mercredi, février 28, 2007

مسؤولية العرب في العراق

الاتحاد 28 فيفرييه 07

يمكن للعرب أن ينكروا مسؤوليتهم عما وصلت إليه الاوضاع في العراق، ويلقوا باللائمة كلية على الولايات المتحدة الامريكية التي ليس هناك أي سبب عند أي عربي لتوفير نقدها وتجريمها. ويمكنهم أن ينسوا ما قدموه، حكومات ورأيا عاما، من دعم كبير لنظام صدام حسين ولخياراته التي كانت توصف بالقومية منذ انتزاعه السلطة، ومن تأييد لسياسات مراكمة القوة العسكرية، سواء أكان ذلك لضمان استمرار الحكم في الداخل أو لتأكيد النفوذ في الخارج. كما يمكنهم تناسي تحريض العديد من دولهم وأحزابهم وجماهيرهم على الحرب ضد الجمهورية الاسلامية الايرانية واستنجادهم بالعراق بوصفه بوابة العالم العربي الشرقية. ويمكنهم كذلك تناسي موقف الجامعة العربية بأغلبية أعضائها من الحرب الامريكية الأولى على العراق عام 1991 ومشاركة قواتهم العسكرية فيها، والصمت عن عقد ونيف من الحظر المفروض على الشعب العراقي الذي أدى إلى تدهور شروط معيشته بشكل لا رجعة عنه. ويمكنهم أكثر من ذلك نسيان ما قدموه من دعم لقوى التمرد الطائفية أو العشائرية على أمل تحويل العراق إلى مقبرة للجيوش الأمريكية وإنزال هزيمة بسياسة واشنطن تردعها عن الاستمرار في تطبيق أجندتها الاستعمارية الجديدة اللاعقلانية. وهو ما يعني تحميل الشعب العراقي فاتورة الصراع ضد السياسات الأمريكية العدوانية، بصرف النظر عن سلامة إدانة هذه السياسات والوقوف في وجهها.
لكن العرب لا يستطيعون التنكر لمسؤولياتهم اليوم في إنقاذ العراق من كارثة إنسانية، وتخليص شعبة من دوامة الاقتتال والفوضى التي دخل فيها أو قيد إليها من قبل الأطراف الدولية والإقليمية. والسبب في ذلك أن نتائج انهيار الأوضاع في العراق لم تعد تقنصر على الشعب العراقي وحده ولكنها تهدد مستقبل الشعوب العربية المحيطة به، بقدر ما تزيد من مخاطر انتشار العنف في كل منها، وأبعد من ذلك، من مخاطر فتح جبهة صراع إقليمية طائفية لن يستطيع أحد البقاء بمعزل عنها ولا أن يستفيد منها. إن تنكر العرب لمسؤولياتهم تجاه العراق سيكون اليوم تنكرا لمسؤوليتهم تجاه بلدانهم وشعوبهم نفسها.
أقول هذا لأن كل المؤشرات تشير إلى أن من الممكن أن تكون المرحلة القادمة في العراق أكثر خطرا على الشعب العراقي والشعوب العربية من كل ما شهدناه في السنوات الثلاث الماضية. فيكاد يكون من المؤكد لدى كل المراقبين أن مخطط تأمين بغداد التي تراهن عليه واشنطن لكسب الوقت لا يملك أي أمل في النجاح. وها هي بريطانيا تعلن انسحاب قواتها من الجنوب العراقي، في الوقت الذي بدأنا نشهد فيه لأول مرة تطورا خطيرا في نوعية السلاح المستخدم من قبل الميليشيات العراقية المتنازعة. فإذا حصل وقررت هذه الميليشيات في صراعها الدامي على الموارد والسلطة استعمال الأسلحة الكيماوية، ولو كانت أسلحة حرفية أو يدوية، سيدخل العراق والمشرق في دائرة تصعيد غير مسبوقة، ولن يكون معيار الانتصار السيطرة على المواقع الجغرافية او السياسية أو اقتسام الموارد وإنما المزاودة في عدد القتلى. وستكون تلك دائرة الموت المعمم في المشرق العربي بأكمله.
من المشروع أن نفرح بهزيمة القوات الأمريكية وبإخفاق واشنطن في فرض اجندتها العدوانية على منطقة عانت منذ عقود من تجاهل إرادة شعوبها وحكوماتها معا من قبل الدول الكبرى. لكن بعد التعبير عن هذا الفرح، يتوجب على الدول العربية، حكومات وشعوبا، أن تتحمل مسؤولياتها تجاه العراق والشعوب العربية الأخرى، وتفكر في بديل عن الفشل الأمريكي وأن لا تكتفي بالتصفيق وإنما تشرع منذ الآن في بناء شبكة الانقاذ التي تجنب العراق السقوط في الجحيم وتضمن انتقاله إلى ما بعد الاحتلال الأمريكي بحد أدنى من المخاطر والمفاجآت. من دون ذلك ستكون نهاية المغامرة الأمريكية أسوأ عواقبا على العرب من استمرارها. فلن يكون العراق أفضل حالا بالنسبة لشعبه، ولا أقل خطرا على جيرانه، إذا كرس خروج القوات الأمريكية والبريطانية أو هزيمتها سيطرة الميليشيات المتنازعة على السلطة وفتح الباب أمام مرحلة تعميم الحرب الأهلية الطائفية والعشائرية في جميع مناطقه. فمثل هذا الاحتمال يعني ببساطة اندلاع حروب تطهير عرقية في تمتد من الشمال حتى الجنوب. لأن منطق الصراع سوف يدفع لا محالة كل فريق إلى تطهير ما يعتقد أنها أرضه أو موطنه الأصلي الطبيعي في سبيل تعزيز موقفه الاستراتيجي في مواجهة الخصم.
حتى الآن وقف العالم العربي على الحياد لأن سياسة القوة الأمريكية واجهت إجماعا واسعا حول هدف واحد هو إحباط السياسة الأمريكية في العراق. أما الآن وقد تحقق هذا الهدف ولم يعد هناك ما يمكن إضافته إليه، ينبغي أن يكون الهدف الجديد إنقاذ العراق. ويعني الانقاذ وقف الحرب الأهلية ومساعدة العراقيين على التوصل إلى تسوية تضمن مصالح جميع الأطراف وتفاهمهم على العيش المشترك. وبديل ذلك الحرب الدائمة وسير المنطقة بأكملها نحو الهاوية.
يمكن للعرب أن يسترشدوا بتجربة مؤتمر الطائف الذي نجح في تحيقيق تسوية لبنانية أوقفت الحرب. مع الأخذ بالاعتبار أن العراق ليس لبنان، لا من حيث طبيعة النزاع وظروفه ولا عدد الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في النزاع. إن ايجاد تسوية في العراق غير ممكن بالاقتصار على المحيط العربي. إنه يستدعي تفاهما إقليميا يجمع بين بلدان المنطقة الرئيسية الذي يشكل النزاع في العراق اليوم بصورة مباشرة وغير مباشرة مناسبة لابراز تباين خياراتها، كما يشكل العراق مسرحا لإظهار خلافاتها وتصادم استراتيجياتها القومية والإقليمية المختلفة.
بل إن مثل هذا التفاهم وحده هو الذي يخلق فرص تسريع انسحاب القوات الأمريكية بقدر ما يؤمن العراق أمام مخاطر توسع الحرب الأهلية ويخلق شروط ملء الفراغ الذي أحدثه انهيار الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط بأكمله. فأي تفاهم حول العراق ينبغي أن يمر بتفاهم مسبق بين بلدان المنطقة، كما يتطلب ايجاد تسويات للنزاعات القائمة بين الأطراف المعنية. وهو ما يستدعي التفكير بمشروع نظام إقليمي جديد قائم على دول الشرق الأوسط نفسها، لا يهدف إلى معاداة الأمريكيين أو غيرهم بالتاكيد وإنما يسعى إلى ملء الفراغ الذي تركه منذ الآن، وسوف يبرز بشكل أكبر، إخفاق التكتل الغربي الذي تحكم بمصير المنطقة منذ أكثر من قرن، في الاحتفاظ بسيطرته المطلقة عليها وهيمنته الدائمة على شؤونها الإقليمية. إن المطلوب هو خلق إرادة جماعية إقليمية تأخذ على عاتقها المساهمة الكبرى في حل شؤون المنطقة ونزاعاتها وايجاد الفرص والحلول المناسبة لمشكلاتها الخاصة، بعيدا عن تدخل الدول الكبرى الخارجية ونزاعاتها. نظاما يضمن مصالح الأطراف الشرق أوسطية من دون أن يضحي بالمصالح الحيوية للدول الكبرى التي تحتاج إلى نفط المنطقة وتعاونها.
في هذا الإطار ما كان من المفيد أن ينعقد مؤتمر القمة الاسلامي الراهن (25 شباط) في باكستان من دون مشاركة ايران وسورية. لكن لن يقلل ذلك من أهميته إذا كان الهدف منه توحيد مواقف الدول القريبة من الغرب قبل بدء مباحثات جماعية تضم جميع دول الشرق الأوسط، وتفتح الطريق أمام تسوية مقبولة في العراق، وربما الاتفاق على إرسال قوات إقليمية مشتركة تهدف إلى وقف القتال والتمهد لرحيل قوات الاحتلال.

mardi, février 27, 2007

نقد مفهوم الطائفية

مجلة الآداب البيروتية كانون الثاني 07

في اعتقادي أن أحد الأسباب الكبرى التي حالت دون فهم الطائفية وتجنب آثارها هو اختلاط مفهوم الطائفية نفسه وعدم ضبطه، مما أساء أيضا إلى فهمنا لها كظاهرة اجتماعية وسياسية وبناء تعريف واضح وصحيح لها أيضا. فقد مال معظم ا لذين أثاروا مسألتها، في الأدبيات العربية القومية المعاصرة، إلى الخلط بشكل كبير بين التعددية الدينية، أي انطواء المجتمع على تنوع ديني كبير، يتسم إلى حد أو آخر من الانسجام أو الصراع، وسيطرة إحدى هذه الفرق او الجماعات الدينية على مقاليد الأمور في السلطة أو على مواقع رئيسية منها في سبيل تأمين منافع استثنائية وخاصة لا يسمح بها القانون. أي يخلطون إذا شئنا التبسيط قليلا بين الطائفية في المجتمع والطائفية في الدولة، وهما من طبيعتين مختلفتين تماما وليس لهما النتائج ذاتها. الأول يتعلق بطريقة اشتغال المجتمع والثاني بطريقة اشتغال الدولة الحديثة، ولا قيمة له إلا من منظور بناء هذه الدولة.
ومصدر الخلط النظري هذا نابع من أن الفكرة القومية التي انتقلت إلى الثقافة العربية من الأدبيات الغربية ذات الصبغة الأحادية، ارتبطت بقوة بفكرة التجانس الاجتماعي. ونظر القوميون العرب، كغيرهم في العالم، إلى التعددية الدينية والإتنية في المجتمع كعقبة أمام نشوء وعي قومي يتجاوز الطوائف والانتماءات الدينية الفرعية. بل اعتقدوا أن استمرار عصبيات أو انتماءات جماعية فرعية لا بد أن يغذي ولاءات غير وطنية، من داخل الدولة وخارجها، وبالتالي يضعف سيطرة الدولة على إقليمها وسكانها ويعرضها لتدخل القوى الأجنبية[1]. لكن ليس هناك أي شك في أن استمرار الولاءات الطائفية، الدينية والأقوامية معا، في المجتمعات الوطنية، ثم نموها في مرحلة تالية لدرجة وضعت فيها الوطنية نفسها في أزمة، يعكس المسار الذي اتخذه تشكل النخبة الوطنية الحديثة والصعوبات التي حالت دون تطور النسيج الوطني نفسه. وفي مقدمة ذلك ضآلة الموارد المادية واللامادية التي توفرت لهذه النخبة، وبشكل خاص غياب طبقة اجتماعية متماسكة حديثة، واضطرارها إلى الاعتماد، بشكل مباشر أو غير مباشر، في إعادة إنتاج نفسها وشروط وجودها وسيطرتها الاجتماعية، على عوامل خارجية وغالبا على الدولة نفسها. وبسبب هذا الضعف البنيوي، الذي نجم عن تعثر عملية التحديث، أو غياب الشروط المادية والجيوسياسية له، وجدت العديد من النخب الاجتماعية الصاعدة والمعزولة، فرصا أكثر لتوفير الموارد البشرية والسياسية والايديولوجية التي تحتاجها تعزز موقفها في التنافس على السلطة عبر الالتصاق بالجماعات الفرعية المنتمية لها مما كانت ستجده من تماهيها مع الجماعة الوطنية العامة التي لم تكن قد تكونت بعد، وربما لم تتكون حتى الآن، من حيث هي جماعة واعية لوحدتها السياسية ولإرادتها المشتركة في العمل والانجاز ومستبطنة لقانون الوطنية، أي لمفهوم الدولة من حيث هي دولة القانون، التي هي أساس وجودها.
ومن هنا دافعت في كتابي "نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة"[2]، عن أطروحة تقول بأن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقا موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم او مباديء أو مذاهب دينية لجماعة خاصة. وتتضمن هذه النظرية أربع فرضيات رئيسية.
الأولى ان الطائفية لا علاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف أو الديانات. فمن الممكن تماما أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية أو الإتنية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية في الدولة، بمعنى استخدام الولاء الطائفي للالتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص الذي يشكل قاعدة الرابطة الوطنية الأولى، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله.
والفرضية الثانية أن الطائفية لا توجد في المجتمعات التقليدية ما قبل الحديثة التي تفتقر لفكرة السياسة الوطنية والدولة الحديثة ولا تقوم إلا عبر سيطرة عصبية قبلية او دينية رئيسية، تشكل قاعدة السلطة المركزية وضمان وحدتها واستمرارها، وبالعكس لا يصبح استخدام الولاءات الجزئية داخل الدولة خروجا عن القاعدة والقانون إلا مع نشوء الدولة الحديثة التي تقوم على مبدأ العقد الاجتماعي بين أفراد أحرار ومستقلين تجمعهم مباديء مشتركة، ولا يحقق وحدتهم السياسية (الوطنية) إلا التزامهم جميعا بها ووضعها فوق انتماءاتهم الخاصة على مستوى العلاقة الكلية، أي في علاقتهم مع أفراد الجماعات الأخرى. ولأنها سياسة مرتبطة باختيار عام، وليست مفروضة بقوة الاستيلاء والعصبية والشوكة، كما كان عليه الحال في الدولة القديمة، فالسياسة الوطنية تدور من حول الرأي العام، أي الرأي الذي يشكل خلاصة رأي الأفراد وليس الجماعات، والذي يتبلور في ما يشبه السوق السياسية، أي في التنافس بين النخب السياسية، ذات البرامج المتعددة والمتباينة والمتناقضة أحيانا، التي تعكس مصالح متباينة أيضا، على كسب تأييد الأفراد ونيل ثقتهم ببرامجها السياسية وبالتالي ضمان التصويت لها او تأييدها في مواقفها. وكل تكتل داخل الفضاء السياسي الوطني، وداخل الدولة ومؤسساتها بشكل خاص، على أساس الولاءات العصبية، الدينية أو الأقوامية، على حساب الولاء الوطني القائم على الاختيار بين سياسات تعنى جميعها بالشأن العام وليس بالمصالح الخاصة، يخرب آلية عمل هذه السوق. ومن هنا يعتبر استخدام التضامن الطائفي أو الإتني داخل الدولة، خروجا عن قانون الوطنية، أي عن العقد المفترض أنه قائم بين مواطنين أفراد، أو يقبلون بأن يكونوا على مستوى العلاقة في ما بينهم، خارج دائرة مصالحهم الخاصة، المجتمعية، مواطنين أفراد يستخدمون وسائل السياسة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم. وهو ما يشكل مصدرا لفساد السياسة الوطنية أيضا. ذلك أن الأغلبية المنبثقة عن انتخابات تخترقها التكتلات غير السياسية والولاءات الدينية والإتنية لا يمكن أن تعبر عن أغلبية اجتماعية ولا يمكن أن تضع نفسها، والسلطة العمومية التي تسقط بين يديها، في خدمة الجماعة الوطنية العمومية أيضا. فهي لا تحقق إنتصارها على أساس معايير سياسية، أي نابعة من نوعية البرامج التي تقترحها على الشعب ككل وتطلب موافقته عليها، والتي ترتبط بتحقيق مصالح مشروعة، حتى لو كانت تخدم طبقة معينة، ولكن على أساس معايير غير سياسية، تتنافى وإعادة إنتاج الجماعة الوطنية كجماعة موحدة، أي سياسية، وهي شرط وجود الجماعة السياسية أو الأمة كعلاقة متميزة عن علاقة القبيلة والدين، ومن ورائها الدولة التي تكرس وجودها وتضمن استمراره. وكما هو الحال في السوق التجارية، تطرد العملة الفاسدة، التي هي الولاءات غير السياسية، العملة السليمة التي هي الولاءات الوطنية الجامعة التي تقبل الانقسام الأفقي من حول تحديد المصالح الاجتماعية والصراع عليه، ولا تقبل النزاع العامودي الذي يعني خراب الأمة أو الجماعة السياسية والعودة إلى أولوية العصبية الدينية أو الأقوامية. وبالعكس، إن قيام السياسة بالأساس على مبدأ الغلبة، وهو ما كان سائدا قبل نشوء الدولة الحديثة، حتى لو احتاجت هذه الغلبة على تأييد ديني أو رمزي، وغياب مفهوم التنافس على السلطة بطرق سلمية، وفي سياقه أهمية الرأي العام في هذه العملية، لا يجعل من الطبيعي أن يتحقق تداول السلطة عن طريق القوة، ولكنه يجعل صاحب هذه القوة أو الفريق الذي يوفرها هو الأجدر والأكثر شرعية في استلامها بقدر ما يضمن استقرارا أطول ويوفر على المجتمعات النزاعات الدموية الخطيرة التي ترافق انتقال السلطة. ولا يمكن توفير القوة الضاربة من دون العصبية كما لا حظ ابن خلدون، منظر الدولة الاكبر في القرون الوسطى العربية والاسلامية. ولذلك فإن الحكم لا ينفصل هنا عن سيطرة عصبية حاكمة وفرض قانونها وسيادتها على كامل المجتمع، أي على العصبيات الأخرى.
والفرضية الثالثة أن الطائفية لا ترتبط بمشاعر التضامن الطبيعي بين البشر المنتمين إلى عقيدة واحدة او رابطة قرابة طبيعية، وليست حتمية، أي أمر نابع مباشرة من الاعتقاد والانتماء والقرابة لمجرد وجودها. إنها استراتيجية سياسية، أي خطة للاستفادة من التضامن الآلي الذي تنشؤه علاقات القرابة المادية أو المعنوية والعقيدية بين الأفراد من أجل تحقيق أهداف ليس لها علاقة بأسباب القرابة ولا بغاياتها، من دون أن يعني ذلك أن تحقيق الاهداف الجديدة لا يمكن أن يؤثر على بنية هذه القرابة وحدود نفوذ الجماعة النابعة منها ومركزها. فالطائفية هي النموذج الأوضح لاستخدام الدين والعصبية القرابية في السياسة، والنظر إلى الجماعة الدينية من حيث هي جماعة مصالح خاصة، لا من حيث هي أفراد يبحثون عن نشر رسالتهم الدينية. وهي تقود إلى إفساد السياسة التي تختلط بالقرابة وتفقد طابعها المدني الشامل الذي يجعلها إطارا مفتوحا على جميع أصحاب العقائد الدينية، كما هو الحال في الأحزاب السياسية. كما تقود إلى إفساد الدين الذي تحول جماعته إلى مجموعة محاربة من أجل مصالح دنيوية وتضطر إلى إعادة تفسير العقيدة نفسها بما يبرر السيطرة والعدوان والسطو على مصالح الجماعات الأخرى.
أما الفرضية الرابعة، وهي مرتبطة بالسابقة، فهي أن الطائفية استراتيجية مرتبطة بالنخب الاجتماعية المتنافسة في حقل السياسة ومن أجل السيطرة واكتساب المواقع، سواء أكان ذلك داخل الدولة أو على صعيد توزيع السلطة الاجتماعية، بالدرجة الأولى. ولا يمكن لأي ديناميكية طائفية، ومن باب أولى حرب طائفية، أن تنشأ أو تندلع من دون وجود نخب طائفية، أي من دون تبني النخب الاجتماعية، كلها أو بعضها، لاستراتيجية طائفية والتعبئة على أساسها. ومن هنا تختلف الطائفية حسب النظرية التي نطرحها عن النزاعات الدينية التي تنفجر أحيانا بين الطبقات الشعبية لأسباب متعددة في أجواء التوتر الاقتصادي والاجتماعي والديني ويمكن أن تستوعب بسهولة من قبل الدولة، سواء أكانت هذه الدولة دولة وطنية أو دولة العصبية، بل من قبل القيادات الدينية نفسها. وهو ما يصعب تحقيقه عندما تتحول الدولة نفسها إلى مسرح لتنازع العصبيات الدينية والقبلية بدل أن تكون إطار تجاوزها في علاقة جديدة وخاصة، هي العلاقة الوطنية.
ومن هنا نعرف الطائفية بأنها مجموعة الظواهر التي تعبر عن استخدام العصبيات الطبيعية، أي ما قبل السياسية، الدينية منها والإتنية والزبائنية المرتبطة بظاهرة المحسوبية أو المافيا، في سبيل الالتفاف على قانون السياسة العمومية أو تحييده، وتحويل الدولة والسلطة العمومية من إطار لتوليد إرادة عامة ومصلحة كلية، إلى أداة لتحقيق مصالح خاصة وجزئية. إنها تشكل ما يشبه الاختطاف للسلطة السياسية التي هي أداة تكوين العمومية لأهداف خصوصية. وهي تنطوي لذلك على مخاطر تدمير الدولة نفسها بوصفها بنية عمومية ومنتجة للعلاقة العمومية، ومن ورائها على مخاطر زوال الأمة نفسها بوصفها جماعة موحدة سياسيا، أو ذات قانون سياسي، يختلف نوعيا عن قانون العصبية الدينية والإتنية ويتجاوزه معا. فالطائفية لا تنطبق على استخدام الدين، ولكن على استخدام كل أشكال التضامنات الخاصة، ما قبل السياسية، التي تنجم عن تعبئة العصبيات الطبيعية، القائمة على القرابة المادية، كالعشيرة والعائلة والإتنية، أو المذهبية، كما تنطبق مع آليات شراء الضمائر والرشوة المعممة. فهي تلتقي جميعا في تزوير الإرادة العامة والتلاعب بالرأي العام في سبيل تزييف اختياراته أو حرفها عن خطها الطبيعي المعبر عن مصالح الناس واختياراتهم بحرية، والالتفاف على معايير الخيارات السياسية. ونتيجتها في جميع الحالات تزييف الحياة السياسية الوطنية وتهديد الدولة ومؤسساتها بالتحول إلى أدوات لخدمة مصالح خاصة بدل أن تكون، كما يفيد مفهومها، إطار بلورة المصلحة العامة وتقديمها على جميع المصالح الاخرى الذي يشكل شرطا لا غنى عنه لقيام الدولة واستقرار سلطة سياسية بصورة شرعية.
لذلك، بعكس ما شاع في النظرية الوطنية والقومية الشائعة، لا ترتبط الطائفية بوجود مذاهب دينية متعددة في مجتمع من المجتمعات، ولا في وجود مشاعر انتماء قوية تشد الأفراد إلى طوائفهم أو عصبياتهم القبلية. ولا حتى في وجود تضامن ديني قوي بينهم. فهذا هو الوضع السليم والطبيعي في كل المجتمعات. فالمجتمع مكون من جماعات مصالح أو انتماء أو اعتقاد. ومن الطبيعي أن يشعر كل فرد بتعاطف أكبر مع الأفراد الذين يشاركونه المصلحة أو العقيدة أو الثقافة أو الموقع الاجتماعي الذي يحتله. ومن دون التضامن والألفة الخاصة الذين يجمعان بين أفراد جماعة واحدة لن يكون هناك أي معنى ولا مضمون للحياة الاجتماعية أو للتجمعات الأهلية. ينطبق هذا على مستوى الجماعات القومية الكبرى كما ينطبق على الجماعات الفرعية داخل هذه الجماعات القومية.
إن تعزيز التكافل والتضامن داخل جماعات الانتماء للمذهب أو الدين أو العشيرة أو المؤسسة التجارية أو الاقتصادية، وبشكل عام جميع هياكل ما نسميه بالمجتمع المدني هو غاية هذه الجماعات وهدفها. إن الطائفية تنشأ عندما تنقل إحدى هذه الجماعات هذا التضامن والتكافل إلى مستوى الدولة. والسبب في ذلك أن انتقال قانون الجماعة الخاصة أو العصبية، من مجال عمل المجتمع إلى مجال عمل الدولة يخرب الدولة نفسها بقدر ما يحرمها من تحقيق ماهيتها بوصفها بالتعريف إطار إنتاج العلاقة العمومية بين افراد ينتمون لمذاهب وعصبيات متعددة، أي علاقة الوطنية، وضمان نجاعتها واستمرارها. ومن هنا ليست الدولة حاصل جمع العصبيات القائمة أو الجماعات الدينية المتواجدة على أرض إقليم من الأقاليم، ولكنها تجاوز لها من خلال تأسيس علاقة جديدة مختلفة تماما عنها، في غايتها واهدافها ووسائل تحقيق هذه الأهداف. فغاية الدولة بناء الشأن العام فكرة وقيما وممارسة والحفاظ عليه، واهدافها خدمة المصلحة العامة والمصالح العليا للجماعة الوطنية ككل، وهو ما يفترض أيضا تحقيق التوازن بين المصالح الخاصة وإخضاعها لقواعد ومباديء شرعية ومقبولة، وهي تستخدم في ذلك أدوات عمومية تخضع في سلوكها وتحديد مهامها إلى الدولة، أي البنية العمومية المستقلة تماما عن البنى الخاصة، وتتلقى أوامرها وتعليماتها.
ومن هنا لم تصبح الطائفية ظاهرة سلبية، ولم نبدأ في الحديث عنها بصورة نقدية إلا بعد نشوء الدولة الحديثة، وبقدر ما أصبحنا نعتقد أنها تشكل تقويضا عميقا لنظام سياستها الوطني، بل ربما حالت دون ولادة هذه الدولة نفسها بوصفها دولة الحريات والحقوق الأساسية الفردية. لكن الذي يفسر وجودها واستمرارها في الدول الحديثة، العربية وغير العربية، هو من دون شك غياب نخبة سياسية وطنية، أو بالأحرى افتقار النخب الجديدة شبه الوطنية، لسبب أو آخر، للنضج السياسي، ونقص تمثلها فكرة الدولة الحديثة ومفهوم السياسة المرتبطة بها[3]. وعدم النضج والاستيعاب العميق لمفهوم الدولة والسياسة بالمعنى الحديث هو الذي يفسر نزوع هذه النخبة إلى الخلط، المقصود أو غير المقصود، بين قانون المجتمع القائم على منطق التضامن الجزئي بين الأفراد، حسب المصلحة والعقيدة والثقافة والسمات المشتركة العديدة، وهو ما نسميه ميدان المجتمع المدني بالمصطلحات الشائعة، وقانون الدولة الحديثة الذي يقوم عليه وينبع منه مفهوم المصلحة العمومية الذي يتوقف على وجوده نشوء رابطة سياسية تجمع بين أفراد الجماعات الأهلية جميعا، وترتفع بهم وبسلوكهم نحو مستوى نسميه المستوى السياسي، يتصور فيه كل فرد نفسه مواطنا شريك المواطن الآخر، في جماعة عليا. وأساس هذه المواطنية الخضوع لقانون واحد، يتساوى في إطاره الجميع في الحقوق والواجبات.
لا يلغي نظام القانون السياسي نظام المجتمع العرفي ولا يحل محله. إنه يتركه يعمل على مستوى الحياة المدنية، لكنه يضيف إليه مستوى آخر يلتقي فيه الأفراد من حيث هم أعضاء في جماعة سياسية. وأهمية هذا المستوى الجديد من العلاقات هو توسيع إطار التواصل والتبادل والتفاعل بين البشر. ذلك أن رابطة السياسة، التي لا تطلب من الفرد سوى الخضوع للقانون المصاغ بصورة واعية ومشتركة، تستوعب درجات من الاختلاف والتمايز الثقافي والديني بين الجماعات أكبر بكثير مما تستوعبه جماعات العصبية الطبيعية والدينية. وهي تشكل بالتالي الوسيلة الوحيدة لبناء الفضاءات الحضارية المتنوعة والمنفتحة والمنتجة. فنظام الدولة السياسي يجمع تحت سقف القانون الواحد الأفراد أنفسهم الذين تفرق بينهم، على صعيد قانون المجتمع المدني، وحسب منطقه القائم على بناء التضامنات الجزئية، المصالح والاعتقادات والثقافة. ويعني سقف القانون ضمان المعاملة الواحدة والمتساوية، التي تضمن لجميع الأفراد، بصرف النظر عن أصلهم وعقائدهم وولاءاتهم القبلية، فرصا متكافئة، في التنافس على مواقع المسؤولية والشغل والإدارة، وبالتالي على اختيار الأطر الأصلح لقيادة الشؤون العامة. ولذلك لا يتحقق وجود الجماعة الوطنية الواحدة إلا عبر الدولة وبوجودها، من حيث هي إطار للمساواة القانونية والسياسية[4]. ولذلك أيضا يشكل الارتقاء إلى مستوى الرابطة السياسية، التي هي في أصل نشوء الدول، مرحلة اعلى وأكثر تعقيدا من مراحل التنظيم الجمعي. ولا يمكن ردها إلى الرابطة العصبية، أي إلى مفهوم الهوية الثقافية او الدينية او الأقوامية، من دون القضاء عليها وتدميرها. فمتى ما حل قانون المجتمع القائم على التضامنات الجزئية في الدولة ومؤسساتها، فقدت هذه المؤسسات سمة العمومية، وتحولت إلى مؤسسات شبيهة بمؤسسات المجتمع، أي لم يعد بإمكانها بناء المواطنية ومفهوم العمومية، وبالتالي الجمع بين أفراد ينتمون إلى جماعات ثقافية ودينية مختلفة.
وهاهنا، في هذا الخلط المقصود أو العفوي بين قانون الدولة السياسي ومنطقه وقانون المجتمع الأهلي وتركيبته الجزئية تولد الطائفية. وأول ما يقود إليه نقل منطق المجتمع التضامني الأهلي إلى ميدان الدولة هو إحلال العرف وعاطفة القرابة المادية والروحية محل منظومة الحق والقانون والتضامن الوطني العام والعلاقات المؤسساتية. ويفضي التكتل داخل المؤسسات وفي السلطة بين أعضاء عشيرة او طائفة واحدة إلى تعطيل قواعد المساواة، والحظوظ المتكافئة، وبالتالي إلى إلغاء المنافسة النزيهة بين الأفراد على تبوء مراتب المسؤولية، ويجعل الولاء بديلا للانتقاء على أساس الكفاءة والمعايير الموضوعية. وبدل أن تكون الدولة مركز سلطة عمومية وإنسانية تضمن وحدة المجتمع المقسم والمتنافس على صعيد الحياة الطبيعية اليومية، تتحول إلى إطار لتنظيم الدفاع عن المصالح الخاصة وتعظيم المنافع الاستثنائية.
لكن مخاطر الطائفية لا تقتصر في الواقع على تدمير قانون الدولة وتحويل أجهزتها إلى أدوات وقواتها إلى ميلشيات موضوعة في خدمة الطائفة الحاكمة فحسب، ولكنها تذهب أبعد من ذلك لتدمر المجتمع المدني نفسه. فبقدر ما تنجح قيبلة أو جماعة دينية في السيطرة على الدولة وأجهزتها وتقوم بتحييد قانون السياسة العمومية، فإنها تتملك وسائل تمكنها من إخضاع الجماعات الأخرى وفك تنظيماتها الأهلية وكسر أي مقاومة يمكن أن تبديها لهذه السيطرة، سواء أكانت ذات محتوى عصبوي تقليدي أو ذات محتوى تحرري حديث. وهكذا تتحول الدولة نفسها، التي من المفترض ان تكون إطارا قانونيا لضمان اشتغال قانون المواطنية، أي المساواة، وتأكيد أسبقية المصالح العامة وضمان التوازن بين المصالح الخاصة الاجتماعية، إلى أداة جبارة في يد العصبية الحاكمة لحل العصبيات الأخرى وتدميرها واستتباع أفرادها بالقوة وتسخيرهم لخدمة أهدافها الخاصة. من هنا لا تقضي الطائفية، أكثر من أي مرض آخر، على الرابطة الوطنية، ولكنها تدمر أيضا قاعدة المجتمعات الأهلية، وتحول مؤسسات المجتمع المدني إلى خرائب لا تفي بأي حاجة اجتماعية. وبهذا فهي لا ترد المجتمع ثانية إلى مرحلة ما قبل الدولة، وإنما تحكم عليه بالخراب والفساد الشامل. فهي تجوف البنية السياسية المنتجة للفردية السياسية المكونة للرابطة الوطنية وتقضي على شروط إنتاج التضامنات الأهلية الضرورية للسير الطبيعي للحياة الجمعية.
وكما يؤدي استيعاب الدولة من قبل العصبيات الجزئية إلى دمار الرابطة الوطنية وتجفيف ينابيع الحياة السياسية، يلغي تطبيق قانون العمومية داخل المجتمع وتجمعات مصالحه الخاصة روح المجتمع المدني الابداعية، ويجعل منه هيئة بيرقراطية ميتة، كما تبرز ذلك المنظمات النقابية التي تبنيها السلطات الفاشية والاستبدادية التي تفرض عليها قوانين الدولة في الوقت الذي تفرض على الدولة قوانين المجتمعات الأهلية التعددية.
من هنا تشكل دراسة الظاهرة الطائفية، كما أصبحت تتظاهر اليوم، مدخلا رئيسيا للكشف عن الأمراض التي تعاني منها الوطنيات التي ولدت من رحم الاستعمار وفي حضن الحركات الوطنية. فمن حيث هي تقديم للولاءات الفرعية على الولاء الوطني تشكل الطائفية الخطر الأول على بقاء الوطنية، بما هي رابطة جامعة تمثل تجاوز الانتماءات الفرعية، الدينية والأقوامية، وتؤسس لتضامن أشمل من التضامن الأهلي، يحفظ وحدة الجماعة الوطنية، أو يجعل منها كتلة متراصة، متضامنة ومتكافلة، قادرة على أن تكون فاعلا مستقلا في الفضاء الجيوسياسي العام. وفي أساس هذا البناء تكوين مفهوم المصلحة العامة بوصفها الإطار الذي يرسم حدود المصالح الخاصة ويضمن استمرارها وتفتحها على قاعدة احترام حظوظ متساوية للجميع، أو على الأقل منع بعض المصالح الخاصة من أن تتطور على حساب مصالح خاصة أخرى. وهو ما يضمن الانسجام والتفاهم والتعايش بين الجميع، وينشيء من فوضى المصالح والتنازع على الموارد والبقاء نظاما اجتماعيا ثابتا ومستقرا، ويحل التعاون والسلام محل العنف والاقتتال. وفي مقدمة هذه المصالح العامة، التي لا تتأسس مصالح خاصة اجتماعية من دون تعيينها واحترامها، الحق الذي يعني مجموع القوانين التي تضبط النظام الاجتماعي وفلسفتها معا. فالحق مصلحة عامة كبرى، وتجاوز القوانين التي تقوم على أساسها العلاقات الاجتماعية السلمية يعني بالضرورة تهديد الكيان الجمعي وتعريضه للخطر.
والخلاصة، بعكس ما يؤكد عليه القوميون في أيامنا الحاضرة، ليست التعددية الدينية هي المسؤولة عما حصل، لا في البلاد العربية ولا في غيرها من البلدان التي عاشت، ولا تزال، الظاهرة نفسها، وإنما قصور الحركة الوطنية والقومية وعدم اكتمال الدولة أو ضعف مفهومها عند النخب والرأي العام معا، وانعدام الثقافة السياسية. وفي اعتقادي أن الخلط النظري الذي نشأ من الربط، داخل الأدبيات القومية في البلاد العربية بين التعددية الدينية والإتنية القائمة على مستوى المجتمع المدني، والتي هي ظاهرة طبيعية، وضرورية، حتى لو لم تكن مرتبطة بمفاهيم حديثة أو بممارسات مدنية سليمة، واستخدام الولاءات الجزئية من قبل النخب الحاكمة داخل الدولة وفي سبيل ضمان السيطرة غير المشروعة عليها، قد أساء إساءة كبيرة إلى إدراك حقيقة الظاهرة ووضع اليد على الآثار الخطيرة المرتبطة بها. فقد استسلم السياسيون والمنظرون لفكرة اعتبروها بديهية، وهي غير ذلك، مفادها ان المجتمع العربي مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب والإتنيات، فسيفسائي، وأن هذه التعددية هي المسؤولة عن اختراق الدولة بالطائفية، وبالتالي فليس هناك ما يمكن عمله لمقاومتها سوى الاشتغال على وعي المجتمع وثقافته لاقناعه بخطر التحيزات الدينية والأقوامية. وكانت نتيجة هذه السياسة سلبية على مستويين. على مستوى الوعي الجمعي الذي ما كان من الممكن أن يقتنع بسوء التضامنات الدينية والأقوامية التي يستند إليها في ضمان الحد الأدنى من التعاون والتضامن، خاصة في إطار دولة تتلاعب بها المصالح الخاصة الطائفية. فاستمر يراهن على علاقات التضامن الدينية والمدنية القديمة لكن مع شعور بالاثم يدفع به إلى إخفائها، وإظهار التمسك المبالغ فيه وأحيانا المرضي بمباديء الوطنية المجردة وشعاراتها، أي الوطنية والقومية الفارغة من أي التزام والمفتقرة إلى أي محتوى سياسي، بل عاطفي خارج إطار ترداد الشعارات وتكثيرها. وعلى مستوى النخبة الاجتماعية نفسها، الرسمية والأهلية، التي منعها هذا الخلط بين طائفية المجتمع وطائفية الدولة من اكتشاف خصوصية الطائفية السياسية والعمل على استئصالها داخل الدولة، وهو أمر ممكن وضروري، بصرف النظر عن وعي المجتمع المدني ودرجة تمثله لقانون الدولة السياسي.

[1] تشكل اليعقوبية، التي يمكن ترجمتها بعبارة القومية المتطرفة، النموذج لهذا الموقف الذي سيطر على الفكرة القومية العربية كما سيطر على فكر القومية في الكثير من البلدان. واليعقوبية نسبة لتيار سياسي قاده ماكسيميليان روبسبير، أحد قادة الثورة الفرنسية الذين استهروا بالقسوة، وزعيم نادي اليعاقبة، أحد النوادي الفكرية والسياسية النشيطة في هذه الثورة. وكانت اليعقوبية تدافع ضد الليبراليين والجمهوريين المعتدلين عن محاربة اللغات الجهوية وفرض اللغة المركزية بموازاة فرض الجمهورية والدولة الشديدة المركزية. ولذلك ارتبط اسمها بالديكتاتورية والإرهاب ورفض التعددية الثقافية والإتنية. غاستون مارتان، اليعاقبة، Gaston-Martin, « Les Jacobins »
Que sais-je ?, Presses universitaires de France
[2] صدر عن دار المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، 1990
[3] قد يأخذ علينا البعض هنا التأكيد على مسؤولية النخب الاجتماعية محتجا بأن هذه النخب هي وليدة المجتمع وهي تمثل وعيه. وهذا ليس صحيحا. إن ما يجعل من النخبة نخبة وطنية هو قدرتها على الارتقاء بوعيها فوق الشرط الخاص بمصالحها الضيقة وقدرتها على تصور المصلحة العامة وتمثلها. وما يميز النخبة عن المجتمع العمومي هو أنها تمتلك وسائل ثقافة وتعلم وشروط عمل تجعلها أقدر على استيعاب التحولات الخارجية واكتساب معارف ومفاهيم جديدة وتطبيقها بشكل خلاق أيضا في مجتمعاتها. باختصار، ما يميزها ويجعل منها نخبة هو قدرتها على القطع مع النماذج التقليدية وبناء تجارب جديدة أو القيام بمبادرات عقلية وعملية. وإذا كان ذلك غير ممكن استحال أي تحول اجتماعي، عندنا وعند المجتمعات الأخرى. ومعظم النخب العربية التي حملت لواء الوطنية اتخذت منه شعارا ولم ترتق حقيقة إلى مستوى النخب الوطنية، أي لم تنجح في أن تستوعب أنها لم تعد زعامات عائلية أو عشائرية أو مدينية او ريفية أو طائفية.

[4] لا نستخدم هنا مصطلح وطني بالمعنى المعياري الذي يشير إلى موقف أخلاقي يركز على القيم الوطنية أو يلتزم بها وإنما بالمعنى الوصفي الذي يعبر عن وجود دولة من طبيعة سياسية حديثة، وطنية، يكون مصدر السلطة فيها هو الشعب نفسه، الذي يشكل لذلك أيضا صاحب السلطة الحقيقية.وهو ما يميزها عن الدولة الامبرطورية القديمة أو السلطنة التي عرفتها أكثر مجتمعات القرون الوسطى، والتي يصدر القانون فيها عن النخبة الحاكمة، سواء أكانت طبقة أرستقراطية أو تيوقراطية. أو عسكرية.

الحداثة ومركزية الانسان

محاضرة ألقيت في مكناس عام 2006 في ذكرى رحيل محمد باهي

شكراً لحلقة أصدقاء باهي لهذا الجهد المعبر عن المكانة التي تحتلها ذكرى باهي محمد عند جميع من عرفه أو تعرف عليه.
الحديث الذي طلب مني التدخل فيه في هذه المناسبة، وهو مطروح علينا جميعاً بالمثل، هو معنى الحداثة ومفهومها.
ما هي الحداثة؟ هل يمكن أن نعرِّف الحداثة؟ سؤال أعتقد أنه صعب جداً. يكاد من المستحيل اليوم أن نجد تعريفاً للحداثة، حتى ولو ربطناها بالإنسان. إنما سأحاول أن أقدم – خاصة وأن الأستاذ حسن أوريد تحدث عن معطيات كثيرة في هذا الموضوع، وجلسات بعد الظهر ستتناول جوانب متعددة من موضوع الحداثة، - سأحاول أن أقدم بعض الملاحظات التي ستساعد على وضع الإطار العام لإشكالية الحداثة في الفكر العالمي، وبشكل أساسي في الفكر العربي. أقصد بعض الملاحظات التي يمكن أن تتوسع بالنقاش فيما بعد.
الحداثة تظهر لنا، بخاصة نحن العرب والبلدان التي لم تساهم مباشرة في إنتاج الحداثة، باعتبارها ثمرة أخيرة، منتجا جاهزا تتجسد في علوم، تقنيات. وفي أحسن الأحوال نراها كحدث طاغ. حتى المثقفين الرواد الذين ذهبوا في القرن التاسع عشر إلى أوروبا، لم يدركوا عمق هذا الحدث أو القطيعة التاريخية التي تمثلها الحداثة، فخلطوا بين الحداثة وبين الثقافة الغربية، فبدت في نظرهم تعبيرا عن نظام آخر، هو نظام الغرب الفكري والاجتماعي. ولا نزال نحن نعيد هذه الأفكار عندما نربط بين الحداثة والغرب أو ثقافته وخصوصياته، ولا نفرق بينهما. هكذا رأوا في ما هو حداثة نظاماً غربياً وقارنوه مع نظامهم الشرقي. وبسبب ذلك لم يبحثوا في أصل هذا الحدث الكبير الذي اسمه الحداثة، فبقي التاريخ الذي أوصل الغرب إلى ما هو عليه، تاريخ الحداثة، كله مغيباً عنا جميعا.ً ولا يزال مغيباً في فكرنا. لذلك أنا أقول أننا لا نزال في مجتمعاتنا نرى الثمرة ونقتنيها، ولكن لا نرى الشجرة التي أنتجت هذه الثمرة، ونحاول أن نزيد من اقتناء الثمار، والثمار تعني هنا الحداثة الجاهزة وبالتالي الاستهلاكية، أما الشجرة، شجرة الحداثة فهي تختلف كليا عن الثمرة وهي لا تزال غريبة عن أذهاننا. نحن نرى الثمرة على شكل علوم أو تقنيات أو حتى نظم اجتماعية ونظم سياسية ومؤسسات. فكلها تبدو لنا ثمارا جاهزة وناضجة للقطف. وهو ما نفعله بالفعل. من هنا أريد أن أشدد على بعض الأفكار.
الفكرة الأولى التي أود أن أثيرها هي أن الحداثة، بعكس ما تظهر في مرآتنا نحن، ليست شيئا ناجزا وكاملا أو مكتملا، ولد مرة وانتهى. إنها مسار مستمر معقد ومركب، يتضمن عناصر عديدة وكثيرة، متماثلة أو متباينة، من التحولات التاريخية، تنطوي على مراحل تقدم ومراحل تراجع، على خطوات قوية وأخرى ضعيفة، على أخطاء وتراجعات، على كوارث وإبداعات فذة في الوقت نفسه. هي تاريخ مليء بالتناقضات والالتقاءات والنزاعات والتوافقات، والحروب واتفاقيات التفاهم والسلام. فعندما أتحدث عن مسار تاريخي فهذا يعني في الوقت نفسه مسار مستمر لا يتوقف ولا يصل إلى هدف محدد مسبقا أو نهائي، كما يعني أنه مسار حي، متنوع ومتعدد المظاهر والأشكال والصيغ، قابل للتقدم والتراجع، للدخول في مآزق والعبور نحو قارات جديدة غير مكتشفة. فالحداثة بعكس ما نتصورها تماما في أدبياتنا الشائعة، ليست نموذجا ناجزا نشأ في أعقاب حدث طارئ، أو على أثر انفجار كبير وانقطاع تاريخي وحضاري نجم عنهما نظام اجتماعي وعقل واقتصاد ومجتمعات جديدة تماما ومتكاملة. هذه صورة خاطئة كلياً ولا تستطيع أن تقودنا إلى فهم الحداثة. الحداثة عملية تاريخية طويلة ومعقدة ومركبة ومتناقضة وليست دائماً متسقة ولا سعيدة ومسعدة. إنها بالعكس مسيرة مليئة بالأزمات وبالمعارك وبالتشنجات وبالصراعات، أي أيضا بالعذاب. لنتذكر فقط ما كتبه الأوروبيون في القرن التاسع عشر حول البؤس وشروط حياة الطبقة العاملة. ولعل الماركسية وأدبياتها، ومفاهيم الصراع الطبقي والديكتاتورية البروليتارية، تعطينا فكرة واضحة عن هذه الحداثة التي كانت تشكل مشكلة أكثر منها حلا، وعن هذا التحول التاريخي المعقد الذي جعلنا منه نحن نموذجا جاهزا وناجزا ومثاليا أيضا نتأمل فيه ونقيس عليه أمور حياتنا.
هدفي أن أقول أننا بقدر ما حولنا الحداثة إلى نموذج جاهز ومثالي جعلنا منها أسطورة، وحرمنا أنفسنا من القدرة على فهم أولياتها، وبالتالي القدرة على السيطرة عليها. ويبدو لي أننا لن نفهم جوهر الحداثة، أي لا جوهرانيتها في الواقع، ما لم نقتل أسطورتها، أي الأسطورة التي كوناها عنها في ذهننا وفكرنا. فنحن لا نزال نعيش في الحداثة ونتعامل معها كأسطورة، كمثال، وبالتالي نخفي أو نقطع على أنفسنا الطريق لنرى فعلاً حقيقتها، والديناميات القوية والمتناقضة الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي تكمن وراءها.
والفكرة الثانية هي أن للحداثة، بقدر ما هي عملية تاريخية، مستويات متعددة: فكرية، ثقافية، أخلاقية، سياسية، اجتماعية الخ... وهي ترتبط أيضا بأنواع مختلفة من النزاعات والصراعات اللصيقة بها والتي لعبت دورا كبيرا في تحديد اتجاه تطور النظم السياسية والاجتماعية عبر التاريخ الحديث.
لذلك يخطئ المرء عندما يفكر في الحداثة انطلاقا من مشاهدته اليوم لما هو عليه الوضع في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرهما من الدول الصناعية في القرن العشرين أو الواحد والعشرين. وبالتأكيد ستكون فكرة المراقب عن الحداثة مختلفة تماما لو نظر إلى هذه البلدان نفسها في بدايات القرن التاسع عشر، بل حتى قبل خمسين عاما. فستكون الأمور والمظاهر التي نراها مختلفة، وستكون انطباعاتنا عن الحداثة مختلفة أيضا.
الفكرة الثالثة هي أن الحداثة ليست واحدة، ولا يمكن أن تكون واحدة، ولكنها مسارات متباينة، ترتبط بعوامل البيئة والثقافة والظروف الجيوسياسية والاقتصادية. فهي بالضرورة تعددية. الأمور لا تتطور ولا تتحول ولا تتراكم بالصورة نفسها، وحسب المعطيات نفسها، في كل المواقع، وبصرف النظر عن أنماط التراث المختلفة التي تملكها المجتمعات.
باختصار، ينبغي أن ننزع في نظري عن أذهاننا تلك الفكرة التي تظهر الحداثة كما لو أنها نظام كامل متكامل، ثابت، متسق بين مستوياته العقلية ومستوياته السياسية والاجتماعية ومستوياته الاقتصادية. يجب أن نرى في الحداثة – ويمكن أن تكون هذه هي الرؤية الأساسية، أي ما أفهمه من الحداثة أو أيضا مفهومها عندي، - ورشات تاريخية مفتوحة. وعندما أقول ورشة فأنا أشير إلى عملية بناء لا يكتمل، وتتفاعل فيه عوامل متعددة، البيئة، البشر، التراث، الموارد، الوضع والسياق الجغرافي والسياسي، الفرص التاريخية والمعيقات، الخ... وعندما أقول مفتوحة فأنا أعني أنها تنطوي على عوامل تتحول باستمرار، تتقدم وتتراجع، على مستوى العلم، على المستوى التقني، على مستوى النظم الاجتماعية. نحن لا نصل إلى نتيجة نهائية في أي وقت، ولكننا نعيش في استمرار في إطار مراجعة مستمرة لأفكارنا، لنظمنا. هناك دائماً انتقادات، هناك دائماً إعادة نظر، هناك دائماً تجديدات. وما ينجم عن الحداثة هو ثمرة هذه الصراعات وهذه الورشات. عندما أقول أفتح ورشة يعني أفتح مجالاً للعمل وللجهد وللتأمل، الخ...
خلال هذه التحولات الطويلة، المتراكمة، التعددية، المتناقضة باعتقادي هناك ثلاثة ورشات كبيرة، أو ثلاثة محطات أساسية نستطيع أن نبلور حولها رؤيتنا لهذه الحقبة من التاريخ التي أعقبت القرون الوسطى، والتي سميناها حداثة، وكان يمكن أن نسميها شيئاً آخر. يعني أن الحداثة هو اسم أطلقناه على مجموعة هذه التحولات.
في اعتقادي هناك ثلاثة محاور رئيسية تبلورت من حولها صراعات الحداثة وديناميات الحداثة وثمار الحداثة.
المحور الأول هو مسألة العقل، العقل في مقابل النقل. فالنقل كلمة مرتبطة بكل ما يتعلق بالتراث الديني الإسلامي والمسيحي واليهودي: بشكل خاص الأديان السماوية. لأن هذه الأديان تعتمد بالدرجة الأولى على النص الديني الثابت، وعلى المعرفة المرتبطة بالمعرفة الغيبية، المعرفة الدينية المنزلة أو المستمدة من الوحي. وبالرغم من وجود اختلافات عديدة بين المسيحية والإسلام واليهودية في تصور مكانة النص والعلاقة بهذا النص، لكن المعرفة الدينية تبقى فيها جميعا معرفة مقدسة ومطلقة، تعتمد على وحي صادق أو مصدر مطلق. مقابل ذلك نشأت فكرة العقل هنا أيضاً مرتبطة بما نسميه بمرحلة النهضة والإنسانية humanisme والتي ابتدأت عندما بدأ الناس يفكرون أن المخرج من الاحباطات الدينية والمذهبية ومن التخبط السياسي والانحطاط الأخلاقي والاجتماعي، التي كانت تعيشها أوروبا في القرون الوسطى، ربما كان بالعودة إلى تراث القدماء العقلي اليوناني والروماني. أي العودة إلى الإنسان، إلى العقل وإلى تراث العقل والفلسفة، أو الحكمة العقلية التي عرفها الأوروبيون لفترة طويلة من خلال الترجمات العربية، وبدأوا في لحظة من اللحظات يبحثون عن حلول لمشاكلهم الكبرى وتطلعاتهم في تراث الماضي، ويعكفون على قراءته وعلى تعلم اللغات القديمة التي كتب بها أيضا. مفهوم العقل لم تنتجه الحداثة. تراث العقل يعني الفلسفة اليونانية بالدرجة الأولى، ثم التراث القانوني الروماني وكذلك رمزه أرسطو، لم تنتجه الحداثة، وإنما أعادت اكتشافه واستعادته. كان موجودا حتى قبل فلسفة اليونان. إنما في إطار إعادة إكتشافه راجعت مفهومه جذريا، ثورته، وأعادت البناء عليه. وهذا هو الجهد الرئيسي الذي ميز عملية النهضة، أي إعادة النظر في وسائل المعرفة. استعادة العقل لبعض الترجمات الفلسفية واليونانية أخذ شكلاً آخر مع فلسفة ديكارت وكوجيتو"أنا أفكر إذن أنا موجود" الذي يركز على مفهوم البديهة العقلية. أهمية هذا الكشف أن الإنسان يستطيع بعقله نفسه أن يفتح آفاقاً معرفية جديدة. كان ذلك مصدراً لثورة في المعرفة، وقبل ذلك في النظرة للمعرفة. هكذا أصبح بإمكان الإنسان الذي كان متلقيا فحسب للتعاليم والأحكام والمثل الإلهية، أن يكون هو نفسه مصدر معرفة يقينية، علمية، عقلية، ثابتة ومقبولة. أصبح صانعا للمعرفة، وهذه الكفاءة والملكة الجديدة التي تملكها الإنسان مرتبطة بضبط أدوات التفكير والبحث ومناهجهما، أي ببلورة أدوات تفكير جديدة، بوضع "لوجيسييل" أو برنامج معلوماتي جديد للعقل، غير البرنامج الأول الذي وضعه له اليونان. كل الشعوب كانت تؤمن بالعقل. وكلمة العقل ليست اكتشافاً يونانياً كما قلت. لكن ما كان أضافه اليونان هو "لوجيسييل"، أي برنامج معلوماتي ينظم طريقة عمل هذا العقل ووسائله وغاياته. أي في الواقع ميدان جديد وطريقة جديدة لاستخدام العقل: الفلسفة، مبادئ النظر العقلي الدقيق.
تلقفت حقبة النهضة مفهوم العقل بمفهومه الجديد، ما بعد الأرسطي الصوري. وعلى أساسه أعيد بناء المعرفة وظهرت فعلاً ثورة علمية حقيقة. الثورة العلمية نشأت من هنا. فالانفجار العلمي والاكتشافات العلمية نشأت وتطورت، طبعاً بشكل أساسي، أولاً عندما تم التمييز بين المعرفة والحقيقة. بين العلم والدين. وأصبح هناك اقتناع كامل بأن المعرفة لا يمكن العثور عليها في الطبيعة ولا في النص الديني. المعرفة ينبغي بناؤها، تكوينها، الشغل عليها. والشغل عليها يعني ضبط العقل في عمله وتحديد أسس التفكير العقلي المعتمد على ضوابط واضحة وبديهية كما عبرت عن ذلك فلسفة ديكارت أو منهجه. ثم انتقلنا إلى فكرة أوسع كانت أيضاً خصبة، وهي فكرة فرانسيس بيكون والمتمثلة في كون الخبرة والتجربة هي أيضاً أساس التقدم العلمي. وهذه كانت أساس الثورة العلمية. ما قاله بيكون بشكل سريع وبسيط جداً هو انه يجب أن نبحث عن المعرفة في الكشف عن قوانين الطبيعة، أي في الممارسة العلمية، في البحث والتجريب، وليس في النصوص القديمة. نقد حتى الخطوة الأولى من خطوات النهضة وقال: ليس في النصوص اليونانية والرومانية نستطيع أن نجد الحقيقة. هنا قطعنا مرحلة ثانية إذ لم نميز المعرفة عن الحقيقة فحسب، ولكننا أصبحنا نميز المعرفة الموضوعية المستمدة من التجربة عن المعرفة النظرية التجريدية، التأملية. والعلم الحديث طبعاً تطور ونشأ على أساس هذه الأفكار الجديدة في بناء مناهج البحث العلمي، وتنظيم التجربة، وشيئا فشيئاً حصلت الخطوة الثالثة التي يمكن أن نسميها la sécularisation du savoir، أي بلغة عربية مفهومة: تجريد المعرفة من بعدها السحري والأسطوري. هكذا أصبحت المعرفة العلمية زمنية، صناعية، ليست مستقلة عن المعرفة الدينية ومتميزة عنها في أسس بنائها فحسب ولكن أيضا عن جميع المعارف المنقولة والحكم المقدسة والأساطير الموروثة الماضية. هذه في اعتقادي أول ورشة لا زالت مفتوحة ولم تنته بعد، من ورشات الحداثة العديدة. وهي لا تزال ورشة لأن الورشة تعني أننا لم ننجز العمل بعد، نحن منهمكين فيه، لا نزال نناقش حتى اليوم معنى العلم ومفهوم العلم، ولا تزال العلوم تنتقد نفسها وتراجع طرقها ووسائلها ونتائجها. لا نزال نحن مثلاً في العلوم الاجتماعية نقول: هناك أزمة في العلوم الاجتماعية، ونعترف بأننا لا نعرف شيئاً تماماً عن المجتمع، أو ليس بإمكاننا إدعاء معرفة يقينية وقابلة للنقل والتعميم، بالرغم من قرنين تقريباً (التاسع عشر والعشرين) من البحث في الإنسان، في الأنتروبولوجيا والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ، الخ... وبالمثل، ليس هناك أي اقتصادي يستطيع أن يقول لنا اليوم ما هي السياسات الدقيقة التي إذا اتبعناها نضمن أن نخرج من الأزمة الاقتصادية أو من التخلف، الخ... لا نزال في بحث مستمر رغم كل ما حصلناه من تقدم.
الورشة الثانية التي كانت مهمة جداً، والتي ارتبطت أيضاً في بدايتها بمرحلة النهضة وبحقبة النـزعة الإنسانية، هي عودة اكتشاف الحق: le Droit، وما ينبع منه من رؤية قانونية جديدة، كأساس لبناء عدالة اجتماعية. فالحق لا يعني الشريعة، لأنه لا يرتبط بالانصياع لأحكام منصوص عليها أو مطلوب تطبيقها من قبل سلطة إلهية عليا فكرت في العدالة مرة واحدة وإلى الأبد. إنه جزء من التفكير المستمر في العدالة الإنسانية، تفكير المجتمع نفسه بعدالة أسسه، وصلاحيتها. إنه نابع من المجتمع المسؤول عنه وعن تطويره وتطبيقه، لا من مصدر آخر. فهو ينبثق من الاعتقاد بأن على المجتمع "الجماعة" ككل واجب هو تحقيق العدل، وبالتالي بناء مفهوم الحق والواجب، حق الأفراد وحق الجماعة معا، وتكوين القوة العامة التي تتكفل بتطبيق القانون أو الضابط له، وتأمين احترامه، هي التي تثب وتعاقب، وتتدخل في النـزاعات بين الأفراد، ليس على سبيل تعويض الشخص الذي أسيء إليه أو معاقبة الجاني، ليس على أساس الردع وإعطاء العبرة للآخرين، ولكن على أساس بناء قاعدة النظام العام، وتطوير ما لم تعرفه المجتمعات في الماضي، فكرة الحق الخاص والعام، حق المجتمع الذي يشكل تأكيده واحترامه أساس احترام حقوق الأفراد. الحق في هذا المجال هو جزء من منظومة الدولة والسياسة المدنية الحديثتين معا ولا وجود له خارج دائرتهما.
هكذا حمل المجتمع مسؤوليته في ضبط النظام من داخل صفوفه ولتحقيق غاياته، كمجتمع، لا على سبيل الطاعة أو التوافق مع مطالب الدين، أي الغايات التي ترسم له من خارجه، ولكن تلك التي يرسمها هو نفسه لوجوده. وبذلك تحول إلى مجتمع سياسي أيضا بعد أن كان مجتمعا دينيا أو لاهوتيا في طبيعة السلطة والصلاحية التي تحكم نظامه. وفي هذا المخاض استقل مفهوم الحق، بالمعنى المدني القانوني، وتطبيقه معا عن مفهوم الشريعة، فصار نظاما إجرائيا متكاملا يضبط نفسه من خلال آليات واضحة تعبر عنها درجات المسؤولية ومرتباتها، ولا يعتمد في وجوده على الإيمان والورع الشخصي المتفاوت عند الأفراد بالضرورة، ولا أيضاً على مزاج أو معرفة فقيه بالدين أو عالم دين أو سلطان. كما لا يحتاج لتحصيل الحكم وتطبيقه على التأويل الذاتي بالضرورة لكتب الدين أو الحكمة. فالحق كما يتجسد عبر النصوص القانونية الحديثة هو نص مقدس جديد، لكن مفتوح للتعديل والتغيير من خلال آليات السياسة المدنية. وهو ما سمح بإعادة بناء مفهوم العدل الانساني وتطوره أيضا، بموازاة تطور القيم والتطلعات الإنسانية. لقد أصبح حق مقدس ومفتوح على التاريخ في الوقت نفسه. وقد شكل العمل على فكرة الحق والعدل الإنساني وتعزيز سبل تطبيقه ورشة عمل ثانية أساسية في الحداثة.
ليس هناك شك هنا أيضاً في أن الأوروبيين لم يكتشفوا مفهوم الحق والقانون. لقد أخذوه عن الرومان كما أخذوا العقل وفلسفة العقل ونظام العقل عن اليونان. والرومانيون هم الذين كانوا قد طوروا بالفعل نظرية الحقوق القانونية وجعلوا منها علماً مستقلا قائماً بذاته. حسب مفكري القرن التاسع عشر، يقوم مفهوم القانون/الحق الجديد على أربعة عناصر رئيسية:
العنصر الأول التحكيم، هناك مؤسسة رسمية معروفة تحكم بين الناس، تأخذ على عاتقها أن تحكم في الصراعات.
العنصر الثاني هو أن هذا التحكيم في النـزاعات ليس قضية مزاجية، وليس قضية مرتبطة بإرادة الأفراد المتنازعين. هناك مؤسسة ستتدخل وتضمن الحكم، بصرف النظر عن إرادة الأفراد المتنازعين.
العنصر الثالث هو أنه لا بد أن يكون هناك تحديد أو تعريف مسبق وواضح ومعلوم للجريمة، للجناية، للجنحة، الخ... بحيث لا يمكن أن يختلف الحكم على جرم واحد باختلاف وضع مرتكبيه.
والعنصر الرابع هو أنه لابد أن يكون هناك مقاضاة بمعنى عقوبة وتعويض للتوصل إلى حل مرض للنـزاع.
هذه العناصر الأربعة خلقت نظاماً جديداً للتفكير في مسألة الحق والقانون. وعلى أساسه بنيت الدولة الحديثة. فقد نشأت بالارتباط بمعنى الحق القانوني كمفهوم جديد. القانون كمفهوم وضعي يقوم على فكرة إمكانية تحقيق العدل بصرف النظر عن طبيعة النصوص المقدسة وتاويلها وايمان الناس بها. فهو حق موضوعي، أي يمكن التحقق من شروطه بشكل مادي وعقلاني، من خلال النصوص والإجراءات القانونية الدقيقة، بعكس ما يتسم به العدل الديني من ذاتية بسبب اختلاف تاويل الفقهاء ودرجة استيعابهم للنص وقدرتهم على استخراج الأحكام الصحيحة منها وفهمهم لطبيعة الجرم. ولذلك أنا أقول كانت هناك شريعة في التاريخ الإسلامي، وكانت الشريعة مسيطرة كلياً، وكان هناك فقهاء متعددون يطبقونها، وأحيانا بإخلاص. وهذا هو الذي حفظ للأمة الإسلامية الحد الأدنى من الاتساق الذي سمح لها بتكوين حضارة وبالاستمرار. لكن لم يكن هناك قانون، ولا مؤسسة قانونية بالمعنى الحديث للكلمة. ذلك لأنه لم يوجد مفهوم للحق الإجرائي، الحق الطبيعي المولود مع الإنسان، والذي لا يملك أحد حق التصرف فيه، بما في ذلك الدولة والسلطان. كان الفقيه في كل بلد يحكم كما كان يملي عليه ضميره وعلى قدر تمكنه من فهم المقاصد الشرعية وصدق إيمانه ودرجة تفقهه في الدين. لم يكن هناك حق عام منصوص عليه ودقيق. وعندما حاول أحد الخلفاء أن يأخذ موطئ الإمام مالك ليجعل منه قانوناً، أي نصا معتمدا من قبل السلطة العامة، وبالتالي مطبقا في كل نواحي المملكة، رفض الإمام مالك نفسه العرض، وقال إنه لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية الحكم باجتهاداته، يوم القيامة وأمام الله، ويدفع ثمن الأخطاء التي يمكن أن يكون ارتكبها في تأويله، أو ثمن الظلم الذي يمكن أن يرتكب باسمه. فكرة الحق القانوني المستقل عن الدين والمرتبط بالسلطة العامة، سواء أكانت سلطة ملكية أو سلطة ديمقراطية، كانت لا تزال بعيدة عن أذهان المسلمين، بقدر ما ارتبطت الحقوق في تقاليدهم بالعبادة لا بالواجبات والمسؤوليات. أو بالأحرى بالواجبات والمسؤوليات تجاه الخالق وليس تجاه المجتمع. ولذلك أيضا ما كان من الممكن لمجتهد أن يقبل بتطبيق فقهه أو الأحكام التي استمدها من النص القرآني على الأفراد، بصرف النظر عن دينهم ودرجة إيمانهم. فهي لا يمكن أن تطبق على غير مسلم من دون أن يكون هناك ظلم، فهي مرتبطة مباشرة بالايمان وجماعة المؤمنين. وهي تكملة للدين لا شرطا لقيام مجتمع مختلف عن الجماعة أو الأمة الدينية أو العقيدية.
فكرة القانون الموحَّد المنظِّم للصراعات والعلاقات، كان هو أساس نشوء الدولة الحديثة. لا يمكن للدولة الحديثة أن تنشأ بدون مثل هذا القانون.
الورشة الثالثة والتي أعتقد أنها لا تزال أيضاً مفتوحة هي البحث في وضعية الفرد-الذات. أي الفرد ليس بمفهوم الفردية والمصلحة الذاتية، ولكن بوصفه ذاتا واعية أي حرة، مريدة، وبالتالي أيضا قابلة للصياغة والتكوين والمساءلة القانونية والأخلاقية. وهي مرتبطة بفكرة الشخص الذي لا يمكن رده إلى نفس حيوانية خاضعة للغريزة، يأتي الدين أو الحكمة المقدسة ليهذبها ويشذبها، ويخفف من وطأة الغرائز على الفرد. الفرد وعي وضمير وليس غريزة. هذا هو المنطلق الجديد لبناء الشخصية وإعادة النظر في مفهوم الكائن المنتمي للنوع الإنساني. وفي ما وراء ذلك وحدة الإنسان، أي إلغاء المرتبيات التقليدية التي تضفي المشروعية على التمييز بين فئات الناس، العامة والخاصة، الذوات والعوام، والأكابر والأرزال. فأنا إنسان، أي ذات عاقلة وقادرة، مثل الآخر الانسان، وأشخاصنا يتساوون في الحقوق والواجبات. هذا يعني اعتراف الجميع ببعضهم كأنداد، لا كأسياد من جهة وأزلام ومحاسيب من جهة ثانية. وهو ما يفترض اعتراف الجميع بحقوق الجميع، وتجريم المس بهذه الحقوق أو القبول بمعاملة فئات من الناس كما لو كانوا أقل أهمية أو قيمة إنسانية. ليس هناك ناس أعلى من ناس أو أبدى منهم. هنا تبدأ الثورة الحقيقية، عندما نصبح جميعاً ذواتاً متساوية، وتصبح مقولة السيد المطبقة على الجميع حقيقة واقعة وممارسة يومية. في المجتمعات الحديثة، كل شخص سيد، حتى الشحاذ، حتى المتسوِّل. فهذا هو مظهر الاعتراف الرسمي، القانوني، بالمساواة المطلقة في الإنسانية.
فالفردية الجديدة تعني أولا تحويل جميع أفراد الجماعة إلى أسياد، أي متساوين. لا أحد يملك سابقة أو أفضلية على آخر. لا بالوراثة ولا بالمعرفة ولا بالعلم ولا بالثروة ولا بالحسب والنسب. فليس بين أعضاء المجتمع الحديث من هو تابع ولا إمَّعة ولا زلمة (نحن في الشرق رجل نقول له زلمي أي الزلمة، التابع أو المحسوب على غيره من الأسياد). هذا كله من تقاليد القرون الوسطى والثقافة التقليدية. وتعني ثانيا أن كل فرد هو موطن ممكن وواجب لوعي مستقل ولفعل حر ومريد، أي لتجربة إنسانية نوعية. وهو بالمقابل مسؤول ليس عن نفسه فقط وعن أبنائه، ولكن عن مصير الجماعة نفسها وعن شروط الحياة فيها. عليه واجبات عامة وليست خاصة فحسب. لكن جعل الوعي والإرادة والمسؤولية مناط الفردية يرتب مهاماً على النظام العام، على المجتمع في تعبيره الكلي، على الدولة التي لا وجود لهذا المجتمع السياسي من دونها. وهذه المهام هي تأهيل الفرد نفسه، فهو لا يولد مؤهلا، يولد حرا، لكنه لا يعرف معنى الحرية، يولد قابلا للتعلم والفهم والمعرفة، لكنه يحتاج إلى معلمين ومربين. الذاتية الفردية أو الفرد كذات فاعلة لا يولد كذلك، إنه يبنى، يصنع. كي ما نستطيع المراهنة على وعيه وحسه بالمسؤولية وأدائه الاجتماعي، كإنسان ثم كمواطن، ينبغي أن نبني وعيه ونعلمه معنى الحرية والمسؤولية، أي ينبغي أن ننمي فيه هذه الإرادة والشعور والوعي والضمير. كل هذه مفاهيم مترابطة تشكل محاور الفرد كذات، بني عليها مفهوم المجتمع الحديث. وليس لهذا المفهوم للفردية أي علاقة بما تتبادله الإيديولوجية الشائعة في بلادنا عن الفردية كموطن للأنانية. بالعكس، الفردية هنا هي خلاف الأنانية ونقيضها. فهي ملتصقة تماما بالمسؤولية والمشاركة في المصائر العمومية. في المجتمعات القديمة الفردية تساوي الأنانية بالفعل، لأن الفرد لا يهتم إلا بنفسه وأهله، وليس لديه أي مسؤولية تجاه الجماعة ككل، ولا مجال للتعبير عن هذه المسؤولية طالما أن السياسة محتكرة من قبل طبقة ارستقراطية ثابتة أو سلطان مطلق السلطة. النافذة الايجابية الوحيدة التي يطل منها الفرد على الآخر الجمعي ويشعر بمسؤوليته في النظام القديم هي نافذة الإحسان والتعاطف الإنساني والديني وما يرتبط بهما من واجب الصدقة والزكاة. لكن التماسا لرضى الله، لا انطلاقا من مفهوم المسؤولية الجماعية أو الاجتماعية.
من هنا لا قيمة لما يقال من أن القيم السائدة في المجتمع الحديث الغربي هي قيم الفردية، بينما ما يسم مجتمعاتنا هو القيم الجمعية. العكس هو الصحيح تماما. أفرادنا لا يرون المجتمع إطلاقا خارج نطاق دائرة الأهل والعشيرة، وفي أحسن الحالات فئات المحرومين الذين تحل لهم الصدقات. فالقيم الجمعية هنا متعلقة بالعصبية والقرابة أو الدين، لا بالمسؤولية الاجتماعية والانهمام بمصير المجتمع ونظامه ككل. وهذا ما يفسر ضعف الحوافز السياسية في مجتمعاتنا إلى اليوم رغم اندراجها منذ قرنين في منطق الحداثة السياسية.
النظر إلى الفردية باعتبارها لبنة البناء الاجتماعي السياسي الحديث هي التي تفسر أيضا الاستثمار الكبير الذي تقوم به السلطة العامة في تكوين الفرد وتأهيله علميا وتربويا واجتماعيا. ومع دخول نظم التربية والتعليم والتأهيل الحديثة تحولت المجتمعات تحولا كبيرا وولد مجتمع جديد بالفعل، مجتمع الرابطة القومية، أو الأمة التي تسمح فيها التضامنات السياسية بتجاوز نمط التضامنات العصبوية التقليدية. مجتمعات القرون الوسطى مجتمعات قائمة على العصبية. العصبية الدينية، من ملة واحدة، العشائرية، الإثنية، أحياناً أيضاً عصبية الأحياء والقرى، الخ... بينما المجتمعات الحديثة مجتمعات سياسية، وترتد إلى الماضي وأساليبه بسرعة عندما تغلق باب الحياة السياسية على الأفراد.
هذه الورشات الثلاثة للحداثة لا تزال قائمة، لم ينته العمل بها بعد، لا تزال هناك صراعات ونزاعات حول العديد من الخيارات التي توجه نشاطها. حتى في البلدان الحديثة جداً، حتى في البلدان الأوروبية التي هي مصدر الحداثة، لا يزال هناك نقاش ومحاولة لتطوير المعرفة الإنسانية العلمية. لا تزال هناك شكوك كبيرة حول صلاحية النظم السياسية التي خرجت منها، بما في ذلك حول محتوى الديمقراطية وحدودها وقدرتها على تجسيد المثال الذي رسمه الفكر الانسانوي والقانوني والسياسي. لا تزال هناك ملاحظات كثيرة أيضاً حول مسألة وجود الفرد الذات، في عالم يخضع أكثر فأكثر لسيطرة الموضوع والأغراض المادية، وتفقد فيه المجتمعات نفسها قسما كبيرا من هامش مبادرتها وسيادتها السياسية لصالح القوى والشركات وشبكات المصالح الخفية التي تعمل على مستوى القارات، بل العالم بأكمله، ويكاد يستحيل على أي دولة أو سلطة عمومية ضبط نشاطاتها أو التحكم بها.
قبل أن أنهي، هناك فكرة تمسنا نحن كعرب. نحن نتساءل دائماً عن وضعنا في الحداثة. في اعتقادي ليست المجتمعات العربية مجتمعات القرون الوسطى على الإطلاق. هي مجتمعات حديثة، أو تخضع لمنطق الحداثة الذي ذكرت، ولو كان ذلك ضمن منطق التناقضات والتشوهات المرتبطة بهذه الحداثة الخاصة بنا. وما نعيش اليوم هو مظهر من مظاهر هذه الحداثة التي سميتها في أحد كتبي "الحداثة الرثة" بمعنى الحداثة التي لا تملك كتاب مفاتيحها في جيبها، وإنما هي مجرد استهلاك متزايد لثمرات الحداثة الناشئة والمتطورة خارجها. لم نستطع أن نزرع شجرة الحداثة، ولا نفتح ورشات لها خاصة بنا وبشروط وجودنا، لا ورشات المعرفة الزمنية، المدنية، الإنسانية، البحث العلمي، التطور الفكري الحر. ولا ورشة الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون. نحن لا زلنا إلى حد كبير في نظري مجتمعات حديثة تخضع لسلطة الأعيان والأتباع. ولم نطور أيضاً بما فيه الكفاية ربما مسألة الفرد كذات، أو الفردية الحرة والمسؤولة. وكما يقول اليوم ناقدي الحداثة عن حق "بدل أن ننمي الذات الفردية، أي الضمير-الوعي-المسؤولية-الإرادة، داخل الفرد، نشأت عندنا الفردية المنفلتة من أي عقال، أي الفرد الأناني بالمطلق، الذي يرفض التفكير بالآخر، سواء أكان فردا أو جماعة، بل يعجز عنه حتى لو حاوله، ولا يفكر إلا بالمصلحة الشخصية. نحن نعيش الحداثة لكن في صورتها المنحطة. وهكذا تحل الفردية الأنانية محل الإنسان الحر المسؤول والمشارك في المصائر العمومية. ودولة الحق والقانون إلى دولة تسلط الفئة البيروقراطية التي تحكم لصالحها. ودولة العقل التي تعمل للصالح العام وتأخذ بيد الأفراد لتجعل منهم أنداداً فاعلين ومتفاعلين، بالتربية والتعليم والتأهيل والبحث العلمي، إلى إيديولوجية عقلانوية تستخدم في تبرير سيطرة النخب الاجتماعية على مجتمع بقي إلى حد كبير معزولاً أو مستبعداً من آلية التطور العقلي والتعليم والتربية الحقيقية.
أنا أعتقد أن ما نعيشه لا يعبر عن كوننا لا نزال خارج الحداثة، كما ينحو عدد متزايد من الباحثين المستشرقين والمستغربين إلى القول، وإنما يجسد بالعكس أزمة هذه الحداثة (العربية)، أو النسخة المشوهة منها. فالمشكلة لا تكمن في التراث الماضي ولا في الدين، وهو نقاش تجاوزناه منذ زمن طويل، حتى لو استعادت الأزمة بعض عباراته ومحاوره، وإنما في نمط الحداثة الرثة الذي اخترناه وأنتجناه. وأقول أننا تجاوزنا النقاش الديني، لأنني أعتقد أنه لا أحد يتصرف اليوم – بما في ذلك الحركات الدينية- بدافع ديني، أي بدافع الغيرة على الدين وفي سبيل نشره، رغم استثماره الدين، وإنما لتحقيق أهداف وقيم وغايات سياسية، هي في قلب الحداثة، ولكن بطريقة مواربة.
لكن أزمة الحداثة ليست مقتصرة علينا فقط. اليوم نحن نتحدث عن أزمة الحداثة حتى في البلدان التي صنعت الحداثة، أو التي تعيش في قلبها وتشكل موطنها الأصلي. وتتجلى أزمة الحداثة –كما نقول نحن اليوم- وهناك من يتحدث كما تعرفون عن ما بعد الحداثة - في أن مجموع الورشات التي افتتحناها باسم الحداثة، المعرفية والسياسية والقانونية، في سبيل تحقيق انعتاق الإنسان، وانعتاقه على مستوى الفرد والجماعة معا، أي تكوينه كسيد حر، وكأمم سيدة أيضا ومتساوية، لم تقدنا إلى الغاية المرجوة منها. بل إن الآثار ا لجانبية لهذا التحرير المفترض للإنسان قد تجر علينا استلابا ودمارا يتجاوز ما كنا نعتقد أننا قادرين عليه. نحن اليوم ضحايا القوة التقنية خاصة عندما تتزاوج مع إرادة الحرب والتوسع الإمبريالية. ونحن اليوم، أقصد الإنسانية بأكملها، ضحية التلوث المهلك للبيئة المادية والمعنوية معا، وهناك ممن يتحدث عن خطر تدهور كبير ولا رجعة عنه للحياة على كوكب الأرض إذا لم نسرع في السنوات العشر القادمة لتفادي آثار الإشعاعات الحرارية. ونحن نعيش خطر إفساد الديمقراطية وتفريغ الحريات الفردية والعامة من محتواها مع نمو قوى عالمية مادية واجتماعية خفية لا تخضع في سلوكها لأي قانون، ومع سيطرة الأنانية القومية. ولا يزال خطر بناء نظم تخضع المجتمعات، بمناهج عقلية، أي بفضل ما أسماه فلاسفة مدرسة فرانكفورت العقل الأداتي، أو الوسائلي الذي يحكم بغايات مختلفة عن الغايات التي حركت الحركة الإنسانية، أو الإنسانوية في البداية، على شاكلة النظم الشمولية الشيوعية والنازية، متربص بنا في أكثر من زاوية ومكان.
كل ذلك يدفع اليوم إلى التساؤل حول مصير الحداثة ومضمونها، وإلى الشك بمستقبلها، ليس عند الحركات الإسلامية كما نظن فحسب، وإنما عند قطاعات عريضة من الرأي العام الديمقراطي الحديث نفسه. هل لا نزال نعيش بالفعل حقبة الحداثة؟ يطرح مفكرون كثيرون غربيون اليوم هذا السؤال، أم أننا تجاوزناها ودخلنا في مجتمع التفكك والفرديات المغلقة والأحلام الشخصية والمشاريع الخاصة، أي كل ما ينفي ما قامت عليه الحداثة الكلاسيكية من أساطير فلسفية وسياسية وقانونية ملهمة؟ لكن ما هو موقعنا نحن العرب من كل ذلك؟ هل نحن أيضاً نواجه الأزمة نفسها أم نواجه مسألة أخرى؟ في اعتقادي أن أزمة الحداثة التي أنجبت ما بعد الحداثة في أوروبا، أنجبت عندنا شيئاً أسميه ما تحت الحداثة: نكوص إلى نظم وأشكال تنظيم وأشكال تفكير سابقة على الحداثة. والسبب كما ذكرت أن حداثتنا بقيت استهلاك ثمار ومنتجات أكثر مما كانت تربية لشجرة وضعت بذرتها وامتدت جذورها عميقا في تربتنا، وانطلقت فروعها وأغصانها نحو السماء. من هنا، من فكرة إعادة غرس الشجرة لا استهلاك الثمرة، ينبغي ويمكن للعرب الإنطلاق من جديد، لا في سبيل تكرار مسار دخل هو نفسه في مآزق لا تنتهي، وإنما في سبيل بناء أفق جديد للحداثة ذاتها. مهمتنا إذن ليست صغيرة، والوصول إليها سيحتاج لا محالة إلى عقود من التعب والاجتهاد والكفاح الفكري والعملي معا.

Où va la Syrie ?

Conférence de Monsieur Burhan Ghalioun – Mercredi 15 novembre – 2006

Euro-Med. Ecole Militaire

Le débat sur le rôle de la Syrie dans les conflits multiples qui enflamment le Moyen Orient, ainsi que la manière dont on pourrait l’inciter à changer de politique, sont au cœur des préoccupations des chancelleries internationales. Dans mon intervention, je vais tenter de relever les éléments qui me semblent indispensables pour comprendre cette politique et les perspectives de son éventuelle mutation, dans le contexte actuel de l’évolution de l’ensemble de la situation du Moyen Orient.

Il est en effet impossible de comprendre les choix et les processus politiques conflictuels qui ont conduit Damas dans la situation où elle se trouve aujourd’hui, sans prendre en considération trois éléments : la nature du régime sociopolitique et de son rapport à son peuple ; la dégradation des relations interarabes avec pour conséquence l’éclatement de l’axe Riad-Le Caire-Damas sur lequel s’est fondée l’entente au Machrek, Liban compris, depuis 1990 ; le bouleversement de la conjoncture internationale dû à la mise en place de la nouvelle politique américaine, unilatérale et résolument interventionniste, de l’Administration Georges W. Bush, après les attentats de 11 septembre 2001, avec pour conséquence la neutralisation de l’Europe. C’est cet ensemble de facteurs, nationaux, régionaux et internationaux qui explique la triple crise dans laquelle se débat le régime syrien, et qui apparaît sans issue, même si les revers américains en Irak viennent réduire pour le moment ses effets négatifs.
La première dimension de cette crise est interne. Elle désigne la rupture évidente entre un régime qui plonge dans l’anarchie, la corruption et l’illégalité, et une société neutralisée, voire terrorisée et abandonnée à son sort. La trahison des espoirs soulevés par la nomination à la tête de l’Etat d’un jeune médecin, manifestant sa volonté de se rapprocher du peuple, de corriger les erreurs passées et de réformer le système maintenu en place grâce à la Loi martiale appliquée sans interruption depuis son instauration en 1963, démoralise toute une nation, la rejetant dans le doute et la désespérance. En effet, rien ne va plus lorsqu’un régime politique rompt avec sa société, ne veut plus communiquer ou dialoguer avec son peuple. On pourra revenir plus tard à cet aspect de la situation, si vous le voulez. C’est très important pour comprendre la réaction du pouvoir aux événements extérieurs ainsi que ses choix de politiques régionales et internationales. Mais je ne pense pas que ce soit le sujet de notre débat pour ce soir.
La deuxième dimension de la crise concerne les rapports du régime syrien avec son environnement régional. Hafez Assad, le père de l’actuel président, a inauguré une politique pragmatique fondée sur l’établissement de bonnes relations avec toutes les puissances régionales et internationales, susceptibles de le servir dans la réalisation de ses objectifs. En essayant d’agir sur la marge de leurs stratégies respectives, il a accumulé toutes les cartes qui lui étaient nécessaires pour élargir sa marge de manœuvre et renforcer l’autonomie de sa décision. Il a ainsi réussi le tour de force de s’assurer le soutien de l’Iran islamiste révolutionnaire et les appuis des régimes arabes conservateurs de Riad et du Caire. Par cette realpolitik, H. Assad a donné à la Syrie, qui a été pendant longtemps un enjeu des luttes d’influences internationales, comme l’avait bien décrit Patrick Seale, ici présent dans un ouvrage devenu référence intitulé « Lutte pour la Syrie », les moyens de devenir un centre d’initiative et un principal acteur régional alors que la Syrie. Il avait un véritable sens de la politique pragmatique qui ne connait ni aveuglement idéologique ni attachement à des amitiés ou alliances éternelles. Le renforcement de ses relations avec l’ex-Union soviétique ne l’a pas empêché de courtiser les Américains et de maintenir de bons rapports avec eux. C’est avec leur soutien, et en accord avec Washington qu’il a pris la décision d’intervenir militairement au Liban en 1976, contre l’avis des Soviétiques.
Hélas, son successeur n’a pas cette habilité qu’avait son père de marcher sur des fils tendus et de jouer sur les contradictions entre les puissances pour maintenir son autonomie de décision. Il a été obligé très vite d’abandonner ce jeu d’équilibrisme pour choisir son camp, ou plutôt pour se trouver accolé, après avoir rompu avec les capitales arabes et occidentales, à s’aligner sur la position de la seule puissance régionale qui accepte de le soutenir, après son trait militaire du Liban, à savoir l’Iran de Ahmadinéjade, substituant à l’axe traditionnel Riad-Le Caire-Damas le nouvel axe Téhéran-Damas-Hizballah, et par conséquent, faisant l’unanimité du camp conservateur arabe et du bloc occidental contre lui. En effet, ses anciens alliés arabes, les Egyptiens, les Saoudiens, les pays du Golfe surtout, sont aujourd’hui très inquiets de la mise en place de cette alliance stratégique entre Damas et Téhéran.
Je viens de participer, il y a trois jours, à un colloque international à Abou Dhabi sur le nucléaire iranien. Il est très significatif de constater que tous les représentants des pays du Golfe sont acquis à la position américaine. Ils pensent qu’ils n’ont pas d’autre solution que de coopérer avec les Américains pour faire face à cet axe dangereux, sans écarter l’hypothèse d’une option militaire, alors que l’ensemble ou la majorité des représentants des autres pays arabes – Egyptiens, Marocains, Algériens, Syriens, etc.… étaient favorables plutôt au dialogue avec les Iraniens. Cet alignement de Damas sur la position iranienne, fait en réalité très peur aux régimes arabes qui craignent la montée en puissance de l’Iran et ses conséquences sur la stabilité des systèmes politiques en place comme de la région. Il explique l’isolement croissant dans lequel se trouve la Syrie aujourd’hui dans son environnement arabe qui l’a tant protégé contre l’agressivité israélienne et les pressions américaines. Loin de l’aider à sortir de son isolement, l’alliance avec Téhéran l’enfonce plus dans l’irrédentisme et favorise la création d’une coalition arabo-occidentale contre elle.
La troisième dimension de la crise que connaît aujourd’hui le régime syrien, et le pays lui-même, concerne ses relations internationales et particulièrement avec l’Europe et les Etats-Unis. Et je pense que c’est le sujet qui doit constituer l’axe de notre réflexion ce soir.

Il n’y a pas de doute que les bouleversements qui ont suivi la chute de l’ex-union soviétique et la guerre froide, puis les attentats tragiques de 11 septembre 2001, ont joué un grand rôle dans la dégradation des relations syro-occidentales, en particulier syro-américaines. Mais le processus d’adaptation à la nouvelle donne a été déclenché, avec succès, par H. el Assad, depuis le milieu des années 1990. C’est ainsi que, malgré l’opposition de la majorité de l’opinion publique, voire de son propre équipe gouvernementale, H. el Assad n’a pas hésité à envoyer en 1991 ses troupes se battre à côté des troupes américaines, au sein de la coalition internationale pour chasser les troupes irakiennes du Koweït. Réalisant le changement de la donne stratégique, il entre dans des négociations de paix avec les Israéliens dans le cadre de la Conférence de Madrid, abandonnant d’emblée sa doctrine de la parité stratégique avec Israël, qui est censée lui permettre de récupérer le Golan par la force. Par ce même souci d’adaptation à la nouvelle situation, Assad a cherché également à signer un accord de partenariat avec l’Europe, après un long refus, dans l’espoir de faire de la France et de l’Union Européenne, un allié stratégique dans la lutte contre l’hégémonisme américaine. Ainsi, s’est-il déplacé, malgré sa maladie, à Paris pour sceller les liens d’amitié et d’alliance. L’année suivante, Bachar el Assad, a été invité en visite officielle en France. La manière dont il a été reçu par les responsables français, le président de la république en particulier, a montré sans ambigüité que la France a été pour la succession de Bachar el Assad à son père. Bachar a encore été deux fois invité par l’Elysée, depuis son accession au pouvoir, et la France n’a ménagé aucun effort pour montrer son soutien au nouveau régime. Comptant sur ses relations avec le nouveau président pour maintenir ses positions au Moyen Orient, menacées par l’offensive américaine dans le Golfe, Paris prend en charge les dossiers les plus urgents de réforme et les équipes françaises travaillent sur les dossiers de la modernisation de l’Etat : administration, justice, finances etc.
Contrairement à certaines analyses, Bachar a commencé son mandat dans un environnement international très favorable. Il avait le soutien manifeste des grandes capitales européennes, Paris en tête, mais également des Etats-Unis d’Amérique. Madame Albright qui est venue représenter le président américain aux funérailles du père, n’a pas caché la préférence de Washington pour la candidature de Bachar. Toutes ces parties ont pensé qu’il représenterait la meilleure solution pour une transition pacifique et progressive épargnant la Syrie les risques de la déstabilisation.

Que s’est-il passé, pour qu’il y ait une rupture entre la Syrie et le bloc euro-américain, après de nombreuses décennies de coopération et de concertation ? Comment Paris et Washington sont arrivés à voir dans le régime de Bachar Assad un ennemi à abattre après avoir été acclamé comme mofèle des nouveaux leaders arabes réformateurs et modernisateurs ? Quels sont les erreurs que les antagonistes ont commises pour conduire les relations syro-occidentales à une rupture qui reste, malgré le début de dialogue, loin d’être surmontée. Je ne pense pas que la crise des relations syro-occidentales actuelle était nécessaire ou inéluctable. Au contraire, elle est le résultat d’une accumulation d’erreurs qu’on aurait pu très bien corriger, s’il y avait, de part et d’autre, une volonté de dialogue et de compréhension.
A l’incapacité du nouveau régime syrien de répondre à la nouvelle situation né de la fin de la guerre froide, et plus particulièrement des événements du 11 septembre 2001, vient s’ajouter la puissance de la nouvelle stratégie américaine volontariste et agressive dite de remodelage du Moyen Orient, pour créer un environnement régional intenable, miné par la peur et la méfiance. L’occupation de l’Irak est intervenue en 2003 pour fermer la porte devant tout dialogue entre Washington et ses interlocuteurs, y compris ses propres partenaires européens. Perdant tout espoir de s’entendre avec les Américains, malgré un début de coopération sécuritaire, les dirigeants syriens, au lieu de composer comme l’ont fait les autres capitales arabes, en misant sur l’enlisement de la campagne irakienne, choisissent de manifester plus fermement leur opposition à l’offensive américaine. C’est ainsi que la situation allait d’une dégradation en dégradation jusqu’au jour, où Damas, cherchant à protéger ses positions libanaise après le vote par le Conseil de sécurité de la résolution 1559, commettent l’erreur de défier Paris en décidant de renouveler le mandat présidentiel d’Emile Lahoud, contre la volonté de son meilleur allié européen, voire en trahison, semble-t--il, des promesses fermes qui ont été données par le chef de l’Etat syrien au Président français. Ce renouvellement a été, avec les événements tragiques qui vont le suivre de l’assassinat de Rafiq Hariri jusqu’au retrait précipité de la armée syrienne du Liban, le point de départ d’une crise majeure qui n’est pas encore apaisée, dans les relations syro-occidentales.
Ainsi, contrairement à son père, le nouveau président a eu manifestement beaucoup de difficultés à faire face, avec sérénité et flegme, à la première grande crise qu’il venait d’affronter avec la chute du régime frère de Saddam Hussein et la concrétisation des menaces américaines. Bachar s’est montré très rigide et très peu manœuvrier. Craignant à juste titre les projets de déstabilisation américains, il a choisi de passer à l’offensive, abandonnant ainsi très vite le terrain du dialogue politique pour l’action hostile.

Cependant, l’on ne peut comprendre les erreurs du régime syrien en les séparant de la politique que Washington a cherché à imposer aux dirigeants de la région après les attentats du 11 septembre. L’Administration a tenté pratiquement d’enroler tous les Etats de la région dans sa stratégie de « la guerre mondiale contre le terrorisme ». Depuis le 11 septembre l’Administration américaine a décidé de dicter sa politique et d’appeler tous les gouvernements à agir dans le sens souhaité. Tous les dirigeants exprimaient leur inquiétude face à une guerre américaine annoncée, portant les risques d’une déstabilisation qui ne se limitera pas à l’Irak seul. Forts de l’appui de plusieurs pays, sans parler de l’opinion publique arabe, le régime syrien qui avait du mal à freiner la montée en puissance de l’opposition politique, a cru pouvoir exploiter la situation régionale pour revigorer son idéologie de légitimation nationaliste et déplacer le conflit politique sur le terrain de la lutte nationale contre l’ennemi extérieur. Les responsables syriens, à commencer par le président, n’ont pas hésité de dénoncer la campagne militaire américaine contre l’Irak, la décrivant comme une invasion coloniale. Ils n’ont pas caché leur soutien à la résistance irakienne contre les Etats-Unis, dont ils recevaient les chefs à Damas, devant les cameras des télévisions. Il n’y a pas de doute aussi qu’ils ont encouragé les éléments islamistes à traverser les frontières pour aller renforcer les rangs des Djihadistes en Irak.
Mais l’activisme syrien en Irak occupé n’est pas le seul élément de discorde entre les deux parties. Les liens que les Syriens ont veillé à renforcer avec des organisations considérées par Washington comme terroristes comme le Hamas en Palestine, le Hezbollah au Liban, et d’autres organisations de moindres impotence ailleurs, sont aussi une cause majeure de conflit. Les responsables américains n’ont cessé depuis le début de la crise en 2003 d’appeler Damas à mettre fin à ses relations avec les « organisations terroristes », alors que pour le régime syrien, il s’agit là d’instruments d’une valeur inestimable pour sa politique extérieure, et notamment face à Israël qui annexe des territoires syriens et refuse depuis l’année 2000 de revenir à la table des négociations.
Plus encore, l’abandon par les dirigeants syriens de leurs cartes de politique extérieure n’aurait pas pour résultat seulement l’affaiblissement de leur position régionale, en particulier face à un Israël super armé, il signifierai également de les désarmer face à leur propre opinion publique qui, comme dans les pays ex-communistes, a subi depuis des décennies des conditions de vie matérielles et politiques drastiques, au nom de la lutte anti impérialiste et anti israélienne.
Il en va de même concernant la présence de l’armée syrienne au Liban. Les succès extérieurs ont toujours été exploités par le régime de Damas dans le but de masquer ses échecs intérieurs, aux niveaux social, économique, politique. Ainsi, le Liban sous tutelle syrienne n’était pas simplement un théâtre secondaire de conflits à travers duquel les Syriens pouvaient rappeler la cause de la libération de leurs territoires occupés et maintenir la pression sur Tel Aviv. Il était aussi un argument politique de première importance, car il prouvait aux Syriens, d’une façon permanente, la force inégalable du régime et sa pérennité politique. C’est grâce à cette démonstration de puissance qu’il dissuadait l’opposition de tout mouvement de contestation. Il ne faudrait pas non plus négliger les retombées économiques et les avantages de toutes les natures que la clientèle militaire, sécuritaire et politique en tirait.
Autour de ces trois dossiers, l’Irak, le Liban et les organisations armées, il ne pouvait pas y avoir un compromis. Les Syriens, comme d’ailleurs beaucoup de régimes arabes, n’avaient aucun intérêt de voir le Américains gagner et s’installer durablement en Irak. Ils n’avaient pas intérêt à affaiblir les organisations islamistes en Palestine et au Liban au profit d’un Israël arrogant, expansionniste et agressif. L’affrontement entre Damas et Washington était donc prévisible du moment où les Syriens ne voulaient pas faire de concessions sur ce qu’ils appelaient leurs « cartes régionales », alors que les Américains qui ont commencé très tôt à prendre conscience des risques pris en Irak, y voyaient une entrave à la réalisation du Grand Moyen Orient, totalement acquis à eux et nettoyé de toute autre influence non américaine.
Mais, l’Europe n’a pas été absente de cette crise des relations syro-occidentales. Après avoir encouragé le nouveau régime de Bachar el Assad à tenir bon face aux Américains, elle fait marche arrière et s’aligne dès 2004 sur les positions américaines. Pour geler la signature de l’accord de partenariat euro-méditerranéen, elle demande de renégocier le texte pour imposer de nouvelles exigences concernant la question de la possession des armes de destruction massive. Sans doute, sensible aux demandes américaines, Bruxelles a voulu apporter sa contribution à la pression exercée par Washington sur Damas pour l’amener à composer. Mais, il ne faut pas négliger le poids de la déception des chancelleries occidentales et du Président Chirac en particulier, de voir les dirigeants syriens manquer à leurs engagements. Il est vrai, d’autre côté, que l’unilatéralisme des Américains a renforcé plus encore aux yeux des Arabes l’image d’une Europe impuissante, et par conséquent c’est aux Américains et non à elle qu’il faut faire des concessions.
En réalité, la stratégie dite de remodelage du Grand Moyen Orient, adoptée par l’Administration Bush, dont l’occupation de l’Irak a été la meilleurs illustration allait fatalement à l’opposé du processus de Barcelone défendu par les Européens dans le but d’aboutir à une solution politique au conflit arabo-israélien. Fondée sur l’arrêt des négociations de paix, la poursuite du renforcement de la suprématie militaire israélienne et le changement des régimes, cette stratégie suivait un agenda contraire à l’agenda européen misant sur la poursuite des négociations, la stabilisation de la région et la coopération avec les régimes en place. Elle ne pouvait ainsi que neutraliser l’influence traditionnelle de l’Europe en court-circuitant son action dans la région. Ainsi, toute la démarche de Barcelone, amorcée au milieu des années 90 pour maintenir le dialogue avec les Palestiniens, développer des liens de coopération économique et politique avec les régimes de la région, pousser ces derniers à adopter des positions un peu plus respectueuses des droits de l’homme, a été torpillée par la stratégie de puissance et par l’offensive américaine en Irak. Israël y a aussi contribué largement en suspendant l’application de la « Feuille de route » et en adoptant une politique agressive et interventionniste. En fermant la porte des négociations de paix pour lui substituer le changement des données géopolitiques par la force, l’axe américano-israélien a mis la région au bord de l’explosion. Les conflits sont aujourd’hui généralisés : en Palestine, en Irak, au Liban, et risquent de s’étendre sur d’autres pays.

Aujourd’hui, Aucune partie ne semble en mesure d’atteindre ses objectifs, ni L’Europe neutralisée, ni les Etats-Unis, enlisés en Irak, ni Israël qui a essuyé une de ses premières défaites militaires en juillet-aoûte 2006 au Sud Liban, ni la Syrie qui se trouve isolée et sous protection iranienne, ni l’Iran qui risque de se trouver la cible d’une nouvelle attaque israélo-américaine visant son projet d’enrichissement d’uranium. C’est donc l’impasse.

Face à cette situation de blocage, où aucune des parties en conflit n’est en mesure remporter un succès décisif, quelles pourraient être les issues?
Trois scenarios sont possibles.
La première est la poursuite de la guerre, avec comme option le renforcement des troupes américaines et irakiennes d’une part et la préparation d’une intervention militaire nouvelle en Iran pour la dissuader de continuer son programme nucléaire et briser sa volonté de devenir la première puissance régionale.
La deuxième solution à laquelle appellent tous les adversaires de la guerre est le dialogue avec l’axe Téhéran-Damas-Hizbullah. Mais, on ne sait pas encore avec qui, Damas ou Téhéran, pour quel but, et qu’est-ce qu’on peut proposer en contrepartie d’une coopération syrienne ou iranienne demandée. Certains préfèrent ouvrir le dialogue avec le régime de Damas qui, grâce à son caractère laïc, le désir de récupérer le Golan et l’encrage arabe, pourrait avoir plus intérêt à abandonner la ligne radicale de l’Iran islamiste, poursuivant son projet de puissance. D’autres préfèrent s’adresser directement à Téhéran pour l’inciter à abandonner son projet nucléaire contre la reconnaissance de sa place et son rôle prépondérant dans la région. Dans le premier cas, il s’agit d’isoler Téhéran avant de l’attaquer, dans le deuxième de réduire la marge de manœuvre de la Syrie afin de préserver la stabilité au Liban et en Irak.
Cependant, je crois que, ni les Syriens, ni les Iraniens, ne sont aujourd’hui très intéressés par ce dialogue, car ils ne sont pas prêts à abandonner leurs objectifs, quelqu’en soit le prix. Téhéran ne négociera pas son droit à maîtriser la technologie ou à posséder l’arme nucléaire, tandis que le pouvoir de Damas n’a aucune chance de se défendre et de perdurer en se coupant de son allié perse, qui constitue aujourd’hui pour lui la seule protection contre un environnement national, régional et international hostile. Les deux capitales sont disposées à dialoguer, non pour faire des concessions mais pour récolter les fruits de leur résistance et les reccueillir les retombées de l’échec américain.
La troisième solution, certains cercles de responsables Américains le disent aussi, consiste à retirer les troupes de la coalition le plus tôt possible et laisser les Irakiens régler leurs différends entre eux. Une telle sortie de la crise n’est pas à mon avis envisageable car elle jettera l’Irak dans une guerre civile généralisée avec pour résultat une domination plus renforcée de Téhéran sur les destinées irakiennes.
A mon avis, aucune des solutions discutées aujourd’hui n’est viable. Le renforcement de l’action militaire est inutile en dehors d’une initiative politique susceptible de rassembler les différentes factions politiques irakiennes. Le dialogue avec Damas et Téhéran n’apportera aucune solution car rien ne peut compenser à leurs yeux l’abandon de cette carte maîtresse par laquelle Iraniens et Syriens pensent avoir suffisamment d’instruments de menace pour dissuader Washington de toute action de déstabilisation les concernant. L’appel occidentale au dialogue en est la meilleure illustration. Alors que le retrait des troupes américaines d’Irak avant l’aboutissement à une solution politique causera un tort irréparable à la crédibilité de Washington et effacera durablement l’influence de l’ensemble de l’Occident dans la région, au profit des Iraniens et des groupes extrémistes djihadistes.
Pour moi, l’échec de l’invasion de l’Irak vient illustrer la faillite de l’ensemble de la politique moyen orientale du bloc occidental, dont il est d’ailleurs le dernier maillon. Il ne sera possible de le surmonter que par une révision déchirante de cette politique fondée sur le dénigrement des droits nationaux, économiques, politiques et humains des peuples de la région pour les seuls buts de garantir la sécurité d’Israël et la préservation des intérêts stratégiques et énergétiques des pays industrialisés. Loin de sauver cette politique, l’occupation de l’Irak l’a fait voler en éclats. Tout le système néocolonial mis en place au Moyen-Orient depuis les indépendances est effondré; c’est-à-dire un ensemble de dispositifs politique, économique, et militaire, social, visant à maintenir la région sous le contrôle direct, et dans le seul but de servir les intérêts économiques et stratégiques, de l’Occident. C’est pourquoi, il n’y a pas de solution irakienne à la crise irakienne. Seule la solution de l’ensemble des crises qui ont conduit à l’occupation de l’Irak sera à même de sortir l’Irak de sa crise, en même temps que la Palestine, le Liban, la Syrie, l’Egypte, l’Arabie Saoudite et tous les autres pays qui vivent depuis des decennes dans des conditions d’exception.
Ce système néocolonial du Moyen Orient a été fondé sur trois principes. Le premier est le principe du maintien de la région sous contrôle militaire et politique permanent et de ne pas hésiter à employer la force, en violation du droit international s’il le faut, pour préserver des avantages acquis ou atteindre des objectifs économiques, politiques ou stratégiques, dits vitaux. La dernière guerre d’Irak en a été la meilleure illustration. Elle vient compléter une série d’interventions militaires, depuis la guerre du Suez, en passant par les multiples guerres israéliennes, Les thèmes de la sécurité, la mise en place des pacte militaires régionaux depuis la fin de la 2° guerre mondiale, le maintien des base militaires dans plusieurs pays de la région, la banalisation des raids et des campagnes de représailles et de persuasion, l’interdiction aux pays de la région d’accéder à ou de posséder la technologie avancée, font un ensemble de dispositions qui découle de ce principe. Or, après le fiasco américaine en Irak, personne ne croit plus aujourd’hui, y compris dans les pays occidentaux, à la fiabilité des interventions militaires pour assurer le contrôle de l’évolution de la région.
Le deuxième principe sur lequel s’est fondé le système néocolonial est la suprématie militaire israélienne. Là aussi, je crois que l’échec israélien au Sud Liban face aux miliciens de Huzbullah a réduit considérablement la fiabilité stratégique israélienne. La suprématie militaire ne produit plus l’effet persuasif recherché. Les Syriens, les Libanais, les Palestiniens, comme tous les autres arabes, pensent aujourd’hui qu’avec une meilleure stratégie et une bonne organisation, ils peuvent gagner, que l’armée israélienne n’est pas invincible.
Le troisième principe est le soutien inconditionnel aux régimes despotiques. C’est d’ailleurs le président Bush lui-même qui a déclaré que « nous avons soutenu pendant soixante ans des régimes despotiques et corrompus. A partir de maintenant, nous allons soutenir la démocratie », lorsqu’il avait besoin de justifier la dernière guerre d’Irak, face à ces détracteurs américains, et d’attirer vers sa politique l’opinion publique arabe en colère. Cela n’a pas duré longtemps, et on ne cache plus, aux Etats-Unis comme en Europe, qu’il faut revenir au bon vieux principe de soutien inconditionnel aux régimes, c'est-à-dire, favoriser la stabilité au lieu de la démocratie et réhabiliter les régimes qu’on a voulu changer, il y a seulement deux ans. Mais c’est désormais une mission impossible. La corruption et le chaos sont tels que le maintien des ses régimes inféodés aboutira tôt ou tard aux explosions et à la dislocation des sociétés, créant ainsi un terrain de prédilection pour le développement des mouvements extrémistes.
Ainsi, je pense qu’il n’y a pas de solution avec le maintien de ce système et des politiques traditionnelles fondées sur la préservation des intérêts occidentaux, en faisant fi des intérêts des peuples de la région. Dans l’état actuel, il ne peut y avoir aucun résultat : ni paix, ni sécurité, ni stabilité, ni développement ni démocratisation. Il n’y a que la violence qui peut prospérer. En Palestine, en Irak, au Liban et ailleurs, la tendance est inexorablement aux affrontements généralisés : sociaux, confessionnels, factionnels. Mais à l’échelle régionale, il y a à craindre que l’Administration Bush n’encourage la création d’un axe Riad-Le Caire-Amman, pour faire face à l’axe Téhéran, Hezbollah, Damas, préparant ainsi le terrain pour une guerre confessionnelle à l’échelle régionale, opposant Chiites et Sunnites, dans le but d’alléger la pression sur les troupes américaines et se préserver une marge de manœuvre nécessaire pour le contrôle des différentes factions.
La sortie de l’impasse, en Irak, en Palestine, au Liban et dans l’ensemble du Proche Orient dépend de la capacité de l’Europe et des Etats-Unis, les vrais maîtres de la région, à se débarrasser du système néocolonial, fondé sur la neutralisation des peuples, l’alliance avec des régimes prédateurs et la suprématie militaire israélienne, pour défendre des positions ou plutôt un mode de domination qui n’a plus de raison d’être, au profit d’un nouveau système de coopération basé sur les principes de respect, de droit, de partage d’intérêt et de solidarité et d’équilibre.
C’est pourquoi, il faut une approche globale qui tient compte en même temps de tous les problèmes : résolutions des conflits régionaux, démocratisation et développement ; Car, c’est de l’enchevêtrement de ces aspects et leurs interactions que se perpétue la crise. Le seul cadre susceptible de répondre à cette exigence de globalité dans l’approche est une conférence internationale sur le Moyen-Orient, à laquelle devraient être invités, à la fois les gouvernements concernés, les Etats-Unis, l’Europe, et d’autres puissances, cote à cote avec les représentants de la société civile, des organisations indépendantes, des syndicats, des partis politiques, des intellectuels, des experts des Nations Unies. On y posera tous les problèmes, de l’occupation, des droits nationaux, des droits humains, du développement, de la transition démocratique, avec pour objectif de mettre chacun devant ses responsabilités et d’élaborer ensemble une véritable feuille de route pour sortir tout le Moyen Orient de l’impasse dans laquelle il se trouve aujourd’hui.
Sans une révision forte et courageuse de la part du bloc occidental dans cette direction, le Moyen Orient ira à la dérive. En effet, les gouvernements de la région ont perdu confiance en eux-mêmes et ne pensent qu’à préserver le pacte qui leur permet de renouveler leur mandat et de gouverner, avec le soutien de leurs protecteurs, par des lois d’exception et en dehors de toute concertation.
On n’est malheureusement pas sûr que de telles initiatives voient le jour. Je pense que la tendance dans les capitales occidentales est plus à pactiser de nouveau avec les régimes actuels. Les Américains n’iraient peut-être pas jusqu’à déclencher une guerre contre Téhéran. Cela coûtera très cher, mais je n’exclus pas que les Israéliens puissent le faire. le résultat sera cependant le même, c’est-à-dire ouvrir de nouveaux champs de bataille, nourrir plus de conflits et de désespoirs. Je vous remercie.

dimanche, février 25, 2007

حول أزمة الشرق الاوسط، برلين 19 شباط 07

الاستماع على هذا الرابط <http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_berlin_1.ram>http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_berlin_1.ram تنزيل الملف على هذا الرابط <http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_berlin_1.mp3>http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_berlin_1.mp3المحاضرة للإستماع هنا <http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_lectur_0.ram>http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_lectur_0.ram<http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_lectur_0.ram> وللتنزيل على هذا الرابط <http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_lectur_0.mp3>http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_lectur_0.mp3 الأسئلة والمداخلات وأجوبة الدكتور غليون عليها على هذا الرابط لللاستماع <http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_quetion-0.ram>http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_quetion-0.ramوهنا لتنمزيل الملف <http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_quetion-0.mp3>http://www.airys.org/sound/galiun/galiun_quetion-0.mp3أي صعوبة تواجهكم في الاستماع للملفات أو تنزيلها لا تترددوا بمراسلتي وسوفأرسلها لمن يريدمع أطيب المنىعلي الحاج حسين

mercredi, février 14, 2007

في أصل الفوضى والانهيار

الاتحاد 14 شباط 07

المجتمع ليس كتلة أفراد مجتمعين بفعل الجغرافية، هو أكثر من ذلك بكثير. إنه نظام يوحد هؤلاء قبل أن تجمعهم الجغرافية.
ويعني النظام استناد العلاقات بين الأفراد والمجموعات على أسس وقواعد معروفة وثابتة ومقبولة وشرعية تقوم على أساسها مؤسسات ثابتة، تتجاوز النوايا والأمزجة الشخصية، وتضمن اتساق أفعال أفراده وتماسكهم وعملهم المشترك. وهو ما يضع للنظام الاجتماعي قيما مرجعية ومعايير للعمل واهدافا توجه الأفراد والفاعلين ورموزا توحد مشاعرهم وتوقعاتهم، يشكل تمثلها واستبطانها جميعا والمشاركة فيها اندماجا في المجتمع وحياة فيه.

ويبدو لي أن ما تعاني منه مجتمعاتنا اليوم، وفي المشرق على وجه الخصوص، غياب هذا المشروع المجتمعي الناظم. فهي تعيش في حالة من الفوضى الشاملة، أي اللانظام. وأصل هذا اللانظام، أو الفوضى في القيم والقوانين وقواعد العمل، هو انفراط عقد نموذج الدولة الحديثة التنظيمي. فالنظام الذي عرفناه في القرنين الماضيين قام على تبني مشروع الدولة الحديثة، بما يضمره من مؤسسات وقواعد عمل وقيم ومعايير وغايات خاصةن ومن مهام اجتماعية لم تكن تعرفها الدول القديمة. وهو نموذج مشروط بقيام السلطة على أسس قانونية، وفي مرحلة أبعد، على أسس المشاركة الفردية لجميع الأعضاء في هيئة واحدة سياسية.

لم نعرف نحن الدولة بالمعنى الحديث. للأسف نخلطها بمعنى السلطة المركزية التي تمد نفوذها فوق رقعة جغرافية موحدة لا يجمع بين سكانها بالضرورة جامع. وهو ما كانت تمثله دولة السلطنة والامبرطورية التي تشير إلى قيام سلطة مركزية، تتحكم من خلال أجهزتها بالمجتمع من فوق وتعمل على إخضاعه لحاجات بناء السلطة الارستقراطية وخدمة أهدافها الخاصة. السلطنة لا تهتم بالناس. وليس لها مشروع خاص بتحضيرهم وترقية شروط حياتهم. هذا نتاج الدولة الحديثة والفلسفة السياسية التي استندت إليها، والفكرة التي كونتها عن نفسها بوصفها دولة انعتاق الفرد، وتحرير الجماعة، وتكوين المواطنية كنموذج للشخصية الحرة السياسية المنطبقة على كل فرد تابع للدولة.

لكن الدولة الحديثة نشأت في سياق التفاعل مع الغرب، سواء عبر اكتساب القيم السياسية والفلسفة الحديثة، كما حصل في عصر النهضة أو بالتأثر عبر الفترة الاحتلالية والاستعمارية بهذا النموذج الخاص بدولة القانون والمؤسسات التي تعرفتا عليها من خلال الإدارة الاستعمارية.
ليس هذا بالأمر المستهجن ولا الغريب، ولكنه سنة التطور في جميع مراحل التاريخ. المكتسبات الحضارية تنتقل بالاقتداء والتأثر والتفاعل السلبي والايجابي بين الشعوب والمجتمعات. وهو ما حصل عند جميع الشعوب الأخرى بما فيها الأوروبية. لأن شعوب أوروبة لم تصل إلى الابداعات السياسية في الوقت نفسه وبشروطها الخاصة أيضا. بل هو أمر لا يزال سائرا حتى اليوم. أوروبة تنقل عن أمريكا والعكس.
ولم يكن هناك ما يمنع تطور مفهوم الدولة الحديثة وترسخه في تربتنا المحلية ونجاحه، لا في ثقافتنا الماضية ولا في ديننا.
حصل تقويض مشروع الدولة الحديثة في المنطقة وتركنا في العراء لسببين:
السيطرة العميقة والممتدة والكلية للغرب على المنطقة، وحرمان الدولة المستديم من عنصر السيادة الذي هو روحها المحرك، وقاعدة تطورها بوصفها مؤسسة مستقلة ذات فكرة عن نفسها. أي قتلت روح الدولة. وسبب ذلك الوضعية الجيوستراتيجية الحساسة للشرق الاوسط من نواح عديدة: جيوغرافية وسياسية واقتصادية ونقطية وأخلاقية مرتبطة بالالتزام الغربي بحل المسألة اليهودية التاريخية ومأساة اللاسامية في المنطقة العربية
والثاني، وهو ليس مستقلا تماما عن الاول، خيانة النخب الوطنية وقبولها العمل في خدمة الدول الصناعية الكبرى واستمرائها التسلط والاستبداد بعد ذلك. وهو ما حرم الدولة من مكوناتها الحقيقة وقوض فكرتها.
فلا هي دولة سيدة قادرة على أن تكون إطارا للتعبير عن إرادة جماعية حرة، ولا على تطبيق برنامج إصلاح إنساني عميق يرتقي بشروط حياة الكائنات البشرية المادية والمعنوية والأخلاقية. لقد بقيت كما ذكرت في مكان آخر وكالة سياسية أجنبية.

أما النظام القائم الذي هو شبه دولة أو الوكالة الأجنبية، فهو يعيش على قواعد ثلاث: التحالف العميق بين النخب المحلية والدول الصناعية الكبرى، على حساب تهميش الشعوب واستبعادها من السياسة. التعسف بدل حكم القانون. وروابط الولاء والتبعية بدل معايير الكفاءة والفاعلية المؤسسية.

لذلك عاد بنا تقويض الدولة إلى نموذج السلطنة أو السلطة المركزية التي تقوم على القوة والشوكة وتجير المجتمع لخدمة نخبها الخاصة. فالشعب خاضع لهم وعامل في خدمتهم، عبيدهم. وفي هذا السياق كان من الطبيعي أن يعود المجتمع إلى نماذج تنظيمه الذاتي التقليدية: الدينية والعشائرية والعائلية والقروية. مع فارق أن الدول الراهنة، حتى الرثة منها، ذات موارد وأدوات وإمكانيات استثنائية لا يمكن مقارنتها بما كانت تملكه الدولة التقليدية. وهي تستخدم كل ذلك في سبيل احتواء التنظيم الاجتماعي الأهلي، واختراق المجتمع وتحطيمه إذا شعرت بأنه يمكن أن يشكل بؤرة مقاومة أو ممانعة لسيطرتها التي تسعى إلى أن تكون شاملة، اقتصادية وسياسية وثقافية معا.
هكذا أضعنا مفهوم الدولة الحديثة، أي باختصار دولة المواطنين، دولة مواطنيها، لا دولة أصحاب السلطة فيها، ولم تعد لدينا القدرة على إنتاج التنظيمات الأهلية التقليدية من فرق العيارين والطرق الصوفية والهيئات الدينية المستقلة، التي كانت تساعد المجتمعات على تنظيم شؤونها الخاصة في ظل الدولة السلطانية. لم تعد لدينا دولة مؤسسات قانونية، ولا دولة ولاءات أهلية تقليدية. أصبحنا من دون نموذج تنظيمي فاعل، من دون نظام.

ولا يمكن الخروج من أي أزمة، ولا مواجهة أي ملف من الملفات التي نعرفها، في التنمية والاستقلال والأمن والاصلاح ومكافحة الفساد والتربية والتعليم والبحث والانتاج والتحرير، من دون الخروج من محنة الانفراط الاجتماعي أو الفوضى المدنية.
لا يمكن لنموذج الافتاء أن يقدم مخرجا لأزمة الدولة، لان الفتوى، بعكس القانون، خاضعة باستمرار لاجتهاد الأفراد والمجتمعات والجماعات، وتأويلهم حسب مستوى ثقافتهم وبيئتهم. هو ليس قانونا ولا يمكن أن يكون بديل القانون. والبرهان قائم في الفوضى التي تنجم عن سيطرة الميليشيات الاسلامية حيثما حصل ذلك في دائرة الحياة الاجتماعية، بل تعميم الصراع بين الفرق والقتل والاقتتال حتى داخل الفرقة المذهبية نفسها. وليس هناك دولة ايديولوجية يمكن أن تكون في الوقت نفسه قانونية، حتى لو كانت هذه الايديولوجية علمانية، كما بينت ذلك التجربة الشيوعية. الدولة إما أن تكون قانونية تحترم جميع أفرادها وتعاملهم بالتساوي وتضمن حقوقهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية والدينية، أو تكون سلطنة تخدم القائمين على السلطة فيها، سواء أكانوا عصابات مافيوية، كما هو الحال اليوم في أغلب الدول العربية، أو ميليشيات إسلامية أو غير إسلامية.
الذين يغذون وهم الدولة القائمة على الفتوى الدينية والاجتهاد الشخصي، في مواجهة الدولة الحديثة القائمة على القانون، الذي هو بالتعريف تواضع اجتماعي، أي وضعي، يغشون الناس ويحرمونهم فرصة التفكير في المستقبل، وفي بناء النظم والمؤسسات الاجتماعية الوحيدة القادرة على إعادة النظام والأمن والسلام والتعاون وحكم القانون إلى المجتمعات. فالفتوى الصادرة عن الشريعة ضرورية ولا غنى عنها لقيام أي مجتمع، لكنها موجهة بالأساس للأفراد الذين تخاطب ضميرهم وايمانهم وتعتمد عليه لتدفعهم في طريق الخير والصلاح في سلوكهم الديني والاجتماعي. فهي توجههم لطريق الصلاح. أما القانون فهو أساس لقيام الدولة كمؤسسة مجردة لا تملك مشاعر ولا ضمير ولكن تعتمد على مؤسسات تضبط بناءها وتحدد نشاطها قواعد إجرائية. باختصار الشريعة بحاجة كي تعمل إلى ضمير يتلقاها ويتفاعل معها. وقوتها نابعة من هذا الضمير. أما المؤسسة فلا ضمير لها ولا يمكن ضمان فعاليتها وصلاحها سوى بقوانين إجرائية موضوعية ودقيقة لا خلاف فيها. وهو أساس ضمان المصالح العامة.

وبالمثل، لا يمكن أن تشكل القومية مرجعية تنظيمية، لأنها هي نفسها بحاجة للدولة الحديثة حتى توجد. فهي لا تأتي إلا في عربة هذه الدولة وبموازاتها.
المخرج الوحيد هو في دولة القانون، والقانون ليس نقيض الشريعة ولا مخالف لها. إن ما يميزه بالضبط هو أنه مستمد من إرادة أفراد المجتمع ولا يمكن أن يختار الأفراد أو أغلبيتهم ما يتناقض مع القيم التي يؤمنوا بها. إن ما يختلف هو الصيغ الإجرائية التي يتم من خلالها تبني هذه الاختيارات أو وضعها موضع التنفيذ في الواقع، أي نظام اتخاذ القرار وتوزيع المهام والمسؤوليات وتحديد مناهج التنفيذ ووسائله. لذلك يرتبط القانون بالسياسة بينما ترتبط الشريعة بالهداية والتهذيب والتصفية والنية، أي بالتربية الأخلاقية والدينية. فالشريعة أساسية لضمان بناء المجتمع كإرادات ونوايا وذاتيات وضمائر، لكن القانون وحده يضمن إعادة بناء الدولة والمؤسسسات الأخرى التي لا تقوم إلا على قواعد عمل إجرائية ومعايير سلوك ثابتة وموضوعية لا ترتبط بمزاج الأفراد واجتهاداتهم الخاصة.
وما لم يحصل ذلك، وفي انتظار ذلك، سيزداد التفكك والعنف والاقتتال الداخلي والتراجع الاستراتيجي والتدخل الأجنبي والانهيار والفقر والموت. فالشعوب التي لا تعرف كيف تنظم صفوفها على أسس ثابتة وواضحة ومقبولة أو مشروعة، لا تنجح في جمع جهودها، ولا في توحيد إرادة أبنائها، ولا تستطيع أن تحقق أي إنجاز.

mardi, février 06, 2007

عن الجزيرة وعلماء الدين

الجزيرة نت 6 فيفرييه 07

نشرت الجزيرة في الأسبوع الماضي على الصفحة الاولى لقاءا صحفيا وضعت له عنوان: غليون يتهم الجزيرة بتسطيح الرأي العام العربي. وكان ذلك على إثر ندوة التحولات المجتمعية وأزمة القيم التي عقدها المجلس الوطني للثقافة والآثار، في 22-26 من الشهر الحالي. ونظرا لردود الأفعال السلبية العديدة التي أثارتها المقابلة والتي نجمت في نظري عن الابتسار في عرض الفكرة وسوء الفهم النابع منها، أجد من واجبي تجاه الجمهور والأمانة العلمية أن أعلن أنني لم أعط أي صحفي من الجزيرة مقابلة صحفية. أثناء خروجي من قاعة المحاضرات أحاط بي عدد من الجمهور وفيهم بالتأكيد بعض الصحفيين، ومنهم مراسل الجزيرة من بين كثيرين، طرحت علي بعض الأسئلة التي أجبت عليها إجابات سريعة ومقتضبة، اعتقادا بأن النقاش قد استوفى حقه في القاعة. ولم يكن يخطر لي أنني في صدد مقابلة تقدم لجمهور الجزيرة الواسع. وكان أولى بالمراسل في هذه الحالة أن يقوم بمقابلة تستوفي شروطها وتوضح الأفكار الغامضة أو المثيرة للجدل بدل الاعتماد على التفسير الذاتي كما حصل بالفعل. من هذا المنطلق كان بودي لو أن مراسل الجزيرة قد أتعب نفسه بلقاء يستوضح فيه عن الآراء التي أثرتها بدل نشر أجوبة غير دقيقة، سريعة ومبتسرة، من دون علمي ولا استشارتي.
لم يكن موضوع المحاضرة قناة الجزيرة. كان موضوعها أزمة القيم في المجتمعات العربية. ومن بين الأفكار التي وردت فيها أن اختلال القيم في مجتمعاتنا، بسبب عوامل عديدة داخلية وخارجية، قد دمر المرجعية المشتركة الضرورية لقيام أي نخبة إجتماعية فاعلة، وعمل على تفجيرها وتشتيتها. فصرنا على شفا حرب أهلية علنية أو كامنة، لا يفهم أحدنا لغة أخيه، ولا يتواصل معه من خلال قيم متماثلة. وقلت إن تجاوز الوضع الراهن، وإعادة بناء المرجعية الاجتماعية، أي منظومة القيم المشتركة التي تجسد الحد الأدنى من التفاهم الاجتماعي، يرتب مهام كبيرة على قادة الرأي، من صحفيين ومفكرين وسياسيين وفنانين وأدباء وغيرهم، من الذين ينصت لهم الجمهور ويتمثل بأفكارهم وآرائهم. وطالبت في هذا المجال باحترام التعددية باعتبارها الشرط الأول لأي تفاهم أو عمل مشترك، وقلت إن الاعتراف بها وتأكيدها كمبدأ مؤسس هو أول لبنة في بناء هذه المرجعية الواحدة التي نطمح من خلالها إلى إعادة بناء النخبة الاجتماعية، ومن ورائها بناء فكرة القيادة الوطنية ونمط ممارستها معا. وفي هذا الإطار تعرضت بالنقد لفكرة الاستئثار، واعتبرت أن الاعتراف بالتعددية هو اللبنة الأولى في إقامة الإجماع الوطني المنشود.
وفي اعتقادي لا يقتصر القضاء على التعددية على النظم الاستبدادية القائمة فحسب ولكن يتجاوز الأمر ذلك أكثر فأكثر نحو القضاء على التعددية الفكرية وتعددية الرأي من قبل أطراف المجتمع المستقلة عن السلطة أيضا. وليس من الصعب على المراقب أن يشاهد كيف يتراجع المجتمع نفسه نحو الفكر الواحد، تماما كما تراجعت السلطة من قبل. حتى ليمكن القول إن المجتمعات العربية تعيش بين طغيانين، طغيان النخب الحاكمة واستئثارها بالسلطة والدولة ومنعها الأطراف الأخرى من المشاركة فيها، وطغيان التيارات الاسلامية المختلفة - وليس علماء الدين – على الرأي العام، عندما تنزع لاحتلال كل ميادين السلطة الاجتماعية، الثقافية والسياسية والدينية والاقتصادية والفنية، ولا تترك لغيرها من أصحاب الاختصاص أي مجال مستقل، أو أي استقلالية في تقرير ما هو صحيح في ميدان اختصاصها نفسه. وهذا يشكل أفقارا للتفكير العربي ككل في الشؤون الاجتماعية. لأنه يخفض الخطاب في المجتع والمعرفة الاجتماعية المتعددة والمتنوعة والمركبة بكاملها إلى معرفة لا هوتية أو فقهية، كما يقلص النخبة الاجتماعية إلى مكون واحد وحيد من مكوناتها هو النخبة الدينية التي تنزع في هذه الحالة إلى الحلول محل جميع النخب الاختصاصية الأخرى. ولا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يفقر المجتمع فكرا وممارسة ويحولنا إلى أتباع لرجال الحكم والأوصياء على الدين وأتباعه معا. والواقع أن كلا السلطتين يمثلان نمطا واحد من السلطة المطلقة التي تستتبع الآخرين ولا تطلب منهم سوى الطاعة والانقياد. وكلاهما لا يتسقان مع تنمية ملكة النقد والتفكير الشخصي الحر. فرجل السياسة الاستبدادية لا يقبل بأقل من الخضوع لإرادته الجائرة، ورجل الوصاية الدينية لا يطلب أقل من التسليم الكامل بتفسيره وتأويله وروايته. فالطغيان الأول يقوم على احتكار السلطة السياسية والدولة، بينما يقوم الطغيان الثاني على احتكار الرأي والفكر. وكلاهما ينزع إلى النظر إلى المجتمعات ككتل تابعة، ولا يهتم أي اهتمام باستقلال الفرد الفكري والسياسي وتحرره.
وبعكس ما ذكر في اللقاء المنسوب لي، لم اتهم الجزيرة بتسطيح الرأي العام، وإنما ذكرتها على سبيل المثال، أي كنموذج للموقع الذي يعكس هذا التحالف الموضوعي القائم بالفعل في مجتمعاتنا بين الطغيانين، بصرف النظر عن إرادة أصحابها. فما يبث فيها يجسد واقع ما نعيش بشكل واضح، أي عالمنا الذي تتصارع فيه بالدرجة الأولى نخبتان سياسيتان، النخبة السياسية الاستبدادية المسيطرة على الحكم والنخبة الاسلامية المسيطرة على المعارضة والرأي العام، بينما تغيب عنها أغلب جماعات الرأي والاختصاص الأخرى، ولا تتاح لها فرصة التعبير عن نفسها والمشاركة في النقاشات الوطنية، مما كان سيخفف لو حصل من حدة التناقض والتصادم في ما بينهما. فمن حق الصناعيين والنقابيين والعلماء والفنانين والإداريين والمبدعين في جميع الميادين أن يكون لهم مكانهم في وسائل الإعلام، وأن يتمكنوا هم أيضا من التواصل عبرها مع الرأي العام. ولن يكون هذا في مصلحة المجتمع ككل الذي سيتمثل تعدديته ويستبطنها ويفهم شرعيتها ومسبباتها فحسب، ولكن في مصلحة الاسلاميين انفسهم أيضا. وأملي أن يدرك الاسلاميون الذين عايشوا تجربة الفكر الواحد والحزب الواحد التي قادت مجتمعاتنا إلى الهاوية، والتي عانوا هم منها الأمرين، مخاطر الانجرار وراء النزعة ذاتها والقبول، تحت ذرائع مختلفة، بمبدأ الاستئثار بالرأي، وعدم التردد أمام فكرة إقصاء الآخرين وقطع الطريق عليهم، على أمل تحقيق السيطرة الكاملة على المجتمع، وتفريغ الساحة من أي خصم أو رأي مغاير. وهو نزوع قائم لا يمكن إنكاره، ويتخذ أشكالا عديدة منها استسهال اتهام الخصم المختلف في الرأي بالعمل في سياق الاستراتيجيات الغربية أو في ما لا يخدم الأمة وإخراجه من الدائرة الوطنية، وتشويه أرائه أو الابتسار فيها للتشهير به والقضاء عليه. ولا أحد ينكر أن للفكر الاسلامي اليوم السيطرة الشاملة على الرأي العام، بينما تحولت التيارات الأخرى الليبرالية أو الحداثية أو العلمانية، إلى تيارات أقلوية معزولة داخل جيوب محدودة وضيقة، تكاد تفقد هي نفسها الثقة بذاتها، وتهرب من بلدانها بحثا عن سماء أخرى تستطيع أن تعبر فيها بحرية أكثر عن رأيها.
وبعكس ما يعتقد الاسلاميون، لن يساعد انهيار هذه التيارات المغايرة واندثارها وخروجها من الساحة على تقدم قضيتهم، أو على أي انتصار حقيقي لهم، كما لن يقربهم احتكار السلطة الاجتماعية والتحكم الكامل بالرأي العام من السلطة السياسية والدولة. إن ذلك سيقلل بالأحرى من حظوظهم في الوصول إليها أو المشاركة فيها بقدر ما سيدفع قطاعات الرأي العام التي لا يمكن حلها أو امتصاصها بأي شكل، إلى الالتحاق بالسلطة الديكتاتورية والتحالف معها، وبالتالي في استمرار حالة المواجهة المميتة الراهنة وما ينجم عنها من انسداد في أفق التحول والتغيير. ليس المقصود من رفض الاستئثار إذن صون حقوق الأقلية الفكرية بالدرجة الأولى، وإنما تاكيد مبدأ التعددية وشرطها الذي لا يمكن أن تقوم من دونها حياة سياسية ومدنية سليمة. فمجتمع الرأي الواحد والسلطة الواحدة ليس محكوما عليه بالتقهقر والفقر والفساد، كما هو حالنا اليوم فحسب، ولكن بالحرب والاقتتال الأهليين الدائمين. ذلك أنه متى ما قضي على مبدأ التعددية، لن يكون هناك مجال لتحقيق وحدة المذهب أو الرأي الواحد نفسه. ذلك أن كل مذهب ودين قائم أيضا على اجتهادات وتأويلات ومناهج نظر مختلفة، لا يمكن تعايشها إلا على أساس الاعتراف بحق الاختلاف والمغايرة. ولهذا قال القدماء المسلمون اختلاف الأمة رحمة.
ليس المطلوب من الاسلاميين التنازل عن مواقعهم التي اكتسبوها بجهدهم أو بسبب انهيار التجارب الليبرالية واليسارية الحديثة، وهي مواقع النخبة المسيطرة بحق اليوم على الراي العام المسلم، ولكن المقصود عدم الاستسلام لإغراء القضاء نهائيا على الخصم وتصفيته من الوجود، حتى لو كان ذلك في متناول اليد. ويرتب هذا مسؤوليات كبيرة على قادة الرأي من بين المسلمين والاسلاميين معا. وينبغي ان يحثهم على الاعتدال في التعبير عن السيطرة والسلطة ويدعوهم إلى المزيد من التمرس على ضبط النفس، والابتعاد عن الغطرسة التي يدفع إليها الشعور بالقوة والتمكن، وعدم الاندفاع بعيدا وراء إغراء الانتصار الخالص، أو استثمار التفوق الواضح لدي الرأي العام لتحقيق أهداف سياسية اجتماعية خاصة، أو للتخلص مما بقي من آراء ومواقف ورؤى مغايرة في المجتمع. كما يدعوهم إلى الإمساك عن تسويد صفحة الخصم وتشويه صورته من خلال اتهامه المستمر والتهجم عليه والهزء بمواقفه وآرائه، فما بالك باستسهال تكفيره أو تخوينه في مسائل لا علاقة لها بالدين، وتدخل ضمن دائرة الاجتهاد السياسي والعقلي، مما تطفح به الساحة العامة اليوم في مجتمعاتنا.
من هنا، وانطلاقا من المباديء الديمقراطية والعادلة نفسها التي حفزتني، في الثمانينات، ضد جميع تيارات الاقصاء والأحادية الفكرية والسياسية واحتكار السلطة السياسية أو الفكرية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، إلى الدفاع عن الاسلاميين وحقهم في الوجود، عندما كانوا أقلية مضطهدة من قبل ما يسمونهم اليوم بالعلمانيين، واتهمت من قبل هؤلاء في وقتها بالاسلاموية، وعزلت في أوساط هؤلاء العلمانيين وأنظمتهم التابعة، أشعر اليوم أن من واجبي التذكير بخطر الانجراف وراء نزعة الاقصاء والاقتلاع ذاتها التي تبدو لي في نمو متزايد في وسط التيارات والحركات الاسلامية المختلفة، التي تشعر في الوقت نفسه بالاحباط والقهر نتيجة إغلاق باب المشاركة السياسية في الوقت الذي تشكل فيه الكتلة الأكبر أو ذات التأثير الأكبر لدى الرأي العام. لكن الحل لهذا الإحباط ليس في الانتقام من الأقليات الفكرية المغايرة، واحتكار السلطة الاجتماعية وساحة الرأي العام وإغلاقهما في وجه من يسمون بالليبراليين والعلمانيين والحداثيين، وحرمانهم من الحرية أو من الوجود الشرعي المعترف به والمقبول، وإنكار حقهم في المناقشة والحوار. فلن يقدم مثل هذا الموقف أي مخرج من الأزمة التي يعيشها التيار الاسلامي ومعه المجتمعات العربية بأكملها، ولكنه يعمل بالعكس على تعميقها وإدامتها. إنه لا يقدم للاستبداد المقيت الذرائع التي يبحث عنها لتبرير نفسه واستمراره فحسب، وإنما يزرع الخوف الشديد أيضا في قطاعات واسعة من الرأي العام التي لا مصلحة لها في بقائه، ولكنها لا ترى والحالة هذه فرقا كبيرا بينه وبين البديل القادم، ما دام هذا البديل لا يختلف عنه في رفض التعددية والنزوع إلى الاستئثار الفكري والسياسي. وهو ما يفسر الكساح الحقيقي الذي تعاني منه الحركات الديمقراطية في المجتمعات العربية لصالح قوى التكلس والتعصب والاستبداد والطغيان.
لا تعني التعددية الاعتراف بالآخر أو التسامح مع وجوده فحسب. ولا تقتصر على القبول به أو صرف النظر عنه. إنها تتطلب أكثر من ذلك الاعتراف بمشروعية فكره والمنطلقات التي يقوم عليها، حتى لو أننا لا نؤمن بها، ونعتقد، وهذا حقنا، أن مشروعية فكرنا هي الأقوى. ولا ينبغي أن نجد صعوبة كبيرة في التأسيس لمشروعية التعددية في ثقافتنا العربية والاسلامية. فهي لا تعني شيئا آخر سوى رفض الاعتقاد بالعصمة لأي إنسان، والاقرار في المقابل أن احتمال الخطأ كامن في أي نظر، وذلك على منوال القاعدة التي سنها كبار أئمة المسلمين أنفسهم : رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر المختلف خطأ يحتمل الصواب. فاعتقادي بصواب رأيي لا يصل إلى درجة الاعتقاد بعصمتي، وبالمثل اعتقادي بخطء رأي الآخر المخالف لي لا يلغي احتمال وجود الصواب فيه. بالتأكيد مثل هذه الدعوة لتحمل المسؤولية والارتفاع على مشاعر الاحباط وعدم السير وراء غريزة الربح والانتصار الكاسحين وتحقيق المكاسب الفئوية، لا تعني المؤمنين ولا الناشطين العادين، ولا معنى لها في هذه الحدود. إنها موجهة للقادة السياسيين من الاسلاميين ولرجال الدين الكبار الذين يفكرون بمصير البلاد والمجتمعات ككل وبمستقبلها، ولا يكتفون بالتفكير بمكاسبهم السياسية الخاصة، كما لا ينخدعون بالمظاهر والانتصارات السريعة والسطحية.
يكفينا ما نحن فيه من محن ونزاعات في كل مكان، ولا حاجة إضافية لتصيد الخلافات ولا تسعيرها، ولا فائدة لأحد في استعداء بعضنا على البعض الآخر، أو الاساءة إليه، أو الايقاع به، ولا من باب أولى خلق الأعداء من العدم.