الاتحاد 92 آب 2007
غيبت الصراعات السياسية والطائفية والمذهبية وشبه الوطنية المنتشرة على خريطة البلدان العربية المسألة الرئيسية التي كانت محور النقاش لحقبة ما بعد الحرب الباردة، وهي إصلاح نموذج تنظيم الحياة العمومية، المدنية والسياسية. وكان العرب ينظرون في غالبيتهم إلى هذا الاصلاح منذ التسعينيات على أنه الشرط الأول لإعادة بناء مجتمعاتهم وتأهيلها للدخول في الحركة الاقتصادية والاستراتيجية العالمية، وتمكينها من مواجهة التحديات الكبرى التي تنتظرها، وفي مقدمها تلك المرتبطة بالحفاظ على الاستقلال وتعزيز القرار الوطني، أمام اشتداد المنافسة الدولية، ونزوع الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة إلى السيطرة الشمولية. وكان مفهوم الاصلاح يعني مراجعة أساليب الحكم والإدارة، وإعادة بناء نظام السياسة الذي ساد فيها لعقود، بما يتضمنه من توجهات فكرية وأخلاقية ومن خيارات استراتيجية وبرامج سياسية، على أسس مختلفة بل مناقضة لما ساد في عقود سابقة. فكان السؤال المطروح: هل المطلوب في سبيل إنهاض المجتمعات العربية ومساعدتها على التقدم الاستمرار على النموذج الاستثنائي التسلطي النابع من انقلابات سياسية وعسكرية، بما يستتبعها من إلغاء التعددية والحياة السياسية وتعليق الحريات العامة، والقبول بالحكم، عقودا طويلة، في ظل قوانين الطواريء والأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية، بذريعة توفير الظروف المناسبة لتمكين الطلائع التي تقود الشعوب، كما تفيد الفكرة الأصلية، من تسريع وتيرة التطور ونقل المجتمع إلى الحداثة، أم أن المطلوب هو الانتقال إلى نظام سياسي تعددي، هو المتبع اليوم في معظم بقاع العالم الصناعي وغير الصناعي، في أمريكا الشمالية وأوروبة وفي أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وفي جميع البلدان التي كانت تتبع نظام الحكم الاستثنائي السوفييتي، باستثناء كورية وكوبا والصين، يقوم على مبدأ اختيار القيادات السياسية بالاقتراع العام وفي ظروف منافسة نزيهة وقانونية تعرض فيها مختلف النخب الاجتماعية مشاريعها وبرامجها السياسية.
والواقع أن أغلب النخب العربية إن لم يكن جميعها، كان مقتنعا، خلال فترة طويلة ماضية، مثل ما كان عليه الأمر في كل مناطق العالم الأخرى، بأن النموذج الأفضل لتحقيق التقدم هو نموذج الحكم المركزي الاستثنائي الذي يضمن تحكم النخب الطليعية بالمسيرة الوطنية ليسرع من وتائر النمو. هذا كان موقف القوى اليسارية والقومية عموما، بعد أن أعلنت القوى الليبرالية في العالم أجمع، في مناخ الحرب الباردة، خيانتها لقيمها العميقة وتحالفها الوثيق، في عموم العالم الثالث، مع الديكتاتوريات العسكرية التي اعتقدت أن وجودها أصبح شرطا لتحقيق الاستقرار السياسي الذي يمكنها من تعظيم استثماراتها أو من جذب الاستثمارات الخارجية. كان هذا الموقف السائد في أوساط النخب الثقافية والسياسية والعسكرية والنقابية والدينية والاقتصادية معا.
لكن هذا الاجماع على النموذج التسلطي للحكم قد تحطم تدريجيا منذ انهيار الشيوعية وفلسفتها السياسية في العالم، وزوال الحرب الباردة، وبعد أن تبين المردود الضعيف لهذه النظم في تحقيق الاصلاح، بالمقارنة مع النظم التعددية. فقد قاد نظام الحكم الاستثنائي الرافض لفكرة انتخاب القيادات إلى حالة من الركود والجمود والفساد غير محتملة في جميع البلدان التي طبق فيها. والسبب أن النخب التي تحكم من دون منافسة ولا مراقبة تميل إلى تكريس المنافع والامتيازات الخاصة على حساب المصالح العامة، أي مصالح الدولة والشعب، ومراكمتها واحتكارها والحفاظ عليها بقوة السلاح إذا احتاج الأمر، وذلك مهما كان أصل هذه النخب وعقيدتها السياسية وشعاراتها وخطاباتها.
وهكذا بدأت تبرز تدريجيا، لكن بشكل متعاظم، منذ نهايات القرن الماضي، فكرة جديدة وتسيطر على قطاعات متزايدة من النخبة الاجتماعية، تكرس الاعتقاد بأن مستقبل مجتمعاتها، ومستقبلها هي نفسها، رهن بتغيير قواعد العمل السياسي، والانتقال إلى نظام يفتح المجال أمام الجميع للمشاركة في تحمل الواجبات العمومية، ويطلق الحياة السياسية من جديد على أسس التعددية والتنافس على احتلال مناصب المسؤولية واختيار الأصلح والأقدر على تطوير البلاد وإدارتها. وهكذا نشأت ديناميكية الصراع السياسي من جديد في المجتمعات العربية بعد أن كانت قد خمدت تماما ولفترة طويلة سابقة مع انطفاء النزاعات الايديولوجية القديمة التي كانت تغذيه: بين بعثيين وناصرييين، قوميين وقطريين، شيوعيين وليبراليين.
وكما كان من الطبيعي أن تسعى النخب الصاعدة إلى المطالبة بفسحة أكبر من الحريات العامة تتيح لها الاتصال بالجمهور والتفاعل معه والعمل على كسبه لتحقيق ما تعتقد أنه النظام الأصلح للبلاد، كان من المنتظر أيضا أن تثير هذه التحولات الفكرية والسياسية الجديدة القلق والخوف في أوساط النخب الحاكمة التي كرستها عقود طويلة من الحكم الأحادي والتسليم الفكري والنفسي. فنشوء النخبة الجديدة حول فكرة التعددية السياسية، بصرف النظر عما إذا كانت قد تمثلت قيم الديمقراطية حقيقة ام لا، لا تزال بعيدة عن فهم متطلباتها ومعرفة التحديات التي تواجهها، يشكل تهديدا لا شك فيه للنخب التقليدية ولمواقعها الاحتكارية المكرسة، لما يعنيه ذلك من القبول بقواعد جديدة للعمل السياسي قائمة على فتح الحقل السياسي وتوسيع دائرة الحريات السياسية والقبول بمبدأ المنافسة الحرة على مناصب المسؤولية. فلأول مرة تجد النخب القديمة نفسها أمام تحد سياسي يطالبها بإعادة بناء سلطتها وقيادتها، أو تأسيسها على شرعية ديمقراطية لم تعتد عليها، ولا يمكن أن تكون نتائج الأخذ بها، والانصياع لمنطق صندوق الاقتراع، سوى تقويض وضعها الموروث ووضع الامتيازات والمصالح المكتسبة التي راكمتها خلال عقود طويلة في الميزان. وليس من السهل على فئة اجتماعية اعتادت الحكم بالوراثة والأحكام العرفية والاستثنائية، واعتادت النظر إلى الشعوب من موقع السيادة والتعامل مع أفرادها كأدوات ووسائل لتحقيق مآربها وتمجيد نفسها، أن تقبل بوضع نفسها موضع المساءلة أو المحاسبة الشعبية، أو أن تطرح نفسها لنيل الثقة من الرأي العام، بعد أن تمثلت فكرة القيادة التاريخية وأصبحت تعتقد أنه لا بديل عنها ولا شرعية لأي قيادة أخرى لا تكون مشتقة منها أو تابعة لها.
لم يكن من المستغرب إذن والحال هذه أن تحاول النخبة الحاكمة المناورة بجميع الوسائل، وهي تملك سيطرة استثنائية على الموارد الأمنية والإعلامية والاقتصادية والسياسية والإدارية، لتقليص دائرة عمل النخبة الصاعدة الجديدة، وتصعيب المهمة عليها، ومنعها من التقدم بالوتيرة التي تحلم بها. كما لم يكن من المستغرب أن تسعى النخب الديمقراطية إلى توظيف كل ما تستطيع توظيفه فكريا وسياسيا في سبيل تعزيز مواقعها، وهي التي لا تملك ما تستند إليه في المجتمع والرأي العام، سوى عملها وممارستها النظرية والسياسية، بينما هي التي تطرح على نفسها مهمة السعي للانتقال بالبلاد نحو نظام جديد، أي هي المهاجمة من دون سلاح.
هذا التمايز العميق الذي حصل في قلب النخبة الاجتماعية وأفكارها، والناجم هو نفسه عن تباعد مصالح أولئك الذين استفادوا من الاحتكار الطويل للسلطة عن الذين بقوا خارجها، هو الأساس الموضوعي العميق للتعددية الناشئة في فكرنا ونخبتنا معا، وهو الذي يفسر جدلية الصراع السياسي الذي دخلت فيه مجتمعاتنا، على فترات متقاربة، منذ التسعينات من القرن الماضي. ولا يكف هذا الصراع والتنازع عن النمو، بموازاة تبلور مشروعين لتنظيم الشؤون العمومية وبناء قاعدة التفاهم والتواصل بين الأفراد والمجموعات البشرية المقيمة على الأرض العربية. وفي ما وراء المعارك الفرعية والجانبية التي غالبا ما تسعى إلى التشويش على الأسباب الحقيقية، يظل الرهان الرئيسي للصراع العميق القائم تحديد طبيعة النظام السياسي، والتوصل إلى مباديء أساسية مقبولة من الأغلبية لإعادة تأسيس الحياة العمومية والمدنية. وهو صراع سيتأصل باستمرار ولن يمكن إخماده أبدا، بوجود المواجهات الخارجية ومن دونها على حد سواء.
كان من الممكن لنظام التسلطية الذي لا يجد ضرورة كي يسند نفسه إلى شرعية مستمدة من استشارة شعبية ولا يعتقد أنه بحاجة لها، أن يبحث من دون صعوبة على تسويات مؤقتة تسمح له بكسب أكثر ما يمكن من الوقت من دون أن يحرم النخبة التعددية الجديدة من الأمل بإمكانية حصول تداول للسلطة، ولو في أفق بعيد. بل كان من مصلحته، وهو يسعى عبر السياسات الليبرالية الجديدة إلى إعادة إدراج نفسه في المجال الاقتصادي العالمي بعد قطيعة طويلة، ويواجه تحديات اجتماعية واقتصادية خطيرة في أكثر البلاد العربية، من البطالة إلى الفقر إلى انبعاث العصبيات الطائفية والمذهبية والعشائرية، إلى تعميم الفساد في جميع إدارات الدولة وغياب القانون، أن يظهر للرأي العام العربي والعالمي أنه يسير في الاتجاه الصحيح، وأن المعايير التي يأخذ بها العالم وليس الغرب فحسب، هي أيضا معاييره بشكل من الأشكال. وهذا ما كان الجمهور يأمله ويراهن عليه في السنوات القليلة الماضية مع تصاعد فكرة الاصلاح والانفتاح. بيد أن عوامل داخلية وخارجية قادته إلى عكس الاتجاه المطلوب. وكانت النتيجة كما نشاهد اليوم انهيارا عميقا في الموقف الوطني والإقليمي، وتدهورا خطيرا في كل مؤشرات الحياة العمومية وتراجعا مرعبا للثقة وتنامي إمكانيات واستعدادات الفئات الاجتماعية والأطراف المختلفة لممارسة العنف أو الانخراط فيه، وفي النتيجة استعصاءا كارثيا للوضع. فنحن ندفع اليوم وسوف ندفع إلى زمن طويل ثمن إجهاض هذا الاصلاح والتشبث بأساليب حكم وخيارات داخلية وخارجية غير منتجة وغير ناجعة إن لم تكن مثيرة للفتن ومغذية لكل أنواع الاحتجاج والخروج على السلطة والتمرد والانفجار.
عوامل عديدة ساهمت في دفع الأوضاع العربية إلى هذا الخراب الفظيع. بعضها مرتبط بالسياسات الدولية القديمة والحديثة معا، وفي زمن أقرب، بالسياسات الامريكية التي دفعت المنطقة، عبر التدخلات العسكرية وعمليات الهيكلة وتقطيع الأوصال وتجميع الأعضاء كيفما كان، وتقويض الفكرة الديمقراطية نفسها، كما حصل في فلسطين مع رفض نتائج الانتخابات التشريعية، إلى حافة الكارثة، بقدر ما فرضت عليها أجندة خارجية، ففتت جميع القوى الداخلية وحرفتها عن مسارها الطبيعي. لكن بعضها عوامل داخلية مرتبطة بنجاح الاجنحة المتطرفة في الحكم، بالتحالف مع مجموعات المصالح المافيوية في الداخل والخارج معا، في فرض رؤيتها للوضع واغتيال أي مشاريع بل خطوات إصلاحية كان من الممكن أن تخفف من وقع الأزمة أو تساهم في وضع تصور لمواجهتها. وهذه الفئات والأجنحة هي نفسها التي راهنت ولا تزال تراهن على عقد الصفقات مع القوى الدولية لضمان التجديد للنظام بصرف النظر عن الإرادة الشعبية وفي مواجهتها. وهذا ما يضعنا على أبواب حقبة ثورية، ليس بالضرورة بالمعنى الايجابي للكلمة الذي اعتدنا عليه في أدبياتنا السياسية، ولكن بالمعنى السلبي الذي يفيد بأن السياسة قد فقدت فاعليتها في تنظيم الشؤون العامة أو تقديم حلول للأزمات المستعصية ولم يبق أمام الجمهور المذعور والخائف على مصيره ومصالحه الحيوية إلا الانخراط في حروب داخلية، لا يمكن أن تكون مع غياب الرؤية العقلانية والأخلاقيات الإنسانية سوى حروب تدميرية ومذابح بشرية.