لا شك أن ما حصل في الانتخابات الأخيرة للمجلس الوطني لإعلان دمشق كان خطأ يحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى أعضاء الأمانة العامة السابقة للإعلان الذين لم يوفروا الظروف الضرورية لنجاح أول تجربة سورية لبناء تآلف سياسي عريض لم يكن ممكنا من دون إقناع الأحزاب بالتخلي عن الوصاية التي مارستها في السنوات الماضية على العمل الإئتلافي من جهة وجذب نشطاء آخرين مستقلين كثر جاهزين للتضحية لكنهم لا يملكون صورة ايجابية عن الحياة الحزبية السورية القائمة. ولا شك أيضا أن قبول القيادات الحزبية بتقليص دورها في الإئتلاف لصالح المستقلين كان تعبيرا عن ميزان القوى الذي نجم عن تجربة حقبة ربيع دمشق، والذي لعبت فيه النخبة المثقفة المستقلة دورا رائدا، بينما بقيت الأحزاب لفترة طويلة عاجزة عن اللحاق بها أو رفد الحركة بعناصر ونشاطات وأفكار جديدة كانت بامس الحاجة لها.
لكن ليس هناك أي سبب لتحويل هذا الخطأ، كما يفعل البعض، إلى مناسبة للتشكيك بنوايا الأطراف أو للنزاع والدعوة للانقسام. وليس من الصعب كذلك على الإعلان أن يتجاوز هذا الخطأ إذا أدرك الجميع حجم الرهانات المرتبطة بالمحافظة على التكتل الذي يمثله الإعلان. فبصرف النظر عن أخطائه ونقاط ضعفه الكثيرة وتعثره هنا وهناك، يمثل الإعلان اليوم الأمل الوحيد عند الرأي العام لنشوء معارضة ديمقراطية فعلية في البلاد تجمع بين مختلف أصحاب الرأي السياسي وتوحد جهودهم لتحقيق هدف التغيير الديمقراطي وعودة الحياة السياسية الطبيعية للبلاد. وليس من المؤكد أن التضحية بهذا التكتل الذي تطلب انشاؤه واستمراره حتى الآن جهودا مضنية، سوف يفتح الباب أمام نشوء تكتل آخر أو حركات ديمقراطية أخرى. وعلى الأغلب سيكون البديل عنه التفتت والتمزق والاقتتال الدائم بين القوى السياسية السورية ونزوع كل منها إلى اتباع استراتيجية خاصة به، فيذهب الكرد في اتجاه، والاسلاميون في اتجاه آخر، والقوميون في اتجاه ثالث واليساريون كذلك، ولن يبقى هناك ما يؤلف بينهم أو يجمعهم. بمعنى آخر، يشكل الحفاظ على إعلان دمشق مصلحة وطنية بقدر ما سيكون انقسام الإعلان أو إضعافه برهانا على عجز القوى السياسية القائمة عن التآلف ودفعها نحو توجهات سلبية، مضرة بمستقبل البلاد، لا مقدمة لتآلفات جديدة. لذلك مهما حصل من نزاعات واختلاف في وجهات النظر الفكرية والسياسية ينبغي السعي إلى حلها ضمن الإعلان وفي الصراع داخل صفوفه. وهذا هو أصلا الطريق الوحيد لتطوير حركة سياسية جدية لا يمكن نموها إلا من خلال تراكم الخبرة عبر الصراع الفكري والسياسي داخل الإطار الواحد. ولا يعني الانسحاب من الإعلان سوى الانسحاب من المعركة التي ينبغي أن تخاض داخل الإعلان وفي سبيل تحسين عمله ونظامه، وبالتالي المساهمة في إضاعة فرصة بناء تآلف ديمقراطي لزمن غير معلوم.
نشأ التكتل الذي يمثله الإعلان عن اجتماع عنصرين رئيسيين لا يمكن استمراره من دون مراعاة مصالحهما معا. العنصر الأول هو القوى الحية النشيطة للمثقفين الذين أحيوا ربيع دمشق وفرضوا لأول مرة في تاريخ سورية البعثية، بعد نهاية السبعينات، حركة مطالبة ديمقراطية قوية وفاعلة أثارت اهتمام الرأي العام ووجهت أنظاره نحو المشاكل الكبيرة التي تعاني منها البلاد، والتي لا تقتصر على الأمور السياسية وإنما تتجاوزها إلى المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والاستراتيجية والبيئية أيضا. أما العنصر الثاني فهو القوى الحزبية التي تمتلك بعض الخبرة التنظيمية في العمل السياسي والتي نجحت في البقاء على قيد الحياة خلال العقود الطويلة الماضية من عمر الديكتاتورية، بالرغم من أنها خرجت مدماة منها. ولا يمكن للتآلف أن يستمر ويتقدم ما لم يتم التفاهم بشكل واضح بين هذين العنصرين، وأن لا يسعى أحدهما إلى تجاوز مصالح الآخر أو عدم أخذه بالاعتبار. فلا يمكن للمثقفين مهما سما كعبهم في النشاط الفكري والسياسي أن يبنوا قوة سياسية منظمة من دون الاستفادة من تجربة الأحزاب، ولا يمكن للأحزاب أن يتحولوا إلى قوة فاعلة ويخرجوا من القبور التي دفنتهم فيها الديكتاتورية من دون التفاهم مع النشطاء المستقلين والتعاون معهم وإفساح المجال أمامهم للاتصال بالرأي العام والتفاعل معه.
وقد جاءت صيغة المجلس الوطني الموسع للرد على حاجة قيام مثل هذا التحالف بين نخبتين، مثقفة جديدة وسياسية قديمة. ولم يكن من السهولة تحقيق التفاهم السريع بينهما بسبب اختلاف أساليب التفكير والعمل والخبرة الماضية لكليهما. لكن الصعوبة الاكبر كانت ولا تزال كامنة في النزاع بين أطراف النخبة الحزبية نفسها. وربما لم يكن للأزمة الراهنة سبب آخر سوى سعي بعض أطرافها لتعزيز تحالفها مع المثقفين في مواجهة الأطراف الأخرى. وبهذا المعنى نشأ خطان داخل التكتل، لا ينبع خلافهما من الاختلاف حول المباديء أو الأفكار والقيم والأهداف المنشودة وإنما من الاختلاف في الأمور الإجرائية المتعلقة بالاستراتيجية والتكتيك كما نقول عادة. وقد دفعت جدلية التنافس بينهما إلى إقصاء طرف لحساب الآخر، ليس بمعنى تقصد الاستبعاد، كما تشيعه نظرية المؤامرة، وإنما بمعنى حسم الموقف السياسي.
ربما كان ارتباك موقف الاتحاديين في الاجتماع الموسع هو الذي هز قناعات الناس إزاءهم. وربما كان سببه ما يبدو من جمود على موقفهم من قضايا القومية والعلاقات الخارجية. وربما كان السبب التشكيك الذي أشاعه خصومهم بصلابة موقفهم أو موقف بعضهم إزاء النظام بسبب مشاركتهم له في الايديولوجية القومية. لكن من المؤكد، وهذا ما سمعته أنا نفسي على أكثر من لسان، أن أحدا لم يكن يريد أو يتصور أن لا يحصل زعيم الاتحاد على الأصوات اللازمة لعبور الامتحان الديمقراطي. وأنا أعتقد أن سقوطه كان مفاجأة للجميع، بمن فيهم من لا يشاركونه التفكير نفسه. ولا شك أن الضغوط الأمنية التي يتعرض لها أعضاء المجلس جميعا، والشعور بفراغ الصبر من الأوضاع المتردية، قد شجعت قسما كبيرا منهم إلى تبني موقف الحسم. لكن المهم أن ما حصل يعكس أن هناك مشكلة تستدعي الحل، وأن الذين أداروا عملية توسيع المجلس لم تكن لديهم سيطرة كافية على الوضع.
ومع ذلك لا ينبغي أن يقلل ما حدث من قيمة انعقاد المجلس الوطني لتكتل إعلان دمشق. فقد عبر انعقاد هذا المجلس وتوسيعه عن تقدم كبير في الحركة الديمقراطية السورية، على المستوى السياسي والتنظيمي معا. فهناك من دون شك رضى واسعا لدى جميع الأطراف، بما فيها قادة الاتحاد الاشتراكي، عن الوثائق السياسية التي تمت بلورتها خلال نقاشات طويلة بينها. كما ان الصيغة التي تبناها المجلس تمثل في نظري تقدما كبيرا في مفهوم العمل الإئتلافي المشترك. فما حصل لم يكن مجرد انتخاب هيئة قيادية جديدة وإنما تغييرا في قواعد انتخاب القيادة، يلغي وصاية الأحزاب على الحركة الديمقراطية بقدر ما يجعل العضو والقيادي الحزبي متساويا مع غيره من الأعضاء غير الحزبيين، في حظه من النجاح أو السقوط. وهذا يعني أن ما شهده المجلس الموسع الأول كان إعادة تأسيس التكتل لا ترميما له، وتطبيقا لقاعدة جديدة تضعف من أثر الانتماءات الحزبية لصالح بناء حركة تتجاوز الأحزاب وتجذب العناصر النشطة التي تكثر خارج الأحزاب، بسبب ما تعرضت له هذه في العقود الماضية من حصار وتجميد وتهديد. وهذا موقف متقدم جدا في نظري، ما كنت أنا نفسي أعتقد أن جميع الأحزاب ستقبل بتبنيه.
يظل من المؤسف دون شك أن تكون عملية التأسيس الجديد هذه، مع ما تحمله من إمكانيات وآفاق كبيرة، قد تعرضت لأزمة منذ البداية بسبب بعض الأخطاء الناجمة عن عدم إدراك حساسية التمثيل الحزبي في المراحل الأولى لإطلاق الحركة، حتى لا يحصل ما حصل ويقدم المجلس الوطني بصيغته الجديدة ذريعة لأولئك الذين يرفضون التغيير أو يخشون نتائجه على مواقعهم المكرسة، لطرح مسألة إعادة النظر في قاعدة الانتخاب الديمقراطي هذه والعودة إلى نظام "الكوتا" للأحزاب. مما يعني انتكاسة كبيرة لحركة المعارضة الديمقراطية ونكوصا نحو النزاعات العقيمة التي جمدت عمل الإعلان خلال السنتين الماضيتين بعد تأليفه.
يستدعي تحصين النجاح الذي تجسد في انعقاد المجلس وصيانته تجاوز الأخطاء الماضية والتاكيد على أهمية احترام مكانة القوى الحزبية في الإئتلاف من دون تعريض الصيغة القائمة والايجابية للخطر. فهي وحدها التي تفتح على الأجيال الجديدة وتقدم لها أملا في مشاركة مفتوحة وواسعة في قيادة الحركة الديمقراطية. كما يستدعي مراجعة سياسية وامتحانا للضمير، وربما اعتذارات متبادلة من قبل الجميع، لكن مع التأكيد على عدم شق الإعلان أو إضعافه أو الانسياق وراء مشاعر الإحباط والفشل وتدمير ما تحقق حتى الآن من نجاحات بالرغم من الاعتقالات المستمرة والضغوط. وسيقوى الاتحاد الاشتراكي ودوره في التكتل أكثر إذا قرر وضع المصالح العليا للإعلان فوق المصالح الحزبية، واكد إنتماءه وتمسكه بالاعلان واستمر بنشاطة في الدفاع عن المعتقلين السياسيين وفي دفع الشكوك عن أهداف التكتل وقيمه ومبادئه مع بقية الأعضاء الآخرين.
ولا أعتقد أن التمسك بالإعلان يلغي الحق بالتعبير الصريح عن الاختلاف في وجهات النظر أو في النقد. لا ينبغي أن نتبع قاعدة النظام الاستبدادي التي تعني وقف أي تفكير داخلي باسم الضغوط الخارجية. إذا أردنا أن تعيش المعارضة وتتطور، ينبغي أن نتعلم كيف نقاوم الضغوط ونستمر في نقاشنا الداخلي معا، وأن ننجح في أن لا نجعل من الضغوط ذريعة لوقف جدلية التفكير الداخلي، ولا من النزاع الناجم عن اختلافنا ذريعة للتشكيك بالتكتل والدعوة للانقسام. بالعكس بقدر ما ننجح في الحفاظ على الجدل الفكري من دون انقسام، نحبط الضغوط القمعية ونظهر أنها من دون معنى وفائدة. ذلك أن أحد أهداف الضغوط الأساسية هو تجميد الحركة السياسية واعتقال الفكر قبل اعتقال الجسد، فكر المعارضة وديناميكية تطورها ونموها الذي لا يحصل من دون النقد والنقد الذاتي والتصويب. وهذا يعني أيضا أننا لا ينبغي أن نخاف من النقد حتى ونحن نتعرض للضغوط والاعتقالات، وان الذين يشككون داخل الإعلان بأصحاب الرأي المخالف لا يخدمون الإعلان ولكنهم يشاركون في تحقيق أهداف الضغوط الأمنية : أي دفع المعارضة إلى الانشقاق عن طريق تحويل النقد إلى خصام، وإظهار عدم قدرة الإعلان على التماسك في وجه الضغوط والأخطار المحيطة.
باختصار، لا ينبغي أن يحرمنا الضغط الأمني من الاستمرار في ديناميكية تطوير قوانا الذاتية الفكرية والسياسية والتنظيمية، ومن إغناء حركتنا الديمقراطية بالنقاش الداخلي المشروع والمثمر. ولا ينبغي أن نسمح للاستبداد أن يشجعنا على التغطية على اختلافنا، ويمنعنا من التفكير فيه، وبالتالي للخروج منه بحلول مقبولة للجميع والتوصل إلى أرضية صلبة تضمن استمرارنا وتماسك صفوفنا. إن أعظم مساهمة في الدفاع عن المعتقلين السياسين، من أعضاء المجلس الوطني ومن خارجه أيضا، تكمن في الحفاظ على المكاسب التي تجسدها وحدة المعارضة الديمقراطية داخل المجلس الوطني، واحتواء الأزمة التي تعرض لها، وتجاوزها للوقوف صفا واحدا أمام آلة القمع والاعتقال. وكما لا نكف نحن أنفسنا عن تذكير النظام بأن أساس الوحدة الوطنية احترام الاختلاف، تشكل كفالة حق الاختلاف والتعبير عن الرأي المخالف داخل الإعلان الضمان الرئيسي للحفاظ على وحدة الإئتلاف القائم وترسيخ أسس بقائه وتطوره. ولا يقل الضرر الناجم عن تشكيك بعض أعضاء الإعلان بنوايا المخالفين في الرأي، أو في أهدافهم وتشويه طروحاتهم، عن الضرر الذي يحدثه تشكيك بعض المناهضين للتوجه الراهن للإعلان في نوايا أصحابه وتشويه طروحاتهم. وحتى لا يتحول النقد إلى محاسبة على النوايا، ونسقط في المحنة نفسها التي يعيشها الشعب بأكمله بسبب تبني النظام هذه الممارسة، علينا أن ننظر إلى أي اختلاف، مهما كانت النوايا الكامنة وراءه، على أنه تعبير عن قراءة مغايرة للأحداث، وعن وجهة نظر مختلفة في التحليل، تستند ربما على معطيات ناقصة أو غير مكتملة لكن لا تستبطن موقفا معاديا، وتبقى بالتالي وجهة نظر مشروعة، تستحق المناقشة والاحترام، ولا يمنع شيء من تجاوز الخلاف الذي تجسده عن طريق الحوار والنقاش. من دون ذلك ليس هناك ما يضمن أن لا يتحول الاختلاف الفكري والسياسي إلى إدانة أخلاقية أو سياسية للغير المختلف، ويصبح هو بدوره حاضنة لنزاعات متجددة ومولدا لانقسامات لا تنفذ. والنتيجة لا ينبغي للاختلاف أن يهدد الوحدة ولا للوحدة أن تمنع الاختلاف.