mercredi, avril 23, 2008

العالم العربي في مهب الريح

الاتحاد 23 أفريل 08

مثل العالم العربي اليوم كسفينة ضلت طريقها، تضربها العواصف وتتقاذفها الأمواج، في محيط بلا قرار. وفي كل لحظة تهدأ فيها العاصفة قليلا يسرع الأقوى من ركابها إلى إلقاء مراكب النجاة الصغيرة في البحر للهرب بأنفسهم، بينما لا تجد الغالبية من الركاب خيارا سوى الاستسلام للمصير المحتوم، والانشغال عن العاصفة بالتضرع إلى الله وطلب رحمته وغفرانه. أما داخل غرفة القيادة فالصراع على أشده بين فريق من الركاب، الذي انتدب نفسه لإنقاذ السفينة، وقبطانها الذي يصر على أنه هو وحده صاحب الحق بقيادتها، ولن يحيد عن االطريق التي اختارها، مهما عظمت المخاطر والتحديات. والنتيجة المنتظرة كارثة محققة للجميع، لن ينجو منها من هرب ولا من سلم أمره ولا من انتدب نفسها لانقاذها ولا قبطانها الأحمق أيضا.
والقصد أن السبب في ما وصلنا إليه هو ببساطة غياب القيادة، لا بمعنى وجود الزعيم الملهم والقائد الفذ الذي يفرض نفسه بالقوة ويجبر الجميع على اتباعه والسير وراءه، ولكن بالعكس، بمعنى وجود الرؤية الصائبة التي تتحدد فيها الأهداف والوسائل وخطة العمل وتحظى بقبول الشعوب وتأييدها، والمعرفة الصحيحة بمنطق التطورات والأحداث الجارية، والحكمة الضرورية لمواجهة النزاعات وحل التناقضات التي تخترق كل المجتمعات وإشراك الجميع في المسؤولية. ولا قيادة من دون رؤية توضح الاتجاه. ولا رؤية من دون معرفة سليمة وموضوعية بالوقائع والامكانيات والاحتياجات. بالمقابل، دفع تقاطع سلبي للحوادث والتطورات في العقود الماضية، إلى منصب القيادة، في معظم البلاد العربية، فئات ليس لها أي رؤية لما هو مطلوب لتحرير المجتمعات وانعتاقها وتقدمها، لا تحظى بالكثير من المعرفة، ولا تملك الخبرة، ومن باب أولى الحكمة النظرية والعملية اللازمة للتعامل مع المجتمعات المتصدعة وتوحيد إرادتها وجهودها، تحركها العواطف والضغائن والأحقاد اكثر مما تحفزها الأفكار، تفتقر لموهبة التواصل مع شعوبها، كما تفتقر للمقدرة على إدارة الدولة، بل على فهم منطق عملها والعمل المؤسسي بشكل عام. لا تشعر بالراحة والسعادة إلا في جو الزعامة الشخصية والولاءات العائلية أو العشائرية أو الزبائنية. هكذا حلت الأمزجة الشخصية وإرضاء الطموحات الفردية محل السياسات المنبثقة من العمل المنهجي والمنظم على بلورة مصالح الجماعة الوطنية وتعظيمها. وانتصرت أساليب التعبئة العصبوية (زعيم وأتباع) على أسلوب العمل المؤسسي المستند إلى الخبرة الصحيحة والمستقل عن الأشخاص وطموحاتهم وأمزجتهم الذاتية. وفي سياق نشوء هذا "النظام" الجديد، لن تزول الحاجة للمعرفة العقلية، أي النقدية، فحسب، ولكن سينظر إليها أكثر من ذلك على أنها نزعة تخريبية، بل خيانة وطنية لأنها تقوض الأسس التي تقوم عليها القيادة الملهمة، التي هي بالتعريف قيادة إستثنائية، لا تدرك بالعقل ولا تخضع لمعاييره وحساباته، بمقدار ما تستدعي الايمان والتصديق. وفي السياق ذاته تنتفي الحاجة إلى إدارة مؤسسية، تستند إلى توزيع واضح للسلطات والصلاحيات، وترتبط بمبدا المسؤولية، وتتطلب الاحتكام إلى معايير ثابتة في المحاسبة والمساءلة السياسية والقانونية. فكل ذلك مما يهدد أسس الزعامة الإلهامية التي تميل إلى إنكار أي تراتبية فعلية تتوسط بين الزعيم الملهم وأتباعه، أو تفرض على الاتباع الخضوع لسلطات إضافية لا تنبثق منه مباشرة وفورا، أو حيازة مسؤوليات خاصة أو مستقلة، تقلل من صدقية السلطة الواحديه وتحد من وهجها وتنتقص من شمولها واستقلالها وإطلاقيتها. فهذه الأخيرة لا تعمل إلا إذا عمقت، لدى من تمارس عليهم، الشعور بأنها هي وحدها العقل والروح والحكمة الأبدية التي تحرك أناسا وأفراد لا يتخذون قيمتهم، ولا يحتلون مكانتهم، ولا يحققون دورهم، ولا يبلغون سعادتهم، إلا بمقدار ما يتخلون عن إرادتهم ويتحولون إلى أدوات، بل إلى مرايا جاهزة لالتقاط القبس الإلهي وعكسه على العالم. من دون ذلك ليس هناك نظام ولا وحدة ولا استقرار. ليس المقصود بالقيادة هنا القيادة السياسة التي تتألف من أصحاب المسؤولية العمومية والذين يحتلون مناصب الدولة الرئيسية فحسب، وإنما جميع القيادات الروحية والثقافية والإقتصادية والأهلية التي يتوقف عليها بث الاتساق والانتظام في الهيئة الاجتماعية، وتسيير شؤونها، وتغذيتها بالمعارف والأفكار النافعة، ومساعدتها على رسم الخطط والاستدلال على الطريق المؤدي للانجاز والتثمير والتنمية الانسانية. فلكل من هذه القيادات نصيبه في نشر الظلام، وتشويش الرؤية، وإضعاف مقدرة الأفراد على إدراك تحديات الحاضر والمستقبل، ومعرفة الأهداف الصحيحة وتجنب الاختيارات الخاطئة التي لا تقود إلى أي هدف. ولها جميعا مساهمتها الخاصة في تعميم مفهوم للزعامة والرئاسة والسلطة يتعارض تعارضا كليا مع تنمية روح الحرية والمسؤولية والمبادرة والمشاركة والتفكير المنظم والعمل الجماعي.بالتأكيد، يقف في المقدمة منظومات السلطة السياسة وقيمها القرسطوية أو شبه السلطانية التي تحرم على الشعوب أي شكل من أشكال المشاركة أو المشاورة الشعبية أو النقاش أو النقد او الإصلاح، ويتلبسها الحمق والجنون لمجرد شعورها بأن هناك من ينافسها على القيادة أو يطمع فيها، مهما ضؤلت مقدراته وضعف أمله في تحقيق مثل هذا الهدف. لكن لا ينبغي لهذا أن يمنعنا من إدراك فساد منظومات الزعامة الأهلية، الدينية والمدنية، القائمة على العنترية التي تعوض عن الاستسلام الحقيقي للقوة والخضوع لها والانقياد لأصحابها وتغطي عليه في الوقت نفسه. ولا فساد منظومة النخبة الاجتماعية التي تدفع أصحاب المال والثروة والمجد والجاه، إلى التصرف كأرستقراطية أجنبية، لا يهمها مصير المجتمعات التي تعيش فيها إلا من حيث هي مصدر للعوائد والمنافع والثروات، وهي على استعداد للفرار والتخلي عن أي مسؤولية لدى أول شعور بوجود مخاطر عليها أو نقص في عوائد السيطرة أو تحديات غير منتظرة للنظام. ولا فساد منظومات المعارضة التي لا ترى في المقاومة للنظم القائمة سوى مناطحة على طريقة فرسان القرون الوسطى، تمتح من بحر الشجاعة والفروسية والعنجهية والتناحة الشخصية، بل المراهنة على ما تمثله الشعوب وتختزنه معا من قوة معنوية ومادية، وما يمكن أن ينتج عن العمل المنهجي على تنظيمها وتأهيلها بالحكمة والرأي السديد من إمكانيات واحتمالات.
هذا المزيج غير المدرك وغير المفكر فيه من الجشع والغرور وضيق الأفق واحتقار الرأي وانعدام الحكمة ونفاذ الصبر وغياب الثقة والخوف من الآخر، الذي يميز منظومة القيادة والسلطة، على جميع مستوياتها وفي كل ميادين ممارستها في مجتمعاتنا، هو المسؤول الحقيقي عن الضياع وغياب الرؤية والتخبط في تحديد الأهداف الصحيحة، وعن سيطرة الجهل بأحوال الأمم والمصائر التاريخية والعجز عن مواجهة تحدياتها. وهو في الوقت نفسه التعبير الأقسى عن الفقر الإنساني الذي تعاني منه مجتمعات تستثمر في العنف والحرب الداخلية والخارجية، وتنفق على الآلات العسكرية والأجهزة القمعية، أكثر بكثير مما تنفق على تأهيل أبنائها، وتمكينهم، بالمعرفة والحكمة والمثال الصالح، من أن يتصالحوا مع العالم المحيط بهم، ويكونوا أعضاء فاعلين، ايجاببين، منتجين ومبدعين، في حضارة عصرهم. وبالفعل، من دون علم ولا حكمة ولا فضائل أخلاقية كيف يمكن أن يقوم، على غير القوة والقهر، حكم أو نظام. وقديما قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لها ولا سراة إذا حهالهم سادوا.

samedi, avril 12, 2008

مشكلتا العرب: الديمقراطية والاتحاد

8-3-2008مقابلة مع مجلة شؤون استراتيجية، المغرب الأقصى
* كتبتم عن الديمقراطية، مند سنوات من خلال مقالاتكم وكتبكم، مثل كتابكم "بيان من اجل الديمقراطية" و"العالم العربي أمام تحديات القرن 21". هل ترى أن الأمور تسير في اتجاه تحقيق الديمقراطية في العالم العربي، بمعنى الفصل الحقيقي بين المؤسسات( التنفيدية والقضائية والتشريعية)، وتحقيق العدالة الاجتماعية، واحترام الحريات الصحافية واحترام حرية التعبير، وتشجيع الشباب على المشاركة السياسية، وتشجيع المبدعين منهم في المجالات المختلفة الخ... ؟

غليون :
واضح أن الأوضاع سارت منذ ذلك الوقت نحو الأسوأ على جميع المستويات التي ذكرت. والسبب في ذلك التحالف القائم على حساب الشعوب، منذ ما يقارب نصف قرن، بين النخب المحلية الحاكمة والدول الصناعية المهتمة بتأمين مصادر الطاقة والدفاع عن مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، بصرف النظر عن أي مباديء أو قيم أخلاقية أو سياسية. ولا ينبغي أن تخدعنا المظاهر، ليس للنخب الحاكمة التي جعلت من البلاد مزارع شخصية وعائلية لها أمل في البقاء ومقاومة الشعوب المظلومة والمحرومة إلا بالالتصاق بالغرب والاستفادة من مظلته السياسية وحمايته الاستراتيجية. والعكس صحيح أيضا، ليس للدول الغربية الداخلة في منافسة اقتصادية شديدة في ظل بناء السوق الاقتصادية العالمية من أمل في الابقاء على مناطق نفوذها ومصالحها النفطية والاستراتيجية سوى بالتحالف مع قوى الاستبداد القائم ودعمها وحمايتها من السقوط. هذه هي الحقيقة حتى لو حصلت خلافات من فترة لأخرى بين الحلفاء لا تفسد حقيقة العهد المشترك. كل ما عدا ذلك خداع ونفاق.


* إذا لم تتحقق الديمقراطية العربية حتى الآن، متى ستولد في نظركم؟

غليون:
الديمقراطية لن تخرج من قلب المجتمعات كما يخرج الجنين من بطن أمه. إنها ثمرة مخاض وصراع طويل يبدأ بتكوين المجتمعات وتأهيلها وتربيتها على مباديء أخلاق الحق والقانون والمساواة والعدالة والحرية، وهو ما يقع على كاهل المفكرين والمثقفين والأدباء والفنانين. فمن دون فرد يملك الحد الأدنى من الشخصية، أي من الوعي والإرادة الحرة والقدرة على الالتزام والعمل الجمعي، لن تنشأ القوى الاجتماعية والسياسية الضرورية لإحداث التغيير. ومن دون قوى حية ومنظمة لن يكون من الممكن إعادة بناء ميزان القوى وتعديل الكفة لصالح سلطة تمثل الأغلبية المجتمعية. وسيكون من المستحيل الوصول إلى تغيير النظام السياسي والاجتماعي القائم، بل إلى تعديله. وهذه هي حالتنا اليوم. الديمقراطية لا تولد ولكنها تنتزع من المتسلطين كالحرية، وانتزاعها يعني أنها معركة طويلة بالكاد قد بدأت. ولكنها مع ذلك موجودة ومستمرة. إنها متجسدة في مقاومة النظم الاستبدادية والاحتجاج على السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تشارك فيه جماعات وقطاعات رأي متزايدة في العديد من بقاع العالم العربي. وهي موجود وقائمة في الأدبيات والإبداعات النقدية الفكرية والفنية، وفي المقاومات السلبية التي تتخذ شكل مقاطعة السلطة والتبرؤ منها. وستكون ثمرة تراكم هذه المقاومات ونضوجها وفي سياقها نضوج معنى الانسانية وقيمها في مجتمعاتنا التي أقفلت عليها عهود الظلام وحرمتها من الضوء والمعرفة والثقة بالذات.

* ادا كانت التجارب السياسية قد اثبتت أن الديمقراطية لا يمكن استيرادها جاهزة وتطبيقها في البلاد العربية، فكيف في نظركم يمكن الاستفادة من الديمقراطية الغربية مع احترام الخصوصية العربية؟

غليون:
لا يستطيع شعب حتى لو أراد أن يقلد شعبا آخر في نماذج حكمه السياسية، اللهم إلا إذا حصل التغيير من خلال انقلاب فوقي أو احتلال أجنبي. وفي هذه الحالة لن يكون النموذج المأخوذ مماثلا لنموذج الغرب أو صورة عنه، ولكن بالعكس تماما، غطاءا للانقلاب العسكري أو للاحتلال الأجنبي. فما هو ثمرة كفاح الناس لا يمكن إلا أن يتأثر بطبيعة الناس وثقافاتهم وشروط حياتهم وظروف انتصارهم التاريخية. وهذا يعني، لن تكون هناك ديمقراطية عربية أو في البلاد العربية إلا بقدر ما تنجح الشعوب العربية في تحرير نفسها من الاستبداد والظلم الذي يمثله، وستكون ديمقراطيتها في صيغتها ومضمونها وبرنامج عملها تجسيدا لهذا التحرير وانعكاسا له. إن الديمقراطية تخلق بالكفاح أي بالعمل والفعل، الفردي والجمعي. وبقدر ما يقود هذا الفعل الكفاحي إلى التغيير الذاتي ويستدعي نمو الفضائل السياسية عند الأفراد والجماعات، يفتح المجال أمام التغيير الموضوعي، أي أمام إعادة بناء النظام المجتمعي والدولة على أسس غير تلك التي قام عليه الاستبداد ولا يزال. الكفاح الشعبي من أجل الديمقراطية هو شرط قيام الديمقراطية ومدخلها الحقيقي بقدر ما يشكل مسار التربية الجديدة للشعوب على الجد والتضحية والتضامن والمسؤولية.

*من جهة أخرى لمادا في نظركم نجح الاتحاد الأوروبي في توحيد أوروبا، خصوصا في المجالات الاقتصادية والمالية (الاورو) والعسكرية وفي السياسة الخارجية، بل كاد أن ينجح في تكريس دستور أوروبي واحد، هدا الاتحاد الأوروبي الذي مافتئ يستقطب دولا من أوروبا الشرقية التي كانت في وقت سابق محسوبة على المعسكر الشرقي، في حين ان جامعة الدول العربية أخفقت في توحيد البلدان العربية خصوصا في المجالات الاقتصادية (السوق العربية المشتركة) والعسكرية (اتفاقية الدفاع العربي المشترك)، خصوصا ونحن نعيش في زمن التكتلات الدولية أكثر من أي يوم وقت مضى؟

غليون
هناك ثلاثة أسباب رئيسية تفسر إخفاق العرب في التوصل إلى اتفاق سياسي للتعاون والتحالف والوحدة الاقتصادية. الأول هو افتقار العرب لحكومات ونخب اجتماعية مهمومة فعلا بمصير الناس ومنشغلة بضمان حقوقهم ومستقبلهم. معظم النخب العربية الحاكمة، على الأقل في الدول المركزية أو الكبيرة ذات التأثير، هي جماعات مصالح خاصة، لا تفكر إلا في خدمة نفسها وزبائنها الذين تعتمد عليهم للبقاء ولتأمين قاعدة دعم، وأجهزة أمنية قوية. ولهذا لا تملك هذه النخب سياسات وطنية حتى تنتقل منها إلى رؤية المصلحة الوطنية في الوحدة أو لاتحاد مع الدول المجاورة أو القريبة. بل إنها تخشى أن تفرض عليها مثل هذه العملية التوحيدية التزامات وشروط لممارسة السلطة داخل بلدانها نفسها تحرمها من قدرتها على الاستمرار في الحكم أو في النهب السافر لموارد شعوبها.
والسبب الثاني خوف البلاد الغربية قبل الاستعمار وخلاله وبعده من أن تتكون، على بعد أقل من ألف كيلو ميتر في جنوبها، قوة اقتصادية وبالتالي عسكرية يمكن أن تهدد أمنها في يوم ما، أو تفرض عليها شروطا للتبادل والتعايش تلغي نهائيا نظام الاستعمار الجديد الذي أقامته في المنطقة وحولتها من خلاله إلى مناطق نفوذ، وأحيانا حقول صيد خاصة. وللسبب نفسه لا تخفي هذه الدول إرادتها في رفض أي انتقال للتقنية الحديثة أو أي تطور سياسي يمكن أن يخل بموازين القوى القائمة ويؤثر على نفوذها الراهن. ولا شك ان هذا الموقف الغربي الذي لا يزال مستمرا من دون تغيير منذ عقود متوالية، والذي تمخض عن حروب عديدة واعتداءات مستمرة أيضا، هنا وهناك، كان ضحيتها الرئيسية الشعب الفلسطيني، لكن ليس وحده، هو الذي يشجع النخب العربية الحاكمة على خيانة شعوبها، بقدر ما يحبط إرادتها المستقلة ويخصيها ويدفعها إلى التخلي عن نزوعاتها الوطنية. فهو يؤكد لها أن بقاءها مرهون بسيرها في ركاب الاستراتيجية الغربية وقبولها بها. هذا هو الدرس الأكبر الذي تعلمته هذه النخب من تجربة عبد الناصر في الستينات والتجربة الفلسطينية، إن لم نقل المأساة الفلسطينية المستمرة منذ نصف قرن.
أما السبب الثالث فهو طبيعة الجامعة العربية نفسها. فمن الواضح من ظروف تأسيسها ولوائحها التنظيمية أن هذه الجامعة لم تقام من أجل توحيد الدول العربية ولكن من أجل منع مثل هذه الوحدة، والتغطية على ذلك بأشكال فلكورية من التعاون والتشاور وتبويس اللحى. والبرهان على ذلك أنها، وهي أول منظمة إقليمية نشات بعد الحرب العالمية الثانية في العالم، لا تزال كما كانت، لم يطرأ عليها أي تغيير، ولم تنجح في تجديد أي من لوائحها أو نظمها الداخلية ولا في بناء أي إطار لأي شكل من أشكال التعاون العربي، الجدي والثابت، المستقبل عن رغبات الحكام ومزاجهم، اقتصاديا كان أم ثقافيا أو سياسيا أم قانونيا. الأمر الوحيد الذي نجحت فيه، والذي يتفق مع مصالح الأطراف العضوة جميعا، هو التنسيق الأمني بين وزراء الداخلية وأجهزة الامن الوطنية في سبيل الوقوف صفا واحدا في وجه حركات التغيير أو منع انتشارها.

* بالنسبة للاتحاد المتوسطي الذي اقترحه الرئيس الفرنسي ساركوزي الا يعد نوعا من إعادة مفهوم الاستعمار الجديد من خلال رسم ادوار قديمة جديدة لفرنسا المستعمرة في المنطقة المغاربية ، فرنسا التي كان ينبغي عليها ان تقدم الاعتذار مثلا للجزائر على سنوات الاستعمار الطويلة. بدلا من دلك هربت إلى الأمام خلال زيارة ساركوزي التسويقية في المغرب العربي لمشروع الاتحاد المتوسطي بتوقيع اتفاقيات اقتصادية ضخمة، هل معنى هدا ان الكرامة العربية تلاشت أمام الاتفاقيات والمصالح؟

غليون: التعاون الوثيق بين الكتلة العربية التي ينبغي تكوينها بأي ثمن والاتحاد الاوروبي المجاور شرط التنمية في بلداننا والأمن والاستقرار، وبالتالي الازدهار في أوروبة. وينبغي أن نكون نحن معنيين جدا بتطوير هذا التعاون. لكن للأسف لا تزال الدول الأوروبية تستخدم مسألة التعاون مع الدول العربية لأهداف سياسية تكتيكية، لا علاقة لها بأي خطة عمل صادقة وطويلة المدى. هذا هو الذي قوض صيغة برشلونة وجعل الاتفاقات الأورومتوسطية من دون فائدة ولا أثر. وهو نفسه الذي يجعل من الاتحاد من أجل المتوسط الذي أعلن عنه الرئيس الفرنسي سركوزي واضطر إلى أن يقلص فيه من طموحاته، مشروعا فارغا من المعنى. ففي الحالتين ليس الهدف خلق مستقبل أفضل للشعوب الاوروبية والعربية وبناء أسس تعاون دائم ومثمر، وإنما ايجاد إطار يسمح لاسرائيل بالاندماج في الشرق الأوسط على حساب العرب ومن دون التراجع عن السياسات الاستعمارية والاستيطانية المستمرة منذ قرن. وفي زيارته الأخيرة في العاشر من شهر مارس الجاري 2008 لفرنسا، لم يخف الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريس حماسته لمشروع اتحاد المتوسط السركوزي ولا هدفه، فصرح من دون تردد إن الاتحاد سوف يكون إطارا لجمع العرب والاسرائيليين في رابطة واحدة. وهو على حق تماما. فلم يبق ولن يبق من هذا المشروع هدفا آخر بالفعل سوى هذا الهدف. وكانت واشنطن قد حلمت أيضا بإقامة سوق شرق أوسطية مرتبطة بها تضم العرب والاسرائيليين.
للعرب مصلحة كبرى في التعاون مع أوربة، كما ذكرت. لكن لا ينبغي أن ينظر لهذا التعاون من زاوية تحقيق المصلحة الاسرائيلية أولا وربما أخيرا، ولا على أنه بديل للتعاون والتكتل بين العرب أنفسهم. وكل من يرفض مبدأ الاتحاد العربي ويصر على الاتحاد في إطار آخر، ينفي العربية أو يهمشها، لا يفكر في مصلحة العرب والمنطقة عموما، وإنما في مصلحة إسرائيل وحدها. ولا أدري لمادذا يكون الاتحاد العربي مشروعا مرفوضا، وخطرا ينبغي الوقوف ضده، بينما تصبح مشاريع التوحيد القائمة على طمس الهوية العربية، المتوسطية منها والشرق أوسطية، مشاريع خير وازدهار وتجميع ضروري للطاقات يستحق الثناء والدعم.

* إنني اقترح لو يتم تأسيس اتحاد حقيقي يمكن تسميته بالاتحاد العربي الأوروبي ، يجمع اتفاقية موقعة بين الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي في مختلف المجالات الاقتصادية والثقافية وغيرها ردا على الاتحاد المتوسطي على الأقل يكون أمر عضوية إسرائيل في هدا الاتحاد العربي الأوروبي محسوما ما رأيكم؟

غليون:
كما ذكرت، أعتقد أن أوروبة لا تزال غير مهتمة بمصير العالم العربي وغير قادرة على تقدير مخاطر تركه للفوضى والعنف والتأخر. وهي لا تأخذه بأكمله على محمل الجد. ولذلك من الصعب أن تفكر باتحاد جدي معها. إن ما يهمها من الاتحاد هو كما قلت دمج إسرائيل في المنطقة والتأمين على وجودها ومستقبلها. ما عدا ذلك هي حريصة على استمرار التجزئة والقطيعة العربية بالرغم من كل ما يقال. ولن يكون للاتحادات التي تقترحه بروكسيل أي قيمة أو منفعة للعرب، وسيقتصر إنجازها الحقيقي على تطبيع العلاقات العربية الاسرائيلية فقط. بعد ذلك ستتبخر كل الوعود بدعم التنمية العربية وتشجيع الاستثمارات العاملة على تحقيقي الازدهار، اللهم إلا عندما تكون لهذه الاستثمارات فوائد مباشرة مستقلة عن الاتحاد وأهدافه.
ألقد رفض الاتحاد الأوروبي حتى فكرة إعادة إطلاق الحوار العربي الاوروبي الذي أطلق في الثمانينات، واستبدله بالحوار الأوروبي المتوسطي حتى يلغي هوية الجنوب وحاجاته السياسية والثقافية. وهو لا يزال يتردد منذ ثلاثة عقود في ضم تركيا، الجمهورية العلمانية إلى عضويته، فكيف تريد له أن يضم العرب جميعا ويتحمل عبء الارتقاء بشروط معيشتهم البائسة إلى مستوى معيشة الاوروبيين كما يفعل في أوربة الشرقية وبولونيا، وهو يرى فيه بؤرة التطرف والعنف والبطالة والفقر وانعدام المستقبل؟ لا أعتقد أن هناك أي أساس ممكن لمثل هذا المشروع.

* عندما تشرفت بمحاورة المفكر الاستراتيجي الأمريكي السيد ليندون لاروش اقترحت عليه تأسيس نظام إنساني عالمي جديد ميني على الحوار الحقيقي العادل بين الأمم والشعوب واحترام الديانات والحضارات، ما رأيكم ؟
غليون:
هذه هي المعضلة الكبرى. لقد قام نظام العلاقات الدولية منذ ثلاثة قرون على أساس ميزان القوة، ولا تكاد فكرة وجود قانون دولي تتبلور بعد، بالرغم من كل ما يصدر عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن من قرارات. ولا شك أن استمرار هذه العلاقات قائمة على منطق الغاب هو الثغرة الأكثر خطورة في نظام الحداثة بأكمله. وهو الآن، كما يظهر في الشرق الأوسط الذي نحن الشركاء الأكبر فيه، السبب الرئيسي في انتشار العنف والعداون والسقوط في الهمجية. وليس هناك مخرج من هذا السقوط من دون الانتقال نحو نظام جديد قائم بالفعل، كما هو الحال في العلاقات الاجتماعية داخل الدول القطرية، على مبدأ الحق والعدالة والقانون..
أجرى الحوار محسن الندوي مدير مجلة شؤون إستراتيجية- المغرب

mercredi, avril 09, 2008

في تهافت ثقافتنا السياسية

الاتحاد 9 أبريل 08
ينزع قطاع كبير من المثقفين العرب اليوم، على طريق العديد من الباحثين في الشؤون العربية والاسلامية في الولايات المتحدة واوروبة، إلى الاعتقاد بأن الاستبداد قيمة من قيم الثقافة الاسلامية، أو هو كامن في بنية الدين الذي يطمح إلى أن يكون دينا كليا، لا يقبل التفريق بين مجال العقل ومجال الوحي، يدمج الحياة الفردية بالحياة الجمعية، ويرى حلول المشاكل الاجتماعية جميعا قائما في الدين بصورة مسبقة، ويجهل التمييز بين المجتمع المدني والدولة. وتبدو أنظمة الحكم القائمة في العالم العربي، مثلها مثل حركات المعارضة الاسلامية التي تواجهها متساوية في انكارها لقيم المواطنية والعلمانية، معبرة بذلك عن تناقض الثقافة العربية البنيوي مع قيم الديمقراطية "الغربية". ولا يخفى أن مثل هذه الاستنتاجات، التي بررت في الماضي دعم النظم التسلطية والتغاضي عن انتهاكاتها للحقوق المدنية والسياسية لشعوبها، يمكن أن تبرر، كما حصل في بداية هذا العقد، عندما جعلت الإدارة الأمريكية من القضاء على النظام الديكتاتوري ذريعة لغزو العراق وفرض التبعية المتزايدة على بقية الدول العربية، سياسات التدخل الأجنبي والاحتلال. وهو ما ينطبق على علاقة النخب العربية المثقفة أو معظمها بشعوبها أيضا.
ليس هناك شك في أن تهافت ثقافة المجتمع السياسية عنصر أساسي في تحليل مسار النظم الاستبدادية. لكن لا أعتقد أن هناك حاجة لنظرية جوهرانية في الثقافة العربية لفهم هذا التهافت، ومن باب أولى لفهم أسباب تغول الدولة الحديثة وخروجها عن السيطرة في معظم البلاد العربية. ولعل انجراف نخب هذه البلدان، مثلها مثل العديد من نخب العالم الأخرى، وراء العقائديات الثورية واليسارية، وهو ما يعكس أيضا انحسار جاذبية ثقافاتها التراثية، يفسر أكثر من ثقافة الماضي ما طرأ على نظمها من توجهات معادية لليبرالية وللتعددية معا. ولم يكن وراء هذا الانجراف الوفاء للتراث بقدر ما كان الطموح إلى تحقيق أقصى ما يمكن من التقدم الحضاري الحديث وبأسرع وقت، ومجاراة المجتمعات الأخرى في معايير سلوكها الفردية والجمعية. وقد استند معظم هذه النخب في تبرير سياسات تقييد حريات الأفراد وإخضاعهم بالقوة إلى النظريات التقدمية الحديثة، وجعل من الانجازات المادية ورفع مستوى الفعالية عند المجتمعات معيارا ومبررا لبناء النظم الشمولية. وقبل أن يصبح الاسلام الرصيد الرئيسي لحركات المعارضة المحافظة الساعية إلى تجريد النخب الحاكمة من الشرعية، وانتزاع السلطة منها، أو فرض التنازلات السياسية عليها، كان لأكثر من قرن، أي منذ نشوء الاصلاحية الدينية، المعين الأول للحجج التي استندت إليها النخب الليبرالية لتأكيد شرعية حركة التحديث، على مستوى الأفكار والقيم والهياكل والقوانين والمؤسسات وقواعد العمل، وتعزيز الهوية الوطنية والقومية.
لم تنشأ الثقافة الاستبدادية المعاصرة إذن كامتداد لثقافة الماضي وقيمه. كما انها لم ترتبط بأفكار الوطنية والقومية والعدالة الاجتماعية الحديثة التي ميزت الحقبة الأولى من حركة النهضة العربية. إنها بالأحرى ثمرة انحطاط النظم والسلطات ونماذج الحكم التي ورثتها، وسارت بها نحو طريق مسدود. هكذا أصبحت الوطنية التي كانت تنزع خلال فترة الاحتلال الأجنبي، وجزئيا بعد الاستقلال، إلى تطوير منظومة قيم مواطنية قائمة على المساواة والعدالة والادماج الوطني للطبقات الشعبية والفلاحية خاصة، وللأقليات الدينية والإتنية، أقول أصبحت تميل إلى التعبئة الشكلية والشوفينية ضد الأجنبي، وتخلق هي نفسها، كي تبرر وجودها وتعزز نفوذها، الأجنبى أو الغريب الداخلي، المتجسد في فئات إجتماعية مثقفة أو أقليات أو معارضات. وبالمثل، هكذا تحولت القومية التي كانت تميل إلى تنمية قيم التضامن والتعاون والتفاهم بين شعوب المنطقة المنتمية إلى ثقافة واحدة، وتوحيد مصيرها، إلى ذريعة لتبرير النزاع بين الزعامات الفارغة، والتغطية على إخفاق النخب والسقوط في المآزق التي قادت إليها سياساتها. وقد أصبح من الصعب جدا العثور اليوم على آثار الأفكار الليبرالية أو الديمقراطية أو القانونية في ايديولوجيات قومية ووطنية ضيعت جوهرها، وتحولت إلى وسائل للتلاعب بعواطف الجمهور وابتزاز القوى السياسية والنخب المنافسة بقصد تمديد البقاء في السلطة أو تبرير الوصول إليها.
وما يقال عن العقائديات الوطنية والقومية السائدة في المنطقة، يقال كذلك عن العقائديات الاسلاموية واليسارية المعارضة. فمن الصعب أن يستمد الفرد من نظريات الحاكمية الإلهية، ومطابقة الشريعة المراد تطبيقها مع القانون الوضعي، والتسليم بقيادة أمراء الدين الجدد من الشباب والفتيان، الذين نادرا ما توفرت لهم أصلا ثقافة دينية جدية وكافية، قيم ثقافة ديمقراطية أو حتى شبه ديمقراطية. إن القيم الحقيقية التي تجسدها معظم الحركات الاسلامية السياسية، حتى الآن على الأقل، مع بعض الاستثناءات الفردية، هي قيم التسليم لأمير الجماعة الذي يدعي أنه وحده الذي فهم الأمر الديني وتمثل متطلبات تحقيقه، وهذا ما يقود إلى قتل الفكر الشخصي والنقدي معا، والامتثال لسلطة تعتبر نفسها، حتى لو لم تجرؤ على التصريح العلني بذلك، سلطة دينية أو منسجمة انسجاما كبيرا مع متطلبات الدين. وفي هذه الحالة من المستحيل بناء مفهوم للمسؤولية الفردية لا بل الإنسانية، ومن باب أولى بناء نظام للمشاركة السياسية والتعبير الحر عن الرأي والمراقبة والمحاسبة والمساءلة العمومية. إن الثقافة السياسية التي بثتها معظم حركات الاسلام السياسي المتطرفة في العقود الثلاث الماضية، وهي مقلوب الايديولوجيات القومية المتفسخة الحاكمة ومثيلها، تقود لا محالة إلى تعزيز ثقافة التسليم لأولي الامر، السائدة أصلا منذ فترة طويلة لدى الجمهور العربي المهمش، والمبعد بالقوة عن مناقشة شؤون حياته العمومية، وإلى الهرب من المسؤولية والخضوع والاتكال على قوى تنظر لنفسها على أنها ملهمة أو استثنائية، لا تخضع لمراقبة الرأي العام ولا يمكنه التحكم في سلوكها.
وقد بينت تجربة البلدان الشيوعية الدارسة أن النظم السياسية التسلطية والشمولية التي تنزع إلى تقديس الاستقرار، وتخشى أي شكل من أشكال التغيير والتحول، تشجع على الفكر الامتثالي وتحث على الخضوع والطاعة. كما أن العنف الذي يرافق هذه النظم، وأزمة الشرعية الدائمة التي تميزها، تجعلان المجتمع يعيش في حالة من الحرب الدائمة، وتحرمانه من فرص إنضاج وتطوير مفاهيم سليمة للتعامل الاجتماعي وللسياسة والدولة معا. ولا شك أن القومية الشعبوية، التي سيطرت على الحياة السياسية العربية في العقود القليلة التي أعقبت الاستقلال، قد ساهمت في تأخير إدراك راهنية التفكير النظري والعقلي بمسائل تنظيم المجتمع والحياة السياسية، وكان لها أثر كبير في استلاب المجتمعات العربية للدولة، بقدر ما منعتها من فهم آليات عملها ومن السيطرة النظرية والعملية عليها. ولذلك ستبقى الدولة أجنبية، لا بمعنى أنها بضاعة غير عربية، ولكن بمعنى كونها خارجية بالنسبة للمجتمع وخارجة على إرادته، كما لو أن المجتمعات التي تكبدت مشقة الكفاح لأكثر من قرن من أجل بناء الدولة الحديثة وتوطينها قد أصبحت، بعد الاستقلال، رهينة هذه الدولة المستقلة وضحيتها معا. والحال أنها رهينة السلطة السالبة التي اختطفتها. ولا تهدف المزاودة بالوطنية التي أصبحت ايديولوجية سائدة، بل ثقافة سياسية بحد ذاتها، والمستخدمة بكثافة من قبل النخب الحاكمة، إلى شيء آخر سوى قطع الطريق على أي محاولة جدية لوضع مسألة التحكم بالدولة موضع البحث ومناقشة علاقتها بالمجتمع وبالأفراد الخاضعين لها. إنها لا ترمي إلا إلى تمديد أجل الاستلاب الراهن للدولة واستلاب الدولة نفسها للقوى الحاكمة، مع ما يعنيه ذلك من انعدام آفاق التأهيل السياسي للمجتمعات والبقاء في أفق الفوضى العقلية والسياسية وتحت تهديدهما الدائم.