mardi, juillet 22, 2008

الجذور الثقافية لغياب الديمقراطية

الجزيرة نت، 22 آب أغسطس 08
في مواجهة النظريات الأحادية الجانب التي ترجع غياب الديناميكية الديمقراطية في البلدان العربية إلى رسوخ ثقافة استبدادية دينية او زمنية، تشكل بنية الوعي العربي وتتحكم به عبر الأزمان والأمكنة جميعا، وبالتالي تدين العرب بالبقاء في إطار النظم الديكتاتورية، كنت من بين المحللين القلائل الذين ركزوا على أثر الشروط الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية وإهمية النظر إلى طبيعة السياسات الدولية التي خضعت لها منطقة من بين أكثر المناطق حساسية في الاستراتيجية الدولية، نظرا لموقعها الجيوسياسي وحجم الاحتياطات النفطية فيها، واختيارها لحل المسألة اليهودية التي شغلت أوروبا منذ القرن التاسع عشر، ودفعتها إلى السقوط في أكثر عمليات التصفية البشرية همجية وبربرية.
لم يكن القصد تجاهل العوامل الثقافية المحلية بالتأكيد، وإنما عدم السماح للقوى الغربية، الاوروبية والامريكية، التي مارست ولا تزال تمارس تأثيرا قويا ومباشرا على مصائر دول الشرق الأوسط وتطورها، بالتهرب من المسؤولية، وأكثر من ذلك بتكوين نظرية في الاستثنائية التي تجعل من المجتمعات العربية والاسلامية مجتمعات باردة وساكنة، تعيش خارج أي جدلية تاريخية كونية، ولا تتحرك إلا ضمن شرنقة ثقافة منغلقة على نفسها ومستمرة كما هي خارج حدود الزمان والمكان. وهي أسطورة سلبية هدفها إدانة هذه المجتمعات سياسيا، بإغلاق أي أفق للتحول السياسي الديمقراطي فيها، وأخلاقيا باعتبارها ذات جوهر ثقافي يدينها بالعيش في السلبية الديكتاتورية وانعدام إمكانية بناء أي حياة مدنية قائمة على استبطان معنى القانون والحرية والمسؤولية الفردية والتواصل مع الثقافات الاخرى والتأثر بها والتأثير فيها. وهي نظرية معادية للعلم تهدف إلى وضع المجتمعات العربية موضع الاتهام والإدانة المستمرة بوصفها المنبع الطبيعي والحتمي للعنف والارهاب.
بيد أن هذا التركيز على العوامل الجيوسياسية، وبالتالي الخارجية، السياقية إذا شئنا، لا ينبغي أن تدفعنا إلى الإخذ بنظرية مقابلة ومناقضة لها، كما يدافع عن ذلك بعض المحللين تحت تأثير النزعة القومية المدنية او الدينية. ومعظمهم من أصحاب النوايا الحسنة، المدافعين عن فكرة استنبات الديمقراطية في العالم العربي. نعني تلك النظرية التي تقول بأن قيم الحرية والتعددية موجودة في قلب الثقافة العربية والاسلامية، و أن غياب الديمقراطية، أو بالأحرى الكفاح الواضح من أجل استبدال النظم الاستبدادية بنظم تعددية ديمقراطية يرجع بالعكس إلى القمع الذي تمارسه نظم حكم مرتبطة بالغرب ومدعومة منه. وأنه حتى عندما تتغير الظروف قليلا وتبدو بعض آفاق التحول الديمقراطي فإن سكوت الناس وشلل إرادتهم لا يعبران عن ضعف في الوعي السياسي أو غياب لقيم الديمقراطية وإنما هما ثمرة خوفهم من الحرية، كما يخاف الأسير الذي اعتاد الأسر من الخروج من قفصه.
بالتاكيد لايمكن تفسير غياب الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط من دون معرفة موقع الشرق الأوسط ودوله في الاستراتيجية العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل، والدور الذي يلعبه في ميادين الاستراتيجية والاقتصاد الدولي والتوازنات الايديولوجية أيضا. لكن ما يفسر الحركة الكبرى لا يفسر سلوك كل فرد أو تحولات وعيه في هذا الشرق الأوسط المحكوم بقوانين الصراع الدولي بالدرجة الأولى. وليس لخنوع الجمهور، وصمته على كل ما يتعرض له من قهر وامتهان، وهو ما يصدم بقوة وعي النخب الثقافية والسياسية الغربية، بل العربية أيضا التي يكاد تأثيرها لا يتجاوز بعض الشرائح الاجتماعية الصغيرة غير التمثيلية، علاقة مباشرة بالحركة الجيوستراتيجية الكبرى التي تحكم على الشرق بالبقاء رهن الحروب والنزاعات الساخنة والباردة والأزمات الوطنية غير المحلولة والمحسومة وعدم الاستقرار الدائم واقتصاد الريع والمافيات المرتبطة به.
هناك بالتأكيد مكان للثقافة أو لضعف الثقافة في تفسير واقع الحياة السياسية. وحتى لو لم يكن أثر العامل الثقافي حاسما في إقامة النظم التسلطية التي تسيطر على مجتمعاتنا، وهو كذلك، فإن أثره الحاسم لا يمكن تجنب الإشارة إليه في تفسير ضعف الحراك الديمقراطي أو إذا شئنا، في فهم الضعف الشديد الذي تعاني منه حركة مقاومة الديكتاتورية والانفكاك عنها، وبالمقابل تفجير ديناميكية الانعتاق السياسي وبناء قوى قادرة على ذلك حيث تظهر بعض الفرص السانحة، أو حيث يمكن استغلال بعض الثغرات في نظم القهر القائمة. فإذا كان من غير الممكن فهم قيام هذه الأنظمة من دون تحليل السياسات الدولية التي سيطرت على هذه المنطقة، فمن غير الممكن أيضا فهم استمرارها وإعادة إنتاجها، بل تفاقم ظاهرتها، من دون العودة إلى ما يمكن أن نصفه كنقائص في ثقافة الحرية والديمقراطية في مجتمعاتنا العربية والاسلامية. فالتفاعل بين العوامل الجيوسياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية هو الذي ينبغي التركيز عليه، وهو الإطار النظري الأسلم لتفسير تفاقم الأوضاع السياسية العربية، وليس وضع عامل في مواجهة عامل آخر. ومثل هذا الفصل بين العوامل وتجاهل التفاعل فيما بينها وتأثير واحدها على الآخر - والمقصود التأثير الخلاق الذي يغير من طبيعة مساهمة العامل الآخر وليس الميكانيكي الذي يضيف عنصر إلى آخر - هو الذي يمنع من فهم إشكالية الديمقراطية في البلدان العربية، التي ينبغي النظر إليها كعملية حية، أي تاريخية، تتضمن باستمرار عمليات البناء والتدمير وإعادة البناء، وليست حدثا قاطعا أو نمطا ناجزا. هكذا يبدو لي الأمر أعقد بكثير مما تفترضه النظريات الإقصائية والأحادية النزعة، ثقافوية كانت أم اقتصادوية أو جيوسياسية.
فليس هناك شك في أن الشعوب العربية والإسلامية لم تعرف في ثقافتها التقليدية هذا النوع من الحريات التي تنطوي عليها الديمقراطية، ولا اختبرتها في ممارستها، بالمعنى السياسي والمدني الحديث الذي نستخدمها به اليوم، أي من حيث هي حقوق وممارسات فردية ومشاركة في تقرير الشؤون العمومية. فهذا المعنى هو ثمرة الحداثة السياسية التي جعلت الشعب مصدر السلطة وأسست لشرعية شعبية للسياسة، أي انتخابية ديمقراطية، بعد أن كانت شرعية ملكية تبقيها حكراً على الحاكم الملك أو السلطان. وباستثناء فترات قصيرة ومتقطعة، لم تعرف مجتمعاتنا في العصر الحديث، على عكس المجتمعات الأوروبية، حياة سياسية ديمقراطية فعلية ومديدة تساعدها على تمثل قيم الحرية بمعانيها المدنية والسياسية. وهكذا بقيت نظرتنا إلى الحرية مطبوعة بالتصور التقليدي إلى حد كبير، الذي يقصر معناها على ما تحيل إليه الشريعة والعرف من صفة الشخص غير المملوك من غيره، أي غير العبد والرقيق. ولذلك لا يبعث الحكم الديكتاتوري، مهما استمر وبالغ في تعسفه، على الشعور بانعدام الحرية، ولا يبدو أنه يهدد قيما راسخة وجودية، أي تتصل بوجود الفرد السياسي وهويته ومعنى حياته. فنحن نبقى من الناحية الشرعية أحرارا.ً ولا يثور الرأي العام ضد الاستبداد إلا عندما يرتبط بالظلم. فلهذا الأخير مدلولً واضح وسلبي في الثقافة والوعي الإسلاميين. بل إن الديكتاتورية لا ترى كديكتاتورية، ولا تعبر هذه اللفظة عن شيء مهم في الوعي السائد العام. إن المدلول الديكتاتوري يجد تعبيره المفهوم في مصطلحات التعسف والطغيان والفساد. فإذا لم تترافق السلطة المطلقة بالفساد لا نسميها ديكتاتورية ولكن زعامة. ونتسامح كثيراً مع تغييبها الحريات. وربما نظرنا إليها كسلطة ايجابية إذا ارتبطت بالتطبيق الدقيق للشريعة أو القانون، واحترمت قاعدة الإنصاف في تعاملها مع الأفراد، فلم تميز بينهم. وهذا هو مضمون النظرية الشهيرة للعادل المستبد الذي كان يطالب به المصلحون الكبار في العصور الإسلامية، بما في ذلك في عهد الإصلاح الديني الأخير في أواخر القرن التاسع عشر. وأعتقد أن أغلبية النخب العربية والإسلامية لا تزال تعتقد حتى اليوم، بسبب عدم ثقتها بالشعب، وجهلها هي نفسها بمعنى الحريات المدنية والسياسية إلى حد كبير، بأن حكم المستبد المستنير خير من حكم الديمقراطية الذي ربما أتى بحكومات ضعيفة أو محافظة أو متعلقة بشكل أكبر بمصالحها الخاصة، وبالنسبة للبعض معادية للحداثة والتجديد.والواقع أننا لم نعرف في مجتمعاتنا معنى السياسة الحديثة من حيث هي مشاركة لجميع أعضاء المجتمع في تقرير الشؤون العمومية. لقد كنا معتادين، مثلنا مثل شعوب العالم جميعاً في القرون الوسطى، على تسليم أمرنا لأسيادنا، ملوكاً أو أمراء أو أعيان، في الشؤون العمومية، شؤون الحرب والسلام والحكم والقضاء، وربما حتى الآن، بينما نعتمد في تنظيم شؤون حياتنا الخاصة في كل ما عدا ذلك على تقاليدنا الدينية أو العرفية أو العائلية، أو جميعها.من الطبيعي في هذه الحال أن لا يحرك شعار الحريات الفردية، الذي يعني المشاركة في تقرير الشؤون العمومية، الأغلبية الشعبية التي لم تؤمن يوماً أن من حقها التدخل في ما هو من اختصاص الأكابر والأعيان. بل ربما كان مثل هذا الشعار سبباً في تنفيرها من السياسة. لأنه يبدو وكأنه شرك تستخدمه النخب السياسية المثقفة والحديثة لدفعها إلى الوقوف في مواجهة السلطة، وتعريضها لانتقام هذه الأخيرة العنيف، بينما هي لا تهتم إلا بالدفاع عن مصالحها الخاصة. وحتى أولئك الذين استبطنوا معنى الحرية الفردية، وهم أقلية، لا يتجرؤون على المطالبة بها، لأنهم يدركون أنه لا أمل في تحقيقها في النظم السياسية العربية الراهنة، وأن المجاهرة بها يمكن أن تعرضهم لانتقام الحكام، تماماً كما كان الأقنان يتعرضون للموت إذا اعترضوا على سياسات أسيادهم الإقطاعيين أو ارتفعوا بتفكيرهم إلى مستوى مناقشة أحكامهم السيادية.لكن القول أن قلة من النخب السياسية والثقافية الحديثة هي التي تملك الحس العميق بمعنى الحريات الفردية، بقدر ما تطمح إلى المشاركة السياسية، والمعاملة على قاعدة المساواة ورفض العبودية، لا يعني أن قضية الحرية لا تعنى إلا النخب المثقفة الاجتماعية والسياسية، ولا تفيد غيرها. إن إقامة نظام مدني قائم على احترام الأفراد ومشاركتهم جميعاً في الحياة السياسية، وتطوير وعيهم المدني، وتعميق شعورهم بالمسؤولية عن مصير مجتمعهم وما يحصل فيه، عن حالته وتقدمه ومستقبله، لا يشكل اليوم النظام الوحيد القادر على بناء جماعة سياسية حية وفاعلة ومبدعة فحسب، قادرة على التفاعل والتعاون والتواصل مع المجتمعات المحيطة بها والدفاع عن نفسها ومصالحها. إنه يشكل، أكثر من ذلك، شرط ولادة مفهوم المصلحة العمومية، أي نشوء رؤية وطنية تساعد الفرد على النظر أبعد من مصالحه الشخصية المباشرة، ليأخذ بالاعتبار مصالح الآخرين أولا، وليضع مصلحته الفردية ضمن قاعدة القانون الذي يشكل مصلحة عمومية، لأنه لا بقاء للمجتمع من دونه، ثانياً. نظام الحرية هو وحده الذي يمنع من استفحال الأنانية البغيضة وما يرتبط بها أو ما تنميه من قيم الوصولية والانتهازية والمحسوبية، أي يخلق داخل كل فرد وعيا بأنه جزء من كل، وأن الحفاظ على توازن الكل الاجتماعي وانسجامه هو شرط لاستمراره في تحقيق مصالحه الخصوصية. وليس هناك أكثر دلالة على ذلك مما نشهده من ارتباط واضح داخل النظم الاستبدادية بين إلغاء الحرية وانعدام المسؤولية وسيطرة المصالح الأنانية، التي تتسبب في تدمير المؤسسات وتعميم الفساد والظلم والاقتتال معاً، من القمة إلى القاعدة. أما تأسيس عقد جديد ينقل المجتمع من الديكتاتورية والفساد نحو حياة ديمقراطية حقة، فهو مرتبط بمجموع العملية التحويلية التي نسميها معركة الديمقراطية. وهي في نظري معركة تاريخية تستدعي الاستثمار الفكري والسياسي والاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي الطويل، الذي يتطلب جهداً متواصلاً وإرادياً كبيراً من قبل النخب الاجتماعية، وفي طليعتها المثقفون، تتناقض كلياً مع الانقلابات العسكرية التي عرفناها في السابق، ولا تقتصر على انتظار انهيار النظام الاستبدادي أو الانقلاب عليه. إنها ترتبط بإعادة بناء الوعي ومنظومة القيم وترميم قنوات التواصل والتفاعل والتضامن بين أفراد المجتمع، وقبل ذلك، بين أفراد النخبة الاجتماعية. ومن دون ذلك لن يجلب الانقلاب على الوضع الاستبدادي إلا وضعاً استبدادياً آخر شبيهاً به أو قريباً في صورته منه. فالديكتاتورية ليست انعكاساً لإرادة شخصية من قبل القائمين عليها، حتى لو ظهرت وكأنها كذلك، ولكنها قائمة على شروط موضوعية وذاتية، ومرتبطة ببيئة فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية أيضاً. فشبكات المصالح الأنانية، وما تتميز به من بنيات خاصة، هي التي تخلق المستبد الحاكم بأمره، وليس العكس. لذلك لا يتحقق الخروج من الديكتاتورية إلا بتغيير يشمل جميع الأفراد ومستويات الحياة الاجتماعية، فهو مسؤولية الجميع، وفي مقدمتهم النخب الاجتماعية. والطريق إليه هو تربية الناس وكل فرد على مبادىء المسؤولية، أي إدراك ترابط مصالح الفرد الخاصة بمصالح الأفراد الآخرين، والاستعداد للمشاركة في حمل المسؤولية. بل إن الديمقراطية ليست شيئا آخر سوى مشاركة الجميع في تحمل مسؤولية تقرير مستقبلهم المشترك. إذا وصلنا إلى هذا الموقف ونمينا هذا الاستعداد عند الأفراد أصبحنا واقعاً، أو من حيث الواقع، مجتمعات ديمقراطية. ولا بد للنخب السياسية أن تأخذ ذلك بالحسبان وتستجيب له. فقاعدة الاستبداد الكبرى ومورده هو الاستقالة السياسية، أي التخلي عن المسؤولية وتجريد الفرد نفسه عن التفكير والعمل في الشؤون العمومية.

mercredi, juillet 02, 2008

مصير الحلم الجمهوري

الاتحاد 2 تموز 08

دعيت في الرابع عشر من يونيو (08) للمشاركة في ندوة عنوانها جمهوريون من دون جمهورية، دعا إليها مركز الدراسات الاوروبية ومركز الدراساات الدولية في سانت إدوارد هول، في جامعة أكسفورد. شارك في الندوة باحثون وأساتذة جامعيون من بريطانيا وخارجها. وقد لخص كنتين سكينر، وهو من كبار المختصين بالفكر السياسي والمدافعين عن فكرة الجمهورية في العالم، معنى الجمهورية بأمرين: الفرد الحر والدولة الحرة. يعني الفرد الحر أن يكون المرء مستقلا بنفسه، لا يخضع لأي إكراهات أو ضغوط في خياراته. وبالتالي أن يشارك في كل ما يتعلق بشؤون المجتمع حسب قناعاته واجتهاداته. وأن تكون الدولة حرة يعني أن تكون ذات سيادة لا تسمح لأي طرف خارجي أن يتدخل في تكوين إرادة المجتمع الذي تضمه أو في بناء إرادة عامة من خلال اختيارات الأفراد الأحرار أنفسهم. فسيادة الفرد وسيادة المجتمع وجهان لأمر واحد هو السياسة بوصفها مشاركة شعبية شاملة، وإطارا يعبر عن إبداع الناس أنفسهم، أفرادا وجماعة، لحياتهم المدنية وتنظيمهم شؤون وجودهم كما يرونها. فمن دون دولة سيدة تبقى إرادة المجتمع العامة مرتهنة لضغوط خارجية، ومن دون حرية واستقلال فرديين لا تكون هناك مشاركة حقيقية للأفراد في تكوين نظامهم السياسي والاجتماعي، وبالتالي لا حرية ولا حياة قانونية. فالجمهورية والسياسة المدنية صنوان لا انفصال بينهما.
وبهذا المعنى تشكل الجمهورية الام الحاضنة للديمقراطية. وما كان من الممكن القضاء على إرث الملكية وأساطيرها المثيرة وتحطيم الشرعية التاريخية التي بنتها لنفسها مع مرور الزمن من دون الحماس الذي أثارته فكرة الجمهورية، قبل الثورة الفرنسية وبشكل خاص بعدها، أي فكرة أن يكون الأفراد أحرارا ومتحررين من أي ضغط، وأن يكون لهم وحدهم حق اختيار ما يجدونه مناسبا لحياتهم المشتركة، أي أن يبنوا نظاما اجتماعيا ومجتمعا قائما على العقل ومستمدا قوته من التفاهم والتضامن والتواصل والاعتراف المتبادل وبالتساوي بين جميع أعضائه.
وبالمقارنة، كانت الملكية تبدو نظاما مشابها لقوانين الطبيعة، يولد الفرد فيه رعية من رعايا السلطان، وتابعا لإرادته، وخاضعا لإكراهات أعوانه، يؤمن بأن الملك هو صاحب الولاية والسيادة بعد الله، وأحيانا يوحد بين إرادتيهما، ولا يحلم بشيء سوى نيل رضى الله والملك والوالدين، أي أصحاب السلطة الموروثة والمكرسة. وليس هناك من يقيد إرادة الملك أو يمنعه من العمل مع ملك آخر أو تحت إمرته إذا ضعفت أحواله، متجاوزا بذلك أي مفهوم لسيادة الدولة والمجتمع الذي يخضع لقوانينها. الملك هو الدولة والسيادة في الوقت ذاته، ولا توجد سياسة ولا سيادة خارج سلطته وصلاحياته. ولهذا ليس من المبالغة أن يربط المؤرخون بين الجمهورية والثورة السياسية، أي بين قتل الملك وتحرير الشعب أفرادا وجماعة في الوقت نفسه. ليس في تقرير ذلك أي مشكلة.
لكن، وكما ذكرت في مداخلتي، ينبغي التمييز بين ما هو من باب الوعي والمثال والحلم، وبين الواقع التاريخي العملي. فليس هناك فكرة يمكن أن تفصل عن شروط إنتاجها. وقد تقود أحيانا في شروط أخرى إلى عكس ما كانت ترمي إليه. وفحص حقيقة الجمهورية اليوم، أي بعد أكثر من قرنين على ولادتها، يشير إلى أمرين متناقضين. الأول هو قوة الفكرة وانتشارها بحيث لم يعد هناك إمكانية للتفكير في السياسة، وبالتالي في قيام المجتمعات واستقرارها، من دون مراعاتها أو استلهامها والتوافق معها. والثاني هو تراكم الدلائل على اهتلاكها وتفريغها من مضمونها، بل واستغلالها لإقامة نظم تهدف بالضبط إلى عكس ما كان يقصد منها. فمن أصل 194 بلدا، تغطي النظم الجمهورية 135 منها، بينما لا يزيد عدد النظم الملكية اليوم عن 22 نظاما، وتضم التسعة الباقية نظما اتحادية متنوعة. لكن بالمقابل لا نبالغ إذا قلنا أنه لا يوجد هناك ما يجمع اليوم بين النظم الجمهورية التي أطلقت على نفسها اسم النظم الاشتراكية، كما في دول الكتلة السوفييتية السابقة، أو نظم الديمقراطيات الشعبية التي سادت في أوروبة الشرقية وبعض بلدان آسيا بما فيها الصين وبعض الدول العربية والأفريقية، والتي أصبحت تصنف جميعا، بعد انهيار جدار برلين عام 1989، باسم النظم الشمولية، والنظم الليبرالية على اختلاف أنواعها. وحتى داخل هذه الأخيرة ليس هناك ما يجمع نظم أوروبة الغربية وما شابهها من الديمقراطيات الحديثة ونظم ليبرالية اقتصاديا لكنها بعيدة كليا عن الأخذ بمعايير الحرية والمشاركة الشعبية.
وبشكل عام، أعتقد أن تطبيق فكرة الجمهورية في مجتمعات لم تتوفر فيها شروط الحرية الفردية، أي لا تزال ثقافة الإمعية القرسطوية والاتكالية والتسليم للقوى الخارجية، الإلهية (القدر) أو الدولية (الدول الكبرى الراعية والوصية)، أو المحلية (الزعماء الملهمين من كل الأنواع)، ولا تملك عمليا شروط السيادة الجماعية، أي لا تملك دولها صفة السيادة الفعلية، ولا تستطيع بمواردها أن تضمنها، لعبت الجمهورية دورا معاكسا تماما لما قامت به في مجتمعات ولادتها الأصلية. فقد قادت إلى أمرين متضامنين: تسريع وتيرة مراكمة السلطة والقوة وتعظيمها لدى النخب أو الفئات الحاكمة، وتعميق تلاحم هذه النخب والفئات وتفاهمها واتحادها مع القوى الدولية السائدة. وكانت النتيجة تقليص حرية الأفراد، أكثر مما كان في المجتمعات الملكية بكثير، وانتزاع ما بقي منها من حريات مدنية ودينية قديمة، واحلال مفهوم الدولة التابعة والعاملة في نطاق استراتيجية الدول الكبرى محل مفهوم سيادة الدولة أو الدولة السيدة الحرة. وكان من الطبيعي أن تتحول الجمهورية في العديد من البلدان التي طبقتها، بل في معظمها، إلى ملكية مقنعة، يحتل فيها الزعيم الخالد محل الملك، سواء نجح في توريث أولاده السلطة أم لم ينجح، ويتحكم فيها أصحاب الملكية والمال والسلطة، أي النخبة السائدة، بمصير البلاد وسيادتها ويتفاوضون عليها مع الدول الكبرى ذات المصالح والاستراتيجيات الكونية من أجل تعزيز موقعهم، أو انتزاع الاعتراف لهم بما يشبه حق الملكية الإقطاعية في بلدانهم وقبولهم بسياساتهم تجاه شعوبهم، مهما كانت المعايير التي يطبقونها في حكمها مخالفة لمباديء الحق والعدالة والمساواة والقانون التي يتمسكون بها أو يدعون التمسك بها واعتمادها معيارا لسياساتهم الخارجية. وهذا هو الذي يفسر أن النخب المحلية لا تتردد في رفض تطييق معايير الديمقراطية وحقوق الانسان، وتعتبر أنها ليست معنية بها وان التذكير بها يشكل هو نفسه تدخلا في شؤونها الداخلية، وانتقاصا من سيادتها الوطنية. فالسيادة هنا لا تنطبق على المجتمع والشعب وإنما على النخب الحاكمة وحدها، والانتقاص منها لا يتم ولا يدرك إلا عندما يتعلق الأمر بقضايا الحرية وتطبيق ا لقانون والعدالة والمساواة الداخلية. أما عندما يتعلق الأمر بتوقيع تفاهمات وأحيانا معاهدات حماية أو وصاية وصفقات مع الدول الكبرى، أو عندما تحتل أراضي هذه الدولة أو تلك وتضطر إلى التخلي عنها، فليس هناك انتقاص من السيادة ولا تهديد لأمن الدولة ولا لاستقرارها.

ليست الفكرة الجمهورية هي المسؤولة عن ذك بالتأكيد. فكل أفكار التحرر والانعتاق الكبرى تتحول إلى طوبى وتصبح أداة استلاب للأفراد والإرادات عندما لا تجد في التاريخ شروط تحقيقها العملي. هذا هو مصير الطوباويات الدينية، أو معظمها، والطوباويات الشيوعية التي كانت أيضا أفكار تحرير وانعتاق إنساني كبرى. وقد اصطدم حلم الجمهورية في البلاد القديمة التي لم تنخرط في مسيرة الثورة السياسية بثلاث عقبات رئيسية جعلت من السهل على أصحاب القرار من الجمهوريين المتحمسين أن يصادروا حرية الشعب وقراره باسم تمثيلهم له والعمل من أجل ضمان تحرره وسيادته، أي أن يحولوا أنفسهم إلى أوصياء عليه. وهو الموقع نفسه الذي كان يحتله الملوك والنخب الارستقراطية التي تساندهم ويستندون إليها في حكمهم. فالحرية الفردية أو الشعور بالاستقلال الذاتي وبالتالي الحق والواجب في المشاركة السياسية لا يمكن أن يتحققا من دون ثقافة حرية، وثقافة الحرية جزء لا يتجزأ من معركة التحرر داخل الفرد من السيطرة الخارجية، أي من الاستلاب لإرادة أخرى والعمل تحت أمرتها وبوحي منها ولخدمة أهدافها. ودولة الحرية أو السيادة العامة لا يمكن أن توجد من دون وجود مجتمع خر، أي مجتمع الأحرار، فهم وحدهم الذين يعلمون أن حريتهم الفردية لا قيمة لها ولا يمكن ممارستها إذا كانت إرادة الدولة التي يخضعون لها ويستخدمونها للتعبير عن إرادتهم الخاصة، دولة مستلبة لغيرها أو مقيدة الإرادة أو منتقصة الحرية.
وبالمثل، لا يمكن للدولة الحرة أن توجد من دون نظام دولي يضمن الاستقلال والندية بين الدول. والحال ليس هناك في حقل العلاقات الدولية إلى اليوم قاعدة أخرى لضبط التعامل بين البلدان والدول سوى ميزان القوة الاستراتيجية والاقتصادية. ولا يطبق ما طور حتى الآن من بذرة قانون دولي إلا عندما تتفق إرادات الدول الكبرى على أمر أو يتقاطع تطبيقه مع مصالح إقليمية جماعية.
الجمهورية من دون شروط تحققها المجتمعية والثقافية والجيوسياسية تتحول إلى آلة جبارة للمركزة والتوحيد القسري للأفراد، وحرمانهم من التمثيل الذاتي وإعادة بناء وعيهم وأفكارهم. فهي تعطي لنفسها الحق في تنظيم الأفراد لتكوين أمة متضامنة تتجاوز انشقاقات المجتمع التقليدي وعصبياته وعزلة جماعاته الطائفية والعشائرية. وتعتقد أن دفاعها عن مصالحهم في وجه الطبقات المالكة القديمة ومخاطر عودتها إلى السلطة، هو مصدر شرعية تاريخية وثورية لا تنازع من أجل تمثيلهم او ادعاء تمثيلهم، من دون ولاية رسمية ولا انتخابات دورية. بل ربما نظرت إلى هذه الانتخابات كمصدر لخطر كبير وفرصة يمكن أن تستغلها الارستقراطية للعودة من جديد إلى السلطة. لذلك اتسمت الحركات الجمهورية في العديد من البلاد النامية بالطابع الثوري وتبنت فكرة الثورة الانقلابية. وعوضت بالشعبوية عن تجاوز مسألة الشرعية الدستورية. وتعني الجمهورية أخيرا بناء وعي الأفراد وتلقينهم مباديء الحرية والسيادة والندية. لكنها في الممارسة تحول التربية نفسها إلى عقيدة تسليمية تنفي الروح النقدية وتنزع إلى الدعاية وتحويل الصفة الشعبية إلى فلكلور، يلغي الشعب نفسه كحقيقة سياسية تعددية واختبارية. يصبح الشعب عقيدة وفكرة ومثال وحلم أكثر منه نظاما من العلاقات الاجتماعية الحية والمعقدة الزاخرة بالتنافس والصراع والمنازعات الفكرية والمادية.