الاتحاد 24 مارس 10
كان الاستيطان ولا يزال الجبهة الرئيسية للصراع الدائر منذ منتصف القرن الماضي في فلسطين، وذلك لأن إسرائيل ليست دولة عادية تتخاصم مع دول أخرى. بل بالعكس، لأن اسرائيل لم تكن في أي وقت دولة، ولا تزال غير قادرة على التفكير بنفسها والتصرف كدولة، بما يعنيه ذلك من بنية قانونية واعية ومستبطنة تحكم علاقاتها بداخلها، وتحولهم إلى مواطنين لا أبناء طائفة، كما تحكم علاقتها بخارجها، وتساعدها على النظر إلى هذا الخارج بوصفه دولا وشعوبا مماثلة لها الحق نفسه في الحماية والسيادة والحياة، لا حقل صيد خاص مفتوح لكل المطامع والشهوات.
ولدت اسرائيل وعاشت ولا تزال كمشروع اسيتطان، بما يعني هذا المشروع من غزو عسكري لإحلال سكان جدد محل سكان أصليين، وبالتالي انتزاع أراضيهم وإخراجهم منها ووضع اليد القانونية والسياسية والعسكرية عليها. وهذا ما يعكسه تاريخ اسرائيل الطويل منذ بناء اول مستوطنة يهودية في الارض الفلسطينية قبل أكثر من قرن. فليست إسرائيل التي عرفناها حتى إعلان استقلالها عام 1948، والتي لا نزال نعرفها إلى اليوم سوى هذه السلسلة الطويلة من عمليات الغزو والضم والإلحاق لرقع متزايدة من الأرض العربية المحيطة بها، مع تدمير حياة سكانها وتهجير ما يمكن تهجيره منهم وتشتيت شملهم وضرب الحصار العنصري، أو السياسي والاقتصادي، كما هو الحال في غزة اليوم، عليهم، لإجبارهم على القبول بالأمر الواقع والاستسلام.
يعني المشروع الاستيطاني، أي مشروع، أمرين لا يستطيع من دونهما البقاء ولا الاستمرار. الأول الحرب الدائمة، وإلا توقف وانهار، وأصبح على مجتمع المستوطنين أن يعيد النظر في أسلوب حياته وتفكيره بأكمله، أي في ثقافة الاستيطان ذاتها، ويواجه بجرآة مشاكل بناء الدولة والتعامل على أسس وقواعد قانونية وسياسية، مع المحيط الذي كان انكار حقوقه في أصل وجود المشروع نفسه نفسه. والثاني النزوع المتزايد إلى العنصرية، أي إلى الصفاء أو النقاء الديني أو العرقي، او العرقي الديني معا، وطرد العناصر المختلفة التي تبدو أكثر فأكثر نشازا، يهدد تماسك المجتمع الاسيتطاني وصلابته. ويزداد النزوع إلى هذا النقاء بموازاة تقدم الاستيطان ونجاحه في تحقيق أهدافه وتوسيع دائرة انتشاره وسيطرته، وذلك بمقدار ما يضاعف هذا التقدم من حجم المشاكل والتحديات التي يثيرها الاستيطان لدى المجتمعات التي يقوم على حسابها ومن خلال تفكيكها وكسرها، وتعاظم المقاومات التي تفرزها أيضا. وهذا ما يفسر المفارقة التي يعيشها أي مشروع استيطاني، أعني تفاقم شعور مجتمع المستوطنين بالخطر والتهديد والهشاشة في الوقت الذي لا يكف فيه عن تأكيد تفوقه الكاسح في ميدان القوة المادية والمقدرة على التدمير وزرع الخراب في المجتمع الضحية المحيط.
ومن هنا ليس أمام أي مشروع استيطان خيار آخر، ولا سياسة ممكنة، ترد على حاجات بقاء نظامه واستمراره سوى خيار الهرب إلى الأمام. فتوسيع دائرة الاستيطان يستدعي المزيد من المقاومة من قبل المجتمعات المشردة والمشتتة، ويجر المزيد من الحرب والاعتماد على الحرب للدفاع عن البؤرة الاستيطانية وتعزيز استقرارها وأمنها. والعكس أيضا صحيح، فتنامي القوة وتزايد الشعور بالتفوق العسكري يعزز منطق الاستيطان، بما يوحي به من أن المزيد من الاستيطان يعني تحقيق استقرار أكبر وديمومة أكثر للبؤرة الاستيطانية.
تشكل القارة الأمريكية، وأمريكا الشمالية بشكل خاص، لكن استراليا أيضا، مثالا واضحا لهذه الآلية التي قادت إلى القضاء شبه الكامل على الشعوب الهندوأمريكية وإحلال شعوب أخرى، وثقافات جديدة محلها. فلم تتحول البؤر الاستيطانية إلى دول قانونية إلا بعد أن قضت تماما على المجتمعات المحلية وأخضعت ما تبقى من مقاومتها، أي عندما تحققت لها السيطرة على قارة كاملة او ما يشبه ذلك. لكن لم يكن الحال كذلك في العديد من البلاد الأفريقية التي عرفت مشاريع استيطان مشابهة. ففي جنوب أفريقيا اضطر مجتمع المستوطنين البيض بعد ما يقارب ستة قرون من السيطرة المطلقة على بلاد واسعة، إلى الاستسلام والمفاوضة على إعادة تحديد دور المستوطنين ومكانتهم في المجتمع الجديد المختلط. وكان هذا نموذجا خاصا وإن لم يكن فريدا للخروج من منطق الحرب الاستيطانية اختلف كثيرا عن النموذج الامريكي. لكن في الجزائر التي كانت معدة أيضا لتكون مستوطنة بيضاء انتهت العملية بتفكيك المشروع الاستيطاني والانكفاء بعناصره ورجاله على البلد الاصلي فرنسا. وفي اعتقادي أن الصراع القائم اليوم في المشرق العربي لا يخرج عن هذا الإطار، أي تحديد مستقبل مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين ومحيطها العربي القريب.
ليس هناك شك بأنه ليس من الوارد، على الأقل في وجود المعطيات القائمة الإقليمية والعربية، التفكير في حل على الطريقة الجزائرية. وأقل من ذلك في حل على الطريقة الامريكية يمكن المجتمع الاستيطاني من القضاء على المجتمع العربي الفلسطيني وامتدادته، ويحقق سيطرته على قارة، ويتحول إلى دولة وأمة طبيعية أو عادية. فلا المعادلة السكانية ولا الثقافية والحضارية تعمل على المدى الطويل لصالح إسرائيل. وبالمثل، يرفض المستوطنون الاسرائيليون بشكل واضح وقاطع الحل الجنوب أفريقي لمأزق المشروع الاستيطاني، ولا يكفون عن رفض الاختلاط والتنوع الاتني، والتمسك بتأكيد هوية يهودية يزيد من التشبث بها الإحياء المستمر لذاكرة الإبادة الجماعية التي تعرض لها يهود ألمانيا النازية، والربط الذي أقامته الصهيونية بين العملية الاستيطانية والوفاء للعقيدة اليهودية أو استعادة الأرض المقدسة التوراتية، وكذلك القوة الاستثنائية، المعنوية والمادية والاستراتيجية، التي يوفرها لمشروعهم التضامن اليهودي العالمي العابر للحدود.
من هنا لا يزال الرأي العام الاسرائيلي واليهودي على العموم يرفض التفكير في مستقبل المشروع الاستيطاني، وأحيانا يرفض النظر إلى ما يواجهه من تحديات، ويعتقد أن توسيع الاستيطان وبناء جدران عازلة تحيد الفلسطينيين وتمنعهم من المقاومة، يمكن أن يضمن له النجاح في ما أخفق فيه مجتمع البيض الجنوب أفريقييين، أي الخروج من الازمة بحل على مثال نظام الفصل العنصري الذي ساد في جنوب أفريقيا قبل مانديلا، مع بعض التعديلات التي تجعله اكثر قدرة على الصمود والمقاومة. تشجع على هذا الاختيار المطابقة بين منطق الاستيطان والوفاء للعقيدة الدينية، وهذا ما يفسر تنامي وزن المتدينين وتماهي قضيتهم مع سياسة الاستيطان. وتغذي الثقة بنجاحه التعبئة القوية للجماعات اليهودية العالمية وراء إسرائيل، والتأييد الكبير الذي يحظى به من قبل الغرب الذي لا يزال القوة الضاربة الدولية. كما يعزز هذا الخيار تفكك الجبهة العربية وتضارب أطرافها، وانقسام الفلسطينيين أنفسهم وتضارب سياساتهم الداخلية والخارجية.
لن تتخلى إسرائيل، أي أغلبيتها الانتخابية، عن هذا الخيار إلا إذا أدركت بشكل واصح أن نظام التمييز العنصري طريق مسدود وليس حلا، وأن السير فيه لا يضمن أي امن وسلام، ولكنه يقود إلى تخليد الحرب بما تحمله من مأسي وآلام ومخاطر لا تهدد إسرائيل والعرب خاصة وإنما جميع الاطراف، بما فيها أطراف بعيدة عن المنطقة وفي محيطها.
قطع هذا الطريق وكسر منطقه، وهو ما يهدف إليه مشروع الدولتين، مسؤولية الأطراف جميعا: الغرب الذي تحتمي اسرائيل خلف تأييده أو صمته، والجماعات اليهودية التي تراهن تل أبيب على نفوذها الكبير في جميع أنحاء العالم، والعرب الذين يلهب ضعفهم وشلل إرادتهم حماس المستوطنين اليهود ويقوي متطرفيهم، والفلسطينيون الذين يغرون، بانقساماتهم وتفرق كلمتهم وتخبط قياداتهم، أعداءهم بهم، ويشجعون أصدقاءهم وأشقاءهم على التساهل في حقوقهم إن لم يكن التضحية بهم. هذا جوهر المواجهة القائمة اليوم في فلسطين وعليها.