mercredi, août 29, 2007

في أصل حروب التدمير الذاتي العربية

الاتحاد 92 آب 2007

غيبت الصراعات السياسية والطائفية والمذهبية وشبه الوطنية المنتشرة على خريطة البلدان العربية المسألة الرئيسية التي كانت محور النقاش لحقبة ما بعد الحرب الباردة، وهي إصلاح نموذج تنظيم الحياة العمومية، المدنية والسياسية. وكان العرب ينظرون في غالبيتهم إلى هذا الاصلاح منذ التسعينيات على أنه الشرط الأول لإعادة بناء مجتمعاتهم وتأهيلها للدخول في الحركة الاقتصادية والاستراتيجية العالمية، وتمكينها من مواجهة التحديات الكبرى التي تنتظرها، وفي مقدمها تلك المرتبطة بالحفاظ على الاستقلال وتعزيز القرار الوطني، أمام اشتداد المنافسة الدولية، ونزوع الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة إلى السيطرة الشمولية. وكان مفهوم الاصلاح يعني مراجعة أساليب الحكم والإدارة، وإعادة بناء نظام السياسة الذي ساد فيها لعقود، بما يتضمنه من توجهات فكرية وأخلاقية ومن خيارات استراتيجية وبرامج سياسية، على أسس مختلفة بل مناقضة لما ساد في عقود سابقة. فكان السؤال المطروح: هل المطلوب في سبيل إنهاض المجتمعات العربية ومساعدتها على التقدم الاستمرار على النموذج الاستثنائي التسلطي النابع من انقلابات سياسية وعسكرية، بما يستتبعها من إلغاء التعددية والحياة السياسية وتعليق الحريات العامة، والقبول بالحكم، عقودا طويلة، في ظل قوانين الطواريء والأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية، بذريعة توفير الظروف المناسبة لتمكين الطلائع التي تقود الشعوب، كما تفيد الفكرة الأصلية، من تسريع وتيرة التطور ونقل المجتمع إلى الحداثة، أم أن المطلوب هو الانتقال إلى نظام سياسي تعددي، هو المتبع اليوم في معظم بقاع العالم الصناعي وغير الصناعي، في أمريكا الشمالية وأوروبة وفي أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وفي جميع البلدان التي كانت تتبع نظام الحكم الاستثنائي السوفييتي، باستثناء كورية وكوبا والصين، يقوم على مبدأ اختيار القيادات السياسية بالاقتراع العام وفي ظروف منافسة نزيهة وقانونية تعرض فيها مختلف النخب الاجتماعية مشاريعها وبرامجها السياسية.
والواقع أن أغلب النخب العربية إن لم يكن جميعها، كان مقتنعا، خلال فترة طويلة ماضية، مثل ما كان عليه الأمر في كل مناطق العالم الأخرى، بأن النموذج الأفضل لتحقيق التقدم هو نموذج الحكم المركزي الاستثنائي الذي يضمن تحكم النخب الطليعية بالمسيرة الوطنية ليسرع من وتائر النمو. هذا كان موقف القوى اليسارية والقومية عموما، بعد أن أعلنت القوى الليبرالية في العالم أجمع، في مناخ الحرب الباردة، خيانتها لقيمها العميقة وتحالفها الوثيق، في عموم العالم الثالث، مع الديكتاتوريات العسكرية التي اعتقدت أن وجودها أصبح شرطا لتحقيق الاستقرار السياسي الذي يمكنها من تعظيم استثماراتها أو من جذب الاستثمارات الخارجية. كان هذا الموقف السائد في أوساط النخب الثقافية والسياسية والعسكرية والنقابية والدينية والاقتصادية معا.
لكن هذا الاجماع على النموذج التسلطي للحكم قد تحطم تدريجيا منذ انهيار الشيوعية وفلسفتها السياسية في العالم، وزوال الحرب الباردة، وبعد أن تبين المردود الضعيف لهذه النظم في تحقيق الاصلاح، بالمقارنة مع النظم التعددية. فقد قاد نظام الحكم الاستثنائي الرافض لفكرة انتخاب القيادات إلى حالة من الركود والجمود والفساد غير محتملة في جميع البلدان التي طبق فيها. والسبب أن النخب التي تحكم من دون منافسة ولا مراقبة تميل إلى تكريس المنافع والامتيازات الخاصة على حساب المصالح العامة، أي مصالح الدولة والشعب، ومراكمتها واحتكارها والحفاظ عليها بقوة السلاح إذا احتاج الأمر، وذلك مهما كان أصل هذه النخب وعقيدتها السياسية وشعاراتها وخطاباتها.
وهكذا بدأت تبرز تدريجيا، لكن بشكل متعاظم، منذ نهايات القرن الماضي، فكرة جديدة وتسيطر على قطاعات متزايدة من النخبة الاجتماعية، تكرس الاعتقاد بأن مستقبل مجتمعاتها، ومستقبلها هي نفسها، رهن بتغيير قواعد العمل السياسي، والانتقال إلى نظام يفتح المجال أمام الجميع للمشاركة في تحمل الواجبات العمومية، ويطلق الحياة السياسية من جديد على أسس التعددية والتنافس على احتلال مناصب المسؤولية واختيار الأصلح والأقدر على تطوير البلاد وإدارتها. وهكذا نشأت ديناميكية الصراع السياسي من جديد في المجتمعات العربية بعد أن كانت قد خمدت تماما ولفترة طويلة سابقة مع انطفاء النزاعات الايديولوجية القديمة التي كانت تغذيه: بين بعثيين وناصرييين، قوميين وقطريين، شيوعيين وليبراليين.
وكما كان من الطبيعي أن تسعى النخب الصاعدة إلى المطالبة بفسحة أكبر من الحريات العامة تتيح لها الاتصال بالجمهور والتفاعل معه والعمل على كسبه لتحقيق ما تعتقد أنه النظام الأصلح للبلاد، كان من المنتظر أيضا أن تثير هذه التحولات الفكرية والسياسية الجديدة القلق والخوف في أوساط النخب الحاكمة التي كرستها عقود طويلة من الحكم الأحادي والتسليم الفكري والنفسي. فنشوء النخبة الجديدة حول فكرة التعددية السياسية، بصرف النظر عما إذا كانت قد تمثلت قيم الديمقراطية حقيقة ام لا، لا تزال بعيدة عن فهم متطلباتها ومعرفة التحديات التي تواجهها، يشكل تهديدا لا شك فيه للنخب التقليدية ولمواقعها الاحتكارية المكرسة، لما يعنيه ذلك من القبول بقواعد جديدة للعمل السياسي قائمة على فتح الحقل السياسي وتوسيع دائرة الحريات السياسية والقبول بمبدأ المنافسة الحرة على مناصب المسؤولية. فلأول مرة تجد النخب القديمة نفسها أمام تحد سياسي يطالبها بإعادة بناء سلطتها وقيادتها، أو تأسيسها على شرعية ديمقراطية لم تعتد عليها، ولا يمكن أن تكون نتائج الأخذ بها، والانصياع لمنطق صندوق الاقتراع، سوى تقويض وضعها الموروث ووضع الامتيازات والمصالح المكتسبة التي راكمتها خلال عقود طويلة في الميزان. وليس من السهل على فئة اجتماعية اعتادت الحكم بالوراثة والأحكام العرفية والاستثنائية، واعتادت النظر إلى الشعوب من موقع السيادة والتعامل مع أفرادها كأدوات ووسائل لتحقيق مآربها وتمجيد نفسها، أن تقبل بوضع نفسها موضع المساءلة أو المحاسبة الشعبية، أو أن تطرح نفسها لنيل الثقة من الرأي العام، بعد أن تمثلت فكرة القيادة التاريخية وأصبحت تعتقد أنه لا بديل عنها ولا شرعية لأي قيادة أخرى لا تكون مشتقة منها أو تابعة لها.
لم يكن من المستغرب إذن والحال هذه أن تحاول النخبة الحاكمة المناورة بجميع الوسائل، وهي تملك سيطرة استثنائية على الموارد الأمنية والإعلامية والاقتصادية والسياسية والإدارية، لتقليص دائرة عمل النخبة الصاعدة الجديدة، وتصعيب المهمة عليها، ومنعها من التقدم بالوتيرة التي تحلم بها. كما لم يكن من المستغرب أن تسعى النخب الديمقراطية إلى توظيف كل ما تستطيع توظيفه فكريا وسياسيا في سبيل تعزيز مواقعها، وهي التي لا تملك ما تستند إليه في المجتمع والرأي العام، سوى عملها وممارستها النظرية والسياسية، بينما هي التي تطرح على نفسها مهمة السعي للانتقال بالبلاد نحو نظام جديد، أي هي المهاجمة من دون سلاح.
هذا التمايز العميق الذي حصل في قلب النخبة الاجتماعية وأفكارها، والناجم هو نفسه عن تباعد مصالح أولئك الذين استفادوا من الاحتكار الطويل للسلطة عن الذين بقوا خارجها، هو الأساس الموضوعي العميق للتعددية الناشئة في فكرنا ونخبتنا معا، وهو الذي يفسر جدلية الصراع السياسي الذي دخلت فيه مجتمعاتنا، على فترات متقاربة، منذ التسعينات من القرن الماضي. ولا يكف هذا الصراع والتنازع عن النمو، بموازاة تبلور مشروعين لتنظيم الشؤون العمومية وبناء قاعدة التفاهم والتواصل بين الأفراد والمجموعات البشرية المقيمة على الأرض العربية. وفي ما وراء المعارك الفرعية والجانبية التي غالبا ما تسعى إلى التشويش على الأسباب الحقيقية، يظل الرهان الرئيسي للصراع العميق القائم تحديد طبيعة النظام السياسي، والتوصل إلى مباديء أساسية مقبولة من الأغلبية لإعادة تأسيس الحياة العمومية والمدنية. وهو صراع سيتأصل باستمرار ولن يمكن إخماده أبدا، بوجود المواجهات الخارجية ومن دونها على حد سواء.
كان من الممكن لنظام التسلطية الذي لا يجد ضرورة كي يسند نفسه إلى شرعية مستمدة من استشارة شعبية ولا يعتقد أنه بحاجة لها، أن يبحث من دون صعوبة على تسويات مؤقتة تسمح له بكسب أكثر ما يمكن من الوقت من دون أن يحرم النخبة التعددية الجديدة من الأمل بإمكانية حصول تداول للسلطة، ولو في أفق بعيد. بل كان من مصلحته، وهو يسعى عبر السياسات الليبرالية الجديدة إلى إعادة إدراج نفسه في المجال الاقتصادي العالمي بعد قطيعة طويلة، ويواجه تحديات اجتماعية واقتصادية خطيرة في أكثر البلاد العربية، من البطالة إلى الفقر إلى انبعاث العصبيات الطائفية والمذهبية والعشائرية، إلى تعميم الفساد في جميع إدارات الدولة وغياب القانون، أن يظهر للرأي العام العربي والعالمي أنه يسير في الاتجاه الصحيح، وأن المعايير التي يأخذ بها العالم وليس الغرب فحسب، هي أيضا معاييره بشكل من الأشكال. وهذا ما كان الجمهور يأمله ويراهن عليه في السنوات القليلة الماضية مع تصاعد فكرة الاصلاح والانفتاح. بيد أن عوامل داخلية وخارجية قادته إلى عكس الاتجاه المطلوب. وكانت النتيجة كما نشاهد اليوم انهيارا عميقا في الموقف الوطني والإقليمي، وتدهورا خطيرا في كل مؤشرات الحياة العمومية وتراجعا مرعبا للثقة وتنامي إمكانيات واستعدادات الفئات الاجتماعية والأطراف المختلفة لممارسة العنف أو الانخراط فيه، وفي النتيجة استعصاءا كارثيا للوضع. فنحن ندفع اليوم وسوف ندفع إلى زمن طويل ثمن إجهاض هذا الاصلاح والتشبث بأساليب حكم وخيارات داخلية وخارجية غير منتجة وغير ناجعة إن لم تكن مثيرة للفتن ومغذية لكل أنواع الاحتجاج والخروج على السلطة والتمرد والانفجار.
عوامل عديدة ساهمت في دفع الأوضاع العربية إلى هذا الخراب الفظيع. بعضها مرتبط بالسياسات الدولية القديمة والحديثة معا، وفي زمن أقرب، بالسياسات الامريكية التي دفعت المنطقة، عبر التدخلات العسكرية وعمليات الهيكلة وتقطيع الأوصال وتجميع الأعضاء كيفما كان، وتقويض الفكرة الديمقراطية نفسها، كما حصل في فلسطين مع رفض نتائج الانتخابات التشريعية، إلى حافة الكارثة، بقدر ما فرضت عليها أجندة خارجية، ففتت جميع القوى الداخلية وحرفتها عن مسارها الطبيعي. لكن بعضها عوامل داخلية مرتبطة بنجاح الاجنحة المتطرفة في الحكم، بالتحالف مع مجموعات المصالح المافيوية في الداخل والخارج معا، في فرض رؤيتها للوضع واغتيال أي مشاريع بل خطوات إصلاحية كان من الممكن أن تخفف من وقع الأزمة أو تساهم في وضع تصور لمواجهتها. وهذه الفئات والأجنحة هي نفسها التي راهنت ولا تزال تراهن على عقد الصفقات مع القوى الدولية لضمان التجديد للنظام بصرف النظر عن الإرادة الشعبية وفي مواجهتها. وهذا ما يضعنا على أبواب حقبة ثورية، ليس بالضرورة بالمعنى الايجابي للكلمة الذي اعتدنا عليه في أدبياتنا السياسية، ولكن بالمعنى السلبي الذي يفيد بأن السياسة قد فقدت فاعليتها في تنظيم الشؤون العامة أو تقديم حلول للأزمات المستعصية ولم يبق أمام الجمهور المذعور والخائف على مصيره ومصالحه الحيوية إلا الانخراط في حروب داخلية، لا يمكن أن تكون مع غياب الرؤية العقلانية والأخلاقيات الإنسانية سوى حروب تدميرية ومذابح بشرية.

mercredi, août 15, 2007

المثقفون ومستقبل الديمقراطية في العالم العربي

الاتحاد 15 آب 07
أدى فشل مشاريع التغيير الديمقراطي التي طرحت في السنوات القليلة الماضية إلى انتشار اليأس من مستقبل الديمقراطية في المجتمعات العربية. فبعد تنامي الآمال في السنوات الأولى من هذا القرن الجديد بربيع عربي ديمقراطي، عبر عنه الرأي العام المثقف ومؤسسات المجتمع المدني، وبدا وكأن العديد من النظم السياسية قد استجاب ولو جزئيا له تحت ضغط الدول الغربية، عادت الأمور اليوم إلى أسوأ مما كانت في نهاية القرن الماضي. وأصبح حلم توريث السلطة والرئاسة من قبل الحاكمين فرضية ممكنة من جديد، في الوقت الذي زادت فيه جرأة السلطات العربية على التصدي بالعنف لحركات المطالب الديمقراطية، وعدم الخوف من الاعتقالات التعسفية والجماعية ولا من تعقب المثقفين وتهديدهم ليكفوا عن الخطاب النقدي الذي بدأ يسيطر على كتاباتهم في الفترة الأخيرة. وسبب هذا التراجع كامن في السياسة الكارثية التي اتبعتها الإدارة الأمريكية القائمة. فهي في سبيل إضفاء الشرعية على مشروعها الاستعماري في العراق والشرق الأوسط عموما جعلت من الاصلاح أحد شعاراتها أو جوهر دعايتها. وادعت، للتخفيف من الانتقادات الدولية المتزايدة لمغامرتها السياسية، رغبتها في تحرير الشعوب العربية من الاستبداد. وقد ساهمت بذلك في تقويض مشروعية الكفاح الديمقراطي العربي لدى قسم كبير من الرأي العام العربي، بعد أن دعمت، خلال أكثر من ستين عاما، حسب تصريح الرئيس بوش نفسه، نظم الديكتاتورية. وجاءت هزيمتها في العراق لتعطي للنظم العربية، التي حنت رأسها للعاصفة لفترة قصيرة، فرصة الانتقام من القوى الديمقراطية المحلية وسحقها، في سياق انحسار النفوذ الأمريكي وتقلص الضغط الخارجي الموجه إليها. هذا هو ما يفسر الجزر الديمقراطي الذي تعيشه الشعوب العربية التي وقعت ضحية السياسات المغامرة واللاعقلانية والاستعمارية للإدارة الأمريكية.
ومن الطبيعي أن يدفع هذا الوضع العديد من الديمقراطيين وقطاعات الرأي العام العربي المتأثرة بهم، إلى التساؤل فيما إذا كانت لا تزال هناك فرص لاستعادة المبادرة من قبل الحركة الديمقراطية لبدء مشروع التغيير الذي تحلم به الشعوب العربية. وجوابي أن الانتصار الذي تشعر به أغلب النظم العربية اليوم قصير الأجل وملغوم بالأساس. لأنها لا تملك، بالرغم منه، أي حل للأزمات المتفاقمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية التي تعيشها المجتمعات العربية، ولا أمل لها في الخروج من مأزقها. .فهي لم تربح شيئا ولكنها تعيش على الفراغ أو الوقت الضائع الذي خلفه انحسار النفوذ الأمريكي، من دون أن تملك أي فضيلة تؤهلها لملء هذا الفراغ والإجابة على تحديات التغير السريع الذي تعيشه المجتمعات.
ولهذا، بعد الصدمة التي أحدثتها نتائج تطبيق الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وبشكل خاص في العراق، سوف تعود الحركة الديمقراطية العربية أقوى مما كانت. والمطلوب، في انتظار ذلك، التغلب على مشاعر الاحباط الناجمة عن الانقلاب الحاصل في موازين القوى الإقليمية، والعمل منذ الآن على تحرير الحركة والفكر الديمقراطيين من المخانق والتناقضات والالتباسات التي ورثتها عن المرحلة السابقة. ودور المثقفين هو بالضبط دعم هذه الحركة برؤية عقلانية واضحة وتأمين التواصل مع الرأي العام الواسع. وللأدب والفن والسينما والمسرح وكل وسائل الثقافة أو ينبغي أن يكون لهما دور رائد في هذا المجال.
بالتأكيد لن يكون هناك أمل في بناء نظام ديمقراطي مستقر في البلدان العربية، خاصة في المشرق، بمعزل عن حل القضايا الوطنية الكبرى، وفي مقدمها القضية الفلسطينية، وتوسيع هامش مبادرة الدول والشعوب تجاه الاستراتيجيات الاستعمارية الخارجية. لكن يتوقف هذا التقدم نفسه على قدرة المجتمعات على تكوين قوى ديمقراطية شعبية حية تفرض على النظم والقوى الأجنبية معا تغيير حساباتها. إن مستقبل الديمقراطية في البلاد العربية لا يتوقف على تغيير علاقات القوى داخل الدول العربية نفسها وفرض التعددية على النظم الأحادية أو شبه الأحادية فحسب، وإنما، أكثر من ذلك، على تغيير علاقات القوة الإقليمية وفرض التراجع على الاستراتيجيات الاستعمارية المترسخة في المنطقة بسبب وجود أهم الاحتياطيات النفطية وإسرائيل. وبناء حركة ديمقراطية شعبية ليس عملية عفوية. ولا يحدث تلقائيا من جراء تراجع نفوذ القوى الدولية أو انحسار نفوذ النظام القائم وتداعي تحالفاته الداخلية والخارجية. إنه يتوقف على النجاح في تطوير خط جماهيري يربط بين المطالب الشعبية المشروعة والحقوق الانسانية الأساسية وبين المصالح الوطنية العليا للعالم العربي ولكل بلد من بلدانه أيضا. وفي هذا البناء تقع مسؤولية رئيسية على المثقفين الذين يمثلون الوسيط الحضاري الناقل للأفكار والدروس التاريخية، ومسؤولية لا تقل عنها أهمية على السياسيين بوصفهم الجسر الذي يربط بين عالم الفكر وعالم الممارسة,
لكن في ما وراء ذلك، يستدعي بناء الديمقراطية، كحركة ثم كنظام مجتمعي، واستبعاد روح التسلط والعسف واستسهال انتهاك حقوق الأفراد وحرياتهم من قبل بعضهم البعض، تربية مدنية لا غنى عنها في أي تجربة، غربية كانت أم شرقية، من أجل تأهيل المجتمع وإعداده لاستيعاب معنى الحرية والمسؤولية والمساواة والقانون. وهذه هي الخطوة الأولى الضرورية والشرط المسبق، ليس لنمو الحركة الديمقراطية فحسب، وإنما، كذلك، لتكوين قوى ديمقراطية قادرة فعلا على حمل النظام الديمقراطي القادم وتسييره والدفاع عنه ومنع استغلاله من قبل شبكات المصالح المالية. وربما كان دور المثقفين أهم في هذا المجال بكثير من دورهم في قيادة حركة التغيير السياسي نفسها. المهم أن نعرف أن الديمقراطية هي النظام الذي يستند إلى سيادة الشعب ومشاركته القوية، وهذا ما يفترض أولا وجود شعب. والشعب ليس مجرد أفراد يعيشون مع بعض ولكن ثقافة حية تفاعلية، ومباديء للعيش المشترك، وأخلاقيات عامة قائمة على الاحترام والمساواة والتضامن والتكافل. الشعب نظام أخلاقي وثقافي وقانوني، أي وعي وطني أو مواطني يولد إرادة واحدة. فإذا انعدمت التصورات الذهنية والرمزية المشتركة، و الأخلاقيات التضامنية والمواطنية، وتحول الشعب إلى أفراد لا رابط بينهم سوى المصالح الخاصة، لا يشعرون بالألفة ولا الثقة المتبادلة ولا الفائدة من العيش المشترك، زالت الإرادة الموحدة وانقسم الشعب إرادات، وزالت إمكانية بناء نظام سياسي بالمعنى الحقيقي للكلمة. أما ما نعرفه في بلداننا من نظم فلا علاقة له بذلك. وليس فيها شيئا من نظام السياسة وإنما هي نظم عصبية طبيعية، أو سيطرة بالقوة، وفرض لإرادة مجموعة من الحاكمين المستندين في حكمهم على الأجهزة الامنية والعسكرية. ولا تملك شعوبنا لا أخلاقيات سياسية حقيقية واعية ولا إرادة وطنية. إنها تعيش في نظام التبعية المطلقة للسلطة وللدولة الأجنبيتين، حتى لو كان أعضاؤهما من أهل البلاد الأصليين. لكن لا يجمعهم جامع مع بقية أبناء جلدتهم. ولا يستطيعون ضمان استمرار سلطتهم إلا بتعليم الشعوب استبطان دونيتها، وتمثلها الحاكمين كطبقة متميزة مختلفة عن بقية السكان ومتفوقة عليهم . ولا تتردد بعض النظم الضعيفة في سبيل فرض هذا التميز والتفوق عن استخدام العنف الأعمى الذي يجبر السكان، مهما امتدت مقاومتهم، على استبطان علاقات السلطة القائمة ومنطقها، أعني منطق السيادة من جهة والعبودية من الجهة الأخرى.

dimanche, août 05, 2007

حوار مع موقع مرافيء العراقي


السلم والتضامن: حوار مع الكاتب والمفكر العربي الأستاذ الدكتور برهان غليون

في 5 آب 2007
أجرى الحوار / محرر موقع "مرافئ" التابع للمجلس العراقي للسلم والتضامن :مجلة "تضامن" تصدر عن المجلس العراقي للسلم والتضامن :صفحة ( حوارات ) :
-برهان غليون أستاذ علم الإجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس دكتوراه في العلوم الإنسانية وأخرى في علم الإجتماع السياسي واضع العديد من المؤلفات بالعربية والفرنسية :بيان من أجل الديمقراطية – مؤسسة الأبحاث العربية/بيروت- المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات/ الطليعة بيروت- مجتمع النخبة /معهد الإنماء العربي / بيروت , إغتيال العقل / المركز الثقافي العربي /بيروت , حول الدولة والدين د . سمير أمين . إضافة الى العشرات من المؤلفات والدراسات .وقد إتصل الزميل ( حيدر وسام ) المشرف على موقع "مرافئ " العائد للمجلس العراقي للسلم والتضامن بالمفكر برهان غليون وكان معه هذا اللقاء :
*س1 / بصفتك مفكر وكاتب له دور بارز في التعاطي مع الموضوعات المختلفة وإبداء الرأي الموضوعي بما يطرح من أفكار وآراء ... كيف تنظرون الى أو تقيمون مفهوم " صراع الحضارات " المتداول من قبل بعض المفكرين وأبرزهم "صموئيل هنتغتون " وأين تكمن نقاط التعارض بين ثقافات الشعوب المختلفة ؟ وكيف يمكننا التعاطي مع هذه الفكرة أو المفهوم في تعاملنا مع الآخر وفق صيغة أخرى يبلورها مفهوم مختلف هو "حوار الحضارات" الذي تتطلع له الشعوب من أجل تحقيق السلام العالمي ؟
برهان غليون: خلق انهيار المعسكر الشيوعي، وزوال الاتحاد السوفييتي الممثل له، فجوة كبيرة في الايديولوجية الدفاعية لنظام السيطرة الغربية في العالم. فقد كان العداء للمعسكر الشيوعي وما يمثله من القيم السلبية الوسيلة الرئيسية لدفع الجمهور الغربي الواسع إلى تأييد السياسات الأطلسية الهجومية والالتحاق بها من دون نقد ولا تساؤل، وبالتالي تبرير هذه السياسات والنفقات العسكرية الباهظة المرتبطة بها. والنجاح، انطلاقا من ذلك، إلى إقناع الرأي العام الدولي بأن السيطرة الغربية على العالم ليست أخلاقية فحسب لأنها تحول دون انتصار الشر، ولكنها حتمية أيضا، ولا يمكن التراجع عنها من دون تعريض مجتمعات الغرب ونظمها الديمقراطية وهويتها وثقافتها وقيمها وأسلوب حياتها اليومية للخطر الماحق.وكان من الطبيعي أن يقود انحسار خطر هذا المسخ التاريخي الشيوعي وزواله من الوجود إلى تصاعد المواقف النقدية إزاء السياسات الهيمنية الغربية، تماما كما كان من المنتظر لزوال الحرب الباردة ومتطلباتها أن يقود إلى تراجع النفقات العسكرية وتنامي فرص التفاهم والتعاون الدوليين لتحسين شروط حياة المجتمع الدولي برمته ومعالجة أقسى مشكلة يعاني منها النوع البشري، أعني الفقر الذي يرزح تحت وطأته أكثر من مليار نسمة. بيد أن مثل هذه التوجهات لم تكن تتضارب مع ما طبع السياسات الغربية والدولية عموما في القرنين الماضيين من حروب ومواجهات جعلت من تبني مبدأ الاستعداد للحرب وكسب النزاعات المحتملة القاعدة المثلى لتجنب حدوثها فحسب وإنما مع مصالح واسعة ونافذة ارتبطت بعقود طويلة من سيطرة مناخ المواجهة والحرب الباردة، وفي مقدمها مصالح المركب الصناعي العسكري وبيرقراطية الدولة والجيش ومؤسسات الدفاع الإقليمية والعديد من القوى السياسية التي تتحالف معها. وهكذا ما كان من الممكن ترك الاتحاد السوفييتي ينهار من دون السعي، من قبل هؤلاء، عن عدو جديد يبرر الاستمرار في السياسات الهجومية ذاتها التي تضفي المشروعية على السيطرة الغربية على العالم وتبرر استمرارها. وقبل أن تبدأ أي حركة إسلامية باستخدام العنف على أي نطاق خارج البلدان الاسلامية، وجد أنبياء السيطرة الغربية في رفع العالم الاسلامي والعربي إلى مستوى الخصم التاريخي والحضاري الرئيسي للغرب، سياسة وحضارة واقتصادا معا، المرتكز الوحيد لتمديد مناخ الحرب الباردة وتبرير سياسات السيطرة الغربية. وهكذا شكل تشويه صورة العرب والمسلمين واستفزازهم خلال أكثر من ربع قرن مادة حرب باردة عالمية حقيقية لن يتأخر منظروا السيطرة الغربية عن إعطائها إسمها الجديد الخاص، الحرب الحضارية والصدام بين الثقافات. ومنذ ذلك الوقت يمكن القول إن الحرب أصبحت سجالا بين المسلمين والعرب من جهة، والنخب الغربية اليمينية التي سعت ولا تزال إلى جر العالم بأكمله إلى تأييد موقفها العدواني والعنصري من الجهة الثانية. في هذا السياق استعادت ايديولوجية تبرير السيطرة الدولية والسياسات الأطلسية الهجومية اللغة والشعارات ذاتها التي كانت تستخدمها ضد الاتحاد السوفييتي في حقبة الحرب الباردة السابقة. فركزت وسائل الإعلام الغربية على الأخطار المتعددة التي يمثلها العالم العربي والاسلامي الذي يخضع في نظرها، مثله مثل الاتحاد السوفييتي السابق، لثقافة مناقضة في قيمها للثقافة الغربية الحديثة ومعادية لها، سواء في ما يتعلق باعتماده العنف في علاقاته مع الخارج واستلابه لمنطق القوة ومراكمة وسائل وأسلحة الدمار الشامل أو في محاولاته المستمرة لتفجير الأزمات الدولية والحروب الإقليمية أو في دفاعه عن نظم سياسية لا ديمقراطية تسمح للمغامرين من الحكام الديكتاتوريين والطغاة من التلاعب بالجماهير ودفعها إلى العداء المجاني للخارج ولكل ما هو أجنبي في سبيل حرف انتباهها عن مشاكلها الداخلية التي التي تتسبب فيها سياسات أنانية ولاعقلانية.وجاءت الحركات الجهادية الاسلامية التي تستخدم الإرهاب والخطف وقتل الرهائن كوسائل للضغط على الدول الغربية، في أوضاع المواجهة القائمة في أكثر من مكان، لتكرس الاعتقاد الواسع الانتشار اليوم بأن عالم العرب والمسلمين لا يفهم إلا لغة القوة والعنف وإنه يفتقر إلى ثقافة التعايش والتفاهم والحوار والتفاوض التي هي لغة العصر ومصدر بناء إجماعات دولية لم يكن المجتمع الدولي في أي حقبة أكثر حاجة لها منه اليوم. هذا هو الاصل في ولادة نظرية حرب الحضارات أو الصدام بين الثقافات كما يشير عنوان هنتنجتون. وليست نظرية حوار الحضارات إلا الرد الشكلي والضعيف عليها. الرد الحقيقي هو في العمل على إخراج العالم العربي والاسلامي من الازمة الحضارية التي يعيشها بالفعل، السياسية والاقتصادية والتقنية والعلمية وتبني سياسات تحفز على القيام بنهضة شاملة وعميقة. عندئذ نظهر للغرب أننا لسنا جدارا منخفضا يشجع الجميع على القفز من فوقه وعليه.
*س2/ هناك تراجع واضح في برامج القوى العلمانية والليبرالية في المنطقة يقابله مد في نشاط قوى الإسلام السياسي وتأثير برامجه ومناهجها على عقول الناس وخاصة فئة الشباب والنساء .. أين تكمن أسباب هذا التراجع ؟ وكيف للقوى العلمانية والليبرالية إستعادة نشاطها وتأثيرها ؟ .
برهان غليون: البرامج الليبرالية والعلمانية هي جزء من مشروع الحداثة الحضاري الذي جمعنا مع الغرب في القرنين الماضيين. وبقدر تصاعد وتيرة صراعنا مع الغرب بسبب سياساته العدوانية من جهة وسوء إدارة سياساتنا الخارجية من جهة ثانية، زاد ابتعادنا عنه وزادت نزعة شعوبنا للانفصال عنه والارتداد بالمناسبة نفسها عن القيم الحديثة التي تربطنا به في مشروع واحد. وهو ما يفسر في الوقت نفسه عودة الرأي العام بأغلبيته إلى القيم والأفكار التي تميزنا عن الغرب، وهي بالضرورة تلك التي نستمدها من التراث والتاريخ لملء الفراغ الناشيء.لكن بعكس ما يعتقد الكثيرون، ليس هدف هذه العودة الحياة في التراث وتفعيل القيم القديمة، بقدر ما هي وسيلة لبناء ثقافة جديده مضادة وتبرير موقف معاد للغرب يعكس النقمة عليه والانتقام منه ومن نظم الحداثة التي لم تفرز هنا سوى ممارسات مناقضة تماما لما تعلن عنه.ولا يوجد أي أمل لدى القوى العلمانية والليبرالية في استعادة نشاطها وتأثيرها من دون إخراج مشروع الحداثة العربي والاسلامي بوجهه المادي ووجهه الفكري معا من المأزق الذي يعيش فيه منذ عقدين، أي من دون الخروج من نظام القمع والمضاربة والتلاعب والفساد المعمم، و وإطلاق روح الحرية والقانون والمبادرة والعمل المنتج والابداع.
*س3/ مازالت "نظرية المؤامرة" تتحكم بعقول الكثير من النخب السياسية العربية وأنظمة الحكم في المنطقة .. برأيكم على اي خلفية تأسست هذه النظرية ؟ وهل هناك أرضية لتخصيبها في ثقافتنا وفي وعينا الإجتماعي ؟
.برهان غليون: الأصل في نشوء فكرة المؤامرة هو التغطية على العجز النظري والسياسي الذي أظهرته النخبة في فهم سياسات الدول الكبرى واستراتيجياتها وايجاد السبل الكفيلة بالرد الناجع عليها وإحباطها. فما نسميه مؤامرة ليس هو في الحقيقة سوى سياسات وخطط منظمة ومعروفة، أو يمكن معرفتها من خلال البحث والدراسة العلمية، تبلورها القوى المختلفة في صراعها من أجل تحقيق أهدافها المنشودة، سواء أكانت هذه الأهداف أهدافا وطنية مشروعة أو أهدافا استعمارية. هكذا يجنب الحديث عن مؤامرات خارجية النخب الاجتماعية، والحاكمة منها بشكل خاص، النقاش في مسؤوليتها عن فهم حقيقة هذه الخطط ومضمونها وتحديد أهدافها وبلورة الاستراتيجيات أو الخطط المناقضة المطلوبة للرد عليها. والنتيجة هو إخراج العلاقات الدولية من الميادين السياسية وتجنيب الرأي العام مناقشتها على هذه الأرضية ووضعها على أرضية أخلاقية وعاطفية تبرر كل أخطاء السلطات والنخب الحاكمة وتطمس مسؤوليتها عن غياب المبادرة الفعالة لإحباط الخطط الاجنبية. فإبراز الاستراتيجيات المعادية في صورة المؤامرة هي جزء من آليات التلاعب بالرأي العام وحرف نظره عن نقائص النخب الحاكمة وضعفها. وبالتأكيد يتناسب حظ نجاح مثل هذا التلاعب طردا مع ضعف الثقافة السياسية وقيم المسؤولية عند المجتمعات وغياب معايير المحاسبة والمساءلة عند الرأي العام.
*س4/ طرحت الإدارة الأمريكية "مشروع الشرق الأوسط الكبير" وتبنت مجموعة من السياسات في هذا المجال وإتخذت من العراق , بحسب إطروحتها المعلنة , نقطة إنطلاق ونموذجاً لتحقيق الديمقراطية في المنطقة .. كيف تقيمون هذا المفهوم ؟ وهل أن ما يجري في العراق وفي مناطق أخرى من العالم من إتساع لعمل الجماعات الإرهابية هو دليل إخفاق لهذا المشروع أم أن هناك إستراتيجيات أخرى للإدارة الأمريكية تعمل على تحقيقها من خلال تواجدها في العراق ؟ .
برهان غليون: مشروع الشرق الأوسط الكبير هو اسم السياسة الجديدة التي أرادت إدارة الرئيس جورج بوش الابن أن تطبقها في المنقطة بعد احداث 11 ايلول سبتمبر 2001، وهدفت من ورائها إلى تعزيز قبضتها على الوضع في منطقة تنطوي في نظرها على مصالح استراتيجية وحيوية، في مقدمها النفط وأمن إسرائيل والموقع الجيوستراتيجي العالمي، وتتعرض لمنافسة قوية فيها ولتهديدات متزايدة مع تنامي قوى المقاومة السياسية والايديولوجية، وتفجر حركات الإرهاب الدينية الموجهة اكثر فأكثر نحو اهداف غربية، وأمريكية منها بشكل خاص. ولم تشكل الديمقراطية في هذه السياسة العامة إلا عنصرا تزيينيا أو ايدلولوجيا دعائيا أرادت من خلاله إضفاء نوع من الشرعية على اهدافها القومية الاستعمارية.ومن الطبيعي أن تتعرض هذه السياسة الشرق أوسطية الجديدة للإخفاق والانهيار. فقد راهنت كثيرا على تفوقها الاستراتيجي، واعتقدت أنها قادرة على حل جميع المسائل المعقدة بالقوة العسكرية، كما تجاهلت تماما مشاعر شعوب المنطقة وتمسكهم، مهما كانت مذاهب أبنائها وخياراتهم السياسية والايديولوجية، باستقلالهم، واستهترت من دون حدود بقدرة الناس على إدراك مصالحهم الخاصة. لا يلغي هذا احتمال أن تبدل الولايات المتحدة من استراتيجياتها وان تبادر، إذا فقدت الأمل بالسيطرة على عراق موحد على الطريقة الفيدرالية، أي من دون دولة مركزية قوية، وهذه كانت استراتيجيتها الأصلية، إلى القبول بتقسيم العراق وإقراره كأمر واقع، يمكنها من السيطرة عليه كاجزاء متفرقة ومتنافسة بعد أن أخفقت في السيطرة عليها ككتلة واحدة او شبة موحدة.
*س5/ بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق , ظهرت العديد من منظمات المجتمع المدني التي تبنت برامج توعية مختلفة بحقوق الإنسان والمرأة ورعاية الطفولة وتقوم بالتثقيف على أهمية مفهوم المواطنة وقبول الآخر .. توجت هذه النشاطات برعاية المجلس العراقي للسلم والتضامن لحملة وطنية تقودها لجنة مشتركة من هذه المنظمات الفاعلة تعمل تحت شعار ( معاً من أجل العراق ) لمواجهة العنف والطائفية والتهجير ونشر ثقافة السلم والتسامح ... كيف تنظرون الى مثل هذه النشاطات ومدى تأثيرها على الحراك السياسي والإجتماعي في العراق ؟ .
برهان غليون: لحسن الحظ أنه لا تزال هناك قطاعات من الرأي العام مستعدة للتضحية من أجل المصلحة العامة، وقادرة على العمل على مستوى يتجاوز النزاعات الطائفية والمذهبية والسياسية، ويجمع بين كافة العراقين على مختلف أصولهم، وتقديم الخدمات الانسانية والسياسية لهم جميعا من دون تمييز.ونحن بحاجة إلى المزيد منها، وإلى تقويتها بجميع الوسائل. وربما أمكن لها إذا نجحت بالفعل في تجاوز الحدود الضيقة التي تعمل فيها أن تساهم بقوة في إطلاق ديناميكيات التواصل والتفاهم والمصالحة بين أبناء الشعب العراقي كافة، كما نأمل.