الاتحاد 18 يونيو 2008
قلت في مقال سابق إن المعارضات العربية قد أخفقت أو دخلت في طريق مسدود، في السنوات الماضية، لأنها بدل أن تعمل بجد على بناء التحالف الاجتماعي والسياسي الذي يحتاج إليه أي تغيير، والذي لا يمكن من دونه قيام أي نظام جديد، ضيعت وقتها في مناكفة النظام والاحتجاج عليه. فليس هناك شك في أن تغيير النظام هو الهدف الأسمى والنهائي لأي معارضة، لكن الوصول إلى هذا الهدف يمر بتحقيق أهداف مرحلية كثيرة في مقدمها بناء قوة التغيير نفسها، ليس من حيث هي تأليف للقوى ومراكمة للقوة والنفوذ فحسب، وإنما من حيث هي فكرة ومفهوم ورؤية وأسلوب في الحكم والإدارة والتسيير معا، أي مثال، ومشروع مجتمعي، وبرنامج عمل، ومهام للتنفيذ تتمحور جميعا حول صياغة مبدعة لمفهوم المصلحة العمومية التي يستمد أي نظام من تعزيزها وتنميتها وإمكانية إنجازها مشروعيته التاريخية.
بيد أن هذا الإخفاق لا ينبغي أن يقدم أي عزاء للنخب الحاكمة التي حنثت في وعودها ولم تحقق ولو جزءا بسيطا من الإصلاحات التي وعدت بها، وربما كان لبعضها نية بتحقيق شيء منها. فقد نظرت هذه النخب إلى برنامج الإصلاح كبديل عن المعارضة السياسة أو كوسيلة لقطع الطريق عليها، وتخليد حرمانها من المشاركة السياسية. وربما اعتقد معظم هذه النخب أنه من غير الممكن الشروع في إصلاح ما لم تقبل الطبقات الوسطى والمعارضات الوليدة التي تعبر عنها بإعلان إلتحاقها بالنظام والتعاون معه في مواجهة حركات التمرد والاحتجاج والاعتراض الشعبية التي تمثلها حركات متطرفة يزداد نفوذها بموازاة تفاقم عجز النظام عن الاستجابة لحاجات السكان ومطالبهم. وهي في معظمها اليوم حركات إسلامية أو تعطي لعملها صفة التساوق مع متطلبات الدين وتحقيق الشريعة السماوية. وقد تراجعت جميع هذه النظم عن الإصلاح بسرعة عندما اكتشفت أن الإصلاحات السياسية لن تخفف من حجم المخاطر التي يتعرض لها النظام، كما كانت تعتقد، وإنما ستضيف إليها مخاطر جديدة، ناجمة عن احتمال تحول الطبقات الوسطى نفسها إلى قوة معارضة سياسية منظمة، بفضل ما يمكن للاصلاحات القانونية والسياسية أن تقدمه لها من فرص جديدة لتعزيز قدرتها على استقطاب مجموعات الرأي وفئات المصالح التي لا تزال مترددة في دخول الحراك الديمقراطي، سواء بسبب خوفها من تزايد نفوذ القوى الإسلامية المتطرفة، أو شكها في وجود فرص فعلية للعمل السياسي.
وهكذا بعد سنوات التفاؤل والأمل بالإصلاحات والمصالحات الوطنية وتجديد السياسة وفتح النظم المغلقة منذ عقود، عادت المجتمعات العربية إلى نقطة الصفر، ودخلت من جديد في مأزق أشد من السابق، أي في حالة موات عميق. فلا النظام قادر على التحرك إلى الأمام، ولو خطوة واحدة، لإنجاز الاصلاحات التي لا بد منها لكسب تعاون حزء من القوى الاجتماعية الحية، التي أصبح استقطابها ضرورة لتجديد دم النظام القائم نفسه وإنقاذه من التعفن والفساد الشامل. ولا حركات الاحتجاج القوية والعديدة قادرة على تغيير النظام، أو تغيير سلوكه، ودفعه إلى تبديل خياراته السياسية. والنتيجة تزايد في الطلب على الاحتجاج والتطرف من جهة، وانكفاء أكبر على أساليب التقييد والاعتقال والقمع، بل تطبيق منهجي متزايد لمبدأ الحرب الوقائية ضد حركات المعارضة والاحتجاج من قبل معظم النظم السياسية. ومن الطبيعي أن يتبع ذلك تفاقم الاحتقان السياسي والاجتماعي، وتسارع الاستقطاب داخل النظم نفسها وفي المجتمع وبينهما معا، واتساع دائرة الاحباط، وارتفاع درجة التوتر والاستعداد للانفجار والانفلات والعنف لدى كل الأوساط وعلى جميع المستويات، مما لم تشهد مثله المجتمعات العربية من قبل.
والحال، كما بينت ذلك الوقائع التاريخية القريبة، لم تسقط النظم الشمولية بسبب وجود معارضة سياسية منظمة ورؤية وبرنامج واضحين ومتميزين، نالا تأييد الرأي العام أو أغلبيته وحظيا برضاه. وإنما انهارت من داخلها بسبب ما قاد إليه غياب النقد والمساءلة والمحاسبة من ترهل في النظام جعله يقف وجها لوجه امام مجتمع فقد أي أمل فيه أو ثقة بأصحابة وقياداته. فوجود المعارضة لا يعني التغيير بالضرورة، ولا حتمية قلب النظام، وإنما الحفاظ على حد أدنى من التوازن الاجتماعي. فغياب المعارضة هو الطريق المفتوحة نحو نشوء نخبة متحللة من أي التزام وطني كان أم أخلاقي، محمية من أي ضغط شعبي ومرفوعة عن أي منافسة أو مراقبة أو محاسبة، أي الوسيلة المثلى لخلق شروط تعميم الفساد وتحويل النخب السائدة إلى كائنات مفترسة لا رؤية سياسية لها ولا مشروع سوى التهام موارد الدولة والسيطرة عليها بجميع الوسائل.
وبالمثل، لم تفسد النظم الشمولية بسبب سوء عقائدياتها أو أهدافها أو غاياتها الاجتماعية المتركزة حول التقدم والعدل والمساواة، وإنما بسبب افتقارها لأي عنصر معارضة، أي لنخبة بديل تجبر النخبة الحاكمة على الالتزام بالحد الادنى من قواعد العمل العام والمسؤول، وتستبطن معنى الحكم لصالح الشعب والمسؤولية أمامه. وبفقدانها معنى المسؤولية واستفرادها بتحديد معايير القيادة ومهامها من دون منافسة ولا نقد ولا محاسبة أو مساءلة، لم يكن هناك ما يحول دون استباحة النخب الحاكمة مصالح الناس وحقوقهم وتحولها إلى العدو الرئيسي للمجتمع، تستجلب نقمته أكثر مما يستجلبها العدو الوطني نفسه.
وفي جميع الحالات، لم يكن البديل لحركات المعارضة الفعلية، استسلام الشعوب والمجتمعات كما كانت تتوقع أجهزة القمع الضاربة وأدوات الدعاية والتشهير والإذلال، وإنما إنتاج موسع، تحت الأرض وداخل شعور كل فرد، بما في ذلك الأفراد المنتمين إلى الأمر الواقع نفسه، لروح الرفض والثورة والانشقاق والعصيان.
لقد سقطت النظم الشمولية بالضبط بسبب افتقارها للنقد الداخلي وغياب مفهوم الإصلاح، وبالتالي تعفنها الداخلي وفسادها المضطرد، واستسهالها استخدام العنف على الاحتكام لمنطق السياسة، وإمعانها في الكذب على الرأي العام وتجاهله، ورهانها على استبطان الدونية والخوف واحتقار الذات، وتنميتها بالتالي، وهي تعتقد العكس، منظومة عصيان واحتجاج اخترقت الدولة والمجتمع معا، وبدلت ثقافته وقيمه وعقيدته.
فلا يمكن لسياسات الإقصاء والعزل والحرمان من المشاركة، في ظروف تفاقم الأزمة العامة، وتراجع قدرة الدولة على تلبية الحاجات الاجتماعية الأساسية، وتحدي تسونامي ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمحروقات، إلى شيء آخر غير إلحاق المزيد من الجماعات الشعبية وغير الشعبية بقوى الاحتجاج، وإعادة إنتاجها كقوى انشقاق وعصيان تنتظر الفرصة كي تنقض على النظام وتعيد إنتاجه حسب مصالحها الخاصة. وليس هناك أدنى شك في أننا دخلنا اليوم، في هذه المنطقة من العالم، في حقبة جديدة من عدم الاستقرار. ولن يفيد سعي النخب الحاكمة إلى تحصين نفسها وإغلاق الأبواب بشكل أكبر أمام مجتمعاتها إلا في تفاقم الأزمة بمقدار ما سيزيد من تدهور الأوضاع، ويدفع بالنخب والطبقات الاجتماعية التي فقدت الأمل بأي مخرج سياسي لازماتها الوجودية، بالاستسلام لنداء التمرد والعصيان.