mercredi, mai 21, 2008

أزمة لبنان: خطايا الآخرين وأخطاؤنا

الاتحاد 21 مايو 08

أخطأ حزب الله في اندفاعه نحو بيروت مرتين، الأولى لأنه استخدم أسلحته لأغراض سياسية بعد أن قضى عقودا يؤكد أنها مكرسة قطعا لمقاومة إسرائيل، وفقد بالتالي جزءا كبيرا من رصيده السياسي وصدقية استراتيجيته التي اضطر فيها إلى الاعتراف بصورة غير مباشرة أنه لا يمكن الفصل داخل القوة بين استخداماتها الخارجية والداخلية. والثانية لأنه أوحى للجميع بأن حزب الله يملك كل الشروط كي يتحول، إذا وجدت الظروف الملائمة، إلى حزب شمولي لا شيء يمكن أن يقاوم فيه إغراء القوة والتفوق الساحق على كل الخصوم. وقد فعل حسنا بنزوله عند إرادة وفد الجامعة العربية وتلبيته مطالب أغلبية الرأي العام اللبناني في فك الاعتصام وإلغاء العصيان وسحب القوى المسلحة من شوارع بيروت وفتحها للناس.
لكن خطأ حزب الله لا ينبغي أن يغطي على المسؤوليات العديدة التي تكمن وراء الأزمة التي عاشها لبنان في السنوات القليلة الماضية. فكما أنه من المستحيل فهم ولادة حزب الله نفسه من دون التذكير بسياسات إسرائيل الإقليمية واللبنانية والتي جعلت من الجنوب هدفا دائما للغارات والهجمات وعمليات التهجير العمدي للجنوبيين، من المستحيل أيضا فهم الوضع الذي قاد إلى المواجهة بين المقاومة التي يمثلها الحزب والأغلبية الحاكمة في بيروت من دون العودة إلى القرار 1701 الذي أصدره مجلس الأمن، بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية، بعد حرب ايلول 2006 والذي استهدف حصار حزب الله ونزع سلاحه وجعلت من الشريط الحدودي التي كانت تحتله إسرائيل منطقة عازلة أيضا. فلم تكلف هذه القرارات حكومة لبنان تنفيذ مهام هي غير قادرة عليها فحسب ولكنها حولت اهتمام حزب الله ضرورة، وبالتالي سلاحه أيضا، نحو الداخل الذي أصبح بالنسبة إليه مصدر الخطر الحقيقي على وجوده. بهذا القرار وضعت واشنطن، من وراء مجلس الأمن، بذور الفتنة التي ستنمو باستمرار بين المقاومة والدولة، وفرضت على اللبنانيين الاصطفاف والانقسام بين مؤيد للمقاومة، على حساب استقرار لبنان، ومؤيد للدولة، على حساب المقاومة وما تمثله من اهداف ومصالح تعني ملايين الناس أيضا، داخل لبنان وخارجه.
وبعكس ما تشيعه خطابات الدعاية المتبادلة، ما قضى على حالة التعايش بين المقاومة والدولة، وهو الذي سيدفع المقاومة لتكون معارضة والدولة لتكون حكومة الأغلبية الحاكمة وحلفائها، ليس اعتماد حزب الله على المعونات الايرانية أو انحيازه لسياستها أو ارتماء تيار المستقبل وجنبلاط على الأمريكيين وتعلقهم بدعمهم. فقد بقي الأمر على هذا المنوال عقودا طويلة سابقة. إن الانخراط المتزايد لحزب الله في الاستراتيجية الايرانية والسورية قد جاء نتيجة الضغوط المتنامية التي بدأ يتعرض لها في لبنان نفسه، وكذلك الضغوط التي بدأت تتعرض لها دمشق وطهران أيضا في سياق السياسة الأمريكية الجديدة المعروفه نفسها، تماما كما أن الاعتماد المتزايد لحكومة الأغلبية التي يقودها تيار المستقبل على الدعم الأمريكي والغربي عموما، جاء نتيجة الضغوط التي أصبحت تتعرض لها من حزب الله المهموم بفك الحصار الاستراتيجي عنه، وكذلك الضغوط التي مارستها واشنطن ولا تزال على العواصم العربية القريبة منها، في القاهرة والرياض والأردن، للوقوف في وجه المحور الايراني السوري نفسه. وهكذا تحولت حكومة لبنان فجأة في نظر حزب الله إلى حكومة لاشرعية، بل عميلة، وتحول حزب الله في نظر حكومة الأغلبية إلى أداة لتنفيذ الأغراض الايرانية والسورية.
لا يقلل هذا من مسؤولية ايران ولا سورية بالتأكيد. لكن عصيانهما لا يختلف في جوهره عن العصيان الذي أعلنه حزب الله في لبنان، أعني عن قلب ظهر المجن الأمريكي لهما بعد أن كانا يسعيان بكل الطرق إلى التفاهم أو على الأقل التعايش مع السياسة الأمريكية التقليدية، وبالنسبة لسورية المراهنة على التعاون معها من أجل التوصل إلى تسوية مع اسرائيل تضمن عودة الجولان، أو على الأقل عدم نسيانه في الأجندات الدولية. فمثلما تطور عصيان طهران ودمشق في مواجهة السياسة الأمريكية الجديدة التي جعلت أيضا من حصارهما أحد أغراضها الرئيسية، تطور بالمثل عصيان حزب الله وابتعاده عن حلفائه وتخليه عن تحالفاته التقليدية التي سمحت له أصلا بالوجود والبقاء والنمو، أعني مع رفيق الحريري وتياره ومع جنبلاط أيضا والحركة التقدمية.
قصدي أن السياسة الأمريكية الجديدة الرامية إلى إعادة تركيب المشرق على هوى المصالح الاستراتيجية الأمريكية والاسرائيلية، بقدر ما كانت سياسة خاطئة أخلاقيا وغير متسقة سياسيا، وإلى حد كبير جنونية ومغامرة، كما أظهرت ذلك الحرب على العراق وفيه، دفعت جميع الأطراف المحلية إلى الخطأ، وفرضت عليهم ممارسة سياسات لا تقل جنونا ومغامرة منها، لأنها نابعة مثل السياسة الأمريكية من الخوف والقلق والشك ومندفعة مثلها إلى إقصاء الأطراف الخصم واستبعادها من الخريطة السياسية. هذا هو السياق الحقيقي لاغتيال رفيق الحريري الذي كان هو نفسه مصدرا لأزمة إضافية إقليمية ارتبطت بتكوين المحكمة الدولية وأصبح لها أنصار ومناهضين في لبنان وفي البلاد العربية والعالم، وتحولت إلى قضية قائمة بذاتها. وهو السياق الذي يفسر أيضا ولادة مشروع التقنية النووية الايرانية وطموح طهران إلى امتلاك قوة نووية تقلل بها ما تشعر به من حصار أمريكي، وبالتالي إقليمي، لا يزال مستمرا منذ الثورة الخمينية عام 1979.
لكن إذا كانت السياسة الأمريكية الشرق أوسطية التي اتبعتها حكومة المحافظين الجدد تفسر إلى حد كبير تفجر الأزمات التي شهدها المشرق في السنوات القليلة الماضية، ومنها أزمة لبنان، وأيضا أزمة فلسطين التي فجرت النزاع بين فتح وحماس، وأزمة سورية التي قضت على حلم الانفتاح والتعددية، وقبل ذلك أزمة العراق التي تتمثل في تفجر الحرب الأهلية الطائفية، فهي لا تبرر بأي حال أخطاء الأطراف العربية، الرسمية منها والأهلية. لا تبرر انسياق دول الجامعة العربية وراء أوهام السياسة الأمريكية وإخفاقها في التقدم نحو بناء إطار للتفاهم الجماعي الإقليمي مع ايران وتركيا، مما كان سيعزز استقلال المنطقة نسبيا تجاه الضغوط الأمريكية ويحول دون تحويل ايران إلى لاعب مستقل على حساب العالم العربي. ولا تبرر المغامرة بضرب المحور العربي الثلاثي المصري السعودي السوري الذي سمح داخل الجماعة بالحفاظ على الحد الأدنى من التنسيق والتناغم في سياسات المشرق العربي لعقود ثلاث متتالية. ولا تبرر أيضا تحرر دمشق من التزاماتها الأخلاقية والسياسية تجاه شعب لبنان وشعب سورية معا، واستخدامهما كأدوات في معركة الدفاع عن النظام والذود عنه. ولا تبرر أخيرا اتخاذ حزب سياسي الدولة اللبنانية رهينة، ونزوله إلى الشارع واحتلاله بالقوة بيروت. ليس لأنه ليس لدى المجموعة العربية ولا سورية ولا ايران ولا حزب الله حقا او دافعا مشروعا لعمل ما قاموا به، وهو الدفاع عن النفس امام موجة هجوم امريكية عاتية. إنما لأنهم تصرفوا جميعا من منطق رد الفعل، وردوا على الخطأ بخطء أكبر، ووقعوا بالتالي في فخ السياسة التي أرادوا مقاومتها، أي تفكيك التحالف العربي، وزرع الفتنة داخل مجتمعاته وشعوبه، وتفجير النزاعات العربية العربية، وتوسيع دائرة الفراغ السياسي والاستراتيجي الذي يحتاج إليه التدخل الاجنبي لتبرير وجوده الدائم في المنطقة، بينما كان المطلوب ولا يزال بلورة سياسة ايجابية عقلانية تحفظ الانسجام داخل الصف العربي، وتحتوي النزاعات العربية العربية، وتنزع فتيل الحروب الأهلية، أي تحبط عمل الخصم وتجبره على تغيير سياساته. وفي هذه السياسة يشكل ضبط النفس قيمة أساسية لا يبدو أن كثيرا من الاطراف المتنازعة على علاقة بها.
مهما كانت شرعية قضايانا، ليس مبررا أن نخطيء في الدفاع عنها، وعلينا تقع مسؤولية خطئنا بالدرجة الأولى. ولا ينبغي أن نركن إلى صفة الضحية أو نحولها إلى قناع لعجزنا وسوء تقديراتنا وحساباتنا. ينبغي أن نرفض فكرة أن نكون ضحية، وأن نؤمن أننا قادرون على التصرف من مستوى المسؤولية، كدول واحزاب سياسية وقوى مدنية، وأهل للعمل العقلاني المخطط والمنظم الطويل المدى، لا كأوراق خريفية تعبث بها الرياح بل النسمات الضعيفة. والأمل أن يشكل نجاح المبادرة العربية في لبنان الفاتحة في استدراك الأخطاء والتقاط أول الخيط على طريق بناء سياسة عربية جديدة قائمة على المبادرة والعمل المنظم بدل المراهنة على التهديد بالخراب المتبادل.

dimanche, mai 18, 2008

مبادرة قطرية خلاقة في لبنان

الجزيرة نت 18 مايو 08
أصبح من المعتاد القول اليوم أنه لا يوجد حل عسكري للأزمة اللبنانية، وأن الحل الوحيد يكمن في توافق الاطراف واتفاقها. ولا يمكن للبنان أن يعيش في ظل سيطرة طرف واحد أو فئة عليه. لكن ما لا ينبغي أن نتجاهله أيضا وفي السياق ذاته أنه لا حل توافقي في لبنان من دون توافق الدول والاطراف العربية والدولية التي تتنازع السيطرة على لبنان، وتأمل في أن يكون أحد مواقع عملها الاستراتيجية. فغياب هذا التوافق هو اليوم مانع أكبر لحصول التوافق اللبناني من التضارب الذي يبدو في الرؤى والمصالح بين الأطراف التي يقود بعضها حزب الله وبعضها الآخر تيار المستقبل.
لا يعني ذلك أنه لا توجد خلافات حقيقية بين اللبنانيين، سواء في قضية توزيع السلطة أو في التحالفات الخارجية، إنما لم يكن من الصعب تعايش الأطراف اللبنانية مع هذه الخلافات، على الأقل لفترة طويلة بانتظار أن تنقشع الرؤية الإقليمية والدولية. وهذا هو الوضع الذي ساد في الحقبة السابقة حتى اغتيال رفيق الحريري أو قبله بقليل، فقد بقي الطرفان حليفين قويين بالرغم من خلافاتهما العميقة، بفضل غياب التنافس على لبنان بين الأطراف الإقليمية والدولية، أي عندما كان ،تحت الإشراف السوري طالما كانت دمشق تشكل طرفا في الإجماع العربي الذي تجسد في اتفاق الطائف، وتعمل من خلاله. بدأ الامر يتغير مع تغير موقع دمشق في هذا الإجماع العربي وخروجها من التفاهم الثلاثي السعودي المصري السوري الذي أشرف على ترتيب أوضاع المشرق العربي خلال العقود الثلاث السابقة. فبقدر ما تخلت دمشق تحالفاتها العربية السابقة وانضمت إلى طهران التي لا تزال تعيش على منطق الثورة المعادية للولايات المتحدة وتخضع لحصار غربي مستمر منذ عقود، فقدت مظلة الإجماع العربي ووضعت دورها في لبنان على المحك، وبالمناسبة أعادت فتح معركة السيطرة الإقليمية والدولية على لبنان.
جاء تفكك المحور العربي المشرقي نتيجة مباشرة لضغط الإدارة الأمريكية الجديدة على الدول العربية في سياق تطبيق المحافظين الجدد مذهبهم الاستراتيجي القاضي بإعادة هيكلة الشرق الاوسط وإخضاعه مباشرة لاجندة السيطرة العالمية الأمريكية. وسرع احتلال العراق عام 2003 في توسيع الهوة بين مواقف العواصم المشرقية ودفعها إلى تبني استراتيجيات متباينة، واحيانا متناقضة، في مواجهة هذه الضغوط والتهديدات الرامية إلى تطويع الانظمة العربية وإدخالها في استراتيجة واشنطن، سواء أجاء ذلك باسم الديمقراطية وإصلاح النظم العربية أو باسم الحرب العالمية ضد الإرهاب. فبينما اختارت القاهرة والرياض استراتيجية الانحناء للعاصفة والتكيف مع السياسة الأمريكية، نزعت دمشق التي كان القضاء على نظامها هدفا معلنا للأمريكيين بعد سقوط صدام، إلى تبني موقف المجاهرة برفض السياسة الامريكية الجديدة ومقاومتها. وتفاقم الخلاف بين دمشق والقاهرة والرياض بموازاة ارتفاع وتيرة الضغط الأمريكي على سورية، وإجبارها على الخروج من لبنان، سواء أجاء على شكل قرارات تؤكد على ضرورة انسحاب الجيوش الأجنبية صوت عليها مجلس الامن، او على شكل تعبئة سياسية داخل لبنان وخارجه ضد النظام البعثي في دمشق أو على شكل عقوبات دولية. وأمام ما بدا لدمشق خيانة لها من قبل العواصم العربية الحليفة، وتخل عنها، لم يجد النظام البعثي بديلا للتضامن العربي الذي عاش عليه خلال عقود طويلة سابقة، سوى في الارتماء على طهران التي كانت ولا تزال تغذي عقيدة العداء الأقوى لواشنطن في المنطقة. ومع اغتيال الحريري واضطرار دمشق لسحب قواتها من لبنان، ونصب مقصلة المحكمة الدولية بتأييد من العرب، تكرست القطيعة نهائيا بين دمشق وحلفائها السابقين في القاهرة والرياض. وبدخول ايران في معركة الحصول على التقنية النووية، سوف يتحول الخلاف العربي العربي إلى حرب إقليمية.
على هامش هذه القطيعة والحرب العربية العربية التي ولدتها الضغوط الامريكية منذ بداية القرن الجديد، ستولد القطيعة في لبنان بين الاطراف المتعايشة: حزب الله والخط الذي يمثله والأكثرية النيابية التي يمثلها الحريري. وبموازاة ذلك سيعاد تكوين الاحلاف الإقليمية والدولية كما لم تكن من قبل، أي التحالف المصري السعودي الأردني الأمريكي، والتحالف الايراني السوري وحزب الله وحماس ومن ورائهما على درجة أو أخرى روسيا والصين.
لا يستطيع حزب الله أن يستمر في التعايش مع والأغلبية الحاكمة في بيروت بينما يخوض نظامي دمشق وطهران معركة حياة أو موت مع الولايات المتحدة. وبالمثل لا تستطيع الأغلبية اللبنانية أن توقف الضغط الذي تتعرض له من طهران ودمشق وحزب الله، وأن تؤكد سيطرتها على الوضع وتؤمن الدعم الدولي ا لذي تحتاجه بالوقوف ضد الولايات المتحدة أو بالمغامرة بتأليب الرياض والقاهرة عليها. وليس لهذه المعادلة أسباب أخرى سوى أن لبنان، كما صنعته الحروب الداخلية وسياسات النخب المحلية معا، ظل بلدا يفتقر لأي مقومات اقتصادية فعلية أو عمق استراتيجي، ويحتاج من أجل بقائه إلى مساعدات الدول العربية والغربية معا. وكما أن التخلي عن طهران وبالتالي دمشق يعني المساس بمشاعر مئات آلاف البشر ومصالحهم، يعني التخلي عن الرياض وواشنطن وباريس حرمان لبنان من الدعم المالي الاستثنائي الذي سمح له بالبقاء منذ نهاية الحرب الأهلية، وأمن له الموارد الضرورية للتنمية والإعمار وإعادة بناء الدولة. وهذا ما وفرته له مؤتمرات باريس الدولية.
ترجع المسؤولية في ما وصل إليه لبنان بالدرجة الاولى إلى النخبة اللبنانية التي استمرأت العيش على حساب الدول الاجنبية، الإسلامية منها والعلمانية، المعادية للولايات المتحدة والمؤيدة لها. وترجع المسؤولية بالدرجة الثانية إلى واشنطن وسياستها الغوغائية التي دمرت آخر ما تبقى من توازنات نسبية في منطقة الشرق الأوسط وقضت على فرص التعايش بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، برعايتها التصويت في مجلس الأمن على قرارات غير واقعية ولا مدروسة، تهدف إلى محاصرة حزب الله ونزع سلاحه لصالح إسرائيل وتطمينها على أمن حدودها الشمالية. وترجع المسؤولية ثالثا إلى دمشق التي دفعها الخوف والقلق والشك إلى اتخاذ قرارات متعجلة أودت بالتحالف العربي التقليدي لصالح سياسة المحاور المتنازعة، بدل السعي بروية من أجل تقوية عزيمة الأطراف العربية وتشجيعها على مواجهة الضغوط الأمريكية. وترجع المسؤولية أخيرا للرياض والقاهرة لعجزهما، وهما العاصمتان الأكبر، عن تأمين إطار سياسي وجيوسياسي فعال يضم جميع الدول العربية ويؤمنها ضد التدخلات الأجنبية.
لكن مهما كان الحال، إذا كان الهدف الحفاظ على السلام الأهلي في لبنان وتجنب الحرب الأهلية، ليس هناك ولن يكون حل آخر سوى القبول بمنطق التعايش بين الاطراف، وتحييد لبنان أو الاتفاق على تجنب تحويله إلى ساحة مواجهة بين الاطراف الإقليمية والدولية. وهذا يعني ببساطة أنه مثل ما أن لبنان لا يستمر مع استئثار أي طرف من أطرافه، طائفيا كان أم سياسيا، بالسلطة والنفوذ فيه، فإنه لن يستمر ولن يستطيع أن يضمن شروط التعايش بين الطوائف والتيارات السياسية والفكرية إذا قرر أحد الاطراف الإقليمية أو الدولية المتنازعة في الشرق الاوسط الاستئثار بالسيطرة على لبنان والقضاء على نفوذ الأطراف الاخرى. لن يستقر لبنان إذا كان قرار الأمريكيين والاسرائيليين القضاء على النفوذ السوري والايراني فيه، وبصورة أكبر إذا اعتبر هؤلاء أن حزب الله هو امتداد لهذا النفوذ فحسب، وبرروا بالتالي حصاره وتجريده من سلاحه. وبالمثل لن يستقر أيضا إذا قررت طهران ودمشق وحزب الله ان لبنان ينبغي أن يكون قلعة المقاومة ضد إسرائيل والولايات المتحدة، وقرروا هم أيضا إزالة أي نفوذ سعودي أو مصري أو أمريكي فيه. فكما أن طهران ودمشق لن تسمحا بأن يكون لبنان تحت نفوذ معاد لهم، لن تسمح أيضا واشنطن ولا تل أبيب ولا الرياض ولا القاهرة أن يتحول لبنان إلى قاعدة للنشاط الايراني والسوري المعادي لهم.
هذا يعني أنه إذا كان التعايش يصبح أكثر احتمالا بانحسار الولاءات الخارجية، فهو أصعب بكثير إذا استمرت الدول الخارجية التي لا يعنيها مستقبل لبنان في اعتباره ساحة نزاع استراتيجية. وهو ما يشير إلى صعوبة التفكير بمخرج عن طريق التفاهم الخارجي أو إقامة ما يشبه الوصاية المشتركة على لبنان. إن الرهان الرئيسي في تعزيز استقلال لبنان ينبغي أن يكون على بروز رأي عام لبناني قوي مؤمن بلبنان ورافض للحرب الأهلية، وبالتالي لأي التحاق بهذه القوة الخارجية أو تلك، أو تقديم الخدمات الاستراتيجية والسياسية لها، أو استخدام السلاح لأهداف سياسية، أو خارج إطار التوافق على الجبهات الخارجية. مما يعني أن سلاح حزب الله، إذا تم الاتفاق على صيانته، ينبغي أن يكون ذلك لأهداف دفاعية فحسب.
مع ذلك لا ينبغي أن نقطع الامل تماما في احتمال توصل الاطراف الدولية إلى توافق على تحييد لبنان إذا قدرت أن أحدا منها لن يستطيع الانتصار فيه وعزل الاطراف الاخرى. وربما هنا، أي في عدم اليأس من وجود هذا الاحتمال، تكمن عبقرية المبادرة القطرية العربية التي قلبت الموقف اللبناني خلال ساعات من السلبية إلى الايجاب. وفي هذه الحالة سيكون تحييد لبنان في الصراعات الإقليمية أساس لاستقرار طويل المدى. ولا يعني تحييد لبنان القطيعة معه أو حتى قطع المعونات عنه وإنما الكف عن استخدامه كورقة في اللعبة الاستراتيجية الإقليمية أو ساحة مواجهة بين الاطراف الأجنبية. والتحييد بهذا المعنى يختلف عن مفهوم الحياد كما كان مطروحا في الحرب الاهلية الماضية، أي عن اعتباره دولة لاهوية ولا موقع لها في الصراع الحضاري والاستراتيجي الإقليمي. وهو ما لايمكن أن يتحقق من دون ضغط من قبل الرأي العام اللبناني على طبقته السياسية نفسها وتأكيده رفض العمل في خدمة الاستراتيجيات الخارجية.
أساس التوافق الداخلي أن تدرك القوى السياسية المتنازعة، على اختلافها، أنه لا يكفي أن يكون المرء ضد الولايات المتحدة وإسرائيل حتى يبرر استئثاره بالسلطة أو تمديده لدائرة قوته ونفوذه بما يهدد فكرة التعايش والمساواة بين الجماعات والطوائف المختلفة. كما لا يكفي الحديث عن تعزيز الدولة والدفاع عن المؤسسات من أجل تبرير محاصرة حزب الله او تجريده من سلاحه. بالعكس أن احترام موقع الآخرين وحقوقهم هو شرط قيام التعايش بين الاطراف. وهو مما يستدعي ضبط النفس وعدم الكيل بمكيالين. فالذي يعيش على المساعدات والمنح الايرانية لا يملك حق حرمان الآخرين من العيش على المساعدات والمنح السعودية، والعكس بالعكس. لبنان بلد مدان بالتبعية بسبب بنيته الاقتصادية ذاتها. والذي يستمد قوته من الدعم الاستراتيجي الخارجي لا يستطيع أن ينكر على الآخرين حقهم في استمداد الدعم من الخارج أيضا. هذا يفسر الواقع المأساوي الذي يعيشه لبنان لكنه لا يبرر الحرب الأهلية ولا يشجع أو ينبغي ان يشجع عليها. بل بالعكس ينبغي أن يحث الجميع على التفكير في التوافق الذي يسمح بإعادة بناء لبنان وتطوير قاعدته الاقتصادية والسياسية، وتحريره من التبعية البنيوية التي ليست هي نفسها سوى النتيجة الحتمية للحروب والنزاعات الاهلية المتكررة والمستمرة.
قد يقول البعض كيف يمكن الحديث عن تحييد لبنان، في سياق الهمجيات المنفلتة في المنطقة، وأن لبنان لا يمكن أن يتخلى عن مشروع المقاومة، بل أن من الجريمة تحييده في المعركة القومية. هذا هو مع الأسف الثمن الوحيد لتجنب الحرب الاهلية.
وقد يعتقد البعض، تحت إغراء القوة، أن المواجهة الاخيرة أثبتت أن من الممكن للمقاومة أن تفرض سيطرتها على لبنان من دون أن يقود ذلك إلى حرب أهلية كما يهدد خصومها. فهي تتمتع بتفوق عسكري ساحق إلى درجة لا يجد خصوم حزب الله بدا من الخضوع والتسليم. والواقع عكس ذلك تماما. إن الإمعان في تحدي التوافقية، التي أصبحت شبه عقيدة لبنانية رسمية جديدة حلت من دون أن يشعر أحد بذلك محل الميثاق الوطني، سوف يقود بالعكس إلى إشعال الطائفية ودفع تلك الجماعات التي أخفقت في مواجهة التحدي العسكري الراهن إلى مضاعفة جهودها لتكديس الأسلحة والتدرب على استخدامها لمواجهة تحدي حزب الله. ولن تجد هذه الجماعات صعوبة في ذلك. بل إن النتيجة الطبيعية لمثل هذا الحساب الخاطيء ستكون لا محالة تدخلا عسكريا أمريكيا وغربيا لا يستهدف لبنان وحده وإنما الأطراف الإقليمية التي تريد أن تستأثر به في الوقت نفسه، وفي مقدمها سورية.
وإذا اشتعلت الحرب لن يستفيد منها لا أصحاب حماية المقاومة ولا أصحاب صون الاستقلال. كل ما سيحصل هو أن اللبنانيين يكونوا قد اختاروا بأنفسهم أن تخاض المعركة الاسرائيلية الايرانية والامريكية الايرانية السورية، على أرض لبنان وعلى حسابه.

mercredi, mai 07, 2008

في معنى المعارضة السياسية ووظيفتها

الاتحاد 7 مايو 2008

كثيرا ما يؤخذ على المعارضات السياسية عجزها عن إحداث التغيير الذي ينتظره الرأي العام. وفي حالات كثيرة تستخدم النظم التسلطية هذا العجز لإقناع الجمهور بأنه لا قيمة للمعارضة ولا جدوى منها. .والحال أن المعارضة لا تستطيع أن تكون وسيلة تغيير إلا في إطار نظم ديمقراطية، تعترف بشرعية المعارضة وتحترم حقوقها، وفي مقدمها حقها في التداول على السلطة عند حصولها على أكثرية نيابية. خارج هذا الإطار لا يمكن لحركة التغيير أن تستند إلى المعارضة السياسية، خاصة وأن هذه المعارضة تكون سرية أو شبه سرية وبالتالي مقيدة إلى حد كبير.
يرتبط تغيير النظم بالتقاء عاملين : نمودج النظام وسياساته ووضعه العام من جهة وتحول الاوضاع الدولية وموقعه فيها من الجهة الثانية. وهذا ما يفسر أن التغييرات في النظم تتخذ شكل موجات تعكس تحولات عميقة في الأوضاع والتوازنات الدولية وتجرف عددا كبيرا من الانظمة التي تجاوزتها الأحداث والمعايير الدولية في أكثر من موقع ومكان. ومن الأمثلة على دلك تلك الموجة التي جاءت بعد الحرب العالمية الثانية وعكست في الوقت نفسه تراجع قوة الدول الاستعمارية الاوروبية بعد الحرب العالمية الثانية من جهة وفقدان النظم المجتمعية التي أقامتها في المستعمرات لأي صدقية.
وفي سياق الحرب الباردة التي ساهمت في توسيع هامش مناورة الدول الصغيرة والضعيفة، شهدت الستينات من القرن الماضي موجة ثانية من التغييرات التي استلهمت النظام السوفييتي الذي بدا في ذلك الوقت النموذج الأمثل لاستدراك التأخر والصعود إلى مصاف الدول الكبرى. وقد كان لانهيار هذا النموذج وتفكك الاتحاد السوفييتي أثر كبير على نشوء موجة ثالثة من التغيير، حلت بموجبها النظم شبه الليبرالية في العديد من بلدان العالم النامي والبلدان الشيوعية محل النظم الاحادية، الاشتراكية أو القومية، التي صعد نجمها في التغير السابق.
لكن القول بأن المعارضة ليست أداة التغيير الرئيسية في النظم السياسية وبشكل خاص استبدادية لا يعني أنها عديمة القيمة أو لا دور لها في التغيير. فهي تستمد أهميتها من انها الوسيلة الوحيدة للتغيير داخل النظم وحفظها من الفساد والانحطاط، وبالتالي ضمان أن لا يتحول الحكم السياسي، مهما كان نوعه إلى حكم العصبية والولاءات الشحصية المدمرة لروح القانون والعدالة والمخربة للأوطان والأعمال. وهذا ما يفسر وجودها وتعددها وتنوع مشاربها في معظم الدول والمجتمعات. فهي لا تستمد شرعيتها من مقدرتها على التغيير وقلب نظم الحكم، وإنما من قيامها بوظائف أخرى ضرورية حتى من دون تغيير النظام، بل بسبب امتناع هذا التغيير أو صعوبة تحقيقه. وفي مقدم هذه الوظائف واهمها مراقبة الحكومة ومتابعة سياستها، وبالتالي بث حد أدنى من التوازن في السلطة، وبشكل أكبر، عندما يتعلق الأمر بنظم يتحول فيها البرلمان صورة تعكس إرادة السلطة التنفيدية وأداة طيعة في يدها. وتشكل مراقبة الحكومة وتحليل سياستها ونقدها، مدرسة أساسية لتأهيل النخب الاجتماعية والسياسية، المشاركة في الحكم والموجودة خارجه، وتدريبها على تمثل مفهوم المصالح الوطنية والتعامل مع تعدد المصالح الاجتماعية والتمرس على إدارة الشؤون العمومية.
ومن هده الوظائف عقلنة حركات الاحتجاج وترجمتها إلى مطالب سياسية يمكن النقاش فيها والتفاهم من حولها. وإلغاء المعارضة أو تغييبها يخلق فراغا كبيرا لا يمكن لأي حزب حاكم مهما كان نوعه ملأه لأنه يمثل الحكومة، ولا يستطيع مهما فعل أن يعبر عن مطالب وطموحات القوى والفئات الاجتماعية الأخرى التي لا تشارك فيها أو التي تتناقض مصالحها مع سياساتها الخاصة. والافتقار إلى المعارضات السياسية الشرعية والقانونية يهدد بتحويل أي حركة احتجاج أو اعتراض أو نزاع، مهما كان حجمها ومحدودية مطالبها وضيق مجال انتشارها، إلى ما يشبه الثورة أو التمرد على النظام، بقدر ما يحرم المجتمع من آلية التوسط التي تمثلها المعارضة بين المصالح الخاصة والعامة. ويشير هذا إلى الدور البنيوي التي تمثله المعارضة في أي نظام، أعني تحويل حركات الاحتجاج إلى مطالب سياسية وتجنيبها الانخراط في منطق الانشقاق والتمرد والمواجهة.
فوجود المعارضة هو التعبير الأبسط عن وجود السياسة ذاتها. فكما أنه لا مكان للسياسة ولا وجود من دون معارضة، ليس للمعارضة أيضا وجود ولا مكان في مناخ المواجهة والمجابهة والانفجار. فهي صمام الأمان الوحيد ضد احتمال تحول النزاعات الداخلية على المصالح إلى انفجارات أو صراعات وحروب أهلية. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هذا هو الوضع القائم للأسف في العديد من البلاد العربية إن لم يكن في معظمها. فبسبب إلغاء السياسة واستبعاد المعارضة أو التنكيل المستمر بها وعدم الاعتراف بقيمتها ودورها وحرمانها من الشرعية، تكاد جميع حركات الاحتجاج الاجتماعية تتحول إلى حركات انشقاق إتنية أو طائفية أو عقائدية وتعامل كأنها حركات تقويض للنظام القائم وتمرد عليه. وهو ما يفسر أيضا مناخ المواجهة التي تعيشه هذه المجتمعات. بل إن المعارضة السياسية نفسها لا تجد، بغياب السياسة، مبررا لوجودها خارج المشاركة في حركة التمرد والانشقاق وتقمص روحها وجدول أعمالها. وهكذا تفقد المعارضة أيضا دورها التوسطي والمعقلن للنزاعات الأهلية، لتتحول إلى فريق احتجاج من نوع آخر، يضاف إلى جماعات الاحتجاج الأهلية الاخرى.
بتحويل المعارضة إلى حركة انشقاق معزولة عن المجتمع مرتبطة بأجندتها الخاصة، لا أجندة التحول الاجتماعي العام، تضمن السلطة تفريغ النظام الكامل من السياسة وإقفاله تماما أمام أي احتمال إعادة إحيائها. وفي سبيل ذلك لا تكف السلطة عن استفزاز المعارضة والتحرش المستمر بها لدفعها إلى الدخول في منطق رد الفعل والتحدي والمجابهة، ومنعها من العمل بالسياسة وحسب منطق السياسة، أي كوسيط بين المصالح الخاصة المتعددة والمتنازعة والمصلحة العامة، وبالتالي كمحول سياسي ومركز استقطاب اجتماعي. وبمقدار ما تنجح في تقويض ديناميكية المعارضة السياسية، تستطيع السلطة أن تفرض على أعضائها صورة المنشقين وتعاملهم معاملة المجرمين، تماما كما عاملت السلطات عمال المحلة الكبرى جنوب القاهرة في أبريل 2008، وكما تعامل سلطات عديدة المشاركين في الاحتجاجات الإتنية أو الطائفية.
وهذا ما حصل بالفعل. فبقبولها الدخول في منطق الانشقاق، سقطت المعارضة في فخ النظام ذاته، ودخلت هي نفسها في هوس القيامة أو الانقلاب الوشيك للأوضاع. فتحولت إلى قوى اعتراض واحتجاج على نظام السيطرة القائم أكثر مما هي معارضات منظمة تعمل حسب أصول وقواعد مرعية ومشروعة كسلطة بديلة محتملة. وأصبح مفهوم التغيير شعارها الرئيسي، وهو في ذهنها رديف تغيير النظام أو قلبه، ويطرح عادة كنقيض للإصلاح أو للتغييرات التي يمكن الحصول عليها بالتفاهم والحوار. والواقع أن العجز عن التمييز بين مفهوم المعارضة السياسية ومهامها من جهة، ومفهوم التغيير الجدري للنظام ومهامه من جهة ثانية يشكل، بالإضافة إلى القهر الفكري والسياسي الذي تمثله السلطة التسلطية بل شبه الإقطاعية السائدة اليوم في البلاد العربية، السبب الرئيسي لفشل المعارضة، بمقدار ما وضعها أمام تحد ليس مطروحا عليها وليست قادرة على رده.
القول أن المعارضة ليست أداة تغيير النظم ولا شرطه الرئيسي لا يعني أننا لسنا أمام مهمة تغيير ولكن بالعكس أن لكل نوع من التغيير، أقصد تغيير النظام والتغيير ضمن النظام، شروطه وأدواته. ولا يمكن للمعارضة السياسية أن تحل محل الثورة أو الانقلاب كما لا يمكن لأي إنقلاب أن يتحول إلى تغيير فعلي للنظام من دون إعداد طويل وعميق للنخب والرأي العام وتغيير مسبق في سلم القيم والأولويات، وهو ما لا يمكن تحقيقه من دون السياسة وخارج السياسة، بصرف النظر عن طبيعة النظم ووسائل القمع وحجم القوى الانقلابية أو طبيعتها. وكما يقول الشاعر العربي: ووضع القنا في موضع السيف بالوغى مضر كوضع السيف في موضع القنا.