محاضرة في ندوة العروبة مارس بيروت
1- بين العرب والعروبة
تشكل العروبة موضوع نقاش متجدد في عالم اليوم. وإذا كان من الصعب لأحد أن يشكك في صينية الصيني أو فرنسية الفرنسي أو أمريكية الامريكي، بالرغم من أن الصين تضم عددا لا يحصى من القوميات الصغيرة، وأن فرنسا تشكلت من مجموعات كبيرة من القوميات التي لم تنصهر بعد تماما في الكتلة الغالية، وأن أمريكا بالرغم من سيطرة المزيج الأوروبي الأبيض عليها، تؤلف مزيجا من القوميات التي هجرت إليها، بل هي امة المهاجرين بامتياز، اوروبيين كانوا في أصلهم أم غير أوروبيين. لكن الامر ليس كذلك مع العروبة. ولا يقتصر التشكيك في معناها، بل في وجودها، على الآخرين، والأوروبيين أو الغربيين بشكل عام، وإنما يتعدى ذلك غالبا إلى عدد كبير من العرب أنفسهم. فإذا كان الأولون يعترضون على وجود شعب عربي يقطن أقطارا متعددة لكن توحده مصالح ومشاعر وتطلعات واحدة، ويركزون بالعكس على الأصول غير العربية للشعوب القاطنة في أقطار العالم العربي، فيؤكدون على وجود شعوب مختلفة أخفاها الدين الواحد واللغة الواحدة التي ارتبطت به، لكنها في طريقها لأن تستعيد وعيها بذاتها وهويتها الخاصة، فإن قطاعات واسعة من العرب تنزع إلى نكران عروبتها او تجاهلها أو عدم إعطائها قيمة ومعنى، أحيانا لأسباب ايديولوجية، أو لأسباب سياسية. فلا شك أن الاسلامويين، أو قسما كبيرا منهم، ينفر من العروبة لأنه يخشى أن تكون بديلا للانتماء الديني الأوسع، ويرى بعضهم فيها عصبية جاهلية، ومثل ذلك كان يفعل الكثير من الشيوعيين والقوميين السوريين وأصحاب الايديولوجيات القطرية المتمحورة حول الدولة عموما في الماضي القريب، والحداثيين أو العلمانيين المتطرفين اليوم الذين ينظرون إلى العروبة على أنها ايديولوجية قومية، وهي بالإضافة إلى ذلك ايديولوجية عنصرية ورديفة للفكرة الاستبدادية. والنتيجة، لا تبدو العروبة أبدا أمرا بديهيا.
تستدعي الإجابة على هذه المسألة التمييز بين العروبة من حيث هي واقع ثقافي (اتني) موضوعي والعروبة من حيث هي عقيدة أو فكرة أو ايديولوجية تشير إلى ما يطمح إليه العرب ليحققوا أنفسهم، أو ما يريد الآخرون للعرب أن يكونوا، أي إلى هوية سياسية وحضارية تتجاوز النسب الثقافي والاتني. فنحن نولد ضمن جماعة اتنية وثقافية، وننسب إليها، سواء قبلنا ذلك ام لا، ولا نستطيع اختيارها. فهي واقعة موضوعية خارجة عن إرادتنا ومرتبطة بأصلنا وماضينا، تحدد وجودنا قبل أن نبدأ التفكير والاختيار والتأمل في مستقبل المجتمع والدولة والأمة. وعندما أقول هناك عرب وأفارقة وأوروبيين وهنود وصينيين فأنا أميز بين أجناس، نسبة للصفات الموروثة، والوقائع المادية وغير المادية التي تتجاوز الاختيارات الفردية. أما عندما أقول إن العروبة تعني صفات محددة، أخلاقية وسياسية، كالمروءة والشهامة والكرم وحب الحرية مثلا أو التضامن والتعاون في إطار دولة واحدة أو جماعة موحدة، أو العداء للامبريالية والوقوف ضد الاستبداد، فأنا أتجاوز تقرير الواقع إلى توظيفه في خدمة رؤية فكرية أو ايديلوجية لتحقيق شيء آخر، أو لصوغ هذا الواقع في هيئة عقائدية (دينية) او سياسية.
وإذا كان الواقع المادي لا يتغير كثيرا، او بالأحرى إذا كانت زمانية تغيره هي من النوع الطويل بحيث لا يشعر به الفرد نفسه، كما حصل للغة العربية التي نتحدثها اليوم بالمقارنة مع اللغة العربية الكلاسيكية، فإن المضمون الاخلاقي والايديولوجي والسياسي الذي نعطيه للعروبة يتغير بسرعة أكبر بكثير، لأنه ينتمي لزمنية التغير السريعة. وقد ارتبطت كلمة عروبي في العقود القليلة الماضية التي أعقبت الاستقلالات العربية باختيارات ثقافية وسياسية مرتبطة إلى حد كبير بالفلسفة القومية التي انتشرت في القرن التاسع عشر في أوروبة والعالم. لكن هذه العروبة التي ينبغي أن نطلق عليها العروبية، نسبة لكونها ايديولوجية تنطلق من العروبة كواقعة موضوعية لتبني مشروعا عربيا ايديولوجيا أو سياسيا يتطابق مع معايير العصر السياسية في بناء الدول الامم أو الدول القومية، أقول لكن هذه العروبة ليست لاصقة بالجماعة العربية، وإنما هي إضافة عليها. فهي تشير إلى محتوى معياري بالدرجة الأولى. والسياسة العروبية تهدف إلى تجسيد هذا المحتوى، من أجل الوصول إلى الأهداف التي تتطلبها العروبة من منظور الدولة القومية.
فالعروبة الاتنية واقع ملموس، لكن معطى خام، غير ناطق، لا دلالة كبيرة له سوى وصف بسيط للعرب لتمييزهم عن غيرهم من الشعوب. ومن هذه الناحية هي عبارة عن إرث، ثقافي وربما نسبيا جسماني، أي تأكيد الانتماء لأصل، واستمرار للماضي.
في المقابل، العروبة كاختيار ايديولوجي، هي توجه نحو المستقبل، مشروع للمستقبل، اقتراح للعمل وإعادة تشكيل الذات. مشروع لبناء العروبة الوصفية من أفق آخر وفي شكل آخر. وهي من هذه الناحية خروج من الواقع إلى الرمز، ومن المجسم إلى المجرد، ومن المادة إلى الروح. بث الروح في الجسد.
ولذلك كانت العروبة منذ نشأتها على أنقاض الاجتماع العثماني المللي وايديولوجيته الدينية، مشروع تغيير. وربما كانت، كما ظهرت في بداياتها، موضوع ثورة على الماضي، على العروبة الإتنية نفسها بوصفها التصاق بالدم والعرق والقرابة المادية والتقاليد البدوية أو القرسطوية الجامدة والمستهلكة[1].
باختصار، لا يعني تكلم أناس لغة واحدة، وامتلاكهم تقاليد واحدة، بل وإنتسابهم الفعلي أو الوهمي إلى جد واحد، تلقائيا، أنهم يشكلون جماعة سياسية واحدة، ومن باب أولى أمة واحدة، أو أنهم يتصرفون كجماعة أو أمة. فالعروبة كهوية للعرب لم تولد تلقائيا من اتصافهم بسمات مادية وثقافية مشتركة، وإنما هي عملية صنعية مركبة. ولا تحصل إلا بوجود فكرة وراءها تعطي للصفات المشتركة مضمونا ومعنى. فقد كان العرب يتحدثون لغة واحدة ولديهم إرث بيولوجي وثقافي مشترك في ما يسمى عصر الجاهلية، لكنهم لم يكونوا شعبا أو امة، ولكن كانت هويتهم الحقيقية، أي أسلوبهم في التعريف بأنفسهم وإدراك ذاتهم، ما أسميه الوعي بالذات، قبلية. وكان النزاع بين القبائل العربية يفوق النزاع بين العرب والشعوب الأخرى، لدرجة اعتبر المؤرخون العرب أن اجتماع كلمة العرب في معركة ذي قار ضد الفرس كان إيذانا بولادة هوية عربية مشتركة، أو شعبا عربيا. وبعد ظهور الاسلام اختفت العروبة أيضا كاستراتيجية هوية وتسمية ذاتيه وحل محلها الإسلام، وتقلص الشعور بالعروبة إلى تكوين إتني لا قيمة له ولا أهمية بالمقارنة مع الانتماء للجماعة الدينية التي تتجاوز العنصر الاتني والقبلي معا وتقدم وحدها مرجعا أخلاقيا وسياسيا لأنها هي التي تنطوي على معاني فكرية.
ثم إن الهوية ليست صنعية فحسب ولكنها تاريخية أيضا، أي ليست ثابتة ولا باقية على طول الزمن. وهذا ما يشير إليه تغير محتوى العروبة ودلالاتها الثقافية والسياسية على مر العصور. فقد ورثت العروبة القومية في العصر الحديث العروبة الدينية المنصهرة بالاسلام والمتماهية مع حضارته وثقافته في الحقبة الوسيطة، التي كانت قد حلت في مرحلة سابقة محل العروبة القبلية. واليوم تحن ننزع إلى تخليص العروبة من لباسها القومي الحديث، او القومجي، لنعيد بناءها على أسس أكثر انفتاحا وإنسانية أو كونية.
2- تحولات العروبة:
وبشكل عام، شكل مفهوم العروبة، أي توظيف الخصائص الإتنية الموضوعية في مشروع ثقافي أو سياسي يتطلع إلى المستقبل، بما في ذلك ربط العروبة بالانتماء إلى حضارة وثقافة محددة، والعمل على إحياء تراثها والاستثمار فيها، القاطرة التي سعى المثقفون والمفكرون والساسة، أو كثير منهم، إلى استغلالها لنقل حياة العرب من نموذج المجتمعات التقليدية السلطانية والقرسطوية إلى النموذج الحديث، وإعادة تشكيل حياتهم بحسب القيم والمعايير الحديثة، الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. ولم تتقمص العروبة جسدا واحدا كما يبدو لنا اليوم، هو الفكرة القومية العربية التي سادت في الخمسينات والستينات، ولكنها ظهرت في أشكال مختلفة، وكانت ميدانا لاستثمارات متنوعة أيضا، وغيرت من جلدها مرات ومرات. وبالرغم من أنها تظهر اليوم بمثابة حائط مبكى ومشجب يعلق عليه جميع العرب، بصرف النظر عن أوضاعهم ومواقعهم، إخفاقاتهم ومثالبهم ونقائصهم الفكرية والأخلاقية والسياسية، إلا أن الأمر لم يكن كذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولا في النصف الأول من القرن العشرين.
فقد ولدت العروبة الأولى في القرن التاسع عشر في ثياب نزعة إنسانية كونية قوية. وارتبط نشوؤها بمفهوم ايجابي لا نزال نردده إلى اليوم هو عصر النهضة، تيمنا بعصر النهضة او الانبعاث الأوروبي في القرن السادس عشر، وما رافقه من ازدهار في الآداب والفنون والعلوم وجميع أشكال التغير الايجابي والتقدم والابداع. فقد مثلت في ذلك العهد بداية اكتشاف العرب أو مثقفيهم للعالم الحديث الصاعد من حولهم، وما يعنيه من تطور للعلوم والتقنيات والنزعات العقلية والأخلاقية. وكان جوهر العروبة هذه هو الانفصال بالعرب أو الابتعاد بهم عن عصر الثقافة القرسطوية وتقاليدها وتراثها، وإدراجهم في عصر الثقافة الحديثة، والعمل على استيعاب مفاهيمها وقيمها وتطلعاتها العقلية والإنسانوية. وفي هذا العهد سيرتبط مفهوم العروبة الناشيء بالمفاهيم الجديدة الصاعدة مثل الحرية والوطنية والدستور والمواطنة، ويتطابق مع عملية البحث عن تأصيل الثقافة الزمنية وتنمية العلوم العصرية المتميزة عن العلوم الدينية. لم تكن العروبة في هذه الفترة بنت الحداثة فحسب، وإنما كانت أداتها وجوهر مفهومها في المجتمعات العربية التي كانت بالكاد قد بدات تعي وجودها المتميز على هامش تفكك الدولة الامبرطورية العثمانية وانحلالها. وقد استثمرت العروبة هنا لتحقيق النهضة بالمعنى الحديث للكلمة، وتوجيه العرب نحو الفكرة الكونية والإنسانية بما تشتمل عليه من قيم ومعايير اجتماعية. فكانت أداة لتجديد التراث وإحياء القيم الزمنية المدفونة والعودة إلى العلوم العقلية وتجديد التراث العربي القديم نفسه عن طريق الاجتهاد العقلي والإصلاح الديني.
لكن لن يبقى هذا المفهوم الكوني للعروبة جامدا وثابتا لفترة طويلة. وسوف يخضع لتحولات عميقة على هامش معركة الدستور وإصلاح الامبرطورية السياسي، وبشكل خاص بعد إخفاق مشروع تحديث الامبرطورية وتولي نخبة قومية طورانية السلطة في اسطنبول. فبعد أن بقي مفهوم العروبة مرتبطا ببناء ثقافة عربية حديثة مستقلة عن الثقافة الدينية التقليدية ومرتبطة بالعصر، سوف تدفع الصراعات السياسية لنهاية عصر الامبرطورية وفشل الثورة الدستورية العثمانية واغتيالها على يد السلطان عبد الحميد، والقمع الذي أعقب ذلك في المناطق العربية، إلى انزياح العروبة الجديدة بشكل متزايد نحو الحقل السياسي. وبعد حقبة تحكم فيها المثقفون ورجال الدين المصلحون بمفهوم العروبة وجيروه لخدمة اهدافهم الإنسانوية والتحديثية، دخل المفهوم على أيدى رجال السياسة في سجل تاريخي جديد.
وإلى جانب ما أصبح يعرف في الأدبيات التاريخية بالجمعيات العربية التي تبنت مفهوم العروبة، وربما كانت جمعية العهد هي النموذج الأوضح لها، سوف تكتسب فكرة استقلال العرب عن الأتراك وتكوين دولة عربية مستقلة ومتميزة مواقع كبيرة وسريعة في اوساط الرأي العام والطبقة الوسطى[2]. وهذا ما سوف تكرسه فكرة الثورة العربية الكبرى ومشروعها، في العشرينات من القرن العشرين، وذلك بصرف النظر عن مصير هذه الثورة ومستقبل مشروعها. فنحن هنا امام مفهوم للعروبة يتطابق بشكل واضح مع الفكرة الوطنية الاستقلالية والدستورية الليبرالية التي شغلت العرب، ساسة ومثقفين، وحركت نشاطهم، في النصف الأول من القرن العشرين.
ولا أعتقد أن لعروبة الثورة العربية الكبرى، التي قادها الشريف حسين، علاقة كبيرة بفكرة العروبة كما سيعاد بناؤها بتردد وبطء في البداية منذ الأربعينات، لكن بقوة واضحة وتصميم في الخمسينات والستينات، أعني بالحركة القومية العربية الشعبوية، ثم الثورية والانقلابية التي ستملآ عقل العرب وقلبهم بعد الاستقلال. وربما لم تكن هذه الحركة إلا رد فعل مزدوج على إخفاقين شهدتهما العروبة منذ نشوئها، مشروع الاستقلال عن الدولة العثمانية وتكوين دولة مستقلة او كيانا عربيا متميزا ومستقلا، ومشروع بناء دولة وطنية قطرية فاعلة بعد انهيار حلم المملكة العربية الواحدة أو اغتياله من قبل البريطانيين والفرنسيين بتطبيق اتفاق سايكس بيكو سيء السمعة[3].
كان منطلق العروبة الجديدة مفاهيم مختلفة تماما عن المفاهيم الكونية للثقافة الحديثة في القرن التاسع عشر، وعن مفاهيم الثورة الاستقلالية والدستورية التي سيطرت على الحركة العربية داخل الأقطار المكافحة من اجل الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي. ولهذا لم تبق، كما كانت في الحقبة الاستعمارية، أساسا أو مبدأ لرابطة سياسية، تكرس حلم الدولة العربية في الاستقلال وتكوين دول سيدة ومستقلة، يمكن أن تتوحد في المستقبل لتعوض عن انهيار حلم المملكة العربية، وإنما تحولت إلى حركة شعبوية تجمع بين العداء للاستعمار الأوروبي والكفاح ضد النخب والطبقات الاجتماعية الارستقراطية التي ستظهر وكانها الحليفة الرئيسية للغرب الاستعماري. ولذلك ستنسلخ العروبة من جديد عن جلد الوطنية الدستورية الليبرالية الذي لبسته في حقبة ما بين الحربين، في الصراع ضد الاستعمار الغربي ومن أجل الاستقلال وتكريس سيادة الدول، لتتخذ شكل الثورة والانقلاب الاجتماعي والسياسي الذي يشكل مدخلا لاستكمال العمل من أجل الاستقلال غير الناجز والسيادة الناقصة. وهكذا ستنبثق الحركة القومية العربية منذ البداية كحركة انقلابية وثورية، وتراهن على التعبئة الشعبية بدل تفاهم أصحاب المصالح والنفوذ والحظوة من أبناء النخب المدينية والريفية الذين كانوا يسيطرون على الدولة ويشكلون أداة التواصل بين الغالبية الشعبية الفقيرة والمهمشة والسلطة الاستعمارية صاحبة القرار الحقيقي في السياسة والاقتصاد.
في هذه الحقبة التي سنطلق عليها في أدبياتنا اسم الحقبة القومية أيضا، سوف تكون العروبة مرادفة لقيم التقدم الفكري والاجتماعي والتاريخي. وبالرغم من أن الوحدة كانت محور ايديولوجية الحركة القومية، إلا أن نشاط الحركة سيتركز في النهاية في المسألة الاجتماعية والسياسية، أي في تغيير توازنات السلطة واعادة توزيع الثروة. بل إن هذا التغيير السياسي لصالح فئات وطبقات جديدة، هو الجانب الوحيد من التغيير الذي سيستمر ويبقى بعد انحلال الحركة وانحسارها. اما الوحدة أو الوحدات التي طمحت إلى تحقيقها أو همت بتحقيقها فلم ير أي منها النور. والوحدة اليتيمة التي تحققت بين مصر وسورية في أواخر الخمسينات بالكاد دامت ثلاث سنوات. وحتى في ما يتعلق بالنزاع مع الغرب، لم يعد موضوع السيادة والاستقلال هو جوهر المشكلة، وإنما الدفاع ضد الغرب عن سياسات الإصلاح الاجتماعي التي اطلق عليها اسم الاشتراكية، والتي أثارت بالفعل حساسية الدول الغربية وعدائها بسبب ما كانت تنطوي عليه من حتمية التحالف بين الأقطار العربية المنضوية تحت لواء الحركة القومية التقدمية الاشتراكية والمعسكر السوفييتي السابق المنافس للغرب.
العداء للغرب، أو للامبريالية بما تعنيه من سياسات الهيمنة الدولية عبر التكتل السياسي الغربي الليبرالي (لا للاستعمار) ، العدالة الاجتماعية، الثورة على الماضي والتقاليد، وتصفية مرتكزات الطبقة الارستقراطية، التوجهات التقدمية واليسارية، والتحرر الديني، هذه هي قيم القومية الثورية لحقبة ما بعد الاستعمار. ولأنها ارتبطت بفكرة الطليعية السياسية، أصبح من الطبيعي أن لا ترى أي قيمة للقيم الديمقراطية والتمثيلية القانونية والدستورية، وأن تركز بشكل اكبر على النخبة الثورية المخلصة والمنظمة في تكوينات حزبية قوية. وبالمثل، لم يعد للوحدة في منظور هذه العروبة التقدمية والثورية قيمة مركزية طالما أصبحت تعتمد بشكل أكبر في ضمان تقدمها واستقرارها على قوى الثورة العالمية والمعسكر الاشتراكي. ومن الممكن القول إن هذه الطبعة الجديدة من العروبة قد طلقت تماما قيم العروبة السابقة في الاستقلال والوحدة والسيادة. المهم هنا التقدم والتغيير الاجتماعي. وبهذا المعنى تشكل عروبة الخمسينات والستينات نموذجا لما اطلقت عليه الادبيات الماركسية اسم حركة التحرر الوطني كجزء من حركة التحرر العالمي من السيطرة الغربية والرأسمالية.
3- أزمة العروبة وأزمة الهوية
هكذا، لم تكن العروبة أمرا بديهيا في الماضي، وليست أمرا بديهيا اليوم. فمن الواقع الوصفي الواحد، وهو هنا وجود شعب يتحدث لغة واحدة وينسب نفسه لأصول واحدة، يمكن بناء مشاريع اجتماعية وسياسية متعددة، تبعا للقيم التي تحرك النخب السائدة او تنتشر في أوساط واسعة من الرأي العام. وفي كل مرة يشكل التحول من مشروع إلى آخر محور أزمة هوية عميقة، لأنه يضع وجها لوجه الشعور الأولي بالعروبة في مواجهة الاختيارات الفكرية والسياسية التي ارتبطت بها في هذه الحقبة أو تلك. وليس من الممكن تحرير العروبة كمفهوم وصفي من العروبة كما يجسدها هذا المشروع أو ذاك في حقبة من حقب التاريخ ما لم يتبلور مشروع جديد، أي طالما لم ينجح المجتمع في بلورة رؤية واضحة للمستقبل، ويضفي محتوى جديدا على صفة هي من حكم الواقع والتاريخ. ومما يزيد الأوضاع تعقيدا أن بلورة هذه الرؤية ليست مستقلة عن البيئة العالمية وما تقدمه من خيارات استراتيجية وسياسية وفكرية.
ونحن نعيش اليوم أزمة العروبة القومية التي مسحت كل ما قبلها من النسخ، وارتبطت بحقبة تميزت بصعود الحركة الشعبية الواسع والآمال والتطلعات الكبيرة التي رافقتها في التغيير السياسي والاجتماعي والحضاري. حتى أصبح من الصعب فك مفهوم العروبة الأول عن استخدامه العروبي القومي اللاحق. ومن هذا المنظور تشكل العروبة الجديدة التي عمت فكرتها جميع أرجاء العالم العربي لأول مرة، وأصبحت هوية جامعة للشعوب العربية بالرغم من انعدام التواصل السياسي، ثمرة الحركة القومية الشعبية وضحيتها في الوقت نفسه. فمن دونها ما كان من الممكن للعروبة أن تتغلب على الأفكار القطرية أو القومية المنافسة لها، التي انتشرت في العديد من الأقطار، ولا أن تحل محلها. لكن إخفاق الحركة القومية الشعبية يضع العروبة في مأزق صعب نتيجة مطابقة العروبة في الوعي الداخلي والخارجي مع قيم القومية واختياراتها. وهذا ما يفسر الصراع الذي احتدم من جديد حول العروبة وخياراتها والمصير البائس الذي وصلت إليه الفكرة القومية العربية والحركة او الحركات المرتبطة بها، سواء من حيث تراجع مواقعها السياسية والفكرية في وسط الرأي العام، او بسبب تحولها إلى تراث داشر، قابل للاستهلاك والاستخدام والمتاجرة من قبل أطراف عديدة تحاول أن تغطي بالعروبة، حتى في أضعف أحوالها، على افتقارها لأي مصدر مشروعية[4].
ومن الأسباب التي تفاقم من أزمة الهوية المتعلقة بالعروبة، وتعيق إمكانية حلها السريع أن الجماعة العربية، أو التي نطلق عليها اسم عربية، مثلها مثل الجماعات القومية الأخرى، ليست ماهية جامدة وثابتة يمكن تمييزها بسهولة وفصلها عن استخداماتها التاريخية وتقمصاتها الايديولوجية. فهي واقع تاريخي حي ومتحرك، وثمرة التوسع والاختلاط والتزاوج والتصاهر والاندماج المادي والثقافي معا. مما يعني أنها في تغير مستمر. ويمكن القول إن ما حصل للعرب في القرن الماضي هو انقلاب قوي في محور الهوية والانتماء القومي. فقد جاءت إعادة اكتشاف العروبة أو استعادة الوعي بالذات من منطلق ثقافي وقومي بعد قرون طويلة من سيطرة الهوية الدينية الاسلامية. ولم يكن هذا التحول في الشعور بالهوية العربية، أو بالأحرى في استراتيجية الهوية، على مستوى واحد عند جميع قطاعات الرأي العام والفئات الاجتماعية. ولا يزال مصبوغا، إلى اليوم، في أوساط كثيرة، بذاكرة الهوية الملية أو الطائفية التي ميزت تاريخ السلطنة الاسلامية الطويل وتقاليدها. ولم ينجح القوميون، أعني أصحاب الفكرة القومية وفلاسفتها في تحرير الشعور بالانتماء العربي كليا من الانتماء الاسلامي، بالرغم من الجهد الكبير الذي بذلوه في سبيل ذلك. وربما كان أكبر مؤشر على ذلك شعور بعض قادة الفكرة القومية العربية من المسيحيين بالحاجة إلى اعتناق الاسلام، أو التقرب من فلسفته ومبادئه، من أجل إظهار انتمائهم العربي أو تأكيده، كما حصل مع أحد منظري الفكرة الكبار وممثلها ميشيل عفلق.
يضاف إلى ذلك أن التاريخ لم يشهد في أي حقبة من الحقب تطابقا فعليا بين حدود الجماعة الثقافية العربية وحدود الدولة السياسية التي تنتظم فيها. فقد انقسم العرب في الجاهلية بين قبائل وعشائر وممالك أو شبه ممالك متنافسة، اشتهرت من بينها المملكة المنذرية والمملكة الغسانية. وقد تفاقم الأمر مع حركة التوسع والفتوح التي واكبت انتشار الاسلام وأدت إلى بناء دولة امبرطورية تجمع إلى جانب العرب شعوب شرق وجنوب المتوسط جميعا، وتصهرهم تحت راية اسلامية واحدة. وإذا كان العهد الراشدي ثم الاموي قد احتفظ للعرب بموقع متميز في الدولة الجديدة إلا أن تقدم المشروع الامبرطوري قد فتح المجال امام صعود شعوب وأقوام أخرى إلى مقدمة المسرح السياسي للدولة، وإضفائهم خصائصهم الفكرية والثقافية، واحيانا لغاتهم عليها. وخلال قرنين أو ثلاثة أصبحت السيطرة العربية على الدولة الجديدة من ذكريات الماضي. وجاء العثمانيون منذ القرن الرابع عشر الميلادي ليعيدوا صهر المنطقة نفسها وشعوبها في مصهر الهوية الامبرطورية التي تجمع بين ملل دينية.
وقد استمرت الصيغة نفسها في القرن العشرين، بعد انحلال السلطنة وظهور نموذج الدولة القومية. فبسبب غياب قوة سياسية عربية مركزية، لم يسفر تفكك الامبرطورية العثمانية عن نشوء جماعة عربية موحدة ودولة عربية تتطابق فيها حدود الثقافة القومية مع حدود الدولة السياسية، وإنما أسفر عن سيطرة القوى الأوروبية التي أعادت تشكيل المنطقة من وجهة نظر مصالحها الخاصة، أي من منظور تقاسم مناطق النفوذ، وبالتالي تقسيمها بما يضمن تحقيق هذا النفوذ وتوزيع دوائره بين الدول الكبرى الأوروبية. وكان هذا التقسيم فاتحة لأزمة قومية عربية لم تنته إلى اليوم نجمت عن تصادم الوعي القومي العربي الصاعد، تمثلا للقيم القومية الحديثة نفسها، بواقع السيطرة الاستعمارية وتقسيمها للمنطقة العربية.
من هذه الأزمة، وجوابا عليها، نشأت أصلا حركة القومية العربية الشعبية التي وضعت نصب عينيها توحيد العرب من جهة وتحريرهم من النفوذ الغربي والسيطرة الأجنبية، بهدف الوصول إلى الصيغة القومية الحديثة المنشودة، أي مطابقة حدود الجماعة الثقافية، الناطقة بالعربية، مع حدود الجماعة السياسية، أو تكوين دولة عربية قومية بالمعنى الحديث للكلمة، تضع العرب على المستوى ذاته من التطور السياسي والدولي الذي بلغته الشعوب الأخرى.
لكن العامل الأهم في تعميق أزمة الهوية العربية لحقبة ما بعد الثورة القومية هو إخفاق الحركة القومية العربية في تحقيق حلم الدولة القومية او الدولة الامة التي تتطابق حدودها الثقافية (الأمة) مع حدودها السياسية (الدولة). فقد أدى هذا الإخفاق، لأسباب ليس هنا مجال البحث فيها، إلى وضع الهوية العربية في طريق مسدود، بمقدار ما كرس انتصار الخيار النقيض، أي بمقدار ما ثبت خضوع المنطقة لمنطق تقاسم النفوذ الذي يعني هنا ترسيخ التحالف، كما لم يحصل في أي وقت سابق، بين النخب المحلية الحاكمة والقوى الغربية، الامريكية والاوروبية، وزاد من حدة التناقض بين منطق الجماعة الثقافية ومنطق الجماعة السياسية. فالشعور بالوحدة والانتماء الثقافي المتنامي، بفضل تقدم عملية التحديث والانفتاح على العالم، يصطدم أكثر فأكثر بواقع الانقسام الفعلي والسيطرة الأجنبية أو التبعية للأجنبي، ويعمق الشعور الموازي بخيبة الأمل والخديعة والإحباط التاريخي. وهذا هو المصدر الرئيسي لشقاء الوعي العربي والعروبي اليوم.
تتخذ الردة على ايديولوجية القومية العربية التي كانت في أصل الإخفاق، أو التي يحملها أكثر الرأي العام مسؤولية الإخفاق، ويحملها قسم أقل مسؤولية قيادة العرب في طريق مسدودة، جريا وراء الأوهام، شكل الارتداد أيضا عن الهوية العربية نفسها، أو التشكيك في قيمة هذه الهوية وفائدتها بل في وجودها[5]. وأكثر فأكثر يستفيد معارضي الفكرة العربية من فائض في المعنى، يؤمنه لهم تنصلهم من فكرة أصبحت تبدو عبئا على المجتمعات بعد أن كانت تبدو حافزا لتحريرها. فيظهر هؤلاء كما لو كانوا من المجددين او المبشرين بآفاق جديدة، تسمح بتجاوز الإخفاق الماضي. هكذا يشكل اليوم انتقاد العرب وتشويه صورتهم وتسويد صفحتهم التاريخية، بل وأحيانا الانسلاخ عن الهوية، جزءا من الانتقام من الذات، وإرضاء مشاعر الإحباط العميقة التي تعذب العربي وتضغط عليه بعنف. كما يشكل جلد الذات التمرين اليومي للعرب، مثقفين وسياسيين ومواطنين عاديين. فالكل يشكو من العرب ومن سلوكهم وضعفهم ونفاقهم وتخلفهم وانقسامهم، ويتصرف كما لو لم يكن جزءا منهم، ولا يترتب عليه أي مسؤولية في ما حصل ويحصل لهم. مما يعني في العمق أن هناك منطقا داخليا يسود اليوم تكون المسؤولية بحسبه في ما وصل إليه العرب من إخفاقات وتقصير في جميع ميادين التقدم الحضاري، المادي والمعنوي، هي العروبة نفسها، وليس العرب من حيث هم أفراد وجماعات ونخب وطبقات سياسية وحكومات ونظم ودول. فلا احد من هؤلاء يطرح على نفسه أي سؤال يتعلق بنصيبه في المسؤولية عما حصل ويحصل في الحاضر، ولا نرى أي شكل من أشكال النقد الذاتي او المراجعة، منذ أربع عقود من الحديث عن الإخفاق والفشل، عند أي طرف من الاطراف، لا الأحزاب ولا النخب ولا الحكومات.
ما حصل هو أن إفلاس الحركة القومية العربية، أي الايديولوجية العروبية، قد نزع الصدقية عن العروبة أيضا كاختيارات ايديولوجية، ثقافية وسياسية، وكتوجهات حضارية. وهذا ما أدى إلى انفصال الواقع العيني عن الرمز، وضياع الدلالة التي كانت له. فإذا لم تعد خياراتنا العروبية ناجعة فعلى أي أساس أو مبدأ نتوجه؟ من نحن، وماذا نساوي وبماذا نستطيع أن نحلم؟ إذا انحسرت العروبة كدلالات معنوية معروفة ومقبولة ومنشودة، ما قيمة صفة العربية، وكيف نوظفها، وما معنى أن نكون عربا، وما قيمة ذلك وما فائدة الانتماء للعروبة إذا كانت عاجزة عن أن تفتح لنا أي أفق؟ لا شيء.
هكذا يبقي انحسار المرجعية العروبية، ممثلة بآخر تجسداتها في الحركة القومية، العرب من دون مشروع ومن دون توجه وبالتالي من دون مستقبل، لأنه يحرمها من مرجعية فكرية وسياسية واضحة ومعروفة. وهذا ما تسفر عنه أزمة الهوية التي تتجسد في الانفصال بين الواقع المادي الخام ورمزه، أي في فقدان الانتماء الطبيعي والموضوعي للعروبة دلالاته الأخلاقية والايديويولجية والسياسية، أي الإنسانية. وهو من نوع فقدان المبنى (العروبة) للمعنى ( مشروع المستقبل: التحديث أو الاستقلال او الاتحاد أو الثورة الاجتماعية والعدالة)، وبالتالي البحث عن المعنى في مبنى آخر، أو إعادة إضفاء دلالات جديدة وملهمة على المبنى نفسه.
فالواقع أن الهويات كالعملة، توجد منها اختيارات عدة لكن محدودة. تستثمر الجماعات في ما نعتقد أنه الأبقى والاكثر وعدا. العروبة كانت مرجعية واعدة،: بالانبعاث الفكري والروحي، أي الانساني والأخلاقي، بالنهضة، بالاستقلال، ببناء أمة كبيرة وقادرة، بتمكين الشعوب من المشاركة في حضارة العصر، بالحداثة، أو بدمج العرب في الحداثة، بالمواطنية، بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة. هكذا ارتفع رصيد العروبة كاستراتيجية هوية او مماهاة أو وعي بالذات، بشكل مستمر منذ النهضة حتى السبعينات. أصبح الجميع، بصرف النظر عن أصلهم الاتني، ينتمون إلى العروبة. أصبحت هوية وايديولوجية أيضا. من ليس عربيا يصيره بالايديولوجية. الاكراد والبربر والارمن والشركس صاروا، في الخمسينات والستينات، كل على طريقته الخاصة، بهذا المعنى، أي بانخراطهم في مشروع العروبة الإنساني ثم الدستوري ثم الاستقلالي ثم التحرري والاجتماعي، عربا.
بعد إخفاقها، فقدت العروبة القومية رصيدها. وزاد في موازاة ذلك النزوع إلى التخلي عنها والتنكر لها واستبدالها، بوعي أو من دون وعي، باختيارات ايديولوجية ومرجعيات أخرى. وتتنافس المحاولات اليوم وتتضارب للبحث عن تربة تكون قادرة أكثر على أن تنتج ما أخفقت في إنتاجه تربة الفكرة العروبية.
ما هي الاختيارات الجديدة التي يراهن الرأي العام او قطاعاته المختلفة عليها لتحل كعملة مرجعية محل عملة القومية العربية المفلسة، وأين يبحث عن المعنى أو الفكرة الملهمة؟
أول مواقع الاستثمار الجديد وأهمها، كما لا يخفى على أحد، هو الدين، والاسلام بشكل خاص. وليست الاسلاموية، وهي غير الاسلام، إلا الايديولوجية او الخيارات الثقافية والسياسية التي تجعل من الاسلام مرجعية جديدة للعروبة الوصفية: روحها ومضمونها ومعناها. فهي تطرح نفسها بديلا عن العروبة القومية في كل النواحي: كمشروع تأهيل أو إعادة تأهيل أخلاقي ومعنوي، ومشروع توحيد جيوسياسي، ومشروع بناء لعلاقة اجتماعية وتضامن اجتماعي معا، أي كهوية ثقافية مميزة للعرب عن غيرهم من الامم والشعوب، وكهوية سياسية مؤسسة لسياسة ودولة فاعلة في النظام الدولي العالمي. من هنا تحمل الاسلاموية في طياتها مشروع صراع وتنافس مع الفكرة القومية وتظهر كما لو كانت فكرة قومية بديلة، أي اعادة تأويل العروبة الموضوعية إسلاميا، وبناء الدولة العربية التي حلم بها القوميون، بوسائل أخرى، برمزية دينية[6].
ومن المشاريع المطروحة أيضا على أنقاض الفكرة العروبية: الوطنية القطرية، التي تعني العودة إلى الاستثمار في القطر ودولته، اكتشاف الهوية السورية واللبنانية والعراقية والمصرية إلخ، والعمل على تزويدها بمعنى ودلالة إنسانية. ويشكل هذا تطلعا جديد إلى المستقبل يهدف إلى بناء الامة بمفهوم المواطنية[7]. وفي هذا السياق ينبغي ان نفهم معنى إعادة تثمين الوطنية المحلية الدستورية والليبرالية لحقبة ما قبل الاستقلال، واكتشاف مرجعية حقوق الانسان، والديمقراطية. وفيه أيضا ينبغي أن نفهم عداء كثير من القوميين للتيارات الديمقراطية التي تبدو وكانها تساهم في إبعاد الفكرة العروبية أكثر عن الساحة أو الحلول محلها، وطرح مشروع يحيدها أو يثمن الدولة القطرية ويلغي أفق العروبة الوحدوية، أو يضعفه. يبدو الخيار الديمقراطي في نظرها، بل في نظر الكثير من أنصار الديمقراطية أيضا، تعويضا وربما بديلا للخيار العربي. ويثير نتيجة ذلك رد فعل قوي لدى أؤلئك الذين يخشون أن يكون المشروع الديمقراطي في النهاية حصان طروادة لترسيخ القطرية ونظام السيطرة الأجنبية المرتبط بها، وإبعاد الخيار العروبي الوحدوي إلى عالم النسيان.
ومن الأفكار التي تسعى إلى ملء الفراغ الذي تركه انحسار القومية العربية وزوال الايمان بوعودها، الشعوبية، أو الإتنوية التي تتجلى في نزعة التاكيد على الانفصال عن العرب والتميز عنهم. وفي هذا السياق ينبغي أن ندرج اكتشاف الأقليات، على مختلف أصنافها هويتها التاريخية او ما قبل التاريخية، وحماسها لإعادة بناء ثقافتها الخاصة، وتكوين مرجعيتها المستقلة. وفيه أيضا ينبغي أن ندرج تنامي الوعي عند الأقليات القومية بذاتها، وكذلك تنامي الوعي عند الأكثرية بوجود الأقليات وأحيانا بحقوقها. ويفسر ذلك كله عودة مشكلة الأقليات التي كادت تغيب تماما عن الذهن في العقود التي سيطرت عليها الفكرة القومية، إلى مقدمة المسرح الثقافي والقانوني والسياسي.
ومن الأفكار الجديدة القديمة الناشئة في حضن أزمة الهوية العربية والطامحة إلى التعويض عنها، الطائفية: سواء تمثلت في صعود الانقسامات المذهبية داخل الدين الواحد أو تنامي العصبيات الجماعية على أساس ديني بين أصحاب العقائد المختلفة. وهي تبدأ على شكل حزازات وانقسامات ونزاعات جزئية، ولا تلبث حتى تكتسب معاني ثقافية وسياسية، وتصبح مرجعية وهوية قائمة بذاتها يعرف الفرد نفسه من خلالها وبها. هكذا يعاد اكتشاف قيمة الاختلاف المذهبي والديني وتحويله إلى قاعدة تضامن مستقل بين الأفراد، إي إلى أساس رابطة مجتمعية، جمعية سياسية أو شبه سياسية[8]. تسعى الطائفية بذلك إلى التعويض الجزئي أو الكلي عن غياب التضامن والترابط الاجتماعي العموميين. وهي تعبر عن إخفاق السياسة القومية في بناء إطار تضامنات فعلية وطنية ما فوق طائفية.
وهذا أيضا ما يعكسه انبعاث العشائرية: أي الاستثمار في القرابات المادية، الحقيقية أو الموهومة. والعشائرية هي عودة إلى العصبية الطبيعية، الدرجة الأبسط والأغشم من الترابط الاجتماعي.
ومن الأفكار أو الايديولوجيات الجديدة التي تسعى إلى وراثة الفكرة القومية العربية، ما أسمييه العدمية القومية. وهي غالبا ما تعرض نفسها على أنها نزعة كونية وإنسانية وتنويرية ترفض الانتماء الجزئي وتنادي بالاندماج في عالم الحداثة، التي تنظر إليها كحداثة قياسية، واحدة وتوحيدية. وتركز من خلالها على العلمانية بوصفها جوهر الحداثة وعقيدة أو خيارا يتجاوز أو يرتفع على الهوية القومية والدينية، على العروبية والاسلاموية والطائفية والعشائرية في الوقت نفسه[9].
أما ما تبقى من القوميين أو أصحاب الفكرة القومية، فقد تحولوا بعد انحسار سلطتهم الايديولوجية إلى عالة على الفكرة الاسلامية. وهذا ما يفسر التقارب بين حركتين ونزعتين بقيا لعقود طويلة خصمين لدودين، وتعميق التحالف بينهما، كما يعبر عن ذلك نجاح المؤتمر القومي الاسلامي واستمراره منذ عام 1994 إلى اليوم.
4- مستقبل العروبة
كيف ستتطور الهوية في البلاد العربية وما هي المخارج المحتملة لأزمة الهوية فيها، أي ما هي احتمالات التاريخ؟
لا اعتقد أن العروبة سوف تفقد قيمتها، سواء أتحقق اتحاد عربي أم لم يتحقق. ولن يؤدي انحسار الطبعة العروبية القومية منها او انحلالها إلى ضياع العروبة كانتماء ومركز استثمار للمستقبل أيضا في القرن الواحد والعشرين. بل ربما كان العكس هو الصحيح. فبمقدار ما تنحسر ذكريات الفترة القومية التي ارتبطت بالإخفاق والإحباط والانحطاط السياسي والأخلاقي في طورها الأخير، من المخيلة العربية، سوف يعود مفهوم العروبة من جديد ليشكل مرتكزا لإعادة بناء الثقافة والهوية وربما الخريطة الجيوسياسية للمنطقة.
وفي اعتقادي، سوف تبقى الاسلاموية التي احتلت جزءا كبيرا من الفضاء الذي كانت تشغله العروبة القومية، ولا تزال تسعى إلى الحلول محلها، من دون آفاق ولا مرتكزات سياسية وثقافية عميقة، إذا انفصلت كليا عن العروبة. وبالعكس، كلما انخرط الاسلامويون في الكفاح من أجل الاندراج في العصر، أي التفاعل بنجاعة وفعالية معه، وتحقيق السيادة والاستقلال السياسي والثقافي والفكري، والانخراط في إدارة الدولة وتسيير الاقتصاد، سيجدون انفسهم مضطرين إلى التراجع إلى موقع العروبة وخندقها. وإعادة بناء عقيدتهم أو مرجعيتهم الاسلامية بالترابط معها. فهي وحدها التي تستطيع أن تستوعب عصرنة المجتمعات الاسلامية أو تحديثها، من دون أن تخاطر بالانفصال عن الاسلام أو الوقوف في مواجهته.
وبهذا المعنى، تشكل العروبة في نظري نقطة التراجع الأخيرة والحتمية للاسلاموية، عندما تصمم على الانخراط الفعلي في معركة عصرها، والحفاظ على نفوذها وسلطتها. ومن خلال العروبة وحدها يمكن لها إعادة تجديد ايديولوجيتها وبث روح العصر فيها، بما في ذلك تمثل منطق احترام حقوق الإنسان والحريات الشخصية والاعتقادية. من دون قاع العروبة، ستبقى استثمارات الاسلامويين وتصحياتهم من دون قرار، وستكون جهودهم كمن يزرع في الفراغ. إذ حتى الفكرة الدينية بحاجة إلى وعاء قومي يحملها. وأحد نقاط ضعف الحركات الاسلاموية العربية هي بالضبط في العدمية القومية التي دفعهم إليها صدامهم التاريخي والطويل مع الحركة القومية العربية كما تجسدت في النظم الناصرية والبعثية بشكل خاص.
أما الايديولوجية القطرية، فليس لها أمل كبير في النمو لأنها لا ترتبط بأي ثقافة كونية وأخلاقية سياسية. فقد قطعت الامبريالية، في المرحلة الأولى، ثم العولمة، في مرحلة ثانية، الطريق على تكوين ثقافات وطنية حية ونشيطة مستقلة عن الثقافة العربية الاسلامية التاريخية في الدول التي نالت الاستقلال. وهذا ما يميز مسارها عن مسار تكون الثقافات والأمم في أوروبة اللاتينية. وبالرغم من مرور عقود طويلة عليها، لم تنشأ في أي قطر ثقافة وطنية متميزة ومستقلة، او بسماكة كافية حتى تحقق القطيعة مع الثقافة العربية التاريخية والشاملة، وتفتح سجلا جديدا للثقافة من منطلقات وحسب معطيات قطرية او وطنية ثابتة. وهذا ما يفسر أن الثقافة العربية الحديثة لا تزال ثقافة واحدة، ولا يزال التواصل في ما بينها عبر الأقطار أقوى تأثيرا في حركتها من التواصل داخل كل قطر من أقطارها. وليس أمام الدول سوى الاختيار بين مرجعية العدمية القومية التي تعني اليوم خيار التغريب الذي يعزز تبعيتها وتخارج بنياتها وتطلع أبناءها الدائم إلى الهجرة والاندراج في الغرب، أو العودة إلى الاستثمار في مفهوم العروبة التي تشكل وحدها منطلق لحداثة أصيلة عالمية ومرتبطة في الوقت نفسه بثقافة محلية عميقة وفاعلة. فبالنسبة للوطنية القطرية أيضا، تشكل العروبة، بوصفها رمزا لثقافة إنسانية كبرى، الجسر الذي لا بديل عنه للوصل بين الخصوصية والعمومية، بين الهوية الثقافية الخاصة والحداثة الكونية. وهي الممر الإجباري للدولة الوطنية في أي مسعى إلى التقدم والاندراج في العالمية.
أما التغريب، فلا يشكل خيارا وطنيا بأي حال. ولن يكون وسيلة للاندراج في الحداثة مهما كان نمطه وحماس دعاته. وسيبقى دائما استراتيجية شرائح قليلة من السكان في بناء تصورها لذاتها أو ضمان مصالحها. وهو يهدد بأن يفصل هؤلاء بشكل متزايد عن أغلبية المجتمع وأن يضعهم في مواجهتها. وفي اعتقادي، أول ما سيصطدم أصحاب هذا الخيار برفض الغرب الاعتراف بهم، وإصراره على معاملتهم كعرب أو كغرباء، سوف يكتشفون العروبة أو يعيدون اكشافها كمنطلق أساسي للخروج من حالة العطالة والهامشية والتبعة والاستنقاع.
من هنا لا أعتقد ان العروبة كانتماء رئيسي وغالب قد قالت كلمتها الأخيرة في المجتمعات العربية. وهذا ما يفسر العنف المتزايد الموجه إليها من قبل خصومها، وبالمقابل حرص قطاعات واسعة من الرأي العام على عدم المساس بها، حتى بين أولئك الذين اختاروا أن يتجاهلوها أو يبنوا رصيدهم السياسي والثقافي والأخلاقي بعيدا عنها. وليس هناك ما يمنع عملة فقدت قيمتها أن تعود لتصبح مركز استثمار واستقطاب وتكوين أرصدة جديدة. الاسلاموية هي التي تبني الآن بالتأكيد الأرصدة الأكبر والأسرع. لكن لن يبقى هذا الوضع لفترة طويلة. إن قوة الاسلاموية نابعة من انسداد أفق الحداثة العربية، لأسباب أكثرها دولية وإقليمية، وتقدم مهام المقاومة والممانعة على مهام البناء والتقدم والتمدن. ويكفي أن تتبدل موازين القوى الجيوستراتيجية، ويتجاوز العرب عنق الزجاجة الذي وضعتهم فيه ظروف الفشل والهزيمة امام التحالف الاسرائيلي الغربي ،حتى تتغير الاتجاهات وتستعيد العروبة موقعها كعملة قوية جاذبة للاستثمارات وقادرة على تكوين الأرصدة الكبيرة والسريعة.
لكن، حتى تنجح العروبة في استعادة مكانتها، ينبغي أن تغير أيضا من جلدها الذي أصبح ضيقا جدا عليها، وهو جلد الخمسينات والستينات الذي ارتبط في مفهومه وأسلوب تجليه وقيمه وغاياته بالقضية القومية، لتلبس جلد الفكرة الوطنية الانسانية، أي أن تكون في نمط تفكيرها ووسائل عملها وغاياتها حاملا لقضية الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة الأخلاقية والقانونية. عندئذ ستكون عروبة للمستقبل، وسيرتبط بها لا محالة الانبعاث الفكري والاجتماعي والسياسي العربي القادم، فتكون ايديويولجية المستقبل لا ايديولوجية الماضي، سواء كان الماض القريب القومي أو الماضي البعيد التاريخي أو الديني.
أما اليوم، فلا تكاد كلمة عربي تستخدم، ليس عند الآخرين فقط، لكن عند العرب أكثر منهم، في سياق آخر غير التعبير عن ما هو سلبي وعاطل.
فهي مرادفة على المستوى الأخلاقي للفشل والجبن والأنانية والتعصب والفوضى والعنف والإرهاب وانعدام الإنسانية عموما. بل تكاد تتحول إلى تهمة أو شتيمة[10]. ويرى الكثيرون في العربي مثالا لانعدام الصدق والشفافية وحس المسؤولية الجماعية وفساد الأخلاق، وتجسيدا لسلوك الغش والخداع والنفاق والغيبة والنميمة والفراغ وانعدام العاطفة الصادقة والمباديء والمثل والالتزامات والواجبات العمومية.
وهي اليوم مساوية على المستوى السياسي لنظم الاستبداد والديكتاتورية والتبعية والاعتماد على العنف، وسيطرة منطق الميليشيات وحب السلطة وتقديم الولاءات الشخصية والقرابات الدموية والطائفية على المباديء والمؤسسات والعلاقات القانونية وقواعد المساءلة والمحاسبة. فعروبة اليوم لا تعرف معنى الحريات الفردية أو الحقوق الانسانية، وتكاد تتطابق مع العصبية وخدمة المصالح الشخصية[11].
وعلى المستوى الانتاجي تتطابق العروبة مع غياب قيم العمل المنتج، ومع السعي للكسب غير المشروع والسريع من دون جهد إذا امكن، ومع الفساد، والمضاربة والاستهلاك والارتهان للمعونات والإعانات. فهي نقيض العمل المنتج والابداع وبذل الجهد وإتقان العمل.
وعلى المستوى الإنساني، تتماهى العروبة في الحاضر مع التمركز حول النفس، والتركيز على الخصوصية المفرطة، وانعدام روح التبادل والتواصل المتفاعل مع الآخرين، وسيطرة العلاقات السلبية ذات الاتجاه الواحد.
كيف يمكن لصورة كهذه أن تبني أمة أو تلهم شعبا أو فردا؟
لا يمكن للعرب بمثل هذه الصورة إلا أن يتجهوا نحو تدمير ذاتهم. لأنهم لا بد وأنهم يحتقرون في العمق أنفسهم، ويشككون بثقافتهم وحضارتهم ومجتمعاتهم. وهذا ما يفسر رغبتهم العميقة في الهجرة من بلادهم والهرب من أنفسهم، كما يفسر موجة الانخراط العام والشامل في موجة السلفية الدنية، او العودة إلى الطبعة الأقدم والأبعد عن العصر من الاسلام. فهم يبحثون عن كل ما يساعدهم على الهرب من واقعهم غير المرضي وغير المحفز وغير الملهم، ونسيانه.
إذا لم نغير هذه الصورة بالعمل والقول، لن تكون هناك عروبة، في المستقبل، وما تبقى من آثارها في الوعي والشعور لن يقاوم لزمن طويل.
إذا أردنا للعروبة أن تعيش، وتستمر عبر القرن الواحد والعشرين، ينبغي أن نعيد صوغها على عكس هذه الصورة تماما. وفي كل ما نفعله، أفرادا وجماعة، ينبغي أن نضع نصب أعيننا قلب هذه الصورة رأسا على عقب. وإلا ليس لنا خلاص. سنبقى في أزمة هوية مدمرة، وتبقى العروبة هوية ضائعة، بدل ضائع، أو ذكرى من الماضي البعيد.
يتطلب هذا تحرير العروبة، كمرتكز لهوية متجددة وجامعة للعرب، من فلسفة وإرث انحطاط العروبة القومية، الذي أدى إلى ما نسميه القومجية التي تخفي وراء شعارات العروبة قيما مناقضة للحداثة من محورة على الذات وضيق أفق قومي ورفض أفق الإنسانوية، كما ينبغي محو الذاكرة السلبية للعروبة الإتنوية المتعالية أو التعالوية. وهو ما يستدعي إعادة بناء العروبة وترميزها خارج الفلسفة القومية للقرن التاسع عشر، وربطها بالقيم الإنسانية. أي جعلها وعاءا لنمو القيم الأخلاقية، وبالتالي لإدماج العرب واندراجهم في تاريخ الحضارة الكونية. العروبة المنشودة هي تلك التي تعنى بتحرير الإنسان كفرد، لا بالبحث عن القوة وإعادة بناء الامبرطورية الاسلامية، الصريحة او المقنعة. والوحدة من دون قيم إنسانية وحقوق ديمقراطية هي بالضرورة عودة إلى صيغة السلطنة الامبرطورية.
لن تبقى العروبة فكرة حية إلا إذا نجحت في أن تتجدد بما يتفق مع معايير العصر، وتصبح أداة ناجعة للاندماج فيه والتعامل الايجابي والتفاعلي معه. وبمقدار ما تصبح العروبة إنسانية، وتتمثل قيم الحرية والعصرانية والديمقراطية، أي بمقدار ما تساهم في بناء الإنسان يمكن أن تساهم في توحيد الشعوب العربية وإعادة بناء نظمها الاجتماعية والسياسية.
في هذه الحالة يمكن أن تستمر العروبة بالفعل فكرة حية وملهمة، تساعد العرب جماعة وأفرادا على تجاوز حالة الانحطاط الأخلاقي والسياسي والفكري التي يعيشونها اليوم. وتبدع صورة للعربي ايجابية تتناقض مع الصورة السلبية السائدة عنده وعند الآخرين عنه وعن تاريخه وثقافته وهويته اليوم، وتمحو هذه الصورة السوداء من الذهن والذاكرة، لتبعث روح الثقة والعمل والانجاز وتبني نمطا جديدا من الاخلاق الايجابية.
بذلك تعود العروبة فكرة محفزة وملهمة ومطلقة لآمال واحلام قابلة للتحقيق أو تستحق بذل الجهد من أجلها، أي تصبح عروبة مستقبلية، تفتح الباب نحو المستقبل وتشير إليه، تكون بانية لمستقبل.
وعروبة المستقبل هذه هي نقيض عروبة الماضي. ليست عروبة التراث والأبوية والتقليد، ولا عروبة كره الذات والبرم بالواقع والشكوى من القدر والإغراق في ذهنية الضحية، ضحية القدر أو ضحية العالم والآخرين. العروبة التي تستطيع أن تعيش، وتعيد بناء ايديولوجية العرب وأخلاقياتهم من حولها، هي تلك التي تشعرهم بذاتهم واستقلالهم الفكري ونديتهم مع الآخرين، ومقدرتهم على المشاركة في حضارة عصرهم، والتصرف حسب معايير أخلاقية ومباديء ومثل إنسانية.
أما العروبة التي تتناقض مع القيم الإنسانية ومع العصر، والتي تدفع العرب إلى الماضي وتشدهم إلى الأسفل، وتمنعهم من التقدم والتحول ومواكبة العصر، فستكون حتما عروبة حزينة، محبطة، يائسة، كئيبة، عازلة ومعزولة عن العالم والحضارة.
[1] وجهت التنظيمات العثمانية التي بدأت السلطنة تطبقها منذ 1835 تحت ضغط الدول الغربية ضربة قوية لهذه الايديولوجية المللية السائدة. لكن إخفاقها وتعثر حركة التحديث العثماني هو الذي سيفتح المجال لنشوء الفكرة العربية الثقافية وتطورها.
[2] منذ نهاية القرن التاسع عشر بدأت تظهر في العاصمة استنبول وفي عواصم المشرق لغداد ودمشق وبيروت والقاهرة أحزاب وجمعيات سياسية عربية مثل جمعية الإصلاح وجمعية العربية الفتاة بالإضافة إلى جمعية العهد. وكان روادها من العسكريين والسياسيين والطلاب. وكانت مطالب هذه الأحزاب والجمعيات تتراوح في مطالبها بين مساواة العرب بالأتراك واعتبار اللغة العربية لغة رسمية، والاستقلال عن الدولة العثمانية وإقامة دولة عربية مستقلة.
[3] بينما كانت بريطانيا تعد العرب بالاستقلال التام لقاء وقوفهم إلى جانبها في الحرب ضد الأتراك، توصل كل ممثل بريطانيا مارك سايكس وممثل فرنسا جورج بيكو إلى اتفاق بينهما في 16 أيار 1916، سمي اتفاقية سايكس بيكو. وقد نص على تقسيم المشرق العربي (الذي كان خاضعاً للسيطرة التركية) إلى 5 مناطق نفوذ: السواحل اللبنانية والسورية وهي منطقة النفوذ الفرنسية، العراق وهو منطقة النفوذ البريطانية، وفلسطين التي اتفق على وضعها تحت إدارة دولية، والمنطقة الداخلية السورية بعترف بها دولة مستقلة عربية على أن تنفرد فيها فرنسا بحق الأولوية في تقديم المشاريع والقروض والمستشارين، وينطبق الأمر ذاته على بريطانيا في المنطقة الداخلية العراقية. بقيت المعاهدة سراً إلى أن نشرتها الحكومة البلشفية في موسكو، وادعت بريطانيا حينها أن الاتفاقية ألغيت بعد دخول العرب الحرب إلى جانب الحلفاء. إلا أن اتفاقية سايكس بيكو دخلت حيز التنفيذ فعلاً بعد نهاية الحرب، عبر صيغة مفصلة ومعدلة اتفق عليها في مؤتمر سان ريمو عام 1920.
وتشكل معاهدة سايكس – بيكو الجزء التنفيذى الخاص لمعاهدة بطرسبرح التى عقدت بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية في مارس سنة 1916 وقسمت فيها أملاك الامبراطورية العثمانية التركية وكانت أهم مبادئ هذه المعاهدة هى:
- تمنح روسيا الولايات التركية الشمالية والشرقية. - تمنح بريطانيا وفرنسا الولايات العربية في الامبراطورية التركية (موضوع معاهدة حسين - مكماهون). - دويل الاماكن المقدسة فى فلسطين وتأمين حرية الحج اليها وتسهيل سائر السبل اللازمة للوصول إليها وحماية الحجاح من كل اعتداء.
[4] من هنا نجد أنفسنا اليوم أمام نماذج مختلفة من العروبة، ثقافية، دينية، استراتيجية، عروبة الممانعة وعروبة المصالحة والتسوية. وربما كان أهمها تلك التي يصفها حسين احمد أمين قائلا: بعد أن تبددت الآن الأوهام الرومانسية التي كانت لصيقة بأفكار حزب البعث، كما تبخرت المطامح والنزعات البروسية للزعامة المصرية، اتخذ مفهوم القومية العربية شكلاً من أشكال التضامن على أساس من المصلحة المشتركة··· وحيث أن أغنى الدول العربية الممولة لهذا الشكل الجديد كانت من الناحيتين السياسية والاجتماعية أشد دول المنطقة محافظة وتمسكاً بالتقاليد، فإن الاشتراكية لم تعد الطابع المميز للقومية العربية، وإنما أصبح طابعها الغالب ربط العروبة بالإسلام ربطاً دعامته المال والنفط. أنظر مجلة شؤون عربية، الجامعة العربية، شتاء 2005 في ملف بعنوان معبر: هل سقطت العروبة من حسابات السياسة العربية؟
[5] يقول وزير إعلام الكويت محمد السنعوسي في حوار مع هاني نور الدين ( جريدة الخليج 2006.05.15) أن العروبة أكذوبة كبرى، وأنه لم يعد مقبولاً الحلم بوجود وحدة تضم بين جنباتها مختلف الدول العربية، إذ إنه لا يوجد ما يربط بين دولنا سوى اللغة، بينما تبدو ثقافتنا متباينة ومختلفة،
[6] "لماذا لم ينجح التيار القومي العربي في إرساء قواعد العدل السياسي أو الاقتصادي في المجتمعات التي حكمها مع أنه استدعى الديموقراطية والاشتراكية من أجل تحقيق ذلك؟ لماذا لم ينجح التيار القومي العربي في إرساء أية تقاليد ديموقراطية أو اشتراكية كما حدث مع شعوب أخرى في شرق آسيا وأميركا اللاتينية عند تطبيقها للديموقراطية أو الاشتراكية؟ السبب في ذلك هو أن الفكرة القومية العربية التي يستند إليها التيار القومي العربي فكرة لا تملك الحد الأدنى من المعقولية، ولا تقوم على أي أساس واقعي، فالتيار القومي العربي يزعم أنه الأمة الموجودة بين المحيط والخليج أمة عربية، تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، والحقيقة أنه ليست هناك أمة عربية تقوم على هذين العنصرين، بل هناك أمة تقوم على الدين الإسلامي، وهذا ما أدى إلى أن تكون القومية العربية فقيرة ثقافياً، بسبب استبعادها لعنصر الدين من تكوين الأمة الموجودة من المحيط إلى الخليج، والذي لا مبرر له إلا المماثلة بين القومية العربية والقومية الغربية التي تقوم على معاداة الدين". غازي التوبة، "عن التيار القومي العربي والعودة إلى الديمقراطية" الحياة اللندنية، 25/9/2005
[7] لا تخلو مثل هذه المواقف من تطرف حتى في أوساط المثقفين. ففي حوار مع إيلاف يؤكد سيد القمنى، وهو مثقف مصرى معروف على مصرية مصر وضرورة التحرر من العروبة التي يصفها على أنها "عبودية لاحتلال طال أمده أكثر مما ينبغى"، ويتساءل كيف يقبل المصريون هوية المحتل ويجعلونها هويتهم القومية.
ايلاف، السبت 14 فبراير 2004
http://www.elaph.com/ElaphWeb/Archive/1076744262081018000.htm
[8] بالمقابل شهدت الحقبة الماضية سعيا متواصلا لتجاوز الانقسامات الدينية، والتقريب بين المذاهب الاسلامية كما يدل على ذلك مؤتمر توحيد المذاهب الاسلامية الذي عقد في القاهرة عام 1935 وكرس الاعتراف بالمذهب الجعفري كمذهب فقهي خامس إضافة للمذاهب السنية الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.
[9] يسأل أحمد الجار الله: ماذا قدمت »العروبة« للكويت عندما غزاها صدام حسين, وأثبت فعلا انها عروبة متوحشة, واستنسابية وليس عليها اجماع. وكذلك الحال بالنسبة للوضع اللبناني الذي يكابد من هذه العروبة المتوحشة منذ اكثر من ثلاثين عاما؟ ثم يضيف معبرا عن موقف رافضي العروبة من الأساس، كهوية وكايديولوجية سياسية معا: في عالم اليوم هناك مصالح وشبكات مصالح, وهناك »انترنت« جعلت من العالمين سكان قرية كونية صغيرة اسمها كوكب الارض, مطلوب منا فقط ان نتعلم احرف الهجاء الالكترونية وقد اصبحت لغة العالم, كي ندخل اليها ونستفيد منها.. شبكة الانترنت اعلنت بالفعل قيام الامة العالمية الواحدة, التي تتبادل المصالح بالفعل, واجراء التعاملات والمعاملات, وتشترك في التخاطب الفوري بالصوت والصورة, ولا تشعر ان بين اطرافها مسافات فاصلة, بعد ان اختصرت المسافة بكبسة زر, واصبحت لا تأخذ من الوقت اقل من ثانية واحدة.
"عروبة متوحشة وقومية عنصرية" السياسة الكويتية، الإثنين 29 أغسطس 2005
[10] هذا هو عنوان مقال لفيصل القاسم د.فيصل القاسم: "لماذا أصبحت العروبة شتيمة" ؟
الشرق القطرية الأحد 21 أغسطس 2005.
[11] بل يكاد وصف العروبة القومية بالفاشية أن يتحول إلى فكرة شائعة، بعد أن أطلقها المستعرب الفرنسي أولفييه كارية في كتابه : القومية العربية، باريس، بايو، 2004.