mercredi, août 27, 2008

عطالة التاريخ

الاتحاد 27 أغسطس آب 08
عندما قرأت في مطلع شبابي كتاب المرحوم هشام شرابي عن المثقفين والغرب، استفزني منهجه في التمييز الواضح بين نخبتين مسيحية وإسلامية ورصد مواقفهما المتباينة. وبدا لي هذا التمييز في ذلك الوقت مخالفا للواقع ومبالغا في رصد فروقات ثانوية في المواقف لا تنتمي بالضرورة لاختلاف الانتماءات الدينية بقدر ما تعبر عن تباين وجهات النظر السياسية والفكرية على أرضية استيعاب تحديات الحداثة العربية. وعندما كتبت كتابي المسألة الطائفية ومسألة الأقليات بطلب من المرحوم عبد الوهاب الكيالي الذي أراد معرفة كيف ينظر مسلم سني لموضوع الطائفية، تبنيت موقفا مماثلا، فرفضت أن أميز ظاهرتها كقضية مستقلة لها خصوصيتها، وبالتالي تاريخيتها الخاصة أيضا، وأدرجتها في مسألة أكبر منها هي مسألة بناء الأمة. فصارت مشكلة الأقليات عندي بالدرحة الأولى مشكلة الأكثرية، أي نتيجة لعجز هذه الأخيرة عن بناء رابطة وطنية عميقة، أو جماعة سياسية مكونة من مواطنين أحرار ومتساوين قادرة على دمج الأقليات وتحريرهم من تواريخهم الخاصة، وبالتالي ثمرة العجز عن بناء تاريخ عام جديد وموحد هو تاريخ الجماعة السياسية الوطنية. والتاريخ هنا يعني الذاكرة ويعني أيضا الصيرورة والاندماج في سيرة مشتركة.
كنت أعتقد بالفعل أن الحساسيات التاريخية المرتبطة بفكرة الأقليات ذاتها سوف تزول من تلقاء نفسها عند نشوء ديناميكية وطنية جديدة وشاملة تجذب الجميع إليها وتجرف مخلفات الماضي جميعا وتقضي عليها. وكان هذا الموقف انعكاسا للمناخ السائد في ذلك الوقت، الذي وجه بصورة لا شعورية وعينا وتفكيرنا، أعني سيطرة الفكرة القومية بالفعل على العقول والأذهان، ونجاحها في أوج ازدهارها في الحقبة الناصرية المثيرة، في انتزاع الناس من قوقعاتهم التاريخية الملية وإدراجهم في حركة واحدة، مسلمين ومسيحيين، شيعة وسنة، عربا واكرادا وشراكس وغيرهم. وقد نشأ هذا النجاح عن الأمل الصاعد، في أعماق كل فرد عانى من القلق والتمزق والنزاع بسبب الانقسامات العصبوية التقليدية، بوجود فرصة تاريخية لتكوين جماعة وطنية حقيقية، والخروج من تاريخ الضياع والفرقة والانقسام الماضي والسيطرة الاستعمارية معا، أي للقطع نهائيا مع تاريخ الطوائف والملل والاتنيات، تاريخنا الحقيقي الماضي، مسلمين وغير مسلمين.
ومنذ ذلك الوقت نشأ عندي اعتقاد عميق بأن الإنسان ليس حبيس تاريخه ولا ذاكرته، وإنه، بالعكس، ميال وجاهز ومستعد للتحرك إلى الأمام والتطلع إلى المستقبل والتفكير من منظوره بدل التغريز في وحل التاريخ، حالما يشعر أن هناك بصيص ضوء او فرصا للتحرر والانعتاق. فإرادة الحياة الحرة أقوى من إرادة التقوقع والانكفاء على النفس واجترار حزازات الماضي وآلامه. ولا يزال هذا الاعتقاد هو الذي يغذي موقفي الايجابي من الإنسان ومراهنتي دائما على قدرته على الارتفاع فوق أنانيته ومعانقة حياة المباديء والسلوك حسب قواعد الأخلاق إذا ما توفرت له الفرص التي تسمح له بالارتقاء على شرطه القاهر، وإذا حظي بدرجة مناسبة من العناية الفكرية والعاطفية والتربية المدنية والإنسانية.
لكنني من دون أن أغير هذا الاعتقاد، بدأت أشعر اليوم بشكل أكبر بأن للتاريخ عطالة حقيقية، أي ثقلا لا يمكن التحرر منه إلا في حالات االثورات الحماسية الكبرى التي تفجر الوعي الماضي، وتنشيء في لهيبه وعيا جديدا بالفعل. وهو ما لا يمكن حصوله إلا عندما تكون هذه الثورات حاملة هي نفسها لمشروع إنساني ينطوي على فرص أكبر لتحرر الانسان وانعتاقه، وتكون عندئذ مسبوقة بعمل طويل المدى على إعادة صوغ المباديء الإنسانية والقيم الأخلاقية والمدنية. من دون ذلك تظل عقد التاريخ وحساباته المعلقة منذ قرون حية ولو تحت الأرض وجاهزة للبروز إلى السطح، وربما إلى احتلال مقدم ساحة الوعي الفردي والجمعي، في أي فترة تضعف فيها يقظة المجتمعات، أو تخونها نخبها القيادية، أو تزل قدمها وتنهار صدقية السياسة والسلطة فيها. ومن بين هذه العقد والحسابات المعلقة، الحزازات الطائفية والمشاكل المرتبطة بالتعامل التاريخي للأغلبيات المذهبية أو القومية مع الأقليات الدينية والإتنية.
ومن ينظر إلى مجتمعاتنا اليوم يعتقد أن تاريخ الحروب الأهلية الإسلامية الأولى، وتاريخ المعاملات التحقيرية للأقليات غير العربية وغير الاسلامية التي عرفتها عهود السلطنة لا يزالان عائشين فينا إلى اليوم، ولا تزال النزاعات التي رافقتهما ورهاناتها المختلفة مستمرة لم تحسم بعد. يظهر هذا عبر النزعة المتنامية للانسحاب من الهوية الوطنية وإعادة بناء الجماعات العصبية، والانكفاء على القيم التقليدية الطائفية والقبلية والعشائرية والعائلية. كما يظهر من خلال عودة الإشكاليات القديمة على صعيد المناظرة العقلية، سواء أكان ذلك بصورة مباشرة، مثل بناء الدولة الاسلامية أو الخلاقة أو الامبرطورية، أو من خلال تلغيم جميع المناظرات الفكرية والسياسية الحديثة، وتبطينها بحساسيات الماضي ومخلفاته ونزاعاته التي لم يمكن حلها أو تذويبها واستمرت تعيش فينا حياتها السرية.
بل إنني أعتقد اليوم، ونحن في قلب المناظرة العربية التي أثارها انهيار النظام العام، أي المباديء الفكرية والسياسية التي قام عليها الاستقرار المجتمعي في العقود الماضية، أن تلك البطانة التي لا ترى عبر الخطاب الظاهر أو التي لا يسعى هذا الخطاب إلا إلى إخفائها، لا تجعلنا ندور في حلقة مفرغة تمنعنا من التواصل والنقاش الفعلي فحسب، وإنما تعيق، أكثر من ذلك، أي تقدم لنا على طريق حسم الخلافات الفكرية والسياسية. وأننا لن نستطيع الخروج مما ينبغي تسميته بالفعل حوار الطرشان "الوطني" من دون تنكب مهمة الغوص في هذا الباطن، الذي لا يرى ولا يسمع ولكنه هو الذي يتكلم في غالب الأحيان من وراء غلالة اللغة الفكرية والمفاهيم العقلية المستخدمة. ومما يزيد من قوة فعل هذا الباطن وشدته، كونه ليس فكرة ولا مفهوما ولا حجة عقلية وإنما هواجس تكونت بفعل تراكم الحزازات التاريخية، وتحولت إلى كرة من المشاعر الملتهبة التي تسكن الأعماق وتوجه تفكيرنا الباطن، حتى عندما تخفى على الجميع، بما في ذلك على أصحابها أنفسهم، ويصبح من غير الممكن التحكم بها ولا الكشف عنها.
هكذا يبدو للمرء أحيانا أن نقاشاتنا النظرية وحججنا العقلية في الديمقراطية والعلمانية والحداثة والقومية والوطنية والحرية والعدالة والمساواة والاشتراكية والرأسمالية والغرب والعولمة كثيرا ما تبقى ملغمة ببقايا التاريخ الماضي ونزاعاته الدينية والمذهبية والإتنية، وذاكرات أطرافه المليئة بالمخاوف والهواجس والشكاوى غير المسموعة والحسابات غير المسددة. وإذا ظهرت آثار هذه الذاكرة غير المطهرة على مستوى الجمهور العام من خلال الانكفاء على الجماعة الخاصة وتحويلها إلى هوية أساسية، مع ما يعنيه ذلك من بلورة مواقف ومشاعر وعادات وتقاليد ومواقف تعكس التأكيد على هذه الهوية والحفاظ عليها من الذوبان، أي إعاقة أي بناء جديد لوعي وطني جامع، وبالتالي لقانون جامع أيضا، ونزعة قوية للتميز والتقوقع ضمن منطق القوانين والشرائع الخصوصية، فإن آثارها عند المثقفين بارزة في عجز هؤلاء عن الدخول في حوارات جدية منتجة، وبناء لغة مفهومية واحدة. فيكاد يكون لكل فئة، لغتها المزدوجة النابعة من تمحور تفكيرها حول أولويات وقضايا ومفاهيم خاصة، وتجسيدها رهانات ومشاعر وحقائق غير معلنة نابعة من الحرص على تأكيد مواقف أو إعتقادات مسبقة أو تعزيزها. هكذا لم يعد من الممكن بناء أي حياة ثقافية أو كتلة ثقافية حية في البلاد العربية. وبدل أن يتوحد المثقفون الذين تحولوا إلى أقلية مهددة، حول رؤية مشتركة للمستقبل، تدفعهم الشكوك والحساسيات والهواحس الخاصة، المستندة إلى ذاكرة تاريخية غير مفكر فيها، إلى تحطيم بعضهم البعض والتشكيك بخياراتهم واصطناع الحيل المعقولة وغير المعقولة للايقاع بعضهم ببعض والتشهير بمواقفهم ونزع الصدقية عنها.

dimanche, août 10, 2008

زمن الفتنة

الاتحاد 10 أغسطس آب 08

أحد التعبيرات الرئيسية والبارزة عن الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية هي من دون شك التصدع الذي تشهده هذه المجتمعات، وانقسامها بين أكثرية فقدت الثقة بالصيغ والحلول الحديثة أو المرتبطة بفكرة الحداثة ومفهومها، وتكاد تيأس منها، وتعتقد ان المسؤول عن الأزمة او التخبط الراهنين هي هذه الصيغ والمفاهيم، وأقلية تعتقد أن سبب الأزمة والإخفاق المرتبط بها هو رفض النخب الحاكمة تطبيق مباديء الحداثة وقيمها، واستمرارها في مسايرة الأغلبية المحافظة المتمسكة بالقيم والتقاليد الدينية. وبينما لم يعد لدى الفئة الأولى مطلب آخر سوى تطهير المجتمع والبلاد من آثار التغريب والحداثة اللادينية و"العلمانية"، أصبح الهم الرئيسي لدى الفئة الثانية استئصال ما تسميه قوى الظلامية والرجعية الدينية. ويولد هذا الانقسام بل الفصام، الذي يتغذى من المسبقات والأفكار المشوشة المشتركة والهيجانات النفسية والاحتقانات السياسية الناجمة عن الانغماس في نزاعات لا أمل بكسبها من قبل أحد، أكثر مما يستند إلى مقاربات عقلية وموضوعية، أقول إنه يولد قطيعة متزايدة بين الأطراف لا مخرج منها. ليس لأن الأقلية التي تسمى نفسها علمانية، وهي ليست بالضرورة كذلك، تحتكر، في مواجهة الأغلبية الاجتماعية، وأكثريتها مسلمة، في معظم البلدان، السلطة وموارد القوة واستخدام العنف فحسب، ولكن أكثر من ذلك، لأن كلا الطريقين : طريق الدولة الإسلامية وطريق الدولة العلمانية، أو شبه العلمانية، مسدودة. المشروع الأول لأن الإسلاموية كما ذكرت في مقالات سابقة ليست مشروعا أصلا، وإنما هي غطاء لمشاريع أو لأشباه مشاريع ومطالب وتطلعات مختلفة ومتباينة ومتناقضة، يضرب بعضها البعض الآخر، ولا يمكن أن تقود، عندما تواتيها فرصة الوصول إلى السلطة، إلا إلى الانقسام المتزايد والاقتتال بين الإسلامويين أنفسهم. وهو ما جرى في جميع النظم الإسلاموية التي انبثقت في العشرين سنة الأخيرة، وأحيانا قبل الوصول إلى السلطة. والمشروع الثاني لأن الإستبداد لا يمكن أن يقود، تحت أي يافطة جاء، إلى شيء آخر سوى خيانة الحداثة وقيمها، وفي مقدمها العلمانية، وتحويل الدولة إلى مزرعة للأسر المالكة أو الحاكمة لا فرق، بقدر ما يعني تحييد الرأي العام، وتفريغ المجتمع من الحياة السياسية، وإكراه الأفراد على الخضوع والطاعة العمياء. فإلغاء الحريات هو الأساس لإجهاض الحداثة وقطع الطريق على أي تقدم آخر، في الاقتصاد والسياسة والعلم والتقنية والإدارة والأمن الوطني والأهلي على حد سواء. فالحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية هي منطلق الحداثة وشرط وجودها، لأنها الأساس الذي يقوم عليه بناء الفرد كمواطن مستقل ومسؤول، ومبدأ تربيته كمصدر وعي وصاحب إرادة ومبادرة، وبالتالي كمشارك أو شريك في جماعة سياسية تتجاوز الرابطة الدموية أو الدينية والمذهبية. ومن دون ذلك ليس هناك أمل لا في قيام أمة ولا دولة حديثة ولا مجتمع مدني. كان من الممكن أن يقود هذا الانسداد المزدوج إلى انتشار إدراك أعمق بالأزمة التاريخية التي تعيشها المجتمعات العربية، ويمهد للخروج منها بصورة أسرع، لو لم ينفتح الانقسام الداخلي ويرتبط التصدع الوطني بصراع أوسع، دولي وإقليمي، يشكل الشرق الأوسط، والمشرق العربي خاصة، مسرحه الرئيسي. بيد أن اندراج الطرفين المتنازعين في الاستراتيجيات الدولية واصطفافهما وراءها قد عملا على تعزيز هذه القطيعة، ودفعا نحو حرب داخلية مرتبطة بالحرب الدولية والإقليمية ورهينة لها. هكذا أصبحت الإسلاموية، التي بدأت كحركة احتجاج داخلي على الظلم الاجتماعي والتسيب القانوني والاستهتار بمصالح الناس ومستقبلهم، حركة دفاع عن الهوية في وجه الثقافة والقيم العصرية، بوصفها قيما غربية. وهو ما عززته السياسات الغربية التي وجدت هي نفسها في تحويل الإسلاموية إلى عدو استراتيجي وتاريخي بديلا للعدو السوفييتي، يبرر للمركب الصناعي العسكري، وللمصالح الاستعمارية أو شبه الاستعمارية عموما، الاحتفاظ بمواقعها ونفوذها في البلدان الصناعية. وبالمقابل، تحولت شعارات الديمقراطية والعلمانية إلى حصان طروادة لتلك القوى الدولية الرامية إلى الاحتفاظ بنفوذها في مواجهة الموجة الإسلامية، أو إلى منطلق لترميم النظام شبه الاستعماري الذي يستند إليه هذا النفوذ. وهكذا تمفصل الصراع الداخلي مع صراع خارجي يتبع أجندته الخاصة، وتعقدت سبل المواجهة الداخلية، ومعها فرص اليقظة والخروج من الأزمة. فقد أعطى هذا الصراع للفريق العلمانوي المحلي، في كل البلدان العربية وعلى مستوى المنطقة ككل، الانطباع أن بإمكانه الفوز بالمعركة وحسم الموقف لصالحه طالما أنه يحظى بدعم دولي واسع، كما أعطى الانطباع للفريق الإسلاموي بأن التنازل أمام الأقلية العلمانية المسيطرة لا يعني خيانة الأغلبية المؤيدة له فحسب وإنما أكثر من ذلك الاستسلام أمام قوى الهيمنة الدولية والاستعمارية. هكذا تحول الاحتجاج الاجتماعي باسم الاسلام، كما جسدته الحركة الاسلامية في بداياتها، إلى ما يشبه الحرب العالمية ضد "الإمبريالية" والسيطرة الخارجية وقواعدها المحلية. كما تحول الدفاع عن مشروع الحداثة العلمانوي إلى حرب "وطنية" مقدسة ضد الإسلام والإسلاميين، ومن وراء ذلك إلى ذريعة لتبرير الاستبداد والتحالف مع القوى الاستعمارية. لقد ضاعف ربط الصراعات الداخلية بالصراعات الخارجية من تعقيد المشكلة ومن تفاقم الأزمة، حتى لم يعد من الممكن مواجهة أي نزاع داخلي بمعزل عن الأقطاب الدولية. وبدل أن نتجه نحو تسويات وطنية، كما حصل في جميع المجتمعات التي عرفت العديد من الأزمات الكبرى، أصبحنا نتجه بشكل اكبر، مدعومين، كل منا، بحليف خارجي، نحو القطيعة والتخوين المتبادل والمواجهات المفتوحة من دون نهاية. وبدل أن تقودنا مقاومة الأجنبي "وعملائه" إلى تعزيز استقلالنا الوطني عن الدول الكبرى، أو تدفع بنا العلمانية إلى تعزيز التحولات الديمقراطية، عشنا في العقود الماضية التجربة المريرة للسقوط بشكل أكبر في التبعية والالتحاق بالقوى الأجنبية و تعزيز قوة النظم التعسفية والطغيان.ليس المسؤول عن ذلك الإسلاميين او العلمانيين، وإنما تبني خيارات خاطئة وغير ناجعة في المقاومة وفي المحافظة على الدولة والنظام "العلماني" أي السياسي المدني معا. فلم نر في المقاومة إحتجاجا ضد الظلم والعسف والطغيان، ولكن نبذ القوى والأفكار والمواقع المغايرة أو الحديثة، التي طابقنا بينها والأفكار والقيم والقوى الغربية والأجنبية. فصرنا ننظر إلى الحداثة كاستلاب أجنبي، وإلى الوطنية كعصبية بدائية وعداء لأي خارجي أو غريب. وهو ما يزيد من تعميق الشرخ داخل المجتمعات. وبالمثل، لم نر في الحفاظ على النظم الحديثة "العلمانية" او شبه العلمانية سوى سياسات الأمن والقمع وقتل الحريات التي ليس لها نتيجة أخرى سوى تعزيز قبضة الممسكين بالسلطة على ثروة البلاد والمجتمعات ومواردهما، وتحويل الفساد إلى سياسية وطنية. وفي النتيجة لم نعمل بخياراتنا الخاطئة هذه سوى على تعميم الاقتتال وتخليده من خلال ربطه بأجندات خارجية. وقد عملت المطابقة الكلية بين مقاومة النفوذ الأجنبي والوطنية، وبين الحفاظ على النظم الحديثة والعلمانية، على خلط في الاوراق قضي على ملكة التمييز عند الرأي العام، وجعل من شعار العلمانية أفضل وسيلة لحل عرى الوطنية ودولتها الحديثة، كما جعل من شعار المقاومة الإسلاموية أفضل وسيلة لتحويل حركة الاحتجاج الاجتماعي عن أهدافها الديمقراطية وجعلها غطاءا لنظم البطش والفساد والطغيان. وها هي مجتمعاتنا تتمزق بين أقليات اجتماعية تعتقد أنها لا تضمن حقوقها الإنسانية وحرياتها إلا بالتعامل المباشر مع القوى الاجنبية، وجماهير مهمشة ومنبوذة لا تجد في مواجهتها من وسيلة سوى بعث العصبية الدينية أو الإتنية أو الطائفية أو القبلية في غمار مقاومة تفضي إلى تقويض أسس الحياة الوطنية أكثر مما تقود إلى دحر السيطرة الخارجية.

samedi, août 02, 2008

إعادة اكتشاف المعرفة

الاتحاد 2 أغسطس 08
بعد حقبة طويلة ماضية سيطر على المجتمعات العربية فيها هوس تأكيد الهوية الثقافية والدينية، يسود اليوم بشكل متزايد، لدى المثقفين وبعض المسؤولين العرب شعور عميق بأن فجوة المعرفة قد اتسعت بين العرب والعالم الصناعي، إلى درجة أصبحت تشكل فيه خطورة على مستقبل العالم العربي وصلاح علومه ومعارفه وتكوين أبنائه واجياله الجديدة. ومن هنا بدأ الاهتمام بالتواصل مع المجتمعات الحديثة والاقتداء بها والتعلم منها يطغى في السنوات الأخيرة، بالرغم من مظاهر التعصب القومي والتزمت الديني، على خطاب التأكيد على العصبية والهوية الدينية أو القومية. فمنطق الهوية بالضرورة خصوصي، يسعى إلى تأكيد التمايز والمغايرة مع الآخر كمرتكز لوعي مستقل بالذات، فاقمت من خطورته عندنا ذكرى الاستعمار والاحتلال السابق والقائم الذي غذى ولا يزال الشعور الأليم بالدونية وضعف الذاتية. وبالمقابل لا يمكن لمنطق المعرفة أن يكون إلا منطقا كونيا، أي يخترق الهويات والاختلافات، مؤكدا وحدة العقل الإنساني وامتداده عبر الزمن، أي تراكميته، وتفاعله عبر المكان، وتواصل الباحثين والعلماء المعاصرين بعضهم مع البعض الآخر وتحاورهم. فوحدة العقل المفترضة هذه هي الفرضية الأساسية في وجود العلم بالمعنى الحديث للكلمة، أي من حيث هو مشروع لبناء معرفة موضوعية، ترتفع على شروط إنتاجها العقائدية والثقافية والاجتماعية، وتؤسس نجاعتها ومشروعيتها معا على مناهج تحصيلها وتقنيات مراجعتها لنفسها وتحقيقها في الواقع وفي التجربة. فإذا كانت الذرة لا تنشطر في الظروف ذاتها، أو إذا كانت تخضع في انشطارها لاعتقادات المجتمعات وثقافة الباحثين وذاتياتهم، لن يكون هناك علم. فالعلم واحد بينما الثقافة متعددة.
وبمقدار ما يدفع الشعور بهذه الفجوة المعرفية الأجيال الجديدة من العرب إلى التخلي عن ثقافتهم العربية وهجرها باعتبارها ثقافة فقيرة ومفوتة لا تصلح للعصر، ولا تنفع في فهم إشكالياته الكبرى، وهو ما يعبر عنه الاندفاع نحو التعليم الخاص وباللغات الأجنبية أيضا، يطرح على المجتمعات العربية مسألة إعادة التواصل مع بحر المعرفة الإنسانية وتجديد أسس الثقافة العربية ومحتواها. وهذا ما يعكسه الاهتمام المتزايد عند بعض الحكومات والناشطين الاجتماعيين بمسألة الإبداع العلمي والأدبي، وبشكل أكبر بمسألة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية. فهناك اليوم أكثر من مشروع لتكريم المبدعين والباحثين الجادين، وأكثر من مركز أيضا لرعاية الترجمة وتشجيع المترجمين على نقل ما حصل تجاهله من كتب ومراجع علمية في جميع الميادين في الحقبة السابقة. ومن بين هذه المشاريع جائزة الشيخ زايد للكتاب عموما وللكتاب المترجم خصوصا، التي أقامت في معهد العالم العربي في السابع من تموز (2008) أول ندواتها لتكريم الحائزين على جائزة الترجمة، بعنوان الترجمة كوسيلة للتواصل مع الآخر.
وليس هناك أدنى شك، كما أكد على ذلك جميع الباحثين المترجمين الذي قدموا آراءهم في الموضوع، في أن الترجمة تشكل أكبر وسيلة لتجاوز التمحور حول الذات النابع من التاكيد على الهوية، وهي وظيفة لا يمكن لمجتمع أن يتجاهلها أو يتنكر لها، وهي بالتالي أهم مجال لتعريف المجتمعات بعضها على إبداعات بعضها الآخر وثقافته وأنماط تفكيره وتجربته الخاصة. لكن الأمر كما ذكرت في مداخلتي ليس مطلقا وحتميا. إنه يتوقف على نوعية الترجمة. فالترجمة الفاسدة قد تفضي إلى نتائج معاكسة تماما للمطلوب، فلا تعجز عن مد جسور التواصل مع الآخرين وإنما تحرم العرب أنفسهم من التواصل في ما بينهم بمقدار ما تؤدي إلى نزع الاتساق عن لغتهم وزرع الاضطراب والفوضى في عبارتهم، وتشويش فكر وعقل ناشئتهم وقارئهم. وهذا ما نعيشه اليوم حقيقة في العالم العربي. فبسبب غياب سياسة متسقة وجدية تستحق هذا الاسم للترجمة، وتركها سائبة تتحكم بها رغبات دور نشر فقيرة وصغيرة ومزاج المترجمين الشخصيين الذي لا يهمهم سوى تلبية طلب السوق، وفي الغالب الرد على فضول جمهور محدود من القراء، وسعيهم وراء الكتب الذائعة الصيت أو الأكثر مبيعا، وهي غالبا لا علاقة لها بالعلم، تحولت الترجمة إلى أكبر وسيلة لتفكيك اللغة العربية وتشويش عبارتها وبث الاضطراب والفوضى في تفكير أبنائها وأجيالها الجديدة وقرائها. هكذا تملأ المكتبات العربية ترجمات سلبية من حيث الأسلوب والمحتوى معا. وبسبب تعدد المفردات المستخدمة لمصطلح واحد، نتيجة تعدد البلدان والمرجعيات اللغوية الخارجية وغياب العمل القاموسي الجامع، تكاد اللغة العربية تفقد اتساقها ووضوحها.
حتى تكون الترجمة وسيلة فعالة للتواصل بين الثقافات والمجتمعات التي تحملها، ينبغي في اعتقادي أن تقوم على أساس متين، وتتحول إلى مشروع يخدم الإنتاج العلمي المبدع، ويصب في عملية تجديد الثقافة العربية وتنشيط ديناميكاتها الذاتية. وهذا ما يتطلب مشروعا متكاملا للترجمة يتكون في نظري من ثلاث حلقات. الأولى برنامج طويل المدى، متسق ومنهجي، يهدف إلى ترجمة المراجع الأساسية في جميع الميادين العلمية إلى العربية خلال السنوات العشر القادمة، بحيث يستطيع أي طالب علم، في أي ميدان علمي، أن يجد باللغة العربية مادة أساسية ومتكاملة في المجال الذي يريد أن يتخصص فيه. وهو ما يحتاج إلى مجلس أعلى للترجمة يبلور التصور والسياسة العامة، ويعد قوائم الكتب المختارة، وينسق بين جميع النشاطات العربية في هذا الميدان بحيث يتكامل جهد جميع المراكز والمتخصصين معا على مستوى العالم العربي. والثانية حلقة تأهيل المترجمين وذلك من خلال إنشاء مدرسة عليا للترجمة على مستوى العالم العربي، تؤهل المترجمين وتعمل على تطوير أساليب عملهم، وتوحيد أسلوبهم ولغتهم، وتحويل الترجمة ذاتها إلى ميدان من ميادين البحث العلمي. فلا يكفي أن يكون المترجم عالما في ميدانه وإنما لا بد أن يكون ملما أيضا بأصول الترجمة ومصطلحاتها حسب الميدان الذي يترجم فيه. والحلقة الثالثة تتعلق بنشر ما ترجم وتوزيعه وبناء التواصل مع الجامعات والمعاهد العلمية والتعاون معها.
وفي اعتقادي لا يمكن أن توجد اليوم في العالم العربي سياسة ثقافية من دون سياسة للترجمة. إذ تكاد الترجمة تشكل اليوم الجزء الأكبر من ثقافتنا الحديثة، بل جميعها، بما في ذلك تصورنا لأنفسنا وتمثلنا لما نعتقد أنه قيمنا وآدابنا وعقائدنا. فقد تكونا جميعا، بما فيه جيلنا، على قراءة الآداب والعلوم الحديثة عبر الترجمة، وتمثلنا صورتنا عن تاريخنا وثقافتنا وخصائصنا، من كتابات الآخرين المترجمة عنا. وطالما بقينا بعيدين عن مرحلة البحث والانتاج العلمي الأصيل أو الأساسي، ستبقى تآليفنا في المعارف الأساسية والعلوم التطبيقية، باستثناء محاولاتنا النقدية، تلاخيص لأبحاث تجري في العالم وشروحا على معارفها وعلومها.
ولذلك يتوقف صلاح ثقاتنا العلمية والنظرية على صلاح ترجماتنا. وعلى هذه الأخيرة يتوقف أيضا حظنا من الانخراط في المغامرة العلمية والنهضة الفكرية والمعرفية العالمية، وبالتالي بالنهضة عموما. فإذا استمرت الترجمة في جزئها الاكبر من إنتاج إرادات فردية ضعيفة وفقيرة بالتأهيل والموارد وإمكانات التوزيع والنشر، سوف نجد أنفسنا بعد فترة أمام لغة عربية غير صالحة للاستعمال العلمي، ولا تفيد القراءة فيها شيئا، تؤسس لسوء التفاهم بين الأفراد وتغذي بالتالي التوتر وأسباب النزاع، أكثر مما تقود إلى التفاهم والتواصل، ومن باب أولى إلى الإبداع. وربما كان هذا هو ما يدعونا إلى تقديم الشكر والاعتراف بالجميل لجميع أولئك الذين قبلوا من العلماء والباحثين العمل في ميدانها وجميع أؤلئك الذين سعوا إلى تكريمهم وتسليط الضوء على عملهم الإبداعي والتنويري بالمعنى الحقيقي للكلمة.