mercredi, février 25, 2009

شقاء الوعي العربي

الاتحاد 25 فبراير شباط 09
تشكل العروبة موضوع نقاش متجدد في عالم اليوم. وإذا كان من الصعب لأحد أن يشكك في صينية الصيني أو فرنسية الفرنسي أو أميركية الأميركي، رغم أن الصين تضم عدداً لا يحصى من القوميات الصغيرة، وأن فرنسا تشكلت من مجموعات قومية لم تنصهر بعد تماماً في كتلة لغوية واحدة، فإن أميركا رغم سيطرة المزيج الأوروبي الأبيض عليها، تؤلف مزيجاً من القوميات التي هجرت إليها، بل هي أمة المهاجرين بامتياز، أوروبيين كانوا في أصلهم أم غير أوروبيين. لكن الأمر ليس كذلك مع العروبة. ولا يقتصر التشكيك على معناها، بل يشمل وجودها أيضاً، كما لا يقتصر على الآخرين، الغربيين بشكل عام، وإنما يتعدى ذلك غالباً إلى عدد كبير من العرب أنفسهم. فإذا كان الأولون يعترضون على وجود شعب عربي يقطن أقطاراً متعددة لكن توحده مصالح ومشاعر وتطلعات واحدة، فهم يؤكدون على وجود شعوب مختلفة أخفاها الدين الواحد واللغة الواحدة التي ارتبطت به، لكنها في طريقها لأن تستعيد وعيها بذاتها وهويتها الخاصة... فإن قطاعات واسعة من العرب تنزع إلى نكران عروبتها أو إلى تجاهلها أو عدم إعطائها قيمة ومعنى، أحياناً لأسباب أيديولوجية أو سياسية. ولم يعد الأمر يقتصر، كما كان في الماضي، على الإسلاميين لخوفهم من أن تكون العروبة بديلا عن الانتماء الديني، أو لرؤيتهم فيها عصبية جاهلية، ولا على الشيوعيين والقوميين السوريين وأصحاب الأيديولوجيات القطرية، المتمحورة حول الدولة عموماً، في الماضي القريب، ولا على الحداثيين أو العلمانيين المتطرفين اليوم الذين ينظرون إلى العروبة على أنها أيديولوجية قومية، بل ربما أيديولوجية عنصرية ورديفة للاستبداد.
ليس هناك شك في أن بروز العروبة كمحور هوية جمعية قد شكل في القرن الماضي انقلاباً عميقاً في الوعي الذاتي للعرب، بعد قرون طويلة من سيطرة الهوية الدينية الإسلامية. ولم يكن هذا التحول في استراتيجية الهوية، أو التماهي الذاتي، على مستوى واحد عند جميع قطاعات الرأي العام والفئات الاجتماعية. ولا يزال مصبوغاً، إلى اليوم، في أوساط كثيرة، بذاكرة الهوية الملية أو الطائفية التي ميزت تاريخ العالم الإسلامي الطويل وتقاليده. ولم ينجح القوميون، أصحاب الفكرة القومية وفلاسفتها، في تحرير الشعور بالانتماء العربي كلياً من الانتماء الإسلامي، رغم الجهد الكبير الذي بذلوه في سبيل ذلك. ولعل أكبر مؤشر على هذا كان شعور بعض قادة الفكرة القومية العربية من المسيحيين بالحاجة إلى اعتناق الإسلام أو التقرب من فلسفته ومبادئه، لإظهار انتمائهم العربي أو تأكيده، كما حصل مع ميشيل عفلق.
يضاف إلى ذلك أن التاريخ لم يشهد، في أي حقبة من الحقب، تطابقاً فعلياً بين حدود الجماعة الثقافية العربية وحدود الدولة السياسية التي تنتظم فيها. فقد انقسم العرب في الجاهلية قبائل وعشائر وممالك أو شبه ممالك متنافسة، اشتهرت منها المملكة المنذرية والمملكة الغسانية. وقد تفاقم الأمر مع حركة الفتوح التي واكبت انتشار الإسلام وأدت إلى بناء دولة إمبراطورية تجمع إلى جانب العرب شعوب شرق وجنوب المتوسط جميعاً، وتصهرهم تحت راية إسلامية واحدة. وإذا كان العهد الراشدي ثم الأموي قد احتفظ للعرب بموقع متميز في الدولة الجديدة، فإن تقدم المشروع الإمبراطوري قد فتح المجال أمام صعود شعوب وأقوام أخرى إلى مقدمة المسرح السياسي للدولة، وسمح لهم بإضفاء خصائصهم الفكرية والثقافية، وأحياناً لغاتهم، عليها. وخلال قرنين أو ثلاثة أصبحت السيطرة العربية على الدولة الجديدة من ذكريات الماضي. وجاء العثمانيون منذ القرن الرابع عشر الميلادي ليعيدوا صهر المنطقة نفسها وشعوبها في مصهر الهوية الإمبراطورية التي تجمع بين ملل دينية عابرة للقوميات والثقافات.
القطيعة المزدوجة بين الجماعة والدولة، الثقافة والسياسة... هي ما يغذي الشعور العميق بخيبة الأمل التاريخية، وتشكل مصدراً لشقاء الوعي العربي حالياً.
وقد استمرت القطيعة بين حدود الجماعة الثقافية وحدود الجماعة السياسية قائمة في القرن العشرين، رغم انحلال السلطنة وظهور نموذج الدولة "الوطنية". فبسبب غياب قوة سياسية عربية مركزية، لم يسفر تفكك الإمبراطورية العثمانية عن نشوء جماعة عربية موحدة ودولة عربية تتطابق فيها حدود الثقافة القومية مع حدود الدولة السياسية، وإنما أسفر عن سيطرة القوى الأوروبية التي أعادت تشكيل المنطقة من وجهة نظر مصالحها الخاصة، أي من منظور تقاسم مناطق النفوذ، وبالتالي تقسيمها بما يضمن تحقيق هذا النفوذ وتوزيع دوائره بين الدول الكبرى الأوروبية. وكان هذا التقسيم فاتحة لأزمة هوية عربية لم تنته إلى اليوم نجمت عن تصادم الوعي القومي العربي الصاعد، تمثلا للقيم القومية الحديثة نفسها، بواقع السيطرة الاستعمارية وتقسيمها للمنطقة العربية.
من هذه الأزمة، وجواباً عليها، نشأت حركة القومية العربية التي وضعت نصب عينيها توحيد العرب وتحريرهم من النفوذ الغربي والسيطرة الأجنبية، بهدف الوصول إلى الصيغة القومية الحديثة المنشودة، أي مطابقة حدود الجماعة الثقافية، الناطقة بالعربية، مع حدود الجماعة السياسية، أو تكوين دولة عربية قومية بالمعنى الحديث للكلمة، تضع العرب على المستوى ذاته من التطور السياسي والدولي الذي بلغته الشعوب الأخرى.
لكن ما سوف يفاقم بشكل أكبر من أزمة الهوية العربية لحقبة ما بعد الثورة القومية هو إخفاق الحركة القومية العربية ذاتها في تحقيق حلم الدولة القومية أو الدولة الأمة التي تتطابق حدودها الثقافية (الأمة) مع حدودها السياسية (الدولة). فقد أدى هذا الإخفاق إلى وضع الهوية العربية في طريق مسدود، بقدر ما كرس انتصار الخيار النقيض، أي خضوع المنطقة لمنطق تقاسم النفوذ الأجنبي الذي يعني هنا ترسيخ التحالف بين النخب المحلية الحاكمة والقوى الغربية، الأوروبية والأميركية، مما زاد حدة التناقض بين منطق الجماعة الثقافية ومنطق الجماعة السياسية. فلم يعد مصدر الأزمة الشعور بالقطيعة المتزايد والمكرسة بين الانتماء الثقافي المتنامي، بفضل تقدم عملية التحديث والانفتاح على العالم، والانتماء السياسي المرتبط بدولة قطرية أو جزئية فحسب، وإنما أضيف إليه الشعور المتزايد بالقطيعة بين الدولة القطرية المتحولة إلى إطار للتحالف بين النخب المحلية المفروضة بالقوة والسيطرة الأجنبية من جهة والشعب الذي يخضع لها ويعاني من اضطهادها وسياستها التمييزية الاجتماعية والثقافية من جهة ثانية. وهذه القطيعة المزدوجة بين الجماعة والدولة والثقافة والسياسة هي التي تغذي الشعور العميق بخيبة الأمل والخديعة والإحباط التاريخي، وتشكل المصدر الرئيسي لشقاء الوعي العربي والعروبي حالياً.
فليست الهوية صفة ثابتة وجامدة مرتبطة بخصائص جسدية وثقافية موروثة، كالأصل الإتني واللغة، وإنما هي علاقة بين الخصائص الموروثة ومشاريع المستقبل التي تتطلع إليها الشعوب عبر الأيديولوجيات التي تتبناها في حقبة ما. وعندما تخفق هذه المشاريع تعود الإبرة إلى نقطة الصفر، أي إلى الفراغ المقلق والمؤلم. ولا يمكن الخروج من هذه الأزمة إلا بتحقيق النجاح في عمليتين مترابطتين: تحرير العروبة كمفهوم وصفي، أي كأصل وانتماء خام، من العروبة كما يجسدها هذا المشروع الأيديولوجي أو السياسي الذي أخفق أو فقد الأمل بالبقاء، وفي موازاة ذلك تبلور مشروع ثقافي سياسي جديد، يقدم للناس رؤية واضحة للمستقبل، وقيماً ومعايير أخلاقية فاعلة للتوجه الذاتي وبناء السلوك الإيجابي في المجتمع والعالم. وهذا ما لا يمكن فصله أيضاً عن طبيعة البيئة العالمية السائدة والخيارات الفكرية والسياسية والاستراتيجية التي تقدمها للشعوب والجماعات.

mercredi, février 11, 2009

الاستقرار الاجتماعي والأزمة العالمية

الاتحاد 11 فبراير شباط 09
تركز الاهتمام في الأزمة العالمية التي تضرب الاقتصاد العالمي، الافتراضي والحقيقي معاً، على الإفلاسات المتتالية لكبريات الشركات، والخسائر المالية التي تعرضت لها المصارف، كما تعرض لها المساهمون في الأسواق المالية والمضاربون فيها. فيما تركز محور الجهد للخروج من الأزمة على الحلول المالية أساساً، وقليلا على الحلول الاقتصادية. ومن الواضح أن هدف الحلول المطروحة هو إعادة ضخ رأس المال وتحريكه في شرايين المصارف والمؤسسات الاقتصادية بوصفه الدم الذي يغذي الاقتصاد الحديث ويمكّنه من البقاء والاستمرار. لكن لم يحظ العمل وعالمه بأي اهتمام أو رعاية ولم يتقدم أي تقرير من التقارير الدولية أو الخاصة باقتراحات تتعلق بحمايته مصالح البشر المنتجين والعاملين، وهم الجسم الأعظم من المجتمع، سواء تعلق الأمر بالعمال الأجراء في شركات ومؤسسات عامة وخاصة، أو بالطبقات الوسطى العاملة في قطاع الخدمات والتجارة والأعمال المهنية الأخرى. فهؤلاء سيدفعون ثمن الأزمة من جيوبهم، إذا بقي فيها ما يدفع، رغم أنه لا ناقة لهم ولا جمل في تغذيتها أو تفجيرها. يؤكد هذا الاتجاه أننا، بالرغم مما حصل، وهو ليس بالأمر البسيط أبداً، ولا ندري بعد حجم الدمار الذي سوف يسببه في المجتمع وفي الاقتصاد والدولة معاً، لم نخرج بعد من منطق الليبرالية الدوغمائية الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه، وأن رهان القوى السياسية والاقتصادية التي لا تزال تحكمنا وتتحكم بنا على مستوى العالم لا يزال يقوم كما كان عليه الحال منذ عقود، على المصالح المالية والاقتصادية الكبرى. وبدل أن تكون الأزمة المدمرة مناسبة لإعادة بناء النظام الاقتصادي على أسس جديدة، كما كنا نأمل ونتوقع، تربط منطق الاقتصاد بمنطق المجتمع وتخضعه له، وتدخل منطق الحفاظ على البيئة والتنمية المستدامة كمحدد جديد في السياسات الاقتصادية، عدنا إلى المنطق نفسه الذي كان وراء اختمار الأزمة وانفجارها، أعني فصل الاقتصاد عن المجتمع وتحويله إلى مبدأ قائم بذاته وسابق على أي منطق آخر.
هذا هو المضمون الحقيقي لبرنامج الإنقاذ الذي يقوم على ركيزتين: تعويم الشركات والمؤسسات المالية والصناعية الكبرى الفاشلة والمفلسة، وتكثيف الضغط على العمالة، سواء أكان ذلك من خلال زيادة ساعات العمل (مشروع مقدم للبرلمان الأوروبي) أو الاستسلام لمبدأ التسريح الواسع للعمال وترك المؤسسات الصغيرة، التجارية والخدماتية، إلى مصيرها.
والواقع أن العقود الثلاثة الماضية شهدت تطبيق سياسات محورها الرئيسي إطلاق ديناميكية رأس المال وتحريره من التزاماته تجاه العمال والمجتمع ككل. واستندت هذه السياسات التحريرية إلى ما أطلق عليه "مرونة العمل"، أي تخفيف القيود على التسريح والاستغناء عن العاملين، كي ما يتسنى لأصحاب المشاريع الصناعية والتجارية خوض غمار معركة المنافسة الشديدة على المستوى الكوني بأكمله، وفي أحسن الشروط. وقد أدى ذلك بالفعل، وعلى صعيد العالم، لكن بدرجات متفاوتة، إلى التراجع الواضح عن ذخيرة من الخبرة الاجتماعية والمكاسب القانونية التي بذلتها المجتمعات الحديثة، خلال أكثر من قرنين لوضع قوانين تحمي المنتجين من العمال والموظفين، وتفرض على أرباب العمل والصناعيين والمستثمرين الالتزام بقواعد قانونية تحد من التعسف وتضمن للعمال حداً أدنى من الأمن والاستقرار. وبالتأكيد حصل ذلك على حساب أصحاب المصالح الكبرى الذين لا يفكرون بمصير المجتمع ولا بمستقبل مصالحهم نفسها على المدى الطويل، كما بينت ذلك الأزمة الراهنة ذاتها، وإنما تحكمهم معايير واحدة وحيدة هي زيادة الإنتاجية ورفع الأرباح فحسب.
اللافت أنه لا صوت لـ"العمل الدولية"، دفاعاً عن المنتجين في العالم، وكأنها تركت لصندوق النقد ومنظمة التجارة، ساحة التخطيط للمستقبل!
وإذا لم نأخذ مصالح المجتمع ومنطق انسجامه واتساقه بالاعتبار في بلورتنا للسياسات الجديدة الرامية إلى مواجهة الأزمة ودرء مخاطر تفاقمها واتساع آثارها المدمرة، فليس هناك أدنى شك في أن النتيجة ستكون مزيداً من التقويض للأسس والمبادئ التي قامت عليها خلال القرنين الماضيين مفاهيم الحماية الاجتماعية، سواء ما تعلق منها بطبقة العاملين ككل، أو بفئاتها الأضعف من النساء والأطفال. فمع استمرار الضغط في اتجاه إنقاذ المشاريع المالية والصناعية الكبرى من الإفلاس وإعادة ضخ الحياة فيها، والسعي للتعويض عن ذلك إلى زيادة معدل مردود العمل، هناك خطر كبير في أن تفرغ قوانين العمل من أي ضمانات أو حماية وتتحول إلى ذكرى ماضية، وفي موازاة ذلك، تعريض الطبقات العاملة التي تشكل أغلبية المجتمع إلى شتى أنواع الابتزاز، ودفعها إلى وضع من الاضطراب وعدم الاستقرار العميقين.
ليس المطلوب التخلي عن السياسات الكبرى الساعية إلى حفظ الآلة الاقتصادية التي لا يمكن التضحية بها من دون توجيه ضربة قوية للمجتمع ككل، ولطبقاته الكادحة أيضاً، بل المطلوب أن لا نستمر في إطلاق الحرية، كما كان عليه الحال في السابق للقانون الاقتصادي وأن يكون لقانون المجتمع أيضاً مكانه حتى يمكن تحقيق العدالة وضمان الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي. وهذا يعني أنه ينبغي أن يكون المردود الاجتماعي واضحاً وشفافاً في أي إجراءات اقتصادية تتخذها السلطات المعنية، وأن لا تكون فوائدها مقتصرة فقط، كما يحصل حتى الآن، على أصحاب المشاريع والمؤسسات الاستثمارية الكبرى، ومن أجل إحيائها وإنعاشها، مهما كانت مساوئها وأعطابها وعدم نجاعة الحفاظ عليها. وينبغي أن تستثمر الأزمة الراهنة من أجل إعادة توجيه هذه المشاريع والمؤسسات بحيث تعطى الأفضلية لتلك التي تنجح في التكيف مع حاجات المجتمع ومنطق عمله، وتلك التي تقبل بإعادة بناء نفسها على أساس احترام مبادئ الخدمة الاجتماعية والبيئة النظيفة والعوائد العامة لا على قاعدة مراكمة الأرباح والعوائد، بصرف النظر عن أثر ذلك على المجتمع والدولة والحياة البشرية. إن ما ينبغي عمله هو استثمار الأزمة لكسر منطق أسبقية تراكم رأس المال على تحسين شروط حياة المجتمعات، بما يتضمنه هذا المفهوم من الارتقاء بشروط الوجود الإنساني، المادية واللامادية، وتوسيع فرص اختيارات البشر وتعزيز مبادئ العدالة والمساواة بينهم، وبناء أسس اقتصاد سليم ومعافى مستقر وقائم على احترام العمل والمكافأة حسب الجهد، وبالتالي كسر شوكة الرأسمال المضارب ومنطق وجوده وسيطرته على الاقتصاد الحقيقي وتحكمه به. من دون ذلك لن تكون الأزمة سوى مناسبة للإفقار المتزايد للمجتمعات والطبقات الوسطى خصوصاً، وإعادة إنتاج رأسمالية المضاربة التي هي في أساس المأساة الراهنة. ومن الملفت للنظر أننا لا نكاد نسمع لمنظمة العمل الدولية صوتاً اليوم في الدفاع عن المنتجين في العالم، وكأنها استقالت وتركت للمؤسسات المالية والتجارية الدولية كصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية، الساحة حرة لتحتكر التخطيط للمستقبل.

lundi, février 02, 2009

الأزمة الفلسطينية وضرورة مراجعة الذات

الجزيرة نت 2 فبراير 09

لم يكن انقسام الرأي العام والحركات السياسية في الخمسينيات والستينيات، بين وحدويين وقطريين، مما شكل محور النقاش السياسي لعقود طويلة، مستقلا عن خيارات استراتيجية وسياسية أساسية. فقد كان أنصار الفكرة القومية يعتقدون أن أولوية تحقيق الوحدة نابعة من أنها شرط التحرر من السيطرة الأجنبية، ومن وراء ذلك استعادة الشعوب العربية لهويتها وأصالتها وشخصيتها، وانخراطها الفعلي والفعال على طريق الحضارة الحديثة. ذلك أن نهضة المجتمعات رهن بتحررها واستقلالها وسيادتها، ولا تحرر ولا استقلال ولا سيادة للدول والأقطار العربية، صغيرها وكبيرها، من دون تفكيك نظام السيطرة الأجنبية. وفي المقابل، كان أنصار الفكرة الليبرالية الذين استلموا السلطة في البلاد العربية بعد رحيل الاستعمار يرون أن الأولوية ينبغي أن تعطى لتحسين شروط حياة الشعوب وتحديثها، وأن مثل هذا البرنامج يستدعي التكيف مع الواقع العربي القائم، مهما كانت أسباب ولادته ونشوئه، والتعامل مع القوى الدولية الكبرى، في نطاق الهامش المتاح، على أمل تغييره في المستقبل. ومن هنا، كما دفعت الفكرة القومية بأصحابها إلى التوجه نحو استراتيجية الثورة والانقلاب لمواجهة النظام القائم، دفعت الفكرة الليبرالية التي كانت منافستها الأولى إلى التقرب بشكل اكبر من الدول الغربية والاستعمارية السابقة والتعاون بل والتفاهم معها، كما حصل في الخمسينات والستينات.
ولعلنا نلحظ معالم هذا الانقسام واختياراته المتناقضة وقد عادت من جديد إلى واقعنا العربي بعد أن فقدت الحركة القومية نفوذها الواسع وتقلصت سيطرتها في العقود الثلاث الماضية. ويكاد الوضع الفلسطيني يقدم مثالا ناصعا لهذا التناقض الذي وصل إلى حدوده القصوى بين الخيارين، بمقدار ما تمثل الحالة الفلسطينية حالة حدية قصوى في تاريخ تحرر العرب الحديث. فكيف يمكن الجمع، ولو بصعوبة، بين مهام تحرير الأرض الفلسطينية من مستعمر غاشم بكل المعاني، من جهة، وتأمين شروط العيش الطبيعي، ولو بحدوده الدنيا، من جهة ثانية؟ فالأولى تقتضي القطيعة مع نظام الاحتلال ومن يتعامل معه، والثانية لا تستقيم إلا بالتكيف أو التعامل أو التفاهم مع نظام السيطرة القائمة. وهي الصعوبة التي تكتشفها حماس السلطة في غزة، حيث المقاومة تعني التضحية بشروط الحياة الطبيعية الدنيا، كما تكتشفها سلطة فتح في الضفة حيث لا يمكن الحفاظ على شروط الحياة الإنسانية من دون مساومة مبدئية، ليس مع سلطات الاحتلال فحسب وإنما مع النظام الدولي الذي يدعمها.
ويكاد تاريخ القضية الفلسطينية يلخص التاريخ السياسي العربي الحديث ويعيده من جديد إلى نقطة الصفر في الوقت نفسه. فمثلما حدث في جميع الأقطار العربية، تحولت فتح ذات الفكر القومي والثوري والفدائي، شيئا فشيئا، وبموازاة وصولها إلى السلطة وتمثلها منطقها، وممارستها لمسؤولياتها فيها، وهي تتركز قبل أي شيء آخر على تحسين شروط حياة السكان، كأي نظام دولة، إلى حركة مسالمة ومساومة في الوقت نفسه. وهو ما حصل من قبل لجميع الحركات الاستقلالية العربية التي انتزعت استقلالها من الاستعمار. وبالمقابل، يؤدي تمسك حماس بمنطق المقاومة إلى تعريض منطقة سيطرتها للانتقام، وما يجره من دمار، ويخرجها من المعادلة السياسية الإقليمية والدولية.
والسبب أن التناقض بين مصالح القوى الاجنبية واختياراتها، وهنا مطامح إسرائيل ومطامعها على سبيل المثال، والمصالح الدنيا للشعوب العربية، في السلام والاستقرار والأمن والتنمية الإنسانية الطبيعية، يكاد يكون من الشدة بحيث يلغي أي إمكانية للتسوية او لتسوية مقبولة. فأي تسوية يمكن أن تحصل بين إسرائيل تريد وتعمل علنا على انتزاع الأرض من ساكنيها واستيطانها، وشعب فلسطيني يريد العيش بسلام على أرضه، أو ما تبقى منها؟
إخفاق النظم الليبرالية العربية لحقبة ما بعد الاستقلال في ايجاد جواب لهذه المعادلة الصعبة بين والاستقلال والسيادة من جهة، والتنمية الإنسانية من جهة أخرى، ألم يترك لها خيارا سوى الرحيل تحت ضغط الحركة الشعبية والقومية الناقمة. لكن حظ الحركة القومية الشعبية التي انتزعت القيادة منها، لم يكن أفضل من ذلك في حل هذا التناقض التاريخي في الحياة العربية الحديثة. بل ربما كان إخفاقها مضاعفا بالمقارنة من النخبة التي سبقتها. فقد ضحت بمصالح التنمية العربية من دون ان تربح معركة مواجهة النفوذ الغربي. هكذا وجدت الشعوب العربية نفسها في حالة تفاقمت فيها السيطرة الخارجية والتبعية المباشرة للغرب مع فساد النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وانعدام فرص التنمية الانسانية.
زيادة الضغط الخارجي تزيد الانقسام داخل الشعوب، بمقدار ما تفرقهم في اختيار استراتيجيات المواجهة. ويزيد هذا التفرق في قوة النفوذ الأجنبي ومقدراته على التلاعب بالقوى المحلية واستتباعها، ويقضي في النهاية على الحركة الوطنية بأكملها، محولا قسما منها إلى متمردين على النظام وخارجين عليه موسومين بالمروق والإرهاب، وقسما آخر إلى عملاء يحتضنهم النظام ليستخدمهم أداة في تحقيق سياساته واستراتيجيته.
هكذا حصل فرط الشعوب والحركات الوطنية التي قادتها في العديد من بلدان العالم. ولا يختلف عن هذا ما تعيشه اليوم الحركة الوطنية الفلسطينية التي يتهم بعضها بالعمالة للغرب وإسرائيل وبعضها الآخر بالعمل لحساب أجندة ايرانية ليس لها علاقة بالعرب. والنتيجة تخوينا متبادلا، هو مقدمة لصراعات ونزاعات أهلية تجهض الحركة من الداخل وتقضي على أحلام الشعب الفسطيني الوطنية.
لا ينبغي أن نركن للتفكير المبسط والانفعالي الذي يقود إلى العداء والقطيعة داخل صفوف الحركة الواحدة. وفتح وحماس هما مكونان أساسيان في هذه الحركة. ولا ينبغي كذلك أن نسكر بالانتصارات الجزئية حتى لو كانت نتيجة تضحيات كبيرة، فنعتقد أننا قادرين لوحدنا، كطرف مقاوم أو كطرف مساوم على القيام بالتزامات القضية واستحقاقاتها. لا يزال الطريق طويلا جدا امام الفلسطينيين، ومزروعا بالألغام الاسرائيلية والغربية والعربية أيضا. ولا يحق لنا أن ننسى الدرس الذي استخلصته حركات التحرر الوطني خلال أكثر من قرن من الكفاح والصراع مع العدو نفسه، وهو الحفاظ، مهما كان الثمن، على وحدة الحركة الوطنية، ومن ورائها على الوحدة الوطنية نفسها. إن تغلبنا على الانقسام الذي يدفعنا إليه عجزنا وأحيانا إخفاقنا المشترك، من ثورويين قوميين وإسلاميين مقاومين، وليبراليين علمانيين، متعايشين ومتعاملين ومعتدلين، هو وحده الذي يمكننا من احتواء الضغوط الخارجية، ومنع أعدائنا من اختراق صفوفنا، واللعب على تناقضاتنا الداخلية. وبالعكس، إن فشلنا في التوصل إلى تسوية تمكنا من استعادة وحدتنا ومبادرتنا الوطنية، يعني أن نظام السيطرة الأجنبية قد نجح في تحقيق أهدافه، وفي فرط مجتمعاتنا وحركاتنا الوطنية والتحررية، ونقل الحرب الخارجية لتصبح حربا داخليا نواجه فيها بعضنا البعض.
ليس هناك، ولم يكن عبر التاريخ، حلا للتناقض القائم بين المقاومة والدولة. فهو أحد مكونات الوضع الاستعماري أو شبه الاستعماري نفسه. ولن يزول إلا بزواله. إنما هناك بالضرورة، ولا بد أن يكون هناك، من أجل العمل على هذا الزوال، تسويات مؤقتة، وحلول عملية، جزئية أو أكثر من جزئية، تحول دون الصدام وتجنب النزاع، وتحقق أوسع وحدة وطنية ممكنة، بهدف تكثيف الضغط على القوى الاستعمارية، ولعل ما حصل في لبنان من اتفاق بين الدولة والمقاومة مثال على العمل الذي ينبغي القيام به في فلسطين للحفاظ على ما يشبه الدولة ومهامها، حتى لا يسقط المجتمع في الفوضى والجهل والتخلف وغياب القانون، وتمكين المقاومة من متابعة عملها حتى لا يشعر العدو بالراحة ولا يطمئن إلى المكاسب التي حققها ويعتبرها نهائية، وفي مقدمها ضم الارض واستيطانها ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة.
يستدعي هذا بالتاكيد مراجعة من قبل الأطراف جميعا، حتى تكون الدولة دولة، وليست وكرا لأصحاب المصالح المكرسة، وحتى تبقى المقاومة في إطار أجندة وطنية شاملة تأخذ بالاعتبار مصلحة القضية العليا والشعب بأكمله، ولا تكون رهينة أجندة سياسية تمارس لتحقيق تقدم فريق سياسي على آخر. وليست هذه المراجعة من المستحيلات، إنما يحتاج تحقيقها إلى صفاء ذهني ونكران للذات وارتفاع على الحزازات والحساسيات والنزاعات الصغيرة. لكن وحده الذي يملك مثل هذه الملكات هو الذي يحقق الوحدة من حوله، أي يقدر ان يستوعب الآخر، ويكسب الرهان.