jeudi, juin 28, 2007

سورية والمحكمة الدولية

الجزيرة نت
من الطبيعي والمشروع أن يشكل التحصن ضد مضاعفات المحكمة الدولية الهاجس الرئيسي للسلطة السورية اليوم. بيد أن من الخطأ الاعتقاد بأن أفضل وسيلة للتغلب على نتائج هذه المحكمة وقطع الطريق على الضغوط الخارجية، وتجنب الحصار والعقوبات الاقتصادية، التي من المحتمل أن تفرض حسب قرار مجلس الأمن، هو إلغاء الحياة السياسية، وإغلاق كل أبواب النقاش والتفكير والنقد، وإخماد أنفاس المجتمع المدني والمعارضة بأي وسيلة، قانونية أو غير قانونية. فبالاضافة إلى ما تعبر عنه من اضطراب، وما تشكله من مظلة تحتمي تحتها قوى الفساد الخطيرة في البلاد، ليس هناك أي أمل في أن تردع مثل هذه السياسة القوى الخارجية المعادية للنظام، ولا أن تقدم أي ضمانة لاحتفاظ السلطة بالسيطرة الشاملة التي تحلم بها، ولا في منع التجاوزات السياسية أو التخريبية. وتقدم التجربة العراقية المعاصرة درسا تاريخيا ثمينا في هذا المجال. فلم تنجح سياسة الإغلاق الشامل لنظام صدام على أي معارضة أو اختلاف أو انتقاد في ضمان الأمن والاستقرار، بل عملت بالعكس على نقل المعركة الداخلية إلى الساحات الخارجية، وساهمت في بناء معارضة مرتبطة بالقوى والمصالح الأجنبية، كان لها اليد الطولى في تدمير النظام، الذي كان قد أجهز، هو نفسه، على آخر ما تبقى له من شرعية، بفرضه منطق القمع الشامل على المجتمع والفرد.
وليس من الصعب فهم هذه الديناميكية التي قادت العراق إلى الدوامة الجهنمية التي يعيش فيها اليوم. فالضغوط المتزايدة التي تمارسها الدول الغربية على نظم تعمل بمنطق السيطرة الكلية، ولا تخضع لأي معايير سياسية أو أخلاقية، تتحول إلى ضغوط مباشرة ومضاعفة من قبل النظام على المجتمع، وتتجلى عبر جهود متزايدة لتحطيم قوى المعارضة الديمقراطية وغير الديمقراطية، أملا بإغلاق كل المنافذ وسد الذرائع والثغرات. ولا يلبث هذا الضغط المتزايد على قوى المعارضة الداخلية حتى يفجرها وينقل مركز الثقل إلى أقسامها الخارجية التي تجد نفسها تلقائيا في موقع القيادة، نظرا لما تحظى به من قدرة على الحركة والمبادرة وبناء التحالفات مع القوى الدولية، في الوقت الذي يقبع فيه قادة المعارضة الداخلية السلمية والوطنية، في السجون والمعتقلات. ويدفع اليأس من إمكانية التغيير السياسي من الداخل بقطاعات متزايدة من الرأي العام المتذمر إلى التطلع نحو هذه المعارضة الخارجية، التي تشعر أكثر فأكثر أن عليها يقع منذ الآن واجب العمل بجميع الوسائل للرد على طلبات التغيير الموجهة إليها، وتجد نفسها تحت ضغوط متزايدة للتحالف مع الشيطان حتى لا تخسر الرهان ولا تخون الآمال المعلقة عليها.
هذا ما يفسر كيف أن حركات كانت بالأصل معادية عداءا شديدا للولايات المتحدة وسياساتها الإقليمية، مثل الحزب الشيوعي العراقي والأحزاب والتكتلات الاسلامية الشيعية، قد قبلت بسهولة وسرعة التكيف مع الاستراتيجيات الغربية، وأحيانا الارتماء في أحضانها، ثم المشاركة في مشروع غزو بلادها ووضعها تحت الوصاية الأجنبية. فالناس لا يولدون خونة ولا متآمرين ولكنهم يصبحون كذلك نتيجة المواقع التي يجبرون على احتلالها والأدوار التي يدفعون إلى لعبها، أي عندما لا يجدون لأنفسهم ومصالحهم مخرجا آخر ولا خيارا، سوى التفاهم مع القوى الخارجية القابلة لأن تتبني قضيتهم حتى لو كان ذلك، وهو لا يمكن إلا أن يكون، لتحقيق مآرب خصوصية. هكذا تعمل الردود القمعية على الضغوط الخارجية عملها، وتحقق أهدافها، بصرف النظر عن إرادة الناس الذين يخضعون لها، بل أحيانا كثيرة ضد قناعاتهم الأساسية. وحتى عندما يعتقد النظام أنه قد أغلق جميع الأبواب التي تنفذ منها الضغوط الخارجية، فليس هناك أي ضمانة أن لا يتعثر في مناورته الدولية، ويجد نفسه أسير المناورة السياسية نفسها التي قادت السلطة البعثية العراقية إلى حتفها. أعني جدلية الضغوط التي تعمل حسب المنطق البسيط الثلاثي الأبعاد : القوى الخارجية تطحن النخب الحاكمة لإخضاعها وإجبارها على التكيف مع استرايتيجيتها، فتعمد هذه الأخيرة، من قبيل الحيطة، والمزاودة على القوى الأجنبية وتحديها أيضا، إلى طحن المعارضة الداخلية، واستخدامها كبش محرقة، تبرر به جميع أخطاء سياساتها الداخلية والخارجية التي قادت إلى النزاع مع الدول الأجنبية. وبدورها، لا تجد المعارضة الخاضعة لكل أنواع التنكيل والاضطهاد ملجأ لها إلا بالهرب إلى الدول نفسها التي تمارس الضغوط الخارجية، والمراهنة على التعاون معها للحفاظ على وجودها والوفاء بوعودها التغييرية. وهذا ما يخدم قضية هذه الدول الكبرى الضاغطة التي تتلقاها بين أذرعها لتعيد تصديرها إلى الداخل، إما على شكل قوى معارضة مسلحة أو إنقلابية، أو كغطاء سياسي لتدخل عسكري أجنبي مباشر.
تحت تأثير هذه الجدلية سقط النظام العراقي السابق بعد أن دفعه الحصار الدولي الطويل إلى ضرب حصار لا يقل شراسة على المجتمع، وحول المعارضة التي التجأت إلى الخارج، في ايران او سورية أولا، ثم في الدول الغربية المعنية والقادرة على تقديم الدعم المناسب معا، إلى حامل للاستراتيجيات الأجنبية. وفي النهاية، لم يكن النظام وحده هو الضحية لسياساته القمعية وإنما البلاد بأكملها، دولة وشعبا.
وكما يخطيء النظام عندما يعتقد أن خنق المعارضة الوطنية لصالح إبراز المعارضات المرتبطة بالخارج يزيد من قدرته على المناورة السياسية مع القوى الأجنبية، ويبرهن لها على أنه لا أمل لها من دون التعاون معه، تخطيء بعض أطراف المعارضة السورية عندما تبني استراتيجية التغيير، الذي تحلم به عن حق، على استدراج عروض الضغوط الخارجية، أو تراهن على النتائج المحتملة لإقامة المحكمة الدولية. لا يكمن خطؤها في أنها تقدم بذلك الذريعة التي يحتاجها النظام ليبرر سياساته القمعية وإنما، أكثر من ذلك، لتغذيتها أوهاما في التغيير لا تملك هي نفسها سيطرة على أي عنصر من عناصرها الفعلية. فليس هناك أي سبب يدفع إلى الاعتقاد بأن الضغط الذي تمثله هذه المحكمة سوف يعمل على إسقاط النظام أو يجبره، كما تظن العديد من الأطراف، على الانفتاح على الشعب وتوسيع هامش الحريات المدنية والسياسية. بل إن العكس تماما هو الصحيح. فكما بينت ذلك السنوات الماضية، يشجع الخوف المتزايد من زعزعة الاستقرار أي نظام استبدادي يتعرض لضغوط خارجية قوية، على توجيه مثلها إلى قوى الاحتجاج الداخلية وتدفيعها ثمنها، من خلال تشديد الإجراءات الأمنية وزيادة الاعتقالات وإصدار الأحكام الاستثنائية. بل ليس من المبالغة القول إن لدى مثل هذا النظام مصلحة في أن يستغل هذه الضغوط ليبيح لنفسه إجراءات أمنية تعزز مركزه الداخلي، كان من المستحيل تبريرها في الظروف الطبيعية، لا تهدف إلى تقييد المعارضة وإخماد أنفاسها فحسب ولكن، في ما وراء ذلك، إلى تعقيم المجتمعات والقضاء على فكرة التغيير نفسها، وإخماد روح الاحتجاج والاعتراض والانتقاد بل والتفكير فيها. وربما أمل من خلال ذلك بأن يضمن لنفسه مزيدا من السيطرة على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، ويقنع أصحاب الضغوط الخارجية أن من المستحيل تجاوزه أو الاستغناء عنه في أي مشروع يهدف إلى الحفاظ على الحد الادنى من الاستقرار والأمن ومواجهة مخاطر تعميم الخراب والفوضى الداخلية والإقليمية.
لا يعني هذا أن المحكمة لن تنتج أوضاعا تضر بالنظام، أو أنها تفتقر للمبرر أو الشرعية، أو أن إنشاءها، كما يقول أنصار النظام، مؤامرة دولية. ولكن فقط أن الذي سيدفع ثمن ترويعها النظام سيكون الشعب نفسه والقوى السياسية والمدنية المكافحة من أجل الحرية، وربما حولتهم، كما حصل سابقا في العراق، إلى ما يشبه الرهائن في مواجهة لا يعرف أحد مآلاتها النهائية. ويعني كذلك أنها، حتى في حالة تحولها إلى آلة حرب فعالة ضد النظام القائم، لن تخدم المعارضة السورية، ولن يستخدمها أحد لصالحها، وذلك بالضبط لأنها تندرج ضمن استراتيجية حرف النظر عن الأزمة الكبرى التي تعصف بالمنطقة، وتجنب البحث في حلول المشكلات الحقيقية، وفي مقدمها مسائل الاحتلال والاستيطان الاستعماري والسيطرة الغربية على مصائر شعوب المنقطة وحرمانها من حقوقها الوطنية. فما يتوجب على الولايات المتحدة وأوروبة ويقع على عاتقهما ليس تغيير النظم السياسية وإنما التخلي عن السياسات الاستعمارية أو شبه الاستعمارية التي تفسر وجود هذه النظم، ومعالجة نتائجها المتراكمة منذ عقود، والتي قادت المنطقة إلى الهاوية. فالمحكمة بالضرورة وبالأساس أداة في يد السياسة الأمريكية أو الأمريكية الاوروبية، بصرف النظر، كما ذكرت، عن مشروعية إنشائها أو تماسك الأسس القانونية وغير القانونية التي أقيمت عليها، واستهدافها أطرافا شاركت بالفعل في الأحداث المأساوية التي جرت على الساحة السياسية اللبنانية منذ مقتل رفيق الحريري وبعده. ومن يحلم بالاستفادة من المحكمة الدولية لتحقيق أهداف وطنية سورية، فهو لا محالة يعتقد، او لا يزال يعتقد بأن هدف واشنطن والإدارة الأمريكية القائمة، أو على الأقل أحد أهداف سياستها، في المنطقة المشرقية، هو فعلا الضغط في سبيل تعزيز قضايا الديمقراطية، وتأهيل الشعوب للتمكن من حقوقها السياسية والمدنية. وإذا كان هذا هو اعتقاده فلن يطول الوقت قبل أن يجد نفسه، في سياق المراهنة على هذه الضغوط، واقفا، بإدراك أو من دون إدراك، في المواقع الأمريكية، حتى لو كان من أكثر الكارهين لسياسات واشنطن العدوانية.
من هنا كان ينبغي التذكير بأن المحكمة الدولية ليست بعيدة عن أن تساعد على تطور قضية الديمقراطية في سورية والمنطقة العربية فحسب، ولكنها تشكل أكثر من ذلك وينبغي أن ننظر إليها كمصدر للمخاطر، واستحقاقا من الاستحقاقات الكبرى التي تستدعي من أطراف النخبة الوطنية جميعا التعامل معها بحكمة وحذر، في سبيل محاصرة مفاعيلها وإطفاء النيران التي ستشعلها، إذا أردنا أن لا تتحول إلى فخ نقع فيه جميعا، سلطة ومعارضة ووطنا. وهذا يعني أن نتجنب ما أمكن تحويلها إلى محور استراتيجياتنا السياسة، وأن لا نراهن عليها وعلى نتائجها للهرب من الاستحقاقات الوطنية أو للتغطية على ثغرات سياستنا المختلفة، فيعتقد بعضنا، من الموجودين في مواقع المسؤولية، أنه عثر فيها على الذريعة المناسبة لتشديد قبضة النظام القائم، وتعزيز دفاعاته القانونية وغير القانونية ضد الهزات الداخلية والخارجية، ويعتقد البعض الآخر، من أعضاء المعارضة، التي تعاني محنة التهميش والقمع والقهر، أنه وجد كلمة السر التي ستفتح باب الفرج، وتنقذ مشروع التغيير الذي انعدم الأمل بتحقيقه بقدراتنا الذاتية. ويخشى أننا إذا لم نحسن التصرف، سلطة ومعارضة، إزاء هذه القضية، أن تتحول المحكمة الدولية من فخ منصوب للنظام بهدف تطويعه وتركيعه من قبل الغرب، إلى قنبلة موقوتة تتفجر فينا وتفجر آخر ما تبقى لنا من وهم الدولة الوطنية. والخوف المشروع من مثل هذا الاحتمال هو الذي يفسر في نظري الموقف السلبي الذي اتخذه الرأي العام السوري منذ البداية منها، حتى لو أنه لم يذهب إلى حد تبرئة السلطة من التهم الموجهة أو التي يمكن أن توجه إليها.
والخلاصة، تخيم الهواجس المرتبطة بإقرار المحكمة الدولية على العديد من الصراعات القائمة في بلدان المشرق العربي وتهدد استقرارها. وليس لنا، نحن السوريين، أمل في تجنب المحنة التي قادت إليها في بلدان أخرى، وفي لبنان الذي أصبح رهين أجندتها بشكل خاص، ولا في وقف المواجهة الداخلية العنيفة التي نعيشها منذ سنتين، والعودة إلى مناخ التعايش بين الأطراف، من دون اللجوء اليومي إلى العنف المفرط، وربما استعادة منطق الحوار الداخلي، إلا بفصل أجندة المحكمة الدولية التي تسيطر عليها المصالح الخارجية عن أجندة نزاعاتنا السياسية التي لا تخضع، ولا ينبغي أن تخضع، إلا لحسابات المصالح الداخلية، أي الوطنية. وهذه ليست دعوة لبعض أطراف المعارضة الديمقراطية التي راودتها بعض الأوهام بشأنها كي تصحح موقفها، ولكن قبل ذلك لأطراف النظام الذي ينزع إلى إخضاع السياسات الوطنية والإقليمية بأكملها، وما يرتبط بتحقيقها من مصالح شعبية، لهدف واحد وحيد هو مقاومة المحكمة الدولية واحتواء نتائجها.

dimanche, juin 24, 2007

سورية وإسرائيل بين السلام والحرب

الوطن 25 يونيو 07

لم يحصل أن تضاربت الآراء والتحليلات بخصوص مستقبل العلاقات السورية الاسرائيلية القريب كما تتضارب اليوم. فبموازاة مؤشرات كثيرة لا تخطيء، رسمية وغير رسمية، على راهنية فتح مفاوضات سلام بين البلدين، تنتشر تأكيدات لا تقل إلحاحا وتكرارا عن احتمال اندلاع حرب بين البلدين في الصيف القادم. وهذا ما يعززه رأي العديد من المراقبين الدوليين والدبلوماسيين الذين زاروا عاصمتي البلدين، ونقلوا جميعا رأيا متشابها هو أن كلاهما يعلن استعداده للبدء بمفاوضات جدية للتوصل إلى تسوية لكنه يشك بنوايا الآخر، ويتهمه بالاستعداد الحثيث للحرب. فهل سيشهد الصيف القادم كما يتنبأ البعض حربا سورية إسرائيلية، تنائية أو في إطار حرب إقليمية أشمل، أم أن هناك بالفعل فرصا لإطلاق مسار مفاوضات جدية ومثمرة بين البلدين؟
يراهن المبشرون بالسلام على عدة عوامل. فإسرائيل تعاني من عقدة حرب تموز الأخيرة الخاسرة على لبنان، وهي تخشى في الوقت نفسه صواريخ حزب الله، وتأمل في أن يخلق التفاهم مع سورية فرصة لتحييده، أو ربما تفكيك آلته العسكرية. ثم إن هناك من يعتقد أن إطلاق المفاوضات مع سورية هو الوسيلة الوحيدة لإضعاف الموقف الفلسطيني، والتغطية على مأزق المفاوضات مع الفلسطينيين. وهناك أخيرا انشغال تل أبيب بالتقنية النووية الايرانية، ومصلحتها في فك سورية عنها لعزلها وربما توجيه ضربة عسكرية لها. ولا شك أن سقوط غزة منتصف يونيو حزيران الجاري (2007) في يد المقاومة الاسلامية حماس، سوف يزيد من اهتمام تل أبيب باسترضاء دمشق والتقرب منها.
ولا تقل الحجج التي تدافع عن جدية التوجه السوري إلى عقد اتفاق سلام عن تلك التي يذكرها المراقبون عن التوجه السلمي الاسرائيلي. ومن هذه الحجج رغبة النظام البعثي الذي يواجه احتجاجات متزايدة في استعادة الجولان المحتل، لتجديد شرعيته السياسية وتلميع صورته. ومنها كذلك محاولة الالتفاف على الحصار والمقاطعة الامريكية، وربما فتح حوار مع واشنطن عبر استرضاء تل أبيب. ومنها ثالثا اهتمام السلطة السورية التي تبنت سياسة الاقتصاد الحر بالانفتاح على أوروبة، في سبيل تحسين شروط اندماجها بالاقتصاد العالمي، وجذب الاستثمارات التي لا بد منها لمواجهة تحديات الفقر والبطالة والتأخر الاقتصادي.
وقد بلغ التفاؤل لدى فريق الأزمات الدولية، الذي أصدر تقريرا يركز على هذه المؤشرات الدالة على السير في اتجاه السلام، حدا دفع بمحرري التقرير الاخير إلى اقتراح اتفاقية سلام سورية إسرائيلية. وبالرغم من أهمية ما جاء فيه، يبدو لي أن المحررين ذهبا بعيدا في السير وراء رغائبهما، فلم يريا الواقع الفعلي في تعقيداته وتداخل مشاكله وملفاته، ونظرا إلى مستقبل النزاع السوري الاسرائيلي بمعزل عن القضايا الأخرى الإقليمية. وإذا لم يكن هناك شك في أن لدى الطرفين السوري والاسرائيلي دوافع معقولة للتوجه نحو مفاوضات سلام، إلا أن الظرف الإقليمي لا يدفع للأسف إلى التقدم في هذا الاتجاه. فهو أسير الصراع الاستراتيجي العميق والمعقد بين الولايات المتحدة الأمريكية المدعومة من أوروبة لمنع ايران من امتلاك القنبلة النووية، وبالتالي من بسط سيطرتها على أهم منطقة استراتيجية عالمية، أعني الخليج النفطي، وايران التي تعتقد أن الغرب يريد أن يحرمها من فرصتها في ضمان أمنها والتحرر من الحصار المضروب عليها منذ انتصار الثورة الخمينية عام 1979. وكما أن إسرائيل لا تستطيع أن تقرر في مسألة الصراع مع سورية من دون اعتبار المصالح الأمريكية الإقليمية، لا يمكن لدمشق أيضا أن تدخل في عمليات استراتيجية كبرى من دون اعتبار المصالح الايرانية. هذا من دون أن نذكر بالترابط بين ملف النزاع السوري الاسرائيلي وملفات النزاعات العربية الأخرى، الفلسطينية واللبنانية والعراقية.
بالتأكيد لا يمكن لواشنطن أن لا تدعم مفاوضات سورية إسرائيلية تهدف إلى فصل سورية عن ايران. وهذا ما ذكر به أولمرت في رسالته التي نقلها الأتراك إلى القيادة السورية. لكن الاعتقاد بأن دمشق سوف تتخلى عن ايران مقابل وعد بإعادة الجولان يدل على أن واشنطن وتل أبيب لا تدركان تماما مغزى التحالف السوري الايراني وقيمته بالنسبة للنظامين. فهو الورقة الرابحة الرئيسية حتى لا نقول الوحيدة في استراتيجية بقائهما، بالرغم من صحة ما يقوله التقرير أيضا عن التباينات العديدة في وجهات النظر وفي المصالح في أكثر من ملف من الملفات الإقليمية. لكن جميع المصالح المختلف عليها تبقى ثانوية بالنسبة لما يقدمه التحالف من ميزات استراتيجية حاسمة لطهران ودمشق في مواجهة خصومهما الخارجيين والداخليين معا. وحتى لو لم تكن سورية تابعة لايران، وهي ليست تابعة بالتأكيد، فإن تحالفها معها يفرض عليها أن لا تسير في اتجاه أو آخر من دون ضمان التناغم مع الاستراتيجية الكلية التي تجمع الطرفين في موجهة المحور الأمريكي الاسرائيلي. بعبارة أخرى، كما أنه لا يمكن فك اسرائيل عن واشنطن، بالرغم من التباين في بعض مصالحهما لا يمكن بالمثل فك سورية عن ايران رغم التباين أيضا في بعض مصالحهما الوطنية. فاسرائيل لن تتخلى عن حليفتها الرئيسية لحساب دمشق، ولن تدخل في السلام ما لم تكن واشنطن راعية له. ودمشق لن تتخلى عن حليفتها الكبرى لقاء الجولان، ولن تعقد سلاما مع إسرائيل وأمريكا من دونها.
ما ذا يعني إذن التأكيد المتواتر من قبل عاصمتي البلدين على استعدادهما للسلام وتمسكهما بفتح مفاوضات قريبة لتحقيقه؟ في نظري، إن حاجة كل طرف للمفاوضات السياسية تنبع بالضبط من ضرورات مواجهة الظرف الإقليمي الموسوم بالصراع الأمريكي الايراني، وموضعة نفسه فيه بما يحقق أكثر ما يمكن من المزايا ويقلل أكثر ما يمكن من الخسائر. وهكذا لم تتوقف الحكومة السورية عن إعلان رغبتها في الدخول في مفاوضات سلام من دون شروط منذ تدهور وضعها الاستراتيجي على اثر اغتيال رفيق الحريري وتبني مجلس الأمن مسألة تشكيل المحكمة الدولية. فهي بحاجة لمفاوضات مع إسرائيل ليس للتوصل إلى سلام يعيد الجولان، وتعرف أنه لا يزال بعيد المنال، وإنما لدرء الحرب التي تتهددها، بسبب تفاقم أزمة علاقاتها مع واشنطن التي تتهمها بتشجيع الشبكات الارهابية في العراق وغيره. فهي تأمل من وراء ذلك في تحييد إسرائيل وحثها على عدم السير في مخططات واشنطن المعادية لدمشق. ثم إن مثل هذه المفاوضات تهدف إلى تجنيب سورية أن تكون مسرحا للصراع الايراني الأمريكي المحتدم، وضحيته الرئيسية. أما حملة تل أبيب السلامية، التي لم تبدأ إلا منذ أسابيع قليلة، بعد صدود لافت، فهي تشكل جزءا من الاستراتيجة الغربية الشاملة لما سمي بإعادة إدماج دمشق أو التعاون معها في سبيل إبعادها عن ايران. فهو لا يعكس نضوج إسرائيل للسلام وايمانها بنجاعته لضمان الأمن، بقدر ما يشير إلى مساهمتها بقسط في تغيير اتجاه السياسة السورية.
من هنا، بالرغم من التصريحات المتواترة، ومؤشرات السلام المتعددة، هناك أسباب كثيرة تدفع إلى الاعتقاد بان المنطقة تتجه بشكل أكبر نحو الحرب. فغياب أي مبادرات سلمية من قبل واشنطن وتل أبيب في السنة الماضية، بالرغم من تفاقم الأزمة الإقليمية وتهديدها لمصالح دولية أساسية، يدل في اعتقادي على أن التحالف الأمريكي الاسرائيلي يميل إلى خيار استعادة صدقيته الاستراتيجية من خلال حرب جديدة ناجحة، أكثر مما يتجه نحو خيار التسوية التي لا بد أن تعكس، في الظروف الراهنة، نتائج النكسات التي مني بها ولا يزال في العراق وجنوب لبنان. لا ينفي هذا احتمال أن تحصل اختراقات غير متوقعه إذا طرأت تحولات مفاجئة على الخريطة الاستراتيجية الإقليمية. وهو ما نـأمله وندعو له، لكن على شرط ان لا نضع أقدامنا في مياه باردة ونعول على الحظ.

lundi, juin 18, 2007

حتى لا تضيع تضحياتنا الوطنية هباءا

اتحاد 20 يونيو 07
طمست الحروب الخارجية، والنزاعات الطائفية والمذهبية، والصراعات اليومية على موارد السلطة ومناصبها التي فقدت مضامينها السياسية والاجتماعية، المسألة الرئيسية التي شكلت في تسعينيات القرن الماضي محور النقاش والعمل العام، وقادت إلى المصادمات الدموية بين القوى الاسلاموية والقوى العلمانية، الرسمية والأهلية، على مختلف مشاربها وتناقضاتها، وأعني بها إعادة بناء مفهوم الدولة الوطنية ومن ورائها الجماعة الوطنية. وكانت العقود القليلة السابقة قد شهدت تطورات أساسية حولت الدول المستقلة حديثا إلى ما يشبه الإقطاعات التي تتحكم بها نخب محلية فقدت المعايير السياسية وأصبحت تتصرف بها كما لو كانت ملكيات شخصية. وبعد الصراع السياسي الطويل والدامي حول نموذجين للسلطة المدنية والسلطة الدينية، أو المستمدة من الشريعة الدينية، أسفر عن العديد من الحروب الأهلية المدمرة هنا وهناك، دخلت معظم البلاد العربية منذ بداية الألفية الثالثة حقبة ثانية اتسمت بسيطرة النزاعات ذات الطبيعة الوطنية أو الخارجية. فأمام الهجوم السياسي ثم العسكري الكاسح الذي طورته إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، في سياق الحرب العالمية على الارهاب، وكرد على أحداث 11 سبتمبر 2001 أو استثمارها، غابت أجندة التغيير السياسي الداخلي لصالح أجندة المقاومة والممانعة، التي شاركت فيها الحكومات العربية بأساليبها الخاصة، كما شاركت فيها معظم قطاعات الرأي العام العربي المصدومة بالعدوانية الاستعمارية المنبعثة من رمادها. وها نحن ندخل اليوم، حقبة ثالثة لم تغب فيها أجندة التغيير السياسي الداخلي فحسب، بعد أن ألحقتها الإدارة الامريكية بأجندتها الاستعمارية الجديدة، تحت شعار دعم الديمقراطية، ولكن غابت الأجندة الوطنية أيضا. فلم يعد الجزء الأكبر من الجهد الجماعي، الفكري والمادي، يتجه إلى صد الهيمنة الأمريكية والغربية عموما، كما كان في الحقبة السابقة، ولكنه أصبح يصب إلى حد كبير في حساب أجندات خاصة، طائفية أو عشائرية أو مذهبية أو حزبية، بعيدة في أهدافها ومآلاتها المحتملة عن أي أجندة وطنية أو ديمقراطية، حتى لو أن هذه الاجندات لا تزال تحظى بقسط متفاوت القدر حسب البلدان، من هذا الجهد أو من التضحيات الكبرى الجماعية. هذا هو الجو الذي ميز الوضع في العراق منذ سنتين على الأقل، وكاد ينتقل إلى لبنان أو هو في طريقه إلى ذلك، وهو الذي يسم الوضع الحالي في فلسطين مع انهيار حكومة الوحدة الوطنية ونشوء ما يشبه الدولتين المنشقتين في غزة والضفة الغربية، من دون الحديث عن اليمن الذي يخوض غمار حرب غير معلنة داخلية وغيره من البلدان التي تعيش مناخ مواجهات عصبوية مماثلة. ولا يختلف الوضع عن ذلك، حتى في تلك البلدان التي بقيت تحتفظ إلى حد أو آخر بتماسكها السياسي. فهي تعيش الزمن السياسي العربي نفسه، وتتضارب عند رأيها العام أجندات الصراعات والنزاعات والمواجهات السياسية والوطنية والطائفية والمذهبية وتتداخل، إلى درجة ضياع الوعي والقدرة على التمييز والاختيار في المواقف والأفكار. بل إن تداخل الأجندات وترابط النزاعات قد وصل إلى مدى أضعف قدرة المحللين والمراقبين أنفسهم على التعرف على المشاكل المختلفة والفصل بينها، وتحديد النقطة التي يمكن من خلالها الدخول لنزع فتيل ما أصبح يشكل أزمة شاملة ومتكاملة، تقسم النخب وتطحن الشعوب.ليس هناك أي شك في أن السياسات الغربية عموما، والامريكية على وجه الخصوص، هي التي ساهمت بالقسط الأكبر في تشريك الحياة الوطنية وتدمير أسسها في هذه البلدان، بقدر ما قوضت جدلية تحولاتها الداخلية وأخضعتها لأجندتها الخاصة، المرتبطة أساسا بالحفاظ على مصالحها الحيوية، وإقفال المنطقة أمام أي احتمالات تطور يخرجها، جزئيا او كليا عن دائرة سيطرتها المباشرة، إن لم تكن الكلية. لكن ما كانت القوى الخارجية قادرة على فرض أجندتها علينا، وإدخالنا في شراك استراتيجياتها الدولية، لو لم تجد أمامها هياكل سياسية واجتماعية واقتصادية هشة، قابلة للاختراق والتسيير والاستتباع. لا يكمن مصدر هذه الهشاشة كما تدعي الطواقم الحاكمة عادة في قصور الشعوب والمجتمعات أو افتقارها للروح الوطنية، أو التقاليد والمعارف العصرية، وإنما بشكل أساسي في تقصير النخب الاجتماعية، والحاكمة منها بشكل خاص، في تبني سياسات جدية وفعالة لتجديد هذه الهياكل وتحديثها وتفعيل الإرادة والجهود الشعبية. فغياب إرادة الإصلاح، إن لم نقل رفض مبدئه، عند نخبنا العربية، ربما كان نقطة الاختلاف الرئيسية التي ميزت تجربتنا لحقبة ما بعد الحرب الباردة عن تجارب العديد من بلدان العالم النامي الأخرى. وهو ما أضعف موقفنا الاستراتيجي وقاد إلى نزاعات أهلية لا تنتهي وفتح الباب واسعا أمام تدخل القوى الأجنبية. ولعل العوامل ذاتها التي حرمت النخب المحلية من إدراك ضرورات الاصلاح هي نفسها التي شجعت قوى الهيمنة الدولية على الدخول على الخط، وفرض أجندتها الخارجية، وما تبعه من حرف الصراع الداخلي عن محوره الرئيسي، والتشويش على الوضع السياسي والفكري برمته. والمقصود من ذلك وفرة الموارد الريعية وسيطرتها على اقتصاد المنطقة ككل، وهي موارد جاهزة غير مرتبطة بعمل وإنتاج وبالتالي بحماية اجتماعية قوية. فكما أغرت هذه الموارد الاستثنائية بعض النخب المحلية بالاستمرار في الحكم بالطرق التقليدية، ودفعت البعض الآخر إلى التحول إلى وحوش ضارية لانتزاع حصة من هذه الموارد نفسها، أو لتأمينها من خلال ترييع الاقتصاد المحلي، على حساب المجتمعات وبالتضحية بها، دفعت قوى الهيمنة الدولية الطامعة فيها إلى استسهال عملية السطو عليها وانتزاعها، أو انتزاع الجزء الاكبر منها، على حساب النخب المحلية. ومع بروز السياسة الأمريكية الامبرطورية بإلهام المحافظين الجدد، تحول الصراع على السيطرة على هذه الموارد والموارد الإضافية الناجمة عن ترييع اقتصاد البلدان المجاورة، إلى محور أول تدور من حوله جميع الصراعات الأخرى، وحول المنطقة إلى ساحة حرب مفتوحة وشاملة. هكذا تزعزعت الأوضاع الشرق أوسطية، واختلطت المعارك الداخلية بالخارجية، والنزاعات السياسية بالنزاعات القومية، والطائفية بالوطنية، والدينية بالقبلية. فلم يعد أحد يستطيع تحديد أهداف واضحة، ولا غايات مفهومة لهذه الأطراف المتنازعة المتزايدة والمتداخلة، ولا واجبات ولا مسؤوليات. هكذا تضافرت أزمة القيادة السياسية المحلية مع أزمة القيادة الدولية، لإلغاء أي قواعد وغايات واضحة ومحددة لممارسة أي سلطة وتقييدها. وصار العنف، والتفوق في انتاجه واستخدامه وتصديره هو مبدأ الفعل وأساس العلاقات، داخل المجتمعات وفي ما بينها ومع القوى الخارجية أيضا. لا نستطيع أن نغير الأجندة الاستعمارية، ونمنع أصحابها من التخريب، لكن لا يستطيع أحد ن يمنعنا من بناء أجندة وطنية تثمن تضحياتنا وتمنع جهودنا الوطنية من أن تتحول إلى معارك داخلية ونزاعات أهلية. وأساس ذلك استئناف مشروع الاصلاح الوطني المعطل، الذي يشكل أيضا مدخلنا إلى الساحة الدولية وتثمين جهودنا في دائرة المقاومة العالمية المتنامية في مواجهة نظام السيطرة والحرب والاحتيال. وفي مقدمة هذا المشروع إصلاح نظام القيادة الاجتماعية الذي يحدد خيارات أي مجتمع ومصيره. والمقصود نظام القواعد والآليات والغايات التي تحكم اتخاذ القرارات وتتحكم بتنفيذها، في أي مجتمع، سواء أكان ذلك على مستوى الدولة، وهو ما يتعلق بنظام السياسة وممارسة السلطة العمومية، أو على مستوى المجتمع، وهو ما يرتبط ببلورة الرؤى الاستراتيجية والاعتقادات السياسية والغايات الأخلاقية التي تتبلور من حولها وخلالها إرادة جامعة، جزئية أو شاملة، وتنشأ على أساسها القوى الاجتماعية والسياسية التي توحد إرادة الافراد وتوجه حركتهم وتحولهم إلى قوة فاعلة على مستوى الدولة والمجتمع معا. فهذا النظام الذي دخل في أزمة عميقة وأظهر فساده بعد إخفاق النماذج التسلطية، اليسارية واليمينية، التي ارتبطت بمناخ الحرب البادرة ومتطلباتها، يشكل اليوم نقطة الضعف الرئيسية في حياتنا العمومية، ومصدر كل أنواع الفساد وغياب الفاعلية وانعدام التراكم في المعرفة والخبرة الاجتماعية. وهو الذي يميز تجربة مجتمعاتنا عن التجارب التي عرفتها المجتمعات الأخرى في البلدان النامية، ويعزلنا عن العالم، ويجعل من بلادنا مسرحا مفتوحا لكل أنواع الحروب الداخلية والخارجية.

حتى لا تضيع تضحياتنا الوطنية هباءا

اتحاد 20 يونيو 07


طمست الحروب الخارجية، والنزاعات الطائفية والمذهبية، والصراعات اليومية على موارد السلطة ومناصبها التي فقدت مضامينها السياسية والاجتماعية، المسألة الرئيسية التي شكلت في تسعينيات القرن الماضي محور النقاش والعمل العام، وقادت إلى المصادمات الدموية بين القوى الاسلاموية والقوى العلمانية، الرسمية والأهلية، على مختلف مشاربها وتناقضاتها، وأعني بها إعادة بناء مفهوم الدولة الوطنية ومن ورائها الجماعة الوطنية. وكانت العقود القليلة السابقة قد شهدت تطورات أساسية حولت الدول المستقلة حديثا إلى ما يشبه الإقطاعات التي تتحكم بها نخب محلية فقدت المعايير السياسية وأصبحت تتصرف بها كما لو كانت ملكيات شخصية. وبعد الصراع السياسي الطويل والدامي حول نموذجين للسلطة المدنية والسلطة الدينية، أو المستمدة من الشريعة الدينية، أسفر عن العديد من الحروب الأهلية المدمرة هنا وهناك، دخلت معظم البلاد العربية منذ بداية الألفية الثالثة حقبة ثانية اتسمت بسيطرة النزاعات ذات الطبيعة الوطنية أو الخارجية. فأمام الهجوم السياسي ثم العسكري الكاسح الذي طورته إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، في سياق الحرب العالمية على الارهاب، وكرد على أحداث 11 سبتمبر 2001 أو استثمارها، غابت أجندة التغيير السياسي الداخلي لصالح أجندة المقاومة والممانعة، التي شاركت فيها الحكومات العربية بأساليبها الخاصة، كما شاركت فيها معظم قطاعات الرأي العام العربي المصدومة بالعدوانية الاستعمارية المنبعثة من رمادها. وها نحن ندخل اليوم، حقبة ثالثة لم تغب فيها أجندة التغيير السياسي الداخلي فحسب، بعد أن ألحقتها الإدارة الامريكية بأجندتها الاستعمارية الجديدة، تحت شعار دعم الديمقراطية، ولكن غابت الأجندة الوطنية أيضا. فلم يعد الجزء الأكبر من الجهد الجماعي، الفكري والمادي، يتجه إلى صد الهيمنة الأمريكية والغربية عموما، كما كان في الحقبة السابقة، ولكنه أصبح يصب إلى حد كبير في حساب أجندات خاصة، طائفية أو عشائرية أو مذهبية أو حزبية، بعيدة في أهدافها ومآلاتها المحتملة عن أي أجندة وطنية أو ديمقراطية، حتى لو أن هذه الاجندات لا تزال تحظى بقسط متفاوت القدر حسب البلدان، من هذا الجهد أو من التضحيات الكبرى الجماعية. هذا هو الجو الذي ميز الوضع في العراق منذ سنتين على الأقل، وكاد ينتقل إلى لبنان أو هو في طريقه إلى ذلك، وهو الذي يسم الوضع الحالي في فلسطين مع انهيار حكومة الوحدة الوطنية ونشوء ما يشبه الدولتين المنشقتين في غزة والضفة الغربية، من دون الحديث عن اليمن الذي يخوض غمار حرب غير معلنة داخلية وغيره من البلدان التي تعيش مناخ مواجهات عصبوية مماثلة. ولا يختلف الوضع عن ذلك، حتى في تلك البلدان التي بقيت تحتفظ إلى حد أو آخر بتماسكها السياسي. فهي تعيش الزمن السياسي العربي نفسه، وتتضارب عند رأيها العام أجندات الصراعات والنزاعات والمواجهات السياسية والوطنية والطائفية والمذهبية وتتداخل، إلى درجة ضياع الوعي والقدرة على التمييز والاختيار في المواقف والأفكار. بل إن تداخل الأجندات وترابط النزاعات قد وصل إلى مدى أضعف قدرة المحللين والمراقبين أنفسهم على التعرف على المشاكل المختلفة والفصل بينها، وتحديد النقطة التي يمكن من خلالها الدخول لنزع فتيل ما أصبح يشكل أزمة شاملة ومتكاملة، تقسم النخب وتطحن الشعوب.ليس هناك أي شك في أن السياسات الغربية عموما، والامريكية على وجه الخصوص، هي التي ساهمت بالقسط الأكبر في تشريك الحياة الوطنية وتدمير أسسها في هذه البلدان، بقدر ما قوضت جدلية تحولاتها الداخلية وأخضعتها لأجندتها الخاصة، المرتبطة أساسا بالحفاظ على مصالحها الحيوية، وإقفال المنطقة أمام أي احتمالات تطور يخرجها، جزئيا او كليا عن دائرة سيطرتها المباشرة، إن لم تكن الكلية. لكن ما كانت القوى الخارجية قادرة على فرض أجندتها علينا، وإدخالنا في شراك استراتيجياتها الدولية، لو لم تجد أمامها هياكل سياسية واجتماعية واقتصادية هشة، قابلة للاختراق والتسيير والاستتباع. لا يكمن مصدر هذه الهشاشة كما تدعي الطواقم الحاكمة عادة في قصور الشعوب والمجتمعات أو افتقارها للروح الوطنية، أو التقاليد والمعارف العصرية، وإنما بشكل أساسي في تقصير النخب الاجتماعية، والحاكمة منها بشكل خاص، في تبني سياسات جدية وفعالة لتجديد هذه الهياكل وتحديثها وتفعيل الإرادة والجهود الشعبية. فغياب إرادة الإصلاح، إن لم نقل رفض مبدئه، عند نخبنا العربية، ربما كان نقطة الاختلاف الرئيسية التي ميزت تجربتنا لحقبة ما بعد الحرب الباردة عن تجارب العديد من بلدان العالم النامي الأخرى. وهو ما أضعف موقفنا الاستراتيجي وقاد إلى نزاعات أهلية لا تنتهي وفتح الباب واسعا أمام تدخل القوى الأجنبية. ولعل العوامل ذاتها التي حرمت النخب المحلية من إدراك ضرورات الاصلاح هي نفسها التي شجعت قوى الهيمنة الدولية على الدخول على الخط، وفرض أجندتها الخارجية، وما تبعه من حرف الصراع الداخلي عن محوره الرئيسي، والتشويش على الوضع السياسي والفكري برمته. والمقصود من ذلك وفرة الموارد الريعية وسيطرتها على اقتصاد المنطقة ككل، وهي موارد جاهزة غير مرتبطة بعمل وإنتاج وبالتالي بحماية اجتماعية قوية. فكما أغرت هذه الموارد الاستثنائية بعض النخب المحلية بالاستمرار في الحكم بالطرق التقليدية، ودفعت البعض الآخر إلى التحول إلى وحوش ضارية لانتزاع حصة من هذه الموارد نفسها، أو لتأمينها من خلال ترييع الاقتصاد المحلي، على حساب المجتمعات وبالتضحية بها، دفعت قوى الهيمنة الدولية الطامعة فيها إلى استسهال عملية السطو عليها وانتزاعها، أو انتزاع الجزء الاكبر منها، على حساب النخب المحلية. ومع بروز السياسة الأمريكية الامبرطورية بإلهام المحافظين الجدد، تحول الصراع على السيطرة على هذه الموارد والموارد الإضافية الناجمة عن ترييع اقتصاد البلدان المجاورة، إلى محور أول تدور من حوله جميع الصراعات الأخرى، وحول المنطقة إلى ساحة حرب مفتوحة وشاملة. هكذا تزعزعت الأوضاع الشرق أوسطية، واختلطت المعارك الداخلية بالخارجية، والنزاعات السياسية بالنزاعات القومية، والطائفية بالوطنية، والدينية بالقبلية. فلم يعد أحد يستطيع تحديد أهداف واضحة، ولا غايات مفهومة لهذه الأطراف المتنازعة المتزايدة والمتداخلة، ولا واجبات ولا مسؤوليات. هكذا تضافرت أزمة القيادة السياسية المحلية مع أزمة القيادة الدولية، لإلغاء أي قواعد وغايات واضحة ومحددة لممارسة أي سلطة وتقييدها. وصار العنف، والتفوق في انتاجه واستخدامه وتصديره هو مبدأ الفعل وأساس العلاقات، داخل المجتمعات وفي ما بينها ومع القوى الخارجية أيضا. لا نستطيع أن نغير الأجندة الاستعمارية، ونمنع أصحابها من التخريب، لكن لا يستطيع أحد ن يمنعنا من بناء أجندة وطنية تثمن تضحياتنا وتمنع جهودنا الوطنية من أن تتحول إلى معارك داخلية ونزاعات أهلية. وأساس ذلك استئناف مشروع الاصلاح الوطني المعطل، الذي يشكل أيضا مدخلنا إلى الساحة الدولية وتثمين جهودنا في دائرة المقاومة العالمية المتنامية في مواجهة نظام السيطرة والحرب والاحتيال. وفي مقدمة هذا المشروع إصلاح نظام القيادة الاجتماعية الذي يحدد خيارات أي مجتمع مصيره. والمقصود نظام القواعد والآليات والغايات التي تحكم اتخاذ القرارات وتتحكم بتنفيذها، في أي مجتمع، سواء أكان ذلك على مستوى الدولة، وهو ما يتعلق بنظام السياسة وممارسة السلطة العمومية، أو على مستوى المجتمع، وهو ما يرتبط ببلورة الرؤى الاستراتيجية والاعتقادات السياسية والغايات الأخلاقية التي تتبلور من حولها وخلالها إرادة جامعة، جزئية أو شاملة، وتنشأ على أساسها القوى الاجتماعية والسياسية التي توحد إرادة الافراد وتوجه حركتهم وتحولهم إلى قوة فاعلة على مستوى الدولة والمجتمع معا. فهذا النظام الذي دخل في أزمة عميقة وأظهر فساده بعد إخفاق النماذج التسلطية، اليسارية واليمينية، التي ارتبطت بمناخ الحرب البادرة ومتطلباتها، يشكل اليوم نقطة الضعف الرئيسية في حياتنا العمومية، ومصدر كل أنواع الفساد وغياب الفاعلية وانعدام التراكم في المعرفة والخبرة الاجتماعية. وهو الذي يميز تجربة مجتمعاتنا عن التجارب التي عرفتها المجتمعات الأخرى في البلدان النامية، ويعزلنا عن العالم، ويجعل من بلادنا مسرحا مفتوحا لكل أنواع الحروب الداخلية والخارجية.

mercredi, juin 06, 2007

الديمقراطية والعلمانية

الاتحاد 6 يونيو 06

تحظى العلمانية منذ فترة قصيرة بأهمية متزايدة وتحتل موقعا متناميا في حقل في النقاشات السياسية العربية. ويتساءل كثير من الأفراد الذين تغريهم الدعوة الديمقراطية كمخرج من نظم الفساد والتعسف والطغيان، وفي الوقت نفسه يخشون أن يكون ذلك على حساب انسجامهم مع اعتقاداتهم الدينية، عما إذا كانت العلمانية شرطا للديمقراطية. وفي دخيلتهم يأملون أن لا يكون الأمر كذلك حتى يمكنهم التعبير عن اقتناعهم السياسي الجديد مع استمرار الوفاء لعقيدتهم الدينية. ولا أجد مبررا لمثل هذا التخوف الذي لا يزال يسيطر على الأغلبية الساحقة من الرأي العام من تلازم المفهومين سوى التثبت على الظروف السلبية التي أحاطت بطرح العلمانية، لا بمضمونها. وأعني هنا ظروف سيطرة العقائديات الشمولية والنظم التسلطية والتعسفية منذ أكثر من نصف قرن.
تسلتزم فكرة الديمقراطية بالتاكيد فكرة العلمانية. لكن على شرط أن نحدد مضمون كل منهما. فلا ديمقراطية، أي مساواة في تحمل المسؤولية العمومية بين جميع أبناء الشعب، ومشاركة فعالة في تقرير المصير العام من قبل الجميع، من دون "علمانية"، أي ببساطة من دون قبول الأفراد بمبدأ الاحتكام للرأي، أي العقل، في تقرير كل ما يتعلق بالشؤون العمومية، بما في ذلك في القوانين والتشريعات التي تحكم النظام السياسي. فإذا فرض فريق على المجتمع مبدأ آخر غير الرأي في معالجة الشؤون العمومية، والرأي يعني هنا الفكر القائم على الحجة العقلية، وبالتالي الإنسانية أو المفهومة من قبل العقل الانساني، لم تعد هناك ديمقراطية، وإنما نظام مرهون بالنصوص المقدسة التي يحتاج تفسيرها إلى تفاهم واتفاق مسبق بين جميع أصحاب العقيدة الدينية الواحد.، وهو أمر مستحيل لأن الاختلاف في التأويل هو جوهر الحياة الفكرية، وهو واقع الحال اليوم في كل مجتمعات العالم وجماعاته الدينية. ولا أعني هنا بالنصوص المقدسة الإلهية منها، ولكن المنزلة من قبل الحكام الذين يؤلهون أنفسهم أيضاً، حتى لو وسموها باسم العلمانية، كما حصل مع النظم الشيوعية. فقد كانت قوانينها توصف بالعلمية، أي التي لا تخطيء، والتي لا يمكن أن يكون موقفنا إزاءها وإزاء منتجيها من العباقرة الأفذاذ، إلا موقف التسليم والاقتداء. ونستطيع أن نقول الشيء نفسه تجاه بعض الترسيمات القومية التي يعتبرها أصحابها ثوابت لا تناقش ولا يمكن للمواطنين، قلة كانوا أم كثرة، التشكيك في صلاحيتها أو حتى طرحها على النقاش.لكن تأكيد هذا المبدأ أو التوقف عنده لا يحل المشكلة أبداً. ذلك أن الاستخدام السياسوي، والتعبئة التي حصلت في الصراعات الطويلة السابقة بين الأحزاب والفرق السياسية المتنازعة، قد غيرا معنى العلمانية، بالمفهوم الذي ذكرته للتو، أي إنزال كل ما يتعلق بتنظيم المجتمع السياسي من قواعد ومؤسسات ومبادئ وقيم، إلى مستوى الرأي والقبول بتعريضه لنار العقل الكاوية. فأصبح البعض ممن يدافع عنها يطابق بينها وبين نزع الدين السماوي من المجتمع أو السياسة بمعنى النشاط الاجتماعي اليومي، وأخذ البعض الآخر ينظر إليها في مواجهة الفريق الأول على أنها مرادفة للكفر والتخلي عن الدين وأي إيمان واعتقاد، أو على الأقل تحييد الدين من حيث هو التزام عقائدي وأخلاقي، عن الحياة العامة، وبالتالي الانحطاط بالإنسان الآدمي في نظر هؤلاء إلى مستوى البهيمية.
هكذا صارت العلمانية سلاح أولئك الذين يريدون وضع حد لنفوذ الدين السماوي وما يرتبط به من تقاليد محافظة في المجتمع، وصار التشهير بها وتشويه معناها وربطها بالدعوة إلى انعدام الدين والأخلاق ومساواة الإنسان والحيوان سلاح أولئك الذين يريدون تطبيق الشريعة الدينية وإقامة السلطة العادلة والأخلاقية. وشيئاً فشيئاً تحولت إلى مصدر إضافي للنزاع والصدام وسوء الفهم والقطيعة داخل قطاعات الرأي العام بدل أن تكون إطاراً لتجاوز اختلافاتهم العقائدية، لا إلغائها، في سبيل توحيد كلمتهم وإرادتهم السياسية. وعمل تشويه معنى العلمانية وإفساد مضمونها ودلالاتها عبر هذه المعركة السياسية والاستخدامات الأداتية على إساءة سمعتها، وقاد إلى تحييدها من النقاش السياسي، أو استبعادها الإرادي من قبل قسم كبير من أصحاب الرأي الديمقراطي والقومي، لتجنب النزاعات العقائدية الثانوية، والاحتفاظ بأمل توسيع قاعدة التفاهم بين الأطراف والتيارات الاجتماعية على اختلاف فلسفاتها، خاصة بعد فساد المصطلح واختلاط مدلولاته. وهو ما كانت الحركة الوطنية قد فعلته منذ بداية القرن التاسع عشر عندما رفعت شعار الدين لله والوطن للجميع، من دون أن تغامر بفتح النقاش النظري الضروري لتأصيل المصطلح وتأسيسه في الفكر والثقافة العربية الحديثين. فبقي لذلك عائماً ومائعاً من دون معنى واضح ولا مدلول دقيق، وبالتالي موضع نزاع مستمر.ليس هناك حل لهذا الاختلاط الهائل الذي ارتبط بمفهوم العلمانية وصبغ طريقة تعامل الأطراف السياسية المختلفة معه، وتحميله معاني متباينة ومتناقضة تكاد تقضي عليه، إلا بالعودة إلى الموضوع والقبول بفتح النقاش المعلق أو المؤجل منذ عقود حول العلمانية وإعادة تعريفها وتحديدها، في إطار بناء ثقافتنا السياسية الديمقراطية الجديدة المنشودة. فإذا حررنا معنى العلمانية من استهداف الدين السماوي خصوصاً، كما أوحت به أو نشرته بعض العقائديات الماركسية واليسارية والتحديثية عموماً، واستبعدنا التأويلات اللا إنسانية واللا أخلاقية التي درجت عليها ولا تزال بعض التيارات السلفية الإسلامية، لن يبق منها سوى ما ذكرناه. أعني لن يكون للعلمانية معنى آخر مختلف عن معنى المدنية، بما تعنيه المدنية من أسبقية الاعتماد على الرأي، أي من إخضاع جميع القرارات والأحكام المتعلقة بالشؤون العامة للنقاش الحر والعقلاني بين ممثلي الشعب. والتأكيد على استخدام الرأي وإعمال الفكر في كل ما يتعلق بالشؤون العمومية، أي السياسية - والمجتمع الحديث هو مجتمع سياسي أساساً- لا يمكن أن تنفي الدين، ولا حق المتدينين في استلهام القيم الدينية عند صوغهم لآرائهم وأفكارهم السياسية. فليس هناك مبدأ سياسي أو اجتماعي يمكن أن يستبعد الدين أو أن يقرر استبعاده من أن يكون مورداً للأفكار والقيم التي تحرك المؤمنين وتوجه تفكيرهم وأعمالهم وسلوكهم. إن ما يستبعد هو فرض الرأي، سواء أكان من استلهام الدين أو العقل، على الآخرين، وعدم القبول بقاعدة سيطرة الأغلبية على الأقلية. لكن مع التأكيد على أن هذه السيطرة لا تعني سوى حقاً مؤقتاً سياسياً، لا يصبح شرعياً إلا بقدر ما تضمن الأغلبية احترام رأي الأقلية، ولا تقوم بما يحرم هذه الأقلية نفسها من التحول، عن طريق النقاش والحوار والنشاطات السياسية والثقافية القانونية، إلى أغلبية سياسية .
والخلاصة أن الديمقراطية لا تقوم من دون علمانية لكن العلمانية لا تعني تبني عقيدة لا دينية ولا استبعاد الدين من الحياة العامة ولا تقييد الحريات الدينية. إنها تعنى حياد الدولة ومؤسساتها تجاه الأديان والعقائد حتى تضمن المساواة الكاملة بين مواطنيها بصرف النظر عن اعتقاداتهم، وعدم انخراطها في النقاشات العقائدية والدينية، أو استخدام الدين للتغطية على اختياراتها وممارساتها السياسية، سواء كانت هذه الاختيارات والممارسات سليمة وصائبة أم خاطئة وإشكالية.

mardi, juin 05, 2007

نحو إعادة بناء حقل العلاقات الدولية

العرب اليوم 7 يونيو 07
للأسف إذا كان هناك حقل لم تتطور فيه المفاهيم بموازاة تطور مناحي الحياة الحديثة الأخرى، فهو حقل العلاقات الدولية الذي لا يزال يستند إلى قواعد بالية، وضعت في القرن السابع عشر، تشرع في العمق الحرب الدائمة بين الدول، أو تقيم العلاقات فيما بينها على الحرب وتوازن القوة، باسم تأكيد مبدأ السيادة المطلقة للدولة القومية. ومبدأ السيادة مبدأ مغشوش في الأصل لأنه يفترض التساوي في القوة بين الدول، بينما يقوم الواقع على غير ذلك تماما. ولذلك كانت نتيجة تطبيق هذا المبدأ عمليا، أولا تشريع الحروب واعتبارها أمرا طبيعيا، وإجبار جميع الدول التي تريد أن تحافظ على استقلالها ومصالحها على الاستثمار في الآلة العسكرية. وثانيا إعاقة العمل على ايجاد قانون دولي يضبط العلاقات بين الأمم والشعوب على أسس واضحة وحسب معايير واحدة وثابتة، ولا يترك للقوة وللتفوق العسكري الحرية في توجيه العلاقات الدولية، كما هو الحال حتى اليوم. في إطار هذا النظام الدولي الولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى الراهنة، والصين وغيرها من القوة الصاعدة في المستقبل، ستظل تجذب الرساميل والأطر والمواهب وتفرض مصالحها على الآخرين بالقوة العسكرية أو بالنفوذ السياسي أو بتخريب النخب الحاكمة والضغط عليها.
الحل، أو ما نطمح إليه حتى نتغلب على الظواهر التي تتحدث عنها، كامن في تجاوز الأسس التي قامت عليها هذه العلاقات منذ صلح ويستفاليا في القرن السادس عشر ووضع قانون دولي ينظر إلى العالم كوحدة متكاملة ومتضامنة، كما ننظر اليوم إلى الجماعات المكونة للأمة داخل الدولة الواحدة، ويتعامل مع شعوبه كأجزاء متساوية الحقوق في منظومة قانونية وسياسية واحدة. وهذا ما يتطلب تغييرا جذريا في السياسات الدولية، ونمطا جديدا من الواجبات والالتزامات والمصالح والمسؤوليات، تقع على عاتق الدول جميعا وعلى النخب الحاكمة. وهذا يعني أن الحل هو في قانون دولي يمنع الدول الكبرى القوية من استغلال نفوذها للاعتداء على مصالح الدول والشعوب الصغيرة، كما يمنع النخب الحاكمة من التصرف ببلدانها كمزارع شخصية وعائلية، كما هو الحال اليوم عندنا باسم السيادة الوطنية. ولن يحصل ذلك إلا نتيجة كفاح جميع القوى الديمقراطية أو المؤمنة بالمساواة والعدالة والحق وتضامنها على مستوى العالم بأكمله.

السؤال الذي يطرح عندئذ هو التالي : هل يمكن بالفعل سن مثل هذا القانون الدولي أم أن الأمر لا يعدو أن يكون نوعا من الطوباوية التي غالبا ما رافقت الحياة السياسية تماما كما ترافق الوعود التي لا تجد طريقها للتحقق الحملات الانتخابية؟ ثم من هو الطرف الذي يملك القدرة على أن يسن القانون الذي ينبغي أن تخضع له العلاقات الدولية، وكيف يمكن تطبيق مثل هذا القانون، إذا كانت الدول الكبرى هي التي تعين الحكومات أو النخب الحاكمة في البلدان الضعيفة؟ وهل هناك وسيلة غير القوة للتعامل مع حقل علاقات دولية قائم على مبدأ القوة منذ قرون، بل منذ بداية الحضارة الإنسانية السياسية؟
من ينكر مبدأ القوة يعيش في الأحلام لا محالة، ولا يستطيع أن يغير شيئا من مجرى العلاقات الدولية، ولا حتى الوطنية. لكن في الوقت نفسه من يعتقد أن من غير الممكن تجاوز مبدأ القوة أو على الأقل الحد من استخدامه والعمل على تقييده أو إخضاعه لبعض المباديء الأخلاقية والسياسية يحكم على نفسه باليأس، وينكر على المجتمعات البشرية إمكانية الخروج من حقبة البربرية ومنطق العلاقات الوحشية. وصاحب هذا الموقف اليائس من الانسان يقع في فخ الاستسلام لنظرية القوة أو خيار القوة في الوقت الذي يريد أن يحتج عليه.
إن واقعية المطالبة بإخضاع العلاقات الدولية للقانون تنبع من الاعتقاد ذاته بقدرة الإنسان على الارتقاء بوعيه وضميرة وسلوكه الجمعي والفردي، الذي كان في أساس بناء الدول والمجتمعات الديمقراطية والوطنية المتضامنة والمتعاونة التي يحكم النزاعات بين افرادها منطق الحق والقانون. ودفع الأمور في هذا الاتجاه الايجابي ممكن، وإنما يحتاج إلى مبادرات وضغوط وسياسات جديدة يتوجب على جميع القوى والأفراد المؤمنين بأنه لا ينبغي ترك منطق الغاب يسيطر على العلاقات بين الشعوب، المساهمة فيها والعمل من أجل توسيع دائرتها. ومن هذا المنطق لا ينبغي أن نستسلم للأمر الواقع، وأن نستمر بالعكس من ذلك في الدفاع عن فكرة إقامة النظام الدولي على قانون يضمن العدالة والانصاف، ولا نوفر فرصة من دون إدانة استخدام القوة لنهب موارد الشعوب أو للسيطرة عليها.
وبقدر ما ننجح في تعبئة الرأي العام العالمي لصالح هذا الموقف، نستطيع أن نكبل أيدي أنصار نظرية القوة والتفوق العسكري والعرقي والثقافي وغيره. وهذا ليس طوباوية ولا وهما ولكنه حقيقة ما يحصل كل يوم عندنا وفي العالم. فنحن ، من دون أن نعي، نعمل على أساس صحة فرضية وجود ضمير إنساني، ونتعذب عندما نشعر أن عملنا لا يقدم نتائج كبيرة وسريعة، ولكننا لا نقنط، ونظل نراهن على وجود وعي إنساني وضمير وأخلاق ودين أيضا عند البشر. ونأمل بنشاطنا الإعلامي والفكري والدبلوماسي والسياسي أن ننشط هذا الضمير الإنساني الذي تكون عبر التجربة التاريخية واكتسبته الشعوب، بصرف النظر عن أديانها، بالخبرة الحية، وبعد عذاب طويل. ونبرر عدم النجاح بسيطرة مراكز القوى ومنطق الدولة وشبكات المصالح العسكرية والسياسية. ولا يهدف عملنا إلا إلى تعبئة الأفراد المتحلين بالقيم والوعي ضد النظم وآلات الحرب والقهر والإكراه التي تستغلها فئات صغيرة لتحقيق مصالح خاصة.
ونحن على حق في ذلك. فالمجتمع الانساني ليس إنسانيا، أي يختلف عن المجتمعات الحيوانية، إلا لأن الإنسان يتمتع فيه بوعي وضمير وإرادة، ولديه قيم تتجاوز مصالحه الشخصية وانانيته وقوته الفردية. أما قانون القوة فهو من إنتاج النظم العسكرية والسياسية والدول لا الأفراد. فلو لم تكن هناك هذه الجذوة الانسانية من الوعي لما كان هناك بالفعل أي أمل، ولكان موقفنا موقف القنوط واليأس المطلق. هذه هي جدلية العمل من أجل الارتقاء بشروط حياة البشر، داخل كل بلد، وعلى المستوى العالمي، وتعميم قيم الحرية والعدل والمساواة في العالم. فإذا فقدنا الأمل في مثل هذا العمل وفي مثل هذا الارتقاء بوعي الانسان وبقدرته على الاختيار الأخلاقي، لما كان هناك مخرج من الخضوع جميعا لقانون القوة في حياتنا، ولتحولنا جميعا إلى وحوش، وحولنا عالمنا إلى غابة.
لكن لا يمكن لهذا الرهان أن يستقيم إذا وحدنا الإنسان مع الدول والنظم والثقافات وتجاهلنا الانسان من حيث هو فرد قادر على التأمل والتفكير والمحاكمة، عبر الحدود السياسية والجغرافية والثقافية وبالرغم منها. فالدول والنظم والمؤسسات والهويات الكبرى لا ضمير لها ولا قدرة بالتالي على المحاكمة الأخلاقية. إن من يملك هذه ا لقدرة هو الإنسان الفرد، بفضل ما يتمتع به من وعي وضمير وقدرة على التمييز والمحاكمة. فالأفراد هم مصدر الممارسة الأخلاقية، أي أيضا مركز الحرية، لأن لهم ضمير ووعي وإرادة، وبالتالي قدرة على التمييز والمحاكمة والقرار. وبقدر ما ننجح في تكوين الانسان والنفاذ إلى ضميره نستطيع أن نكبح جماح الدول، وجماح النخب التي تتحكم بها، وأن نحول هذه الدول من أدوات رهيبة للاحتلال والحرب والقهر والاستلاب، كما هو الحال اليوم، إلى أدوات لخدمة التنمية البشرية والتكافل بين بني الانسان. والرهان على الانسان في مسائل الأخلاق والسياسة ممكن بالرغم من وجود آلة الدولة ومنطق عملها البعيد عن الأخلاق.
لا يعني هذا بالتأكيد أننا لا ينبغي أن نستخدم القوة حيث ينبغي استخدامها، لكن كوسيلة لبناء سياسات قائمة على الحق والعدل لا كأساس للحق ومؤسس له. وهذا يعني أن مفهومنا للحق مختلف عن القوة وسابق لها، ونابع من مفهومنا للعدل والانصاف بين البشر. وجوهر العدل والانصاف وقاعدته أن أعامل غيري كما أحب أن أعامل به وأن أريد له ما أريده لنفسي. وهذا هو ما تفترضه الآية الكريمة: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، أعدلوا هو أقرب للتقوى. باختصار لن ننجح في وقف آلة القوة والعنف التي تهدد إنسانيتنا إلا بقدر ما نبني في ضميرنا نحن أنفسنا مفهوم العدل ونجعل منه ومن تمسكنا به، قوة تتجاوز في تأثيرها القوة المادية، أي بقدر ما نجعل قوة الحق أسطع من الحق الذي ينثق من القوة.