الاتحاد 7 نيسان أفريل 10
لجدية التي يواجه بها الرئيس الأمريكي باراك أوباما سياسة الاستيطان الاسرائيلي تشير إلى أن هناك فرصة جديدة للتقدم في الجهود العالمية للحد من معاملة إسرائيل كدولة استثنائية أو فوق القانون. وبصرف النظر عما إذا أدى ذلك إلى تسوية سياسية للنزاع العربي الاسرائيلي أم لا، تشكل هذه المعركة المقدمة الضرورية لمعركة عزل أسرائيل وتعرية سياساتها التوسعية. ولا ينبغي على العرب أن يبقوا في هذه المعركة مكتوفي الأيدي، وهم المعنيون الرئيسيون بها، بالرغم من أن تفجيرها لم يكن ثمرة مباشرة لجهودهم، ولا حتى بدافع اكتشاف التكتل الغربي، بما في ذلك الإدارة الديمقراطية في واشنطن، عدالة القضية الفلسطينية، ولا نتيجة أي شعور بالشفقة أو الرحمة على العرب والفلسطينيين، وإنما ببساطة بسبب الخوف على النظم السياسية الحليفة، والسعي إلى امتصاص نقمة الشعوب العربية، وإعادة بعض الصدقية للسياسة الغربية، والحيلولة دون أن تسقط المنطقة أكثر في حضن السياسة الايرانية، ومن ورائها في حضن الحركات الاسلامية والقومية "المتطرفة".
والمشكلة أن الرغبة الأمريكية الأوروبية المعلنة اليوم للحد من التواطؤ التاريخي الجائر مع تل أبيب من أجل تهدئة الاوضاع الشرق اوسطية جاءت في أحلك ظروف. فلم تكن إسرائيل اكثر تطرفا ومبالغة في مطالبها وأطماعها مما هي عليه الآن. بينما لا يكاد المراقب السياسي يرصد أي تغيير ايجابي مقبل على سياسة التنازع والمواجهة الداخلية بين الأطراف والفرق الفلسطينية المتنافسة.
أما العرب فقد خروجوا من صراعات العقد الماضي بإرث من التنازع والتفتت والتشكيك في عروبتهم، أي في ما يجمع بينهم أو يبرر تضامنهم وعملهم المشترك، يجعل أي مسعى للم شملهم ودفعهم إلى الحديث بصوت واحد، أو التصرف ككتلة او مجموعة متسقة على الساحة الدولية، بمثابة طلب المستحيل. فلم تقل نتائج صدمة انهيار الجبهة العربية مع كسر العراق، وتفكيك بنيته العسكرية والسياسية، على العالم العربي، عن تلك التي أعقبت خروج مصر من الإجماع العربي في الثمانينات، وتوقيع اتفاقيات كمب ديفيد، أعني فرط عقد أي اجماع عربي، قائم أو محتمل، وتقوقع الدول والنظم والمجتمعات على نفسها ومشاكلها الداخلية، وانسحابها من السياسة الدولية، وبالنتيجة انعدام هامش مبادرتها السياسية والاستراتيجية. فهي لا تزال منقسمة اليوم، كما كانت دائما، بين كتلتين كلتاهما تحميان ظهريهما بتحالفاتهما الخارجية، ولا أحد يراهن على قوته الذاتية. ولم يختف أي مشروع عمل عربي مشترك للمستقبل وتختفي أي إمكانية لصوغ أجندة عربية فحسب، وإنما اختفت أيضا أية مشاريع عمل داخلية، وأي قاسم مشترك وطني. وهذا ما يفسر ما نشاهده من تشابك بين النزاعات الداخلية الطائفية والإتنية والسياسية والنزاعات العربية العربية، وبينها وبين النزاعات الإقليمية والدولية.
هكذا تخيم على العرب حالة من الفوضى الفكرية والسياسية، ومن التفكك والتهلهل والضياع تجعل أكثرهم منشغلين بهمومهم الخاصة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والطائفية والأتنية، من دون الإشارة إلى الهموم التوريثية التي تشكل هاجسا لأكثر من نظام. فجميع الأقطار العربية أو أهمها تعاني من اهتزازات وتشنجات وتهديدات بزعزعة داخلية لا أحد يعلم مدى عمقها ومآلاتها. وبمقدار ما استغلت الحكومات العربية أو جلها إخفاق مسار السلام ذريعة لتأجيل الاصلاح بكل معانيه وجوانبه، تجد نفسها اليوم ضحية الاحباطات المتراكمة وتصاعد الضغوط المادية والنفسية على الأفراد والجماعات، مع الافتقار لأي هامش مبادرة داخلية وخارجية حقيقية.
بالمقابل، يستدعي الحصول على نتائج واضحة في المعركة الجديدة الدائرة من حول تجميد الاستيطان اليهودي، او على الأقل تجنب أن تخرج إسرائيل من هذه المعركة بنجاح إعلامي ودبلوماسي، يظهر فيه العرب وكانهم غير جديين في التوصل إلى حل للنزاع أو غير قادرين عليه، أو غير متفقين في ما بينهم، أقول يستدعي تجنب خسارة جديدة مراجعة جدية للاستراتيجية العربية، وربما إعادة ترتيب الأولويات. وفي اعتقادي أن دعم جهود الإدارة الامريكية في تقليم أظافر الوحش الاستيطاني ومواجهة نفوذ اللوبي الاسرائيلي داخل الولايات المتحدة وخارجها، يستدعي اتخاذ مبادرات نشطة وجريئة لتغيير صورة العرب ووزنهم النوعي في السياسة الدولية نفسها، وذلك على ثلاث محاور رئيسية. محور إعادة بناء المجتمعات العربية من الداخل، وهذا ما يستدعي البدء بإصلاحات عميقة وشاملة، في ميادين السياسة والدولة والاقتصاد والإدارة والمجتمع، تعيد الثقة للشعوب العربية وفيها، وتحولها إلى رصيد في المواجهات المحتملة، وعامل من عوامل القوة الاستراتيجية، بدل أن تكون، كما هي عليه اليوم، عبئا إضافيا ومصدر قلق وخوف للحكومات والعالم. ومحور إعادة بناء التكتل العربي الاقليمي، وهو شرط أي رابطة جوار فعالة كتلك التي اقترحها امين جامعة الدول العربية. ولا مانع من أن يبتعد هذا التكتل في مفهومه عن مفهوم الوحدة العربية كما تصورها القوميون، ويأخذ شكل تحالف أو تآلف أو تجمع اقتصادي أو كونفيدرالية تجمع الدول العربية الرئيسية المعنية مباشرة. وأخيرا محور العلاقات الخارجية التي تستدعي ما ينبغي تسميته المصالحة مع العالم، وليس مع دول الجوار فحسب.
فالمناخ السائد في العالم العربي منذ الاستعمار وتجربته المريرة حتى العقود الستة الماضية، وبسبب المواقف الغربية المحابية لاسرائيل والمعادية لتطلعات العرب والمسلمين المشروعة، هو مناخ القطيعة، ومن ورائها الانكفاء على النفس والتطلع نحو الماضي، وإحياء الصداقات أو الوشائج القديمة. ومن المؤكد أن مثل هذا الموقف يزيد في عزلة العالم العربي وهشاشة وضعيته الاستراتيجية، ولا يفيد إلا السياسة الغربية الهيمنية التي تستخدم العدوان والتشهير لدفع العرب نحو المزيد من العزلة والانطواء على النفس والانسحاب من التنافس العالمي. والمقصود أن يعمل العالم العربي على الخروج من التهميش الذاتي الذي اختاره، وأن يسعى بجد، وبحركة متسقة وجماعية، على فك العزلة، وانتزاع مواقع قوية في قلب العالم الصناعي، وفي وسط الرأي العام الدولي، من دون خوف ومن دون شعور بالنقص. وهذا ما يحتاج إلى خوض حوار بناء، رسمي وأهلي، مع المجتمعات الغربية والشرقية معا.
في نظري، مهما كانت نوايا الإدارة الأمريكية حسنة تجاهنا، فلن نستطيع تطويق إسرائيل وفضح سياساتها التوسعية والعدوانية من دون أن نغير أولا من طبيعة العلاقات التي تربطنا بالعالم، والتي تعمل اليوم لغير صالح العرب، وتمنعنا من طرح أنفسنا كشريك شرعي وكامل العضوية في المفاوضات الدولية والنقاشات العالمية حول مستقبل الشؤون والسياسة الدولية.
ويخشى، إذا لم نفعل ذلك، وثابرنا على السلوك كما فعلنا في العقود الأربع الماضية، أن لا نحصد شيئا سوى المزيد من التراجع والانكفاء، حتى في ظل إدارة أمريكية تبدو أحرص اليوم من أي وقت سابق على إظهار صدقية التزامها بالمباديء السياسية والأخلاقية. إذ سيكون في مقدرة إسرائيل دائما أن تستفيد من غياب صدقية العرب الاستراتيجية، ووهن عزيمتهم الجمعية، والطابع الاستثنائي الفظ لنظمهم السياسية، وانقساماتهم التي لا تنتهي، كي تعلن كعادتها غياب المحاور أو الشريك الجدي، وتحملهم مسؤولية انعدام التقدم في طريق التسوية السياسية، ومن ثم تجنيب سياسة الاحتلال والاستيطان الانتقاد والإدانة الدولية.