mercredi, janvier 30, 2008

حتى يمكن فك الحصار عن غزة

الاتحاد 30 جنفييه 08
وصف يوري أفنيري سقوط معبر رفح على أيدي الفلسطينيين المحاصرين منذ سبعة أشهر بأنه حدث تاريخي يساوي في مغزاه سقوط جدار برلين. وكان هذا الجدار قد أقيم في وسط ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ليكرس تقسيم القوتين العظميين المنتصرتين في هذه الحرب، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، العالم إلى مناطق نفوذ لهما، وضمان استمرار النظام ثنائي القطبية الذي قام على هذا الاقتسام. ومن المعروف أن سقوط جدار برلين قد شكل ضربة قاضية لاتفاقيات يالطا التي ولد منها، في 12 فبراير 1945، النظام الجديد، وأنهى بالمناسبة نفسها تقسيم أوروبة بين كتلة شرقية وكتلة غربية، كما دق جرس إعادة توحيد ألمانيا الفدرالية وتطبيع العلاقات بينها وبين الدول الأوروبية الأخرى، وفي مقدمها عدوتها التاريخية فرنسا. وكان ذلك إشعارا بقرب مخاض توحيد أوروبة وولادة الاتحاد الأوروبي الذي يشكل اليوم أحد أهم التكتلات الدولية الناجحة في العالم.
لست متاكدا من أنه سيكون لفتح معبر رفح الدوي نفسه الذي قاد إلى انهيار النظام الأوروبي بل والعالمي القديم وولادة نظام جديد مكانه. لكن ليس هناك شك في نظري في أن فتح هذا المعبر بالقوة الشعبية ذاتها التي أسقط بها جدار برلين قد أعلن كما لم يحصل في أي وقت سابق إفلاس سياسة إسرائيل الفلسطينية وانهيار دفاعاتها التي أقامتها لعزل الشعب الفلسطيني وفرض الاستسلام عليه وحرمانه من حقوقه الوطنية. وفي ما وراء ذلك يحمل هذا الإفلاس في طياته إفلاس النظام الإقليمي الذي نشأ من تطبيق اتفاقيات يالطا المحلية، أقصد اتفاقيات كمب ديفيد الشهيرة (17 سبتمبر 1978) التي أنهت سياسيا حرب أكتوبر 1973 وفككت المعسكر العربي وكرست انسحابه من المواجهة الاسرائيلية، وترك الشعب الفلسطيني يواجه مصيره لوحده أمام إسرائيل منتصرة وعاتية، حليفة استراتيجية للولايات المتحدة. وهو ما مهد لانتصار التيارات المتطرفة في المشروع الاسرائيلي وتبوء اليمين القومي والديني والعنصري الداعي إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهويد جميع أراضي فلسطين وإلحاقها بالدولة العبرية، سدة السلطة في إسرائيل من دون انقطاع منذ أكثر من ثلاثة عقود. وهذا الوضع نفسه هو الذي سيشجع الاتجاهات الامبرطورية في الإدارة الأمريكية ويغذي، منذ وصول بوش الابن إلى السلطة في واشنطن، الحلم الأمريكي بالسيطرة الانفرادية والمباشرة على الشرق الأوسط وإلحاق جميع الدول العربية باستراتيجيتها الدولية.
لا يعني هذا الإفلاس انهيار هذا النظام الإقليمي ولا سقوط الاتفاقيات التي قام عليها ولكنه يمهد لحقبة قادمة من التخبط والانشقاق والتصدع داخل هذا النظام في أكثر من مكان ومستوى، والتي ستنتهي بتقويضه واستبداله بنظام آخر، من المبكر اليوم تحديد معالمه أو التأمل فيه نظرا للسيولة الكبيرة التي تتسم بها علاقات القوى المحلية والإقليمية. ومن بوادر هذا التصدع وأهمها في اعتقادي تفتت جدار العزل العنصري الذي تستند إليه بقوة سياسة إسرائيل التوسعية والاستعمارية العدوانية. ولا أعني بجدار العزل العنصري الجدار المادي الذي بنته سلطات الاحتلال في السنوات الماضية في الضفة الغربية لتكريس قطع الصلات تماما مع الفلسطينيين، وإجبارهم على العيش في معزل لا إنساني، وإنما ذاك الجدار الكامن في الفكر والشعور الاسرائيليين عموما، أعني العنصرية ذاتها التي نمت وترعرعت هي نفسها في حضن الاحتلال، وصارت العامل الأهم في إعادة إنتاجه أيضا. ومنذ الآن سوف تتعالى أصوات عديدة، في إسرائيل والعالم أجمع، أسكتها في العقود الماضية اليأس والاستسلام للأمر الواقع، لتعلن رفضها لسياسة الميز العنصري والحكم على شعب كامل بالحصار الدائم والموت. ومثل ما فرضت الأحداث على القاهرة العودة عن قرار إعادة إغلاق الحدود مع فلسطين، سوف تفرض على إسرائيل التراجع عن سياسة العزل والتجويع الجماعي والتنكيل بالسكان. وفي موازاة ذلك ستسقط أيضا مبررات بناء الجدار العازل الكبير في الضفة الغربية، بقدر ما سيكتشف الرأي العام، في إسرائيل والعالم أجمع، عجز سياسات القمع واستخدام القوة عن تشكيل مخرج أو حل للاحتلال، أي أن تكون بديلا عن الحل الحقيقي الذي هو ببساطة إنهاء الاحتلال بما يعنيه ويتضمنه من سياسات استعمارية واستيطانية.
لكن سقوط هذا الجدار، وما يعنيه من أخراج القضية الفلسطينية من الطريق المسدود يتوقف، منذ الآن وإلى حد كبير، على ما سيحصل في فلسطين وداخل الصف الفلسطيني نفسه. فلن يكون لإسقاط جدار العزل العنصري الاسرائيلي قيمة إذا استمر بإزائه جدار العزل والانقسام والتفتت السياسي الفلسطيني، الذي لم يفصل الضفة عن القطاع فحسب ولكنه فصل الفلسطينيين بعضهم عن بعض، ووضع بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر كالأعداء. ويستدعي هذا تجاوز الاستراتيجيات الحزبية وإعادة بناء الجبهة الوطنية كمقدمة لإعادة توحيد الأرض والشعب الفلسطينيين. وفي هذا المجال تقع على حركة حماس مسؤوليات استثنائية في التحرر من أوهام الاستمرار في بناء دولة مستقلة في غزة والقبول بتنازلات وتضحيات كبيرة في سبيل إعادة الصدقية للسلطة ولمنظمة التحرير، أي للوحدة ا لفلسطينية، والمراهنة على الصراع من داخلهما ومع جميع قطاعات الرأي الفلسطيني لتعديل السياسة الفلسطينية وتقويمها. كما يتوقف على ما سيحصل داخل الدول العربية أيضا، من مبادرات شعبية وردود أفعال تقطع الطريق على إمكانية استعادة المبادرة من قبل النظام الإقليمي الناشيء في حضن اتفاقات كمب ديفيد ومتعلقاتها.
لقد نجح تدمير جدار برلين في تقويض النظام الدولي القديم، وإسقاط نظام القهر السوفييتي الذي قام عليه، بقدر ما قدمت الأوضاع القارية لشعوب أوروبة الشرقية النازعة للانعتاق فرصا للتقدم والاندماج في عملية إعادة بناء إقليمية شاملة رعتها الدول الديمقراطية القوية القائمة. وهو ما يفسر السرعة التي جرى فيها بناء الاتحاد الأوروبي أيضا في غضون سنوات من انهيار الجدار. وفي الشرق الاوسط لن ينجح فتح معبر رفح في كسر حصار غزة ما لم يتحول إلى إشارة الإنطلاق لكسر الحصار المفروض داخل البلاد العربية نفسها على الشعوب، وهدم جدران العزل المشادة في عموم المنطقة بوسائل ومناهج تختلف قليلا او كثيرا عن الوسائل والمناهج الاسرائيلية الفجة، وفتح المعابر الآمنة بين بلدانها وشعوبها.
لكن مهما كان الحال، يشكل ما حدث على معبر رفح إشارة إضافية إلى الاتجاه الجديد الذي تسير إليه الاحداث في المنطقة، وأعني به اتجاه عودة الشعوب، بعد تغييب طويل، إلى الانخراط في الحياة العمومية وانتزاع المبادرة من النظم والقوى الأجنبية معا. ولا ينفصل نمو هذا الاتجاه عما جرى ولا يزال يحصل في المنطقة من تغيرات عميقة تحصل في العمق، ربما كان أبرز أحداثها في السنوات القليلة الماضية انهيار الاستراتيجية الأمريكية الشرق أوسطية وإخفاق الاستراتيجية الاسرائيلية. الأولى بسبب نزعتها الانفرادية الامبرطورية التي وحدت في مواجهتها جميع دول العالم وشعوبه، بما فيها الشعب الأمريكي نفسه، والثانية بسبب تسممها بالفكرة الاستعمارية الاستيطانية وإمعانها في إنكار الحقوق الفلسطينية ومراهنتها الكلية على مراكمة القوة واستخدام العنف لتحقيق أهدافها اللاأخلاقية.

mercredi, janvier 16, 2008

الليبرالية وتجديد ثقافة العرب السياسية

الاتحاد 16 كانون الثاني 08
اخذ علي البعض في مقال سابق استخدام صفة الليبرالية للتعبير عن التوجه العام الذي مثلته وتمثله المعارضة السورية التي ائتلفت في إطار إعلان دمشق. وكنت قد كتبت بالفعل أن نجاح المعارضة الديمقراطية في عقد مجلسها الموسع في الأول من ديسمبر الماضي، بالرغم من الإجراءات الأمنية الاستثنائية التي تمنع التعبير عن أي شكل من أشكال المعارضة، سواء كان باليد أو باللسان أو بالقلب، يؤكد أن حركة المعارضة ليست طفرة سطحية وإنما تعبر عن موجة عميقة تعكس وقائع بنيوية، في مقدمها ولادة نخبة ليبرالية تتغذى من انحسار أفكار الاشتراكية الشمولية على الصعيد الدولي، وتحول البلاد نحو اقتصاد السوق، وما ينجم عنه من تمايزات وتوترات طبقية جديدة، وعطش الجمهور إلى لغة تقطع مع أدبيات البيرقراطية الحاكمة التي فقدت صدقيتها وترفض أن تخضع سيطرتها الطويلة لأي استفتاء شعبي. فقد وجد بعض ممثلي اليسار في هذا الاستخدام تهمة أو ما يشبه التهمة باليمينية. ورد رياض الترك قائلا نحن لسنا ليبراليين وإنما عقلانيين. وشك الليبراليون في أن يكون وراء هذا الاستخدام اتهام يساري لهم وللمعارضة بالمراهنة على الضغوط الأجنبية أو للتفاهم مع القوى الغربية لتحقيق الديمقراطية. ولا يخفى ما تتعرض له الليبرالية عادة من انتقادات من قبل التيارات الاسلامية على اختلافها.
وقد لفتت ردود الأفعال هذه نظري إلى مسألة استخدام المصطلحات في لغتنا السياسية الراهنة التي لا تزال قيد الإنشاء. وأعتقد أننا لن ننجح في بناء كلام أو خطاب متسق في السياسة، ولا بلورة لغة سياسية مفهومة من الجميع، لا تكون مصدر سوء تفاهم متجدد، من دون أن نتغلب على صعوبتين رئيسيتين يعملان كفخ لإمكانية التفاهم، ويحولان دون الفهم والتواصل بين المتخاطبين. الأولى ناجمة عن التعددية الدلالية الطبيعية الكامنة في كل مصطلح، من حيث هو تركيب تراكمي يشبه تماما تركيب الأرض الجيولوجي، لطبقات من المعاني والدلالات الخاصة بالحقب المختلفة التي استخدم فيها، وللسياقات التي شرطت استخدامه. والصعوبة الثانية الأكبر ناجمة عن الانحياز الذي يدفع القاريء إلى اختيار هذه الدلالة أو تلك للمفهوم، وتفسيره حسب ما يخدم مصالحه الايديولوجية أو السياسية، ليبني عليه موقفه الخاص. فالصعوبة الاولى ابستمولوجية بامتياز، يمكن تجاوزها بالتمرن على النظر العلمي والنقدي، بينما الصعوبة الثانية سياسية بالمعنى العميق للكلمة، تنبع من أن الخطاب، أي خطاب، لا يمكن أن يتجاوز شرط الصراع القائم بين الأفراد والجماعات على الموارد المختلفة، وبالتالي نزعة هؤلاء إلى إخضاع المصطلحات إلى حاجات بناء خطاب ينسجم مع طموحاتهم في الوصول إلى المكانة التي يحلمون بها، أو يعكس هذه المكانة ويكرسها من خلال تعميم الدلالة وضبط المعنى أو السيطرة عليه في مواجهة "معاني" الآخرين "الخصوم" وخطاباتهم أيضا.
ومن هذه المصطلحات الرائجة اليوم، والتي تشكل شركا للفكر بقدر ما تمثل ضرورة لفهم الواقع الدولي والمجتمعي الراهن، مصطلح الليبرالية. فهي تصف سياسة سائدة تؤكد على نجاعة منطق السوق في تنظيم الحياة الاجتماعية والدولية، في مواجهة سياسات التخطيط الحكومية أو إخضاع العملية الاقتصادية لمنطق سياسي أو أخلاقي قادم من خارجها. كما تصف موقفا فكريا وسياسيا يعبر عن فكر أولئك الذين قادوا منذ القرن الثامن عشر حركة التحرر من وصايات الدولة والكنيسة التي كبلت الأفراد وأجهزت على حرياتهم الفردية، وبالتالي حقوقهم الطبيعية. ففي الحالة الأولى تتساوى الليبرالية مع سياسة تحرير التجارة وإطلاق يد رأس المال من دون قيود والاحتكام إلى قانون المنافسة الاقتصادية. وهو ما يمكن وصفه بالرأسمالية المتجردة من أي قيود أو وصاية اجتماعية. وفي الحالة الثانية تتساوى الليبرالية مع الديمقراطية من حيث أنها دعوة كل فرد إلى التحرر من الوصايات الخارجية، وإلى تحمل المسؤولية إزاء نفسه والمجتمع الذي يعيش فيه، ومقاومة كل أشكال تقييد الحرية وانتهاك حقوق الانسان، من أي مصدر جاءت، بما في ذلك رأس المال والسلطة الاقتصادية. وتتضمن الفلسفة الليبرالية بهذا المعنى فرضية تقول بإمكانية المراهنة على قدرة الأفراد في تطوير ملكاتهم والدفاع عن مصالحهم والتفاهم والتواصل في ما بينهم إذا أزيلت من طريقهم عوامل القهر والقمع التي كانت من سمات النظم الدولوية التقليدية.
والموقفان، كما اكتشف ذلك ماركس، لا يتفقان. فكلاهما ينفي الآخر. ولا يمكن تجاوز التناقض الجذري الذي يميز العلاقة بينهما إلا بالدمج الافتراضي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية، أي إلا باعتبار الديمقراطية التعبير السياسي عن الرأسمالية، والاعتقاد بأن حرية السوق وحرية الفرد السياسية أمران مترابطان ومتماهيان تماما. وهذا هو أساس تحويل الليبرالية إلى ايديولوجية طبقة اجتماعية. وكما أثارت المطابقة بين الحرية السياسية والسياسات الرأسمالية اليمينية في مرحلة صعودها الأولى، ردود فعل قوية، عبرت عنها الايديولوجيات اليسارية الثورية التي وحدت بين الحريات الفردية والسيطرة الرأسمالية. يثير انبعاثها اليوم، ردود أفعال مشابهة لدى الجماعات القومية الاتنية والدينية، التي تمثل الاسلاموية أحد أهم تنويعاتها، بقدر ما تبدو الديمقراطية مرتبطة فيها بالأمبريالية أو بالسيطرة الأجنبية.
وبالمثل، ليس هناك ارتباط حتمي بين نزعة الحرية والانعتاق التي تعبر عنها الليبرالية ونزعة العداء للدين، حتى لو أن وجود الأخيرة ما كان ممكنا من دون نشوء النزعة العقلية والانسانية. ولا بينها والبرامج الاجتماعية اليمينية، ولا الرأسمالية كمنظومة اقتصادية، حتى لو أنها لم تكن ممكنة من دون تطور المجتمع الصناعي الذي حملته الرأسمالية. فالفلسفة الليبرالية هي التي أسست لحرية الاعتقاد، وكانت ولا تزال الملهم الرئيسي لحركات مقاومة الرأسمالية ومناهضتها. وبعكس ما هو شائع اليوم، لم تأت الفكرة اليسارية كنقيض لقيم الليبرالية، وإنما جاءت من داخلها، وباسم تحقيقها الفعلي، أعني قيم الحرية والانعتاق الكامل للفرد من الاستلابات المادية والايديويولوجية المتمثلة في نظر ماركس في سيطرة الملكية الخاصة والاستغلال الطبقي والوعي الزائف. وهذا ما سعى ماركس إلى إبرازه موجها نقده إلى الرأسمالية، التي فتكت بقيم الليبرالية وخانتها بقدر ما أسست لديكتاتورية رأس المال وأصحابه، وليس لليبرالية ذاتها. ولم يكن لمشروعه الشيوعي غاية أخرى سوى التحقيق الفعلي لقيم الليبرالية وغاياتها. هكذا كان ماركس سليل الفكر الليبرالي وثمرته. ولا يغير ذلك أنه كان مفجره أيضا بقدر ما دفع طروحاته النسبية إلى حدودها القصوى.
كذلك، ليس هناك أي علاقة حتمية بين الليبرالية والتبعية للغرب أو للسيطرة الأجنبية والخضوع للمؤسسات الدولية الرأسمالية كما يبدو لنا اليوم. فقد اهتم الليبراليون الأوائل ببناء الأسواق القومية باعتبارها مفرخة للرأسماليات الوطنية. وكان دفاعهم عن السيادة مرتبطا بايمانهم بأن الدولة لا تخضع لأي مرجعية أخرى غير مرجعية الإرادة العامة للمواطنين المكونين لها.
والقصد أن أشكال تحقيق الليبرالية في التاريخ تخضع لشروط وجود وحياة المجتمعات والبلدان والنخب الحاكمة وتراثها، أكثر مما تعبر عن اتساق الفكرة نفسها. ولهذا سوف يقدم لنا التاريخ ليبراليين من كل الأصناف، منهم من يتبع سياسات قومية تركز على حماية السوق الداخلية من المنافسة الأجنبية. وآخرون يؤكدون على دعم سياسات امبريالية واليوم عولمية تهدف إلى توسيع هامش المبادرة الاقتصادية. وفريق ثالث، خاصة في البلدان الفقيرة والتابعة، ينزع، بسبب وجوده المأزوم وضعف القاعدة المادية لنظامه، إلى المراهنة على المعونة وأحيانا الحماية الخارجية. لكن ليست هذه السياسات جميعا جزءا من الفلسفة الليبرالية ولا امتدادا ضروريا لها. فالليبرالية غير الليبراليين ولا ينبغي تخفيضها إلى مستوى ممارساتهم التاريخية، تماما كما أنه لا ينبغي توحيد الفكرة القومية آليا مع أي سياسة تمارسها هذه النخبة القومية أو تلك. وهو ما ينطبق أيضا على الفكرة الاشتراكية والاسلامية. وبالمثل ليس لليبرالية كفلسفة مدنية وسياسية علاقة ضرورية مع اقتصاد السوق. فهو سابق عليها، وإنما هناك سوق رأسمالية، وسياسات اقتصادية تتغير معالمها وآليات عملها أيضا من حقبة لأخرى ومن بلد لآخر، تتخذ من الليبرالية غطاءا ايديولوجيا ومصدر شرعية لها.
وفي اعتقادي إن الليبرالية من حيث هي فلسفة أخلاقية وسياسية، لم تفقد مكانتها كمصدر للقيم الرئيسية التي تحرك مجتمعاتنا وتوجه ثقافة عصرنا. فهي تكمن في قلب الحداثة من حيث هي تحرير وانعتاق للإنسان. وما سوف ينشأ من ثقافات سياسية، تقلل من أهمية الحريات الفردية، أو لا توليها أي أهمية، ولا تعتبر أن لها أي أسبقية منطقية أو سياسية في تحقيق أهداف الجماعات وبناء نظمها السياسية، مثل الثقافة الشمولية والعصبية الجمعية القومية أو غير القومية، وفي أيامنا الراهنة الرؤية الاسلاموية، ليست جميعا سوى أشكال من ثقافة المقاومة والاعتراض والاحتجاج على الثقافة الليبرالية السائدة وقيمها. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن لا يكون تاريخ الاجتماع السياسي الحديث سوى سجل الصراع بين ثقافة الليبرالية السائدة من جهة وايديولوجيات الاحتجاج التي تسعى إلى تقييدها أو إخضاعها لمنطق آخر غير منطق التطابق المفترض بين اقتصاد السوق ودولة الحرية، ولمعايير تنبع من الحرص على الانسجام والتكافل الاجتماعيين. وهو ما سوف يتجسد في تناوب حقبتين جيوثقافيتين على التوالي، ليبرالية وضد ليبرالية. فبقدر ما تقود الحقبة الليبرالية التي تراهن على توسيع هامش استقلالية الأفراد إلى نمو قيم الفردية، وتعمق في سياق ذلك نزعة الأنانية وتراجع آليات التضامن والتكافل المجتمعي، تمهد الأرض لعودة أشكال من الدولة الشمولية المتماهية مباشرة مع الجماعة القومية أو الدينية كجماعة عضوية، والمعادية للاستقلالية الفردية. وليس هناك شك في نظري أن العالم يعيش اليوم انبعاثا ليبراليا، نشأ كرد فعل على ما عرفته الثقافات الشمولية على مختلف أنواعها، القوموية والشيوعية والاشتراكية الوطنية، من هدر لاستقلال الأفراد وتضحية بحرياتهم واستقلالهم الفكري والسياسي الذي قاد بالضرورة إلى انحطاط شامل في النظام المجتمعي بأكمله. وهذا الانبعاث يشرط تفكيرنا جميعا، ويحدد أفق عملنا ونشاطنا.
فنحن اليوم، يساريين ويمينيين، إسلاميين وقوميين، اشتراكيين ورأسماليين، ليبراليون بالمعنى السياسي والثقافي، أي تحرريون نؤمن بأن ضمان الحريات الفردية ودولة القانون شرط ضروري لبناء منظومتنا السياسية والاجتماعية المدنية أيضا، بصرف النظر عن برامجنا الاجتماعية والقومية الخاصة وأهدافنا. بهذا المعنى أصبحت الليبرالية، بوصفها ثقافة الحرية، معيارا مشتركا لفكرنا السياسي، وقاسما مشتركا يجميع بيننا. وهي تمثل اليوم، بعد انهيار الصيغ الدولوية التي سيطرت في الحقبة الماضية، مرجعية الحقبة التاريخية التي نعيش، في كل مكان. ومن يرفض التفاعل مع هذه المرجعية، إسلاميا كان أم قوميا أم يساريا أم يمينيا، يدين نفسه بالعزلة والانكفاء والديناصورية.
بالمقابل، لا أعتقد أن لدينا في العالم العربي فكر ليبرالي مكتمل، بأي معنى من هذه المعاني، ولا اقتصاد ولا حزب وبالاحرى حكم ليبرالي. وما نعرفه منها في مجتمعاتنا لا يتعدى ممارسات شبكات مصالح ورجال أعمال تنتمي بشكل أكبر إلى منطق الصراع الوحشي وغير المضبوط على الموارد أكثر مما تعبر عن قيم الليبرالية، حتى في أسوأ تعبيراتها يمينية، وسياسات حكومية فوضوية، ونزوعات فكرية شبه ليبرالية تربط بين السياسات التخصيصية، والتبعية الاستراتيجية للغرب، والدفاع عن نظم سياسية مؤسسة على الاقصاء والاحتكار، وإعدام الحريات الفردية والجمعية، والتلاعب بالإرادة الشعبية. وتكاد هذه التوجهات جميعا، لسوئها الواضح وعواقبها المأساوية، تخجل من الافصاح الصريح عن ذاتها، أو من إعطاء نفسها اسما صريحا حتى لا تؤخذ بتهمة الخيانة الفكرية، وتجهد كي تبقي ليبراليتها المجهضة والمشوهة، متخفية تحت رداء من الطروحات الايديولوجية الاسلامية أو القومية أو العلمانية.
من هنا، يبدوا لي أن الهجوم الدائم لبعض تيارات لاسلام السياسي واليسار العربي على الليبرالية لا يمس بسوء سياسات الرأسمالية المتوحشة التي تعرفها اليوم مجتمعاتنا، ولا التبعية البنيوية التي تستبطنها، كما يعتقد أصحابها، وإنما تستخدم بشكل رئيسي لقطع الطريق على روح التحرر والانعتاق الناشئة، التي توحدها خطأ مع الرأسمالية والسيطرة الاجنبية. ولا تستفيد من هذا الهجوم اليوم سوى النظم التسلطية التي تريد أن تقتل هذه الروح في مهدها. ولن تكون ثمرة تسفيه الليبرالية ودفن أفكارها وفلسفتها سوى الحكم على مجتمعاتنا بالغرق أكثر في الرثاثة الثقافية والإستغراق في اجترار التراث والحياة فيه.
لا يعني ذلك الكف عن نقد الليبرالية، تماما كما لا يعني تقديس الحداثة وقيمها، وإنما التمييز في هذا النقد، من جهة أولى بين معاني الليبرالية ووجوهها المختلفة، حتى لا نرمي الوليد مع ماء الولادة، ومن جهة ثانية بين الفكرة الأصلية وتطبيقاتها على يد هذه النخبة أو تلك. وكما ان من المفيد أن نفصل بين الليبرالية السياسية التي تؤسس للديمقراطية، والليبرالية الاقتصادية، كما أخذت تشيع منذ خطف اليمين الرأسمالي فكرة الحرية الفردية ودمجها مع سياسات اجتماعية لا تأخذ بالاعتبار إلا مصالح تراكم رأس المال، من المفيد كذلك أن نفصل الليبرالية عن التبعية للدول الغربية، ولا نعتبر أي ليبرالي حليفا كامنا للقوى الاستعمارية، كما يفعل كثير منا اليوم. فمن دون تمثل الليبرالية، أي استيعاب قيمها ومفاهيمها ونقدها معا، لن يكون بإمكاننا، مهما فعلنا، تجاوزها، وأهم من ذلك سيكون من المستحيل علينا أن ننجح في تخصيب ثقافتنا البالية وبناء حياة فكرية حقيقية وتجديد أسس حياتنا السياسية.

dimanche, janvier 06, 2008

الجماعة والجماعة السياسية والمواطنة

تعليق على ورقة المستشار طارق البشري
الجماعة السياسة والمواطنة من منظور إسلامي
ندوة القومية والدين، الاسكندرية، 11-12 ديسمبر 2007

يقدم لنا المستشار طارق البشري في ورقته رؤية منفتحة لمسألة المواطنية في منظور ما أصبح يسمى الاسلام السياسي، بجميع تياراته، تمييزا له عن الاسلام الذي لا يمكن أن يحتكر أي شخص او تيار سياسي حق الكلام باسمه أو تفسير نصوصه الأساسية. بيد أن هذا الانفتاح لا يمنع من أن مسائل كثيرة لا تزال تحتاج إلى مناقشة وتطوير في هذه الرؤية الاسلاموية للمواطنية. وأكتفي هنا بالإشارة إلى نوعين منها، تتعلق الأولى بمفهوم الجماعة والجماعة السياسية نفسها، وهو ما يستمد منه مفهوم المواطنية معناه، وتتعلق الثانية بمسألة مرجعية الدولة الاسلامية أو المرجعية الاسلامية للدولة.
1- في مفهوم الجماعة والجماعة السياسية
يعرف المستشار الجماعة السياسية بأنها "... مجموعة من البشر تتحدد بوصف لصيق يشملها ويميزها عن غيرها من المجموعات، وهي مرشحة لأن تقوم على أساسها الدولة، وإذا كانت المواطنة هي صفة الفرد الذي ينتمي إلى جماعة سياسية قامت على أساسها الدول، وبحسبان أن المواطن هو الطرف المقابل للدولة، فقد وجب النظر في مدى ما تنتجه المواطنة للمندرجين في وصفها من حقوق متساوية".
من الواضح أن هذا التعريف يربط بشكل تلقائي بين مفهوم الجماعة عموما ومفهوم الجماعة السياسية، فلا يلحظ أي تمييز بين أنماط الجماعات السياسية، تلك التي تقوم على أساس رابطة الدين وتعطي مفهوم الأخ المؤمن، وتلك التي تقوم على رابطة السياسة وتعطي مفهوم المواطنية. والحال، ليس جميع الجماعات جماعات سياسية، وليست كلها مؤهلة لتوليد جماعة سياسية، وليست الجماعات السياسية الناجمة عنها متشابهة في معناها ومضمون سياسيتها. والقصد أن نصاب السياسة ليس واحدا، وليست ماهية السياسي متطابقة في كل العصور والأقطار. نصاب السياسة في العصر الوسيط ليس هو في العصر الحديث. وهو ليس في العصر الوسيط بالمضمون ذاته في القطر الأثيني والقطر المصري أو العراقي. بمعنى آخر، لا تتأسس الدولة، محور السياسة وغايتها، على الأركان ذاتها في كل حقبة وكل مكان. فقد تقوم الدولة على الدين، كما يمكن أن تقوم على القومية، كما يمكن أن تقوم على القانون، وتكون دولة ديمقراطية قانونية. ونصاب السياسة، أي مشمولاتها من مجالات وطرائق ووسائل وغايات، ليست واحدة في كل الحالات. وما نسميه دولة في الحضارة الإسلامية الكلاسيكية ليس له علاقة بمفهوم الدولة الحديثة، كما نعرفه في العصر الراهن، وإن كان يشكل نمطا من أنماط الكيانات السياسية.
قد تكون الرابطة الدينية أساسا لرابطة سياسية، وقد تتطابق جماعة الدين مع جماعة الدولة، أو الجماعة السياسية، لكن هذا ليس شرطا، ولا يمثل الحالة السائدة في التاريخ. وهو في العصر الحديث أكثر ندرة من أي فترة سابقة. فلا توجد اليوم جماعة دينية متطابقة تماما مع الجماعة السياسية، ولا يستثنى من ذلك الدول القائمة صراحة على الرابطة الدينية، مثل إسرائيل وباكستان. وبالعكس لا تقوم السياسة اليوم، من حيث هي تحقيق لسلطة ودولة، من خارج الرابطة السياسية. ذلك أن السلطة والدولة الحديثتين تستدعيان كشرط لهما تراجع أسبقية علاقات العصبية الطبيعية أو شبه الطبيعية لصالح نشوء علاقة مواطنية قائمة على وحدة القانون ومساواة المواطنين أمامه معا.
وليست العلاقة بين الجماعة السياسية والدولة واحدة في كل الأنماط السياسية. فعلاقة الدولة بالجماعة الدينية في الحقبة الاسلامية ليست من النوع ذاته الذي يحكم علاقة الدولة الحديثة بالأمة. فالدولة في النمط الأول مضافة إلى الجماعة من خارجها، أو آلة قهر خاصة تسندها شرعية دينية مستمدة من مطابقة تشريعاتها، فعليا أو شكليا، لأحكام الشريعة الدينية أو ما يعتقد أنه كذلك. أما الدولة الحديثة، في شكلها المكتمل الديمقراطي، فهي دولة معبرة عن الجماعة ومنبثقة عنها. بل هي الجماعة ذاتها وقد تجسدت في شكل مؤسسي منظم. وهي تستمد شرعيتها من نفسها، أي من آلية التمثيل الديمقراطي نفسه المعبر عنه في مجلس تشريعي منتخب. في الحالة الأولى تكون الدولة سلطانية، خاضعة للعصبية التي تستبد بسلطتها وتسيطر عليها، وتخضع من خلالها المجتمع لنظام ثابت. وفي الحالة الثانية تكون دولة أمة، تعكس نشوء رابطة سياسية تجمع بين مواطنين، وتترجم إرادتهم في العيش المشترك، وترجع إليهم في كل ما يتعلق بمصالحهم العامة والخاصة، وتعمل من خلال مباديء دستوية وقانونية واضحة ومضبوطة، من حيث أسلوب التشريع وضبط أصوله وقواعد عمله وتعديله.
وكما يتطلب تحديد مفهوم الجماعة التدقيق في الدلالات المختلفة لمصطلح الدولة، السلطانية والديمقراطية، يتطلب تحديد مفهوم الدولة التدقيق في استخدام مصطلح الامة. فالأمة بالمعنى الديني، وهنا الأمة الاسلامية، ليست هي نفسها المقصودة بالمعنى الوضعي، أي الأمة الحديثة المواطنية. فعندما نتحدث عن الامة أو الجماعة السياسية اليوم فنحن لا نشير إلى الجماعة الدينية، أو إلى الجماعة الدينية بوصفها جماعة سياسية، ولكن إلى رابطة سياسية مختلفة كليا عن الرابطة الدينية، من دون أن تكون نقيضا لها أو في صراع معها. وهذا التمييز مهم جدا في نقاشنا حول الأوضاع العربية الراهنة التي لا تتطابق الدول القائمة فيها مع الجماعة الدينية بأي شكل. وعلى سبيل المثال، عندما نتحدث عن إجماع الأمة، من منظور الفقه الاسلامي، ونعني به إجماع الأكثرية الإسلامية في هذا البلد أو ذاك، فنحن ننفي وجود الأمة بالمعنى السياسي، ونرد الرابطة السياسية الجديدة، ربما من دون أن ندري، إلى الرابطة الدينية، ونجعل من غير المسلمين حتما مواطنين مختلفين أو مغايرين، يمكن أن نفكر بأفضل السبل لمعالجة مشكلتهم وضمان العدالة تجاههم، وحتى المساواة، إلا أننا ندمر معنى الأمة بالمعنى الحديث الذي يعني الرابطة السياسية المستندة إلى وجود دولة وسلطة مركزية موحدة وقانون، تتعامل مع المجتمع كأفراد لهم حقوق وعليهم واجبات، أي كأفراد متساوين أمام القانون، ولا تنظر في اعتقاداتهم سواء أكانت دينية أو غير دينية، ولا يهمها إصلاح هذه الاعتقادات أو التدخل في شؤونها. هذا مفهوم آخر للأمة يشير إلى رابطة سياسية قانونية تجمع بين الأفراد بصرف النظر عن اعتقاداتهم، يختلف كليا عن مفهوم الأمة بمعنى الجماعة الدينية التي تؤلف بين أفراد ينتمون إلى عقيدة واحدة هي محور إئتلافهم، وبالتالي وبالضرورة مرجعهم في كل ما يصدر عنهم ويؤسس لوجودهم، بما في ذلك الدولة التي ينضوون تحت جناحها.
وربما كان من الأنسب لإزالة الالتباس استخدام مصلح الرابطة السياسية التي تمر حتما عبر الدولة، سواء أكانت قائمة فعلا أو في مسار التكوين، كما هو الحال لدى الحركات القومية الحديثة. فكما ذكرت ليست سياسية أو منتجة لنصاب سياسي وبالتالي لدولة أي جماعة أو رابطة بين الأفراد. رابطة الدين والعقيدة والعصبية القبلية والعائلية ليست رابطة سياسية، وليست منتجة تلقائيا، مهما توسعت دائرة نفوذها وانتشارها، لرابطة سياسية. حتى تتحول كل منها أو بعضها إلى رابطة سياسية لا بد أن تطرأ عليها، أو تكون قد طرأت عليها، تحولات عميقة، أي حصلت فيها طفرة، تنتقل بموجبها روح التكافل من إطار العصبية المرتبطة بمشاعر القرابة العضوية، العقيدية أو الدموية، إلى إطار الوعي السياسي بمصير مشترك مرتبط بوجود الدولة، وبالوجود معا داخل الدولة، وبالمسؤولية عنها. لذلك لا تنفصل الأمة بالمعنى السياسي الحديث عن وجود الدولة، ولا يمكن التفكير فيها خارجها. وحتى عندما يكون الوعي السياسي مرتبطا بمشروع أمة تتجاوز حدود الكيانات السياسية القائمة، كما هو الحال بالنسبة للقومية العربية، فإن فكرة الأمة لا تستقيم من دون التفكير بدولة الوحدة. بل إن مبرر وجود القومية العربية وهدفها هو تكوين الدولة الواحدة. فالأمة بالمعنى السياسي، أي كرابطة بين أفراد يوحدهم الولاء للدولة القائمة والخضوع لقوانينها، لا تنفصل عن الدولة بالمعنى الوضعي، أي كنتاج إرادة الأفراد واختياراتهم، بما في ذلك، بل في مقدمة ذلك المباديء والقوانين التي تقوم عليها.
وعدم التمييز بين مفهوم الأمة بالمعنى الديني والمعنى السياسي هو الذي منع المستشار من إدراك أن الحديث عن أكثرية وأقلية دينيتين، حتى في إطار الدفاع عن مبدأ المساواة، لا معنى له في إطار المفهوم الوطني للدولة. إذ متى ما طبقت فكرة الأمة بالمعنى الحديث الذي يجعل منها التجسيد السياسي لإرادة أعضائها، بصرف النظر عن أصلهم ودينهم، تساوى أفرادها امام القانون، وأصبحوا شركاء متساوين في مشروع أو شركة واحدة هي الدولة، ومنتمين لقانون هو ثمرة اختيارهم وإرادتهم الحرة، ولم تعد الاعتقادات الدينية مكانا للتعريف داخل الدولة وعلى مستواها، حتى إن استمرت محددا أساسيا على مستوى الحياة المدنية والأهلية. وتنتفي في هذه الحالة الحاجة إلى التذكير بالنسبة العددية لهذه الجماعة أو تلك إلى مجموع السكان، ولا يعود لهذه النسبة أيضا أي قيمة في تحديد العلاقة بين الفرد المواطن والدولة. فليس للمسلم أو لا ينبغي أن يكون له، في منظور الدولة الديمقراطية القائمة على المساواة في المواطنية، مزايا خاصة في علاقته بالدولة تترتب على انتمائه إلى جماعة تشكل أكثرية دينية، ولا للمسيحي واجبات مختلفة أو أكثر لأنه ينتمي إلى جماعة تمثل أقلية دينية. بمعنى آخر ليس للحديث عن أقليات واكثريات دينية أي معنى في ميدان العلاقة بين الدولة والمواطن الفرد، ولا بالتالي للكلام في المساواة بين الجماعات الدينية أو إنصاف جماعة ضد أخرى، بسبب حجمها أو موقعها، اللهم إلا على سبيل احترام خصوصية بعض الجماعات الثقافية.

2- مسألة مرجعية الدولة الاسلامية
في هذه المسألة أيضا، يبدو لي أن من الصعب جدا، انطلاقا من منطق الفكر السياسي الحديث، فهم الاستنتاج الذي يتوصل إليه سيادة المستشار عندما يكتب مثلا في نهاية بحثه:
" والحال أن الدستور عندما يؤكد على إسلامية الدولة، فهو يؤكد أيضًا على حقوق المساواة بين المواطنين جميعًا، ويؤكد الحقوق المتساوية المستقاة من مبدأ المواطنة، وهو بهذا الجمع بين النصّ على إسلامية الدولة وأن مرجعيتها هي مبادئ التشريع الإسلامي، والنصّ على المساواة بين المواطنين، إنما يكون قد اعتمد من وجهات النظر الإسلامية ما يؤكد على المساواة بين المواطنين، ويكون قد أقرّ بأن المساواة بين المواطنين هي مما يعتمده من المبادئ المستندة إلى الفقه الإسلامي. والمعروف في أصول الفقه الإسلامي أن لولي الأمر - إمامًا كان أو قاضيًا - أن يرجح من الآراء التي يسعها الفقه الإسلامي ما يرى ترجيحه، فيصير هذا الرأي هو ما يكتسب الشرعية في الحالة العينية التي رجح فيها، وذلك كله ما دامت وجوه النظر الفقهي تسع هذا النظر".
ربما كان المقصود أن دين الاسلام هو دين المساواة بين البشر، والدولة التي تعلنه مرجعا لها لا يمكن إلا أن تكون دولة مساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن اعتقاداتهم الدينية. لكن في هذه الحالة من الذي يحدد مباديء التشريع الاسلامي ويسهر على تفسيرها، وما الذي يضمن أن لا يزوغ الفقيه الذي سيتولى تلك المهمة، إماما كان أو قاضيا، عن الحق ما دام لا يخضع لمرجعية أخرى سوى مرجعية النص الذي يملك وحده، أو يعتقد أنه يملك مفتاحه؟ وكيف يمكن أن تستقيم المساواة، بين المواطنين، مسلمين ومسيحيين ولا متدينين، إذا كانت الدولة وقوانينها مستمدة من شريعة أو ما يعتقد أنه شريعة فئة واحدة منها؟ لعل المستشار يرى في المساواة نوعا من التوزيع العادل أو الاحترام المتبادل للحقوق، وهنا حقوق الأقليات الدينية بشكل خاص. لكن ما هو الموقف من حق المواطنين من غير المسلمين في المساهمة في صوغ قوانين البلاد وتشريعها؟
من الواضح أن طارق البشري لا يأخذ تماما بالنظرية الفقهية التقليدية التي تقر بمشاركة غير المسلمين في قضايا التنفيذ والتفويض، مع الاحتفاظ بقضايا التشريع أو بكل منصب يتضمن التشريع، حكرا على المسلمين. لكن الأسلوب الذي يختاره لتجاوزها، وإن نجح في الالتفاف على الاعتراضات القديمة، إلا أنه يعجز عن تلبية حاجات بناء منطق مواطني جديد. فهو يبيح ولاية المرأة وولاية غير المسلم في المناصب التشريعية، انطلاقا من التأكيد على أن الشخص لم يعد هو صاحب القرار في الدولة الحديثة وإنما هو يعمل ضمن مؤسسة، تضبط عمله وتتحكم هي نفسها بقراره، وبالتالي فلا حرج في أن يتولى المسؤولية العليا في هذه المؤسسات، غير مسلم. لكن هذا التخريج الفقهي الجميل لا يستقيم في الواقع إلا إذا كانت هناك ضمانة في أن تبقى المؤسسات خاضعة للإسلام أو محكومة بمنطق الشريعة الاسلامية. وهذا هو هدف التاكيد على المرجعية الاسلامية للدولة، وفي ما وراء ذلك، العداء غير المفهوم في نظري لمفهوم علمنة الدولة، أو إخضاعها لإرادة مواطنيها من دون فرض التزام ديني أو عقائدي عليها. وهذا يشبه ما كان عليه الامر في النظم الشيوعية أو القومية المرتبطة بثوابت تحد من سيادة الشعب وتؤطر قراراته ضمن صيغة لا تفيد إلا من يضعون انفسهم في موقع الوصاية على الدولة والشعب، أعني حماية العقيدة ونقاءها.
يبدو لي أن هناك مشكلة لا يمكن حسم مسألة المرجعية الاسلامية، أي علاقة المسلمين بالدولة، والعرب منهم بشكل خاص، من دون الاجابة عنها. وهذه المشكلة تنبع من الشعور السائد عندنا نحن المسلمين بأن كوننا أكثرية من السكان يرتب لنا حقوقا على الدولة، أو يعطينا الحق في حيازة حصة أكبر منها، وبشكل خاص في ما يتعلق بالمرجعية والتشريع. كما لو كانت هناك حقوق إضافية للأغلبية الدينية تمكنها من المطالبة بجعل دينها مرجعية للدولة. وهو ما يؤدي حقيقة إلى قطع الطريق تماما على بناء مفهوم الدولة والجماعة السياسية.
والحال إن الأغلبية الوحيدة المعترف بها رسميا في الدولة الحديثة هي الأغلبية السياسية. على الأغلبية الدينية أن تعبر عن نفسها عبر الأغلبية السياسية لا أن تفرض نفسها عليها من خارجها. هذه هي قاعدة العمل في الدولة الديمقراطية. ولكل دولة قاعدة عمل. لا يمكن وضع قاعدة الأغلبية الدينية والأغلبية السياسية معا. هذا يخلق تناقضا لا يمكن تجاوزه، هو ما نعيشه ويحرمنا من التقدم. علينا أن نقر بقاعدة الاغلبية السياسية التي لا تعني أبدا نفي الأغلبية الدينية، وإنما تمييز إطار التعبير عن كل منهما: السياسية في الدولة وفي كل ما يتعلق بالعلاقة معها، والدينية في المجتمع وكل ما يتعلق بالهداية الروحية والتربية البشرية والصراع على حقل الثقافة وتكوين الوعي وتسويد القيم الاجتماعية. فميدان الدين هو الجدال، أي الوعي والعقل والروح، لأن الدين يخاطب الإنسان والعقل، وميدان السياسة هو الأصول الإجرائية والقانونية التي يقوم عليها النظام العام، والتي تهدف إلى تنظيم أمور الهيئة الاجتماعية الاعتبارية، والسهر على شؤونها، والعناية باستقرارها وتقدمها وازدهارها.
لا يمكن للمسلمين أن يطالبوا بحقوق إضافية أو بمزايا خاصة للأغلبية الدينية في إطار علاقتهم بالدولة، إذا كانوا يريديون بالفعل دولة ديمقراطية، قائمة على علاقة بين مواطنين أحرار، ومكونة لحريتهم ومساواتهم أو لمواطنتهم معا. وليس من المنطق أيضا أن يسعوا إلى ذلك بينما هم أغلبية تتمتع بحكم الواقع بمزايا الأغلبية، وتفرض حتما، ومن دون اختيار، ثقافتها ورموزها وأذواقها على المجتمع ككل. من يحتاج إلى اتخاذ احتياطات، وربما المطالبة بمزايا خاصة أو باستثناءات، هي الأقلية الدينية أو القومية. ولا يمكن لمطالبة الأغلبية بمزايا فوق ما يقدمه لها وزنها العددي النسبي منها، إلا أن يفسر على أنه محاولة لقطع الطريق على مطالبة الأقليات بحقوقها المتساوية، أي على نشوء مواطنية متساوية وحرة بالفعل، بعيدة عن أي إكراه. في إطار نظام سياسي يعتمد قاعدة الأغلبية السياسية ويأخذ بالديمقراطية والمساواة بين أبناء الدولة جميعا، تعمل هذه النزعة بعكس المطلوب. أقصد أن من المفروض أن تقدم الأغلبية الدينية أو القومية التي لا خطر على هيمنتها الثقافية، هي نفسها، ضمانات تطمئن الأقلية الدينية أو القومية وليس العكس.
متى ما نظرنا إلى الأمة بالمعنى السياسي وصرفنا النظر عن التميزات الدينية والإتنية، لم يعد هناك معنى للحديث عن مرجعية إسلامية. فالاسلام مرجعية الجماعة المسلمة والمسلمين، بصرف النظر عن صفتهم كمواطنين، وعن الدولة التي هم مواطنون فيها، أو بالإضافة إلى مواطنيتهم، التي لا ينبغي أن يزيدها الانتماء لدين ولا ينقص منها الانتماء لدين آخر قوة أو قيمة. لكن مرجعية الدولة لا يمكن أن تكون سوى الشعب، أي مجموع الأفراد المنضوين تحت لواء الدولة، والمسؤولين عن تسييرها والمشاركة في صوغ تشريعاتها وتطبيق قوانينها. وهذا هو معنى العبارة : الشعب مصدر السلطات، وإليه يكون الرجوع حتما، عبر الانتخابات والاستفتاءات، كلما تعرض المجتمع لأزمة، أو حصل اختلاف في تفسير القوانين والنصوص. والحديث عن مرجعية إسلامية مسبقة تحدد سقف الحرية والعدالة والمساواة في الدولة يعنى وضع شرعية أخرى إلى جانب الشرعية الديمقراطية المتمثلة في إرادة الناخبين وقبولهم، هي الشرعية الدينية التي لا يمكن أن تتحقق من دون وصاية فقهية تحدد، كما هو الحال في الجمهورية الاسلامية الايرانية اليوم على سبيل المثال، تطابق قوانين البلاد المشترعة في المجلس النيابي مع أحكام الفقيه الولي أو الوصي، أي مع إرادة المرشد العام للثورة او للدولة.
وبعكس ما يعتقد أصحاب نظرية مرجعية الدولة الاسلامية، لا تكمن المشكلة الرئيسية في هذه النظرية في تحويلها غير المسلمين إلى مواطنين من الدرجة الثانية، أو في ما يمكن أن تسببه من انتقاص في حقوقهم وتمثيل مصالحهم، وإنما، أخطر من ذلك، في قطع الطريق على نشوء علاقة مواطنة فعلية، وإجبار المسلمين على التصرف باعتبار كل فرد منهم عضوا في طائفة دينية، قبل أن يكون مواطنا حرا وعضوا في دولة ، أي حرمان المسلمين أنفسهم من صفة المواطنين، وتحويل الدولة إلى زعامة قبلية. فما يميز الطائفة عن الجماعة الدينية هو بالضبط قيامها على مبدأ العصبية الذي لخصه القدماء في عبارة قوية : أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، أي إلى ما يشبه القبيلة التي تتصرف بدافع التضامن العصبي ضد قبائل أخرى. فيصبح مصير المسلم وتفكيره مرتبطين بمنطق الدفاع عن العصبية القبلية التي تمثلها جماعة لم يعد فيها أحد يحتكم إلى العقل ولا يستند في سلوكه إلى مباديء الايمان وقيم الدين الأخلاقية والإنسانية، وإنما إلى مصلحة الطائفة ومكانتها وموقعها في الدولة. إن مشكلتها كامنة في تجريد المسلم نفسه من حقوقه في أن يكون فردا حرا ومستقلا ومجتهدا في الدين وفي السياسة معا، من دون كنيسة ومن دون كهنوت ومن دون زعامة دينية طائفية مفترضة، وبالتالي في مصادرة إرادة المسلمين كأفراد من أجل تكوين زعامة عصبية تحكم باسمهم في إطار الصراع على الموارد وتوزيع الحصص في دولة فرغت من مضمونها، وأصبحت ضحية تفاهم زعماء الطوائف ونزاعاتهم الأبدية، على مثال ما هو قائم في لبنان وما يراد له أن يقوم بالقوة والعنف في العراق.
من هنا لا ينبع الاعتراض على فكرة مرجعية الدولة الاسلامية من اعتراض على الدين نفسه، ولا على مكانته الاجتماعية أو هيمنته الثقافية والفكرية، ولا على حق الأكثرية المسلمة في تسويد قيمها وأسلوب حياتها حيث هي أغلبية، وإنما من الاعتقاد بأن استقلال الدولة عن جميع الزعامات والقيادات الدينية والفلسفية، وارتفاعها عن التدخل في الشؤون الروحية، في أي صورة جاءت، باستثناء تمكين أصحاب الأديان من ممارسة عباداتهم واعتقاداتهم بحرية، وتوفير وسائل هذه الممارسة المادية والمعنوية، هو شرط نشوء رابطة جديدة بين أعضاء المجتمع المكون من مذاهب واديان واعتقادات مختلفة ومتعددة ومتباينة حتى داخل الدين الواحد، هي رابطة الوطنية التي تجمع الأفراد، عبر الطوائف والمذاهب جميعا، وتؤلف منهم شعبا واحدا. ووسيلة هذا الجمع وذاك التأليف هي بالضبط تكوين المواطنية التي تعبر عن ضمان مكانة واحدة للأفراد كافة، مرتبطة هي نفسها بإقرارهم لبعضهم البعض حقوقا واحدة، يترتب عليها مسؤوليات واحدة وواجبات متساوية أيضا. وفي هذه المساواة في الحقوق والواجبات على مستوى العلاقة بالدولة والسياسة، يعاد بناء الفرد كمواطن، ويتم تجاوز تمايزه على مستوى المجتمع المدني كمؤمن أو صاحب اعتقاد مختلف وعضو في جماعة أهلية متميزة. من دون بناء هذه الرابطة الموحدة من خلال مفهوم المساواة في الحقوق والواجبات، لا يمكن الخروج من نزاعات المجتمع الأهلي واختلافاته وتمايزه، ولا بناء دولة أمة ومواطنية.
بديل ذلك سيكون بالضرورة إما الفوضى والنزاع الدائم بين طوائف وقبائل لا رابط بينها، لأنها لم ترتفع إلى مستوى المبدا السياسي، أو حكم الطائفية أو القبلية أو المافيا النابع من نجاح إحدى الجماعات الأهلية الخاصة في اختطاف الدولة، التي نشات في السياق التاريخي الخاص لنزع الاستعمار، والسيطرة عليها واستخدامها كأداة وآلة لإخضاع الطوائف والقبائل والجماعات الأهلية المتفرقة الأخرى، وفرض الإذعان عليها، واستعبادها لتحقيق مصالح خاصة أو مآرب وأمجاد شخصية لزعاماتها.
مهما أجرينا من تعديل على الصيغة الأساسية للايديولوجية الاسلاموية، لن يكون من الممكن تحويل الاسلام، وهو رابطة دينية واعتقادية أصلا، إلى أساس لرابطة سياسية تجمع بين المسلم والمسيحي والبوذي وغير المؤمن. بل ليس من الممكن في نظري، مهما خففنا من مطالب هذه الدعوة ومن مغالاة أصحابها أو بعض أصحابها، إعادة بناء الرابطة الإسلامية المفككة، أي إحياء الجماعة الدينية، انطلاقا من تأكيد المرجعية الإسلامية للدولة والدعوة لها، ولا تجاوز التمايزات والاختلافات المتفاقمة بين أبنائها بسبب تباعد مصالحهم الاجتماعية وتباين انتماءاتهم السياسية وتعدد ولاءاتهم الفكرية وتطلعاتهم الفردية والجمعية. ولن تكون نتيجة هذه المحاولات والمساعي النبيلة سوى إضاعة فرصة بناء الرابطة السياسة ودولة المواطنة، وإضعاف قدرة المسلمين على مواجهة مخاطر الانقسام والاختلاف الديني والمذهبي وما يقود إليه من توسيع دائرة الفتنة والاقتتال في ما بينهم، كما هو قائم اليوم في أكثر من قطر من أقطارنا.

mercredi, janvier 02, 2008

مقدمة لعام 2008 في بؤس النخبة العربية

الاتحاد 2 جنفييه ك2 2008

ليس من الصعب على أي مراقب، خارجيا كان أم محليا، أن يدرك أن أي تقدم لم يحصل في معالجة أي من الملفات الكبرى المرتبطة بأزمة العالم العربي في عام 2007 الفائت: ملف الاحتلالات والنزاعات المتفجرة بين الدول والشعوب، وعلى رأسها مسألة فلسطين، وملف الأمن الإقليمي وأمن كل شعب من شعوب المنطقة، وملف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والانسانية، وملف التغيير السياسي وتمكين الشعوب من المشاركة في القرارات السياسية وإصلاح الأنظمة التسلطية، الأمنية والبيرقراطية، التي أصبحت مثالا للفساد وانعدام المسؤولية وهدر موارد المجتمعات والعجز عن تحقيق أي إنجازات اقتصادية كانت أو اجتماعية أو سياسية.
هكذا، ما كان من الممكن لنا أن نتوقع سوى تفاقم الأزمة الكبرى التي تعصف بمجتمعاتنا منذ سنوات طويلة، وتزايد مظاهرها الخطيرة، من الاحتلالات والتدخلات الخارجية، إلى الحروب والنزاعات الداخلية المسلحة، مرورا بالانقسامات داخل الحركة الوطنية، والاحتقانات والتوترات في العلاقات العربية العربية والعربية الغربية، والخصومات الطائفية والمذهبية والعشائرية المهددة لوجود الدولة نفسها، وفي موازاة ذلك تراجع مستوى حياة السكان، وزيادة الفقر والبطالة، وتزايد عدد البؤر المتفجرة للمطالب والاحتجاجات الاجتماعية في أكثر من مكان.
وليس من الصعب كذلك على أي مراقب، مختصا كان أم شخصا عاديا، أن يتوقع تحولات ايجابية، عندما ينظر إلى الأوضاع التي خلفها العام الفائت والشروط التي يبدأ فيها مسار العام الجديد. وربما كان العكس هو الصحيح. فما هو السبب الذي يجعل عام 2007 أسوأ من عام 2006 وعام 2006 أسوأ من العام الذي سبقه، وعام 2008 أكثر سوءا من العام الفائت، وكيف نفسر مسار التدهور المستمر والثابت في شروط وجود العالم العربي وتفاقم أزماته الدائمة هذه؟. لا يفيد هنا الحديث المعتاد عن العامل الخارجي، حتى لو كانت مسؤولية الدول الغربية رئيسية في ما نحن فيه من مآسي وما نواجهه من تحديات. فالمطلوب هو، بالعكس، تفسير الأسباب التي تجعل هذا التدخل الأجنبي ممكنا ودائما وحاسما في المنطقة العربية، أكثر من مناطق العالم الأخرى، ولماذا لا ننجح في الحد من إثره على الأقل، إذا كنا غير قادرين على وضع حد له؟
ليس في تفسير هذا الوضع في نظري أي سر. تتعلق مصائر الشعوب، مهما كانت وفي أي ميدان وزمان، بنتائج عملها وجهدها المبذول. ويرتبط قدر هذا الجهد ونوعيته ونتائجه بنوعية النخب الاجتماعية التي تقودها، الاقتصادية والثقافية، وبشكل رئيسي النخب السياسية التي تمكنها سيطرتها على السلطة العامة من أن تتحكم بموارد المجتمع وبقراره الوطني. وعلى قدر وعي هذه النخب، وطبيعة تكوينها الأخلاقي والثقافي، ونوعية معرفتها وخبرتها بواقع مجتمعاتها والبيئة الإقليمية والدولية التي تعمل فيها، وتقدمها في تطوير الصيغ وقواعد العمل التي تساعد على حل النزاعات المحتملة أو القائمة في ما بينها للحفاظ على اكبر قدر من التعاون والتفاهم في ما بينها، تكون قدرتها على النجاح في استثمار موارد البلاد، والارتقاء بمستوى تنظيم البشر، والسهر على تنظيم شؤونهم، وتحقيق التراكم والتقدم في أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية. بل إن أساليب القيادة هذه، بما تتضمنه من وسائل التنظيم والرعاية والتربية السياسية والمدنية، هي التي تحدد حجم الجهود المبذولة من قبل المجتمعات، تماما كما أن أسلوب تثميرها هو الذي يضمن مردودها ونتائجها. فكما تؤدي الإدارة الفاسدة والضعيفة إلى إفلاس أصحاب المشاريع التجارية والصناعية، تؤدي القيادة الفاسدة أو الضعيفة في السياسة إلى إفلاس مشروع بناء الأمم، وفي مقدمها بناء الدولة التي ترعى مصالح مواطنيها وتسهر على امنهم وسلامتهم وحرياتهم وحقوقهم. وهذا الإفلاس لا يعني شيئا آخر سوى العجز عن تحقيق الاهداف التي لا وجود للتعاون الوطني الداخلي من دونها، وخسارة الرهانات التي تمكن البلاد من لعب دورها السليم في إقليمها.
ويكفي لمعرفة ما يخبؤه العام الجديد، وربما ما بعده أيضا، لنا، أن ننظر في طبيعة النخب العربية السائدة اليوم، والتي تحتل مواقع القيادة السياسية (في الدولة)، والاجتماعية (في الأحزاب والنقابات)، والاقتصادية (في المشاريع الصناعية والتجارية)، والثقافية (في مراكز العلم والتعليم والمعرفة والآداب). فلن يتغير شيء، أي لن يكون هناك أمل في وقف التدهور المستمر منذ عقود، طالما لم يتغير شيء لا في طبيعة النخب التي تمسك بالسلطة والقيادة، في مختلف قطاعات النشاط العمومي، في أقطار العالم العربي، ولا في قواعد عمل هذه السلطة وممارستها.
ولا يمكن لأي امريء يتحلى بحد أدنى من المنطق أن لا يربط بين طبيعة هذه النخب، بل النخبة العربية القائدة في أي قطر عربي، ومصير الأقطار العربية منفردة ومجتمعة معا. فما يميز المجتمعات التي نهضت من جمودها وانحطاطها، بما فيها مجتمعاتنا في حقب سابقة، هو وجود نخب اجتماعية سمحت لها الظروف التاريخية والاجتماعية في أن تتعالى على مصالحها الأنانية والمادية المباشرة وترتقي بوعيها وضميرها إلى مستوى التفكير والعمل بوحي مباديء وقيم وغايات إنسانية. ولا يعرف التاريخ، لا في الماضي ولا في الحاضر، أمة انبعثت من رمادها وتجاوزت انحطاطها من دون وجود مثل هذه النوعية من النخب القيادية، السياسية والثقافية والاقتصادية، التي تحركها القيم والمباديء الأخلاقية والمثل، وتؤهلها للتضحية في سبيل فكرة قومية أو قيمة إنسانية من حرية ومساواة وعدالة اجتماعية، وتدفعها للتنافس في الفضيلة والخدمة العامة، بدل التباري في مراكمة القيم والأغراض المادية. في أحضان هذه النخب يولد الرجال العظام، وعليها يعتمدون أيضا في تأسيس الدولة وبناء الأمم واجتراح المعجزات، بقدر ما يمثلونها ويعبرون عنها. وهم يبثون في شعوبهم روح التضحية ونكران الذات التي يتقاسمونها معهم، والتي لا يمكن من دونها تجاوز منطق التنافس الأناني على المصالح، والاقتتال عليها، وبناء مفهوم المصلحة العامة وتعظيم حجم الاستثمارات التاريخية، المادية والمعنوية. ولا تنشأ هذه النخب عادة ويصاغ وعيها الأخلاقي الجديد إلا في سياق المعاناة الكبرى للشعوب والمجتمعات، وكفاحها المرير من اجل التحرر والانعتاق والحياة الكريمة. فهي ذاتها ليست إلا ثمرة تطور ثقافة حية تولد من هذه المعاناة وتمثل خلاصة التجربة المجتمعية المأساوية والرد الايجابي عليها. فهي بنت الحركات التاريخية الكبرى والثورات الانسانية.
في المقابل، لا أحد ينكر أن العالم العربي قد ابتلي بنخب هي مزيج من كواسر باحثة عن فريستها في جسم مجتمع مجوف ومختل التوازن، ومن قطاع طرق مختفين وراء ألقاب ورتب سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية، ومهربي مخدرات وتجار سلاح ومختلسين لأموال الدول، وأصحاب ريوع، ولصوص ومرتشين، لا مبدأ لديهم ولا مثال غير إرضاء الشهوة البدائية في السيطرة والقوة والثروة المادية. لا يسرى ذلك على الكثير من العاملين داخل حقل الدولة ومؤسساتها فحسب، ولكن بشكل أكبر أحيانا على المتحكمين بمؤسسات المجتمع الخاصة، ونخبه الأهلية، من أصحاب مشاريع صناعية وتجارية وثقافية وفكرية أيضا. هؤلاء هم اليوم، حقيقة، أصحاب القوة والسلطة والمعرفة والثروة، أي القرار في معظم البلاد العربية.
وإلى جانب ذلك لا تزال مجتمعاتنا في بداية تجربة التحرر والانعتاق، مترددة في خوض الكفاح الشاق من أجل الحرية وتحمل معاناته وعذاباته. أما الفرد الذي لا يزال ممعوس الشخصية، ضامر الضمير، مفتقرا لوعي ذاتي واضح، أو إرادة مستقلة، فهو ميال إلى تفضيل الاستسلام على مغامرة التمرد والاستقلال. ولا تزال الجماعة عندنا مرادفة للعصبية، وقائمة على القرابة الروحية أو العقيدية أو الدموية، أي بعيدة جدا عن أن تتحول إلى جماعة مدنية، متوحدة من حول خيارات إرادية طوعية. في هذه الحال لا أعتقد أن من الممكن لنا، مهما فعلنا، كسر حلقة استتباعنا المزدوج لقياصرتنا المحليين وقياصرة القوى الدولية، من دون ثورة عميقة، فكرية وسياسية. وكل ثورة هي كفاح من أجل الاستقلال والحرية.
لا نحتاج من أجل تفجير هذه الثورة لا إلى المزيد من العلمنة ولا إلى المزيد من التدين ولا إلى المزيد من النظريات السياسية المعقدة والدقيقة، ولكن، قبل أي شيء آخر، إلى بعض النبل والكثير من الكرم الأخلاقي وروح الفضيلة، في المجتمع وعند كل فرد.

mardi, janvier 01, 2008

إلغاء الوصاية شرط انبعاث الشرق الأوسط

الجزيرة نت 1 جنفييه 2008

فاجأني نائب وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط بالقول إن واشنطن، بالرغم من المشاكل الكبرى التي تواجهها في المشرق العربي، لم تغير موقفها من مسألة الديمقراطية، ولا تزال مستمرة في دعم الديمقراطيين في العالم العربي. قلت للأسف أن استراتيجية الولايات المتحدة لإعادة هيكلة الشرق الأوسط الكبير قد أجهضت الحركة الديمقراطية العربية الوليدة وعمقت شرخين كبيرين يقفان حائلا دونها : الأول بين الرأي العام العربي والغربن والثاني بين النخب العربية الحاكمة وشعوبها. ولن يكون من الممكن بعد الآن أحراز أي تقدم ثابت في هذا المجال من دون تغيير عميق مسبق في استراتيجية الولايات المتحدة، والغرب عموما، في الشرق الأوسط، ومن دون التوصل إلى حلول أو بداية حلول جدية وعادلة للنزاعات والصراعات الإقليمية التي تنخر في عمق المجتمعات وتشل الرأي العام عن التفكير في حاضره ومستقبله معا. من دون ذلك سيستمر التراجع الذي شهده الوضع الأمني والسياسي والثقافي في عموم المنطقة، ويزداد الميل فيها نحو الاضطراب والفوضى والخراب.
قامت الاستراتيجية التقليدية الغربية، كاستمرار للحقبة الاستعمارية أو امتداد زمني وفكري لها، على تحقيق ثلاث أهداف رئيسية في المنطقة.
الهدف الأول ضمان تدفق النفط للدول الصناعية بصورة أكيدة وبأسعار متهاودة. مما جعلها تنظر إلى المنطقة كمستودع لآبار النفط، يبنغي السيطرة عليه والتحكم بمصيره، من دون اعتبار لشعوبها ومصالحهم ومطامحهم وآمالهم وآلامهم. وهو ما قادها إلى القبول بتهميشهم لصالح النخب الحاكمة، وضمان استقلال هذه النخب عن شعوبها، وتدعيم قدراتها في مواجهتهم وضد إرادتهم، باعتبار ذلك من اللوازم الضرورية لتحقيق الهدف الاستراتيجي الأكبر.
والثاني ضمان الأمن والسلام والاستقرار والازدهار لاسرائيل باعتباره هدفا رئيسيا من أهداف السياسة الغربية في الشرق الاوسط، وتقديمه على أي هدف أمني آخر، أي صرف النظر عن أمن المنطقة المحيطة بها، وفي الغالب على حساب أمن هذه المنطقة وشعوبها. وهذا ما ترجم بدعم غير مشروط للسياسة الاسرائيلية، مهما كانت أهدافها ووسائلها استعمارية ولا أخلاقية، وضمان التفوق العسكري والاستراتيجي الساحق لها على دول المنقطة برمتها. وهو النموذج الذي ستعممه النخب الحاكمة على البلدان التي تحكمها، أعني ضمان أمن النظم من خلال زعزعة أمن الشعوب وتهديد استقرارها وتحويلها إلى هشيم لا قوام له ولا بنيان.
والهدف الثالث هو الاحتفاظ بالمنطقة تحت النفوذ الغربي الحصري، ثم الأمريكي، والصراع من أجل ذلك ضد أي قوى دولية أو محلية تهدد هذا النفوذ الذي تحول إلى أمر واقع، وجعل التدخلات العسكرية واستخدام القوة لضمان هذا النفوذ أمرا طبيعيا ومشروعا في كل مرة يتعرض فيها للتهديد. وهو ما حول المنطقة إلى مسرح لحرب باردة مرهقة استنفدت مواردها، ودمرت مؤسساتها، وسلمتها فريسة سائغة لكل أصحاب المشاريع السلطوية الفردية والعائلية.
لن يكون من الممكن بعد الآن الاستمرار في مثل هذه الاستراتيجية، سواء بسبب انهيار الصدقية الاستراتيجية الأمريكية والاسرائيلية، أو بسبب القطيعة الهائلة التي حصلت بين النخب الحاكمة التي كان الغرب يراهن عليها وشعوبها، أو بسبب صعود قوى جديدة في آسيا وفي المنطقة ذاتها، لديها ما يكفي من الموارد والوسائل لتفرض نفسها شريكا أو منازعا على الهيمنة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.
وعندما أقول لم يعد من الممكن الاستمرار في مثل هذه الاستراتيجية فأنا أعني أن الأمريكيين والغربيين عموما لن يستطيعوا تأمين تدفق النفط لفترة طويلة مع الاستمرار في تجاهل مصالح شعوب المنطقة ولا من خلال تغذية الخلل الاسترتيجي الهائل على مستوى العلاقات الإقليمية بين إسرائيل والعالم العربي، ولا عبر التمسك بدعم النظم الفاسدة والتعسفية التي تتصرف كما لو كانت البلدان ملكا عقاريا لها، ولا بالتدخلات العسكرية. وإذا لم ينجحوا في تغيير مقاربتهم الاستراتيجية للمنطقة فلن تكون النتيجة تحقيق مصالحهم الحيوية، ولا تأمين اسرائيل المتفوقة عسكريا بشكل أفضل، ولا توافق أكبر مع النخب الحاكمة في المنطقة كما كان عليه الحال حتى الآن. وإنما مضاعفة الخسائر الراهنة والاختلالات، وتعظيم الفواتير التي ينبغي دفعها في المستقبل والمغامرة بدفع المنطقة نحو مزيد من التفكك والفوضى والدمار، مما ينعكس سلبا على مصالح الغرب وإسرائيل والعالم بأكمله أيضا. ومنذ الآن أصبحت الفوضى المعممة أو شبه المعممة الهاجس الأكبر للدول الكبرى والصغرى على حد سواء، وحولت منطقة الشرق الأوسط برمتها إلى بؤرة للتهديدات والمخاطر التي تؤرق ليل جميع الأطراف. وإذا لم يحصل ما يغير قواعد التعامل مع الآخرين، فلن تكون النتيجة سوى مزيد من التدهور في جميع الميادين مع تفسخ جارف وفتح المنطقة على أسوأ الاحتمالات.
السؤال ألا يمكن أن يكون في الشرق الأوسط بديل عن سياسة علي وعلى أعدائي، وبناء استراتيجية تضمن مصالح جميع القوى وتعززها؟ يستدعي هذا بداية أن تدرك القوى الغربية استحالة إعادة بناء استراتيجيتها القديمة المنهارة ثانية على الأسس نفسها التي قامت عليها منذ الحرب العالمية الثانية. وهو ما يتطلب تحديدا جديدا للأهداف والوسائل والمقاربات يمكن واشنطن والغرب عامة من المساهمة الايجابية في حل مشاكل المنطقة والمشاركة في إصلاح شؤونها، بحيث تشعر الشعوب العربية أن هناك مصالح مشتركة ممكنة بالفعل. كما يستدعي أن تعترف شعوب المنطقة بالمصالح الاستراتيجية المرتبطة بانتاج الطاقة وتضمن تدفق النفط بشكل طبيعي ضمن اتفاق شراكة استراتيجية تشكل التنمية أحد بنودها الرئيسية إلى جانب ايجاد تسوية عادلة للمسألة الفلسطينية وإنهاء الاحتلالات وأشكال التمييز والاستيطان بأكملها.
وإذا لم ينجح الغرب في وضع أهداف جديدة لسياسته تساعد في إحلال السلام في المنطقة، وفتحها على الاستثمار الاقتصادي والثقافي، ودعم مشاركة الشعوب في تقرير مصيرها ضد النخب المافوية الحاكمة، وضمان الأمن والاستقرار للشعوب جميعا، لن يكون من الممكن إخراج المنطقة من الازمة الطاحنة التي تعيشها، والتي ستضرب نتائجها، بشكل أكبر في المستقبل، النظام الدولي نفسه. ولا من أجل التوصل إلى هذا الهدف من توفير إطار مبادرة دولية وإقليمية مشتركة، تطرح أجندة لمواجهة الملفات الأربع الرئيسية التي تشكل أركان الأزمة:
أولا ملف الاحتلالات والنزاعات المتفجرة بين الدول والشعوب.
ثانيا ملف الأمن الإقليمي وأمن كل شعب من شعوب المنطقة.
ثالثا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والانسانية.
رابعا الديمقراطية والمشاركة الشعبية.
ولا أمل لنجاح مثل هذه المبادرة إن لم تقم من الأساس على نظرة شمولية ومقاربات متزامنة أيضا، وبمشاركة الأطراف الدولية والإقليمية والوطنية، الرسمية والمدنية، بشكل يفرض على كل طرف أن يتحمل مسؤولياته، ويتيح له أن يدرك أيضا دوره ويتعرف على المساهمات المطلوبة منه والقادر على تقديمها، في إطار دعم المجهود الجماعي لإخراج المنطقة من الهوة التي سقطت فيها، وتجنيبها الانحدار نحو البربرية.
هذا يعني أنه لا يوجد حل لأي مشكلة بعزلها عن المشكلة الأخرى. كما لا يوجد أي حل من خلال احتكار أي دولة أو طرف، مهما كانت عظمته وقوته، للمبادرة السياسية.
يرتكز هذا الترابط على عوامل أساسية:
أولا أنه لم يعد من الممكن تحقيق الأمن والاستقرار بالتركيز على المصالح الغربية وحدها. فلن يقوم استقرار لا يأخذ بالاعتبار سوى مصالح ضمان تدفق النفط، أو أمن إسرائيل، أو منع مشاركة الدول الأخرى في المصالح الإقليمية. كما لم يعد من الممكن بناء التحالفات على شراء النخب، أو المراهنة على علاقات النفوذ والتبعية التقليدية. ينبغي بالعكس الاعتراف الرسمي والعملي بالمصالح الوطنية للشعوب، الاقتصادية منها والسياسية والثقافية والأمنية، وإظهار الاحترام لها، وتمييزها عن مصالح الأنظمة الحاكمة والنخب المستلبة أو المستتبعة.
ثانيا لم يعد من الممكن ضمان الأمن والاستقرار من الخارج، وبواسطة التدخلات العسكرية. وهو ما يستدعي اعترافا واضحا باستقلالية الشعوب ودورها في تحقيق أمنها وبلورة أغراضه ووسائله، من خلال تنظيماتها الإقليمية، وتبعا لمصالحها بشكل رئيسي، لا تلبية لاهداف استراتيجية دولية، أو لأمن أي قوة عالمية. كما يستدعي التفاهم بين الدول الغربية والدول الأسيوية والروسية الكبرى وتجنيب المنطقة حربا باردة جديدة.
ثالثا لم يعد من الممكن ضمان التنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعوب المنطقة في إطار التقسيم الراهن للأسواق والاستثمارات والتكيف مع الجغرافية السياسية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية. وهذا ما يستدعي، بعكس ما حصل حتى الآن، التشجيع على الاندماج الإقليمي، وتقديم المساعدات اللازمة لتحقيقه وتوسيع دائرة تطبيقه.
ورابعا لم يعد من الممكن تحقيق نتائج سياسية أو استراتيجية لأي طرف كان، داخليا أو خارجيا، عن طريق العنف واستخدام القوة والابتزاز فحسب. ولا بد من إدخال منطق الحوار والمفاوضات المتعددة الاطراف إلى المنطقة التي حرمت منها لعقود طويلة. كما لا بد من مقاومة نزعة الانفراد بالقرار الإقليمي، وتعزيز هامش مبادرة الإقليم عموما تجاه الخارج. فليس من الممكن التوصل إلى حلول ناجعة لمشكلات المنطقة وأزماتها إلا بالمراهنة على تعاون شعوبها وسكانها، وتغيير المناخ السلبي السائد، وفتح حقبة جديدة من السلام والوفاق تستفيد منها الأطراف كافة.
ومثل هذه المقاربة الشاملة لشؤون المنطقة لا يمكن تحقيقها من دون القبول بتقديم تنازلات أساسية من قبل جميع الاطراف، وفي المقدمة اسرائيل. فلا يمكن لاسرائيل أن تطمح إلى الحصول على السلام في مواجهة كل بلدان المنطقة مع احتفاظها بمكاسبها التي حققتها بالقوة خلال العقود الخمس الماضية. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تستعيد جزءا من صدقيتها وقدرتها على المبادرة فينبغي أن تركز جهودها على إقناع اسرائيل وقادتها ورأيها العام بأن الخطوة الأولى لإطلاق مسيرة السلام والاستقرار والأمن الشامل والنمو والازدهار في المنطقة تبدأ بالتفاوض على انهاء الاحتلالات القائمة، وتفكيك المستوطنات، ووضع حد للسياسات الاستعمارية. من دون ذلك ليس هناك أي أمل في التقدم ولو جزئيا على أي مسار من المسارات الأخرى. يمكن للولايات المتحدة أن تضرب ايران وتدمر منشآتها النووية والعسكرية والاقتصادية لكنها لن تستطيع بعد ذلك أن تمنع الشباب الاسلامي المحبط والفاقد للأمل من الانخراط في حركات الإرهاب الدولية، تماما كما أن كثيرا من الشباب العربي الذي يئس من أن تتحول بلاده إلى شريك في هذا النظام انقلب عليه وجعل من تدمير النظام العالمي هدفه الانتقامي.
باختصار، لا يوجد هناك حل أمريكي، أي لا يأخذ بالاعتبار إلا صالح أمريكا، لقضايا المنطقة. بل لا يوجد هناك حل لصالح دولة بعينها أو فريق معين، ولا حل يتجاهل مصالح الشعوب لصالح النخب أو العكس. كما لا يوجد هناك حل لمشكلة على حساب مشكلة أخرى. فالتنمية لا تغني عن الأمن، والأمن لا يغني عن استعادة الأراضي المحتلة، والتنمية ليست بديلا عن المشاركة الشعبية. وستخفق كل محاولة لايجاد حلول تسعى إلى مقايضة حل مشكلة بمشكلة أخرى، أو لا تأخذ بالاعتبار مصالح جميع الأطراف الكبيرة والصغيرة معا، داخل الدول وخارجها. ويكفي للتدليل على ذلك النظر إلى مؤتمر أنابوليس الذي يكاد يعلن إفلاسه قبل أن يبدأ.