناك قطاعا كبيرا من الرأي العام
السوري، بما في ذلك كثير من الثوار، من يميل إلى مثل هذا الرأي، ويعتقد أن حلا
سياسيا يحفظ الحد الادنى من تماسك مؤسسات الدولة، حتى لو كان ذلك لقاء تقديم بعض
التنازلات الجزئية للنظام، مثل السماح للعصابة المجرمة بالرحيل من دون محاكمة، قد
يكون مفضلا على ترك الامور تحسم بالسلاح وما يمكن أن يتبع ذلك من انهيار الدولة
وتقاسم المصالح ومناطق النفوذ والصراع المحتمل بين القوى والتنظيمات العسكرية وغير
العسكرية، خاصة وأن المعارضة ليست على قدر كبير من القوة والاتحاد.
-
ويعتقد الكثير من السوريين أن الاحتفاظ بعلاقات
ايجابية مع روسيا الاتحادية يشكل مصلحة وطنية بعد سقوط النظام لما يقدمه ذلك من
موازنة للنفوذ الغربي والامريكي خاصة الذي لا يخفي أن أولوياته في المنطقة هي
حماية اسرائيل وضمان أمنها قبل أي شيء آخر.
-
كل هذا كان يعطي لموسكو، بالرغم من كل المعاناة
التي كبدتها للشعب السوري، حظوظا كبيرة في أن تقود المبادرة السياسية وأن تستعيد
بذلك ما فقدته بسبب دعمها المستمر، خلال الأشهر الطويلة الماضية، لنظام القتلة في
دمشق.
-
لكن من الواضح أن موسكو لم تحسن استغلال
الأوراق العديدة التي وضعت في يدها والثقة التي أعطتها لها الأطراف المعنية جميعا،
بما في ذلك الدول العربية. ولم تظهر الدبلوماسية الروسية لسوء الحظ أنها على مستوى
الآمال التي علقت عليها، لا من قبل بعض أطراف المعارضة السورية ولا من قبل الدول
الغربية. فقد تصرف الروس ولا يزالون يتصرفون كما لو كانوا طرفا في النزاع وليس
وسيطا محايدا فحسب.
-
والواقع أنهم الآن طرف رئيسي فيه. وبقدر ما
كانوا في السنة الأولى في خدمة بشار الاسد أصبح بشار الأسد، الذي فقد أي أمل في
البقاء أو الحكم، هو الذي يعمل ببقائه لصالحهم. وهم يستخدمون أصراره على البقاء من
أجل أن يساوموا على الحفاظ على مصالحهم هم وحلفائهم الايرانيين. وما يبدو على أنه
مفاوضات بوساطتهم بين المعارضة والنظام، لا يعدو أن يكون مفاوضات بين المعارضة
والحكومة الروسية نفسها. ولذلك لن يتخلى الروس عن الأسد ولن يقبلوا برحيله ما لم
تتحقق مطالبهم، وفي مقدمها الاحتفاظ بسلامة المؤسسات التي ترتكز عليها العلاقات
الروسية السورية منذ عقود، وفي مقدمها المؤسسة العسكرية والقوى المؤثرة فيها.
-
-
لذلك لا يبدو أن الروس قد غيروا كثيرا من
موقفهم الأصلي، ربما باستثناء قبولهم بمناقشة مصير الأسد، وذلك بالرغم من
التصريحات الايجابية للرئيس بوتين ومساعد وزير الخارجية بوغدانوف التي سبقت جولة
الابراهيمي ومؤتمراته الصحفية. فجوهر المطالب الروسية في نظري لا يزال هو نفسه،
أعني التغيير من ضمن النظام، أو الحفاظ على المؤسسات والتوازنات التي سمحت
باستمرار النظام خلال العقود الماضية، خاصة الجيش وربما بعض الأجهزة الأمنية.
بالمقابل ليس لديهم مانع الآن من تشريع عمل المعارضة بل القبول بمشاركتها في
السلطة.
-
الخطأ الأكبر الذي ارتكبته روسيا هو نفسه الذي
ارتكبه النظام أعني التصرف كما لو أن الأمر يتعلق فعلا بمعارضة مسلحة، أي بتمرد
يقوم به جزء من النخبة السياسية على السلطة، لا بثورة شعب تتجاوز في دينامياتها
آليات الصراع على السلطة ومسائل المشاركة وتقاسم النفوذ واقتسام المناصب والمواقع.
وبدل أن يسعى الروس إلى طمأنة السوريين الذين أدماهم النظام ودمر بيوتهم وشروط
حياتهم الطبيعية وشردهم في كل الأنحاء، على مستقبل ثورتهم، ثورة الحرية والكرامة
التي بذلوا في سبيلها أرواحهم وأملاكهم ورهنوا بانتصارها مصيرهم بأكمله، مالوا إلى
لغة التهديد والوعيد، مستقوين بما أظهره بشار الأسد ونظامه من إرادة هستيرية في
القتل والتدمير والتمسك بالسلطة مهما كانت النتائج.
-
لن يكون من الممكن التوصل إلى أي حل سياسي يضع
حدا للقتال ويحقن الدماء ما لم تعترف كل الأطراف بحقيقة وماهية الثورة المتفجرة
على الأرض السورية منذ الخامس عشر من آذار ٢٠١١. وهذا يعني قبل الاعتراف بأن نظام
الأسد قد مات بالفعل، ونفق تحت نعال ملايين السوريين الذين لم يكفوا عن التظاهر في
ساحات المدن وشوارعها، وفي القرى والأنحاء منذ واحد وعشرين شهرا، واكثر من ذلك تحت
أقدام ملايين النازحين والمهجرين واللاجئين الذين فقدوا أغلى مالديهم ومقومات
حياتهم.
-
وهذا يعني أيضا أن أية تسوية بين النظام وبين
المعارضة على تقاسم السلطة والمناصب والمواقع لن تكون ممكنة، وإذا حصلت مع بعض
أطرافها، فلن تحل أي شيء ولن تستمر. إن ما تعيشه سورية هو ثورة على نظام وليس ثورة
لتقاسم المواقع والمصالح داخل النظام. ولن تتوقف قبل تكنيس هذا النظام واقتلاعه من
جذوره، نظام القتل والعنف والقهر والعبودية والاذلال والإهانة. ومن يريد أن يحتفظ
للأسد وزبانيته من الجلادين والمجرمين بمكان ولو رمزيا في النظام الجديد، أو في
مرحلة الانتقال إلى هذا النظام، يهدد بأن يفجر المزيد من العنف بدل أن يضع حدا له،
ويغامر بأن يوحد نفسه مع القتلة والمجرمين.
-
مثل هذا الاعتراف يفتح الطريق أمام الحلول
والمفاوضات كلها وبين جميع السوريين من دون استثناء. فلن يكون هناك لا استئصال ولا
استبعاد ولا تمييز لأي فريق. ولن تقبل سورية الجديدة أن تكون على مثال سابقتها،
بلد الظلم والتمييز والاقصاء، وستبحث عن جميع التسويات التي تضمن وحدة شعبها
وتفاهم أبنائه بصرف النظر عن أصولهم ومذاهبهم ومواقعهم الاجتماعية وقومياتهم.
-
فليس هناك طريق سوى الحوار والتفاوض والتفاهم
بين الجميع لوضع أسس المجتمع الجديد ومحاربة أي نزعة مهما كانت للإقصاء أو التمييز
أو التهميش. التسويات ليست مممكنة فحسب بين الأطراف الوطنية ولكنها واجبة أيضا
لقيام أي نظام ديمقراطي جديد وللحفاظ على وحدة الدولة واستقرارها. لكن أي تسوية لن
تكون ممكنة بوجود نظام الاسد القائم على تمزيق النسيج الوطني وزرع الفتنة
والانقسام، والتمسك به يعني رفض الحوار الوطني الفعلي والاستمرار في حلم الانتصار
على الطرف الآخر والحسم بالقوة العسكرية المحض. وهو ما يتعارض مع أي أمل بإعادة
الوحدة والأمن والاستقرار والسلام لسورية والسوريين.
-