الجزيرة نت
من الطبيعي والمشروع أن يشكل التحصن ضد مضاعفات المحكمة الدولية الهاجس الرئيسي للسلطة السورية اليوم. بيد أن من الخطأ الاعتقاد بأن أفضل وسيلة للتغلب على نتائج هذه المحكمة وقطع الطريق على الضغوط الخارجية، وتجنب الحصار والعقوبات الاقتصادية، التي من المحتمل أن تفرض حسب قرار مجلس الأمن، هو إلغاء الحياة السياسية، وإغلاق كل أبواب النقاش والتفكير والنقد، وإخماد أنفاس المجتمع المدني والمعارضة بأي وسيلة، قانونية أو غير قانونية. فبالاضافة إلى ما تعبر عنه من اضطراب، وما تشكله من مظلة تحتمي تحتها قوى الفساد الخطيرة في البلاد، ليس هناك أي أمل في أن تردع مثل هذه السياسة القوى الخارجية المعادية للنظام، ولا أن تقدم أي ضمانة لاحتفاظ السلطة بالسيطرة الشاملة التي تحلم بها، ولا في منع التجاوزات السياسية أو التخريبية. وتقدم التجربة العراقية المعاصرة درسا تاريخيا ثمينا في هذا المجال. فلم تنجح سياسة الإغلاق الشامل لنظام صدام على أي معارضة أو اختلاف أو انتقاد في ضمان الأمن والاستقرار، بل عملت بالعكس على نقل المعركة الداخلية إلى الساحات الخارجية، وساهمت في بناء معارضة مرتبطة بالقوى والمصالح الأجنبية، كان لها اليد الطولى في تدمير النظام، الذي كان قد أجهز، هو نفسه، على آخر ما تبقى له من شرعية، بفرضه منطق القمع الشامل على المجتمع والفرد.
وليس من الصعب فهم هذه الديناميكية التي قادت العراق إلى الدوامة الجهنمية التي يعيش فيها اليوم. فالضغوط المتزايدة التي تمارسها الدول الغربية على نظم تعمل بمنطق السيطرة الكلية، ولا تخضع لأي معايير سياسية أو أخلاقية، تتحول إلى ضغوط مباشرة ومضاعفة من قبل النظام على المجتمع، وتتجلى عبر جهود متزايدة لتحطيم قوى المعارضة الديمقراطية وغير الديمقراطية، أملا بإغلاق كل المنافذ وسد الذرائع والثغرات. ولا يلبث هذا الضغط المتزايد على قوى المعارضة الداخلية حتى يفجرها وينقل مركز الثقل إلى أقسامها الخارجية التي تجد نفسها تلقائيا في موقع القيادة، نظرا لما تحظى به من قدرة على الحركة والمبادرة وبناء التحالفات مع القوى الدولية، في الوقت الذي يقبع فيه قادة المعارضة الداخلية السلمية والوطنية، في السجون والمعتقلات. ويدفع اليأس من إمكانية التغيير السياسي من الداخل بقطاعات متزايدة من الرأي العام المتذمر إلى التطلع نحو هذه المعارضة الخارجية، التي تشعر أكثر فأكثر أن عليها يقع منذ الآن واجب العمل بجميع الوسائل للرد على طلبات التغيير الموجهة إليها، وتجد نفسها تحت ضغوط متزايدة للتحالف مع الشيطان حتى لا تخسر الرهان ولا تخون الآمال المعلقة عليها.
هذا ما يفسر كيف أن حركات كانت بالأصل معادية عداءا شديدا للولايات المتحدة وسياساتها الإقليمية، مثل الحزب الشيوعي العراقي والأحزاب والتكتلات الاسلامية الشيعية، قد قبلت بسهولة وسرعة التكيف مع الاستراتيجيات الغربية، وأحيانا الارتماء في أحضانها، ثم المشاركة في مشروع غزو بلادها ووضعها تحت الوصاية الأجنبية. فالناس لا يولدون خونة ولا متآمرين ولكنهم يصبحون كذلك نتيجة المواقع التي يجبرون على احتلالها والأدوار التي يدفعون إلى لعبها، أي عندما لا يجدون لأنفسهم ومصالحهم مخرجا آخر ولا خيارا، سوى التفاهم مع القوى الخارجية القابلة لأن تتبني قضيتهم حتى لو كان ذلك، وهو لا يمكن إلا أن يكون، لتحقيق مآرب خصوصية. هكذا تعمل الردود القمعية على الضغوط الخارجية عملها، وتحقق أهدافها، بصرف النظر عن إرادة الناس الذين يخضعون لها، بل أحيانا كثيرة ضد قناعاتهم الأساسية. وحتى عندما يعتقد النظام أنه قد أغلق جميع الأبواب التي تنفذ منها الضغوط الخارجية، فليس هناك أي ضمانة أن لا يتعثر في مناورته الدولية، ويجد نفسه أسير المناورة السياسية نفسها التي قادت السلطة البعثية العراقية إلى حتفها. أعني جدلية الضغوط التي تعمل حسب المنطق البسيط الثلاثي الأبعاد : القوى الخارجية تطحن النخب الحاكمة لإخضاعها وإجبارها على التكيف مع استرايتيجيتها، فتعمد هذه الأخيرة، من قبيل الحيطة، والمزاودة على القوى الأجنبية وتحديها أيضا، إلى طحن المعارضة الداخلية، واستخدامها كبش محرقة، تبرر به جميع أخطاء سياساتها الداخلية والخارجية التي قادت إلى النزاع مع الدول الأجنبية. وبدورها، لا تجد المعارضة الخاضعة لكل أنواع التنكيل والاضطهاد ملجأ لها إلا بالهرب إلى الدول نفسها التي تمارس الضغوط الخارجية، والمراهنة على التعاون معها للحفاظ على وجودها والوفاء بوعودها التغييرية. وهذا ما يخدم قضية هذه الدول الكبرى الضاغطة التي تتلقاها بين أذرعها لتعيد تصديرها إلى الداخل، إما على شكل قوى معارضة مسلحة أو إنقلابية، أو كغطاء سياسي لتدخل عسكري أجنبي مباشر.
تحت تأثير هذه الجدلية سقط النظام العراقي السابق بعد أن دفعه الحصار الدولي الطويل إلى ضرب حصار لا يقل شراسة على المجتمع، وحول المعارضة التي التجأت إلى الخارج، في ايران او سورية أولا، ثم في الدول الغربية المعنية والقادرة على تقديم الدعم المناسب معا، إلى حامل للاستراتيجيات الأجنبية. وفي النهاية، لم يكن النظام وحده هو الضحية لسياساته القمعية وإنما البلاد بأكملها، دولة وشعبا.
وكما يخطيء النظام عندما يعتقد أن خنق المعارضة الوطنية لصالح إبراز المعارضات المرتبطة بالخارج يزيد من قدرته على المناورة السياسية مع القوى الأجنبية، ويبرهن لها على أنه لا أمل لها من دون التعاون معه، تخطيء بعض أطراف المعارضة السورية عندما تبني استراتيجية التغيير، الذي تحلم به عن حق، على استدراج عروض الضغوط الخارجية، أو تراهن على النتائج المحتملة لإقامة المحكمة الدولية. لا يكمن خطؤها في أنها تقدم بذلك الذريعة التي يحتاجها النظام ليبرر سياساته القمعية وإنما، أكثر من ذلك، لتغذيتها أوهاما في التغيير لا تملك هي نفسها سيطرة على أي عنصر من عناصرها الفعلية. فليس هناك أي سبب يدفع إلى الاعتقاد بأن الضغط الذي تمثله هذه المحكمة سوف يعمل على إسقاط النظام أو يجبره، كما تظن العديد من الأطراف، على الانفتاح على الشعب وتوسيع هامش الحريات المدنية والسياسية. بل إن العكس تماما هو الصحيح. فكما بينت ذلك السنوات الماضية، يشجع الخوف المتزايد من زعزعة الاستقرار أي نظام استبدادي يتعرض لضغوط خارجية قوية، على توجيه مثلها إلى قوى الاحتجاج الداخلية وتدفيعها ثمنها، من خلال تشديد الإجراءات الأمنية وزيادة الاعتقالات وإصدار الأحكام الاستثنائية. بل ليس من المبالغة القول إن لدى مثل هذا النظام مصلحة في أن يستغل هذه الضغوط ليبيح لنفسه إجراءات أمنية تعزز مركزه الداخلي، كان من المستحيل تبريرها في الظروف الطبيعية، لا تهدف إلى تقييد المعارضة وإخماد أنفاسها فحسب ولكن، في ما وراء ذلك، إلى تعقيم المجتمعات والقضاء على فكرة التغيير نفسها، وإخماد روح الاحتجاج والاعتراض والانتقاد بل والتفكير فيها. وربما أمل من خلال ذلك بأن يضمن لنفسه مزيدا من السيطرة على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، ويقنع أصحاب الضغوط الخارجية أن من المستحيل تجاوزه أو الاستغناء عنه في أي مشروع يهدف إلى الحفاظ على الحد الادنى من الاستقرار والأمن ومواجهة مخاطر تعميم الخراب والفوضى الداخلية والإقليمية.
لا يعني هذا أن المحكمة لن تنتج أوضاعا تضر بالنظام، أو أنها تفتقر للمبرر أو الشرعية، أو أن إنشاءها، كما يقول أنصار النظام، مؤامرة دولية. ولكن فقط أن الذي سيدفع ثمن ترويعها النظام سيكون الشعب نفسه والقوى السياسية والمدنية المكافحة من أجل الحرية، وربما حولتهم، كما حصل سابقا في العراق، إلى ما يشبه الرهائن في مواجهة لا يعرف أحد مآلاتها النهائية. ويعني كذلك أنها، حتى في حالة تحولها إلى آلة حرب فعالة ضد النظام القائم، لن تخدم المعارضة السورية، ولن يستخدمها أحد لصالحها، وذلك بالضبط لأنها تندرج ضمن استراتيجية حرف النظر عن الأزمة الكبرى التي تعصف بالمنطقة، وتجنب البحث في حلول المشكلات الحقيقية، وفي مقدمها مسائل الاحتلال والاستيطان الاستعماري والسيطرة الغربية على مصائر شعوب المنقطة وحرمانها من حقوقها الوطنية. فما يتوجب على الولايات المتحدة وأوروبة ويقع على عاتقهما ليس تغيير النظم السياسية وإنما التخلي عن السياسات الاستعمارية أو شبه الاستعمارية التي تفسر وجود هذه النظم، ومعالجة نتائجها المتراكمة منذ عقود، والتي قادت المنطقة إلى الهاوية. فالمحكمة بالضرورة وبالأساس أداة في يد السياسة الأمريكية أو الأمريكية الاوروبية، بصرف النظر، كما ذكرت، عن مشروعية إنشائها أو تماسك الأسس القانونية وغير القانونية التي أقيمت عليها، واستهدافها أطرافا شاركت بالفعل في الأحداث المأساوية التي جرت على الساحة السياسية اللبنانية منذ مقتل رفيق الحريري وبعده. ومن يحلم بالاستفادة من المحكمة الدولية لتحقيق أهداف وطنية سورية، فهو لا محالة يعتقد، او لا يزال يعتقد بأن هدف واشنطن والإدارة الأمريكية القائمة، أو على الأقل أحد أهداف سياستها، في المنطقة المشرقية، هو فعلا الضغط في سبيل تعزيز قضايا الديمقراطية، وتأهيل الشعوب للتمكن من حقوقها السياسية والمدنية. وإذا كان هذا هو اعتقاده فلن يطول الوقت قبل أن يجد نفسه، في سياق المراهنة على هذه الضغوط، واقفا، بإدراك أو من دون إدراك، في المواقع الأمريكية، حتى لو كان من أكثر الكارهين لسياسات واشنطن العدوانية.
من هنا كان ينبغي التذكير بأن المحكمة الدولية ليست بعيدة عن أن تساعد على تطور قضية الديمقراطية في سورية والمنطقة العربية فحسب، ولكنها تشكل أكثر من ذلك وينبغي أن ننظر إليها كمصدر للمخاطر، واستحقاقا من الاستحقاقات الكبرى التي تستدعي من أطراف النخبة الوطنية جميعا التعامل معها بحكمة وحذر، في سبيل محاصرة مفاعيلها وإطفاء النيران التي ستشعلها، إذا أردنا أن لا تتحول إلى فخ نقع فيه جميعا، سلطة ومعارضة ووطنا. وهذا يعني أن نتجنب ما أمكن تحويلها إلى محور استراتيجياتنا السياسة، وأن لا نراهن عليها وعلى نتائجها للهرب من الاستحقاقات الوطنية أو للتغطية على ثغرات سياستنا المختلفة، فيعتقد بعضنا، من الموجودين في مواقع المسؤولية، أنه عثر فيها على الذريعة المناسبة لتشديد قبضة النظام القائم، وتعزيز دفاعاته القانونية وغير القانونية ضد الهزات الداخلية والخارجية، ويعتقد البعض الآخر، من أعضاء المعارضة، التي تعاني محنة التهميش والقمع والقهر، أنه وجد كلمة السر التي ستفتح باب الفرج، وتنقذ مشروع التغيير الذي انعدم الأمل بتحقيقه بقدراتنا الذاتية. ويخشى أننا إذا لم نحسن التصرف، سلطة ومعارضة، إزاء هذه القضية، أن تتحول المحكمة الدولية من فخ منصوب للنظام بهدف تطويعه وتركيعه من قبل الغرب، إلى قنبلة موقوتة تتفجر فينا وتفجر آخر ما تبقى لنا من وهم الدولة الوطنية. والخوف المشروع من مثل هذا الاحتمال هو الذي يفسر في نظري الموقف السلبي الذي اتخذه الرأي العام السوري منذ البداية منها، حتى لو أنه لم يذهب إلى حد تبرئة السلطة من التهم الموجهة أو التي يمكن أن توجه إليها.
والخلاصة، تخيم الهواجس المرتبطة بإقرار المحكمة الدولية على العديد من الصراعات القائمة في بلدان المشرق العربي وتهدد استقرارها. وليس لنا، نحن السوريين، أمل في تجنب المحنة التي قادت إليها في بلدان أخرى، وفي لبنان الذي أصبح رهين أجندتها بشكل خاص، ولا في وقف المواجهة الداخلية العنيفة التي نعيشها منذ سنتين، والعودة إلى مناخ التعايش بين الأطراف، من دون اللجوء اليومي إلى العنف المفرط، وربما استعادة منطق الحوار الداخلي، إلا بفصل أجندة المحكمة الدولية التي تسيطر عليها المصالح الخارجية عن أجندة نزاعاتنا السياسية التي لا تخضع، ولا ينبغي أن تخضع، إلا لحسابات المصالح الداخلية، أي الوطنية. وهذه ليست دعوة لبعض أطراف المعارضة الديمقراطية التي راودتها بعض الأوهام بشأنها كي تصحح موقفها، ولكن قبل ذلك لأطراف النظام الذي ينزع إلى إخضاع السياسات الوطنية والإقليمية بأكملها، وما يرتبط بتحقيقها من مصالح شعبية، لهدف واحد وحيد هو مقاومة المحكمة الدولية واحتواء نتائجها.
من الطبيعي والمشروع أن يشكل التحصن ضد مضاعفات المحكمة الدولية الهاجس الرئيسي للسلطة السورية اليوم. بيد أن من الخطأ الاعتقاد بأن أفضل وسيلة للتغلب على نتائج هذه المحكمة وقطع الطريق على الضغوط الخارجية، وتجنب الحصار والعقوبات الاقتصادية، التي من المحتمل أن تفرض حسب قرار مجلس الأمن، هو إلغاء الحياة السياسية، وإغلاق كل أبواب النقاش والتفكير والنقد، وإخماد أنفاس المجتمع المدني والمعارضة بأي وسيلة، قانونية أو غير قانونية. فبالاضافة إلى ما تعبر عنه من اضطراب، وما تشكله من مظلة تحتمي تحتها قوى الفساد الخطيرة في البلاد، ليس هناك أي أمل في أن تردع مثل هذه السياسة القوى الخارجية المعادية للنظام، ولا أن تقدم أي ضمانة لاحتفاظ السلطة بالسيطرة الشاملة التي تحلم بها، ولا في منع التجاوزات السياسية أو التخريبية. وتقدم التجربة العراقية المعاصرة درسا تاريخيا ثمينا في هذا المجال. فلم تنجح سياسة الإغلاق الشامل لنظام صدام على أي معارضة أو اختلاف أو انتقاد في ضمان الأمن والاستقرار، بل عملت بالعكس على نقل المعركة الداخلية إلى الساحات الخارجية، وساهمت في بناء معارضة مرتبطة بالقوى والمصالح الأجنبية، كان لها اليد الطولى في تدمير النظام، الذي كان قد أجهز، هو نفسه، على آخر ما تبقى له من شرعية، بفرضه منطق القمع الشامل على المجتمع والفرد.
وليس من الصعب فهم هذه الديناميكية التي قادت العراق إلى الدوامة الجهنمية التي يعيش فيها اليوم. فالضغوط المتزايدة التي تمارسها الدول الغربية على نظم تعمل بمنطق السيطرة الكلية، ولا تخضع لأي معايير سياسية أو أخلاقية، تتحول إلى ضغوط مباشرة ومضاعفة من قبل النظام على المجتمع، وتتجلى عبر جهود متزايدة لتحطيم قوى المعارضة الديمقراطية وغير الديمقراطية، أملا بإغلاق كل المنافذ وسد الذرائع والثغرات. ولا يلبث هذا الضغط المتزايد على قوى المعارضة الداخلية حتى يفجرها وينقل مركز الثقل إلى أقسامها الخارجية التي تجد نفسها تلقائيا في موقع القيادة، نظرا لما تحظى به من قدرة على الحركة والمبادرة وبناء التحالفات مع القوى الدولية، في الوقت الذي يقبع فيه قادة المعارضة الداخلية السلمية والوطنية، في السجون والمعتقلات. ويدفع اليأس من إمكانية التغيير السياسي من الداخل بقطاعات متزايدة من الرأي العام المتذمر إلى التطلع نحو هذه المعارضة الخارجية، التي تشعر أكثر فأكثر أن عليها يقع منذ الآن واجب العمل بجميع الوسائل للرد على طلبات التغيير الموجهة إليها، وتجد نفسها تحت ضغوط متزايدة للتحالف مع الشيطان حتى لا تخسر الرهان ولا تخون الآمال المعلقة عليها.
هذا ما يفسر كيف أن حركات كانت بالأصل معادية عداءا شديدا للولايات المتحدة وسياساتها الإقليمية، مثل الحزب الشيوعي العراقي والأحزاب والتكتلات الاسلامية الشيعية، قد قبلت بسهولة وسرعة التكيف مع الاستراتيجيات الغربية، وأحيانا الارتماء في أحضانها، ثم المشاركة في مشروع غزو بلادها ووضعها تحت الوصاية الأجنبية. فالناس لا يولدون خونة ولا متآمرين ولكنهم يصبحون كذلك نتيجة المواقع التي يجبرون على احتلالها والأدوار التي يدفعون إلى لعبها، أي عندما لا يجدون لأنفسهم ومصالحهم مخرجا آخر ولا خيارا، سوى التفاهم مع القوى الخارجية القابلة لأن تتبني قضيتهم حتى لو كان ذلك، وهو لا يمكن إلا أن يكون، لتحقيق مآرب خصوصية. هكذا تعمل الردود القمعية على الضغوط الخارجية عملها، وتحقق أهدافها، بصرف النظر عن إرادة الناس الذين يخضعون لها، بل أحيانا كثيرة ضد قناعاتهم الأساسية. وحتى عندما يعتقد النظام أنه قد أغلق جميع الأبواب التي تنفذ منها الضغوط الخارجية، فليس هناك أي ضمانة أن لا يتعثر في مناورته الدولية، ويجد نفسه أسير المناورة السياسية نفسها التي قادت السلطة البعثية العراقية إلى حتفها. أعني جدلية الضغوط التي تعمل حسب المنطق البسيط الثلاثي الأبعاد : القوى الخارجية تطحن النخب الحاكمة لإخضاعها وإجبارها على التكيف مع استرايتيجيتها، فتعمد هذه الأخيرة، من قبيل الحيطة، والمزاودة على القوى الأجنبية وتحديها أيضا، إلى طحن المعارضة الداخلية، واستخدامها كبش محرقة، تبرر به جميع أخطاء سياساتها الداخلية والخارجية التي قادت إلى النزاع مع الدول الأجنبية. وبدورها، لا تجد المعارضة الخاضعة لكل أنواع التنكيل والاضطهاد ملجأ لها إلا بالهرب إلى الدول نفسها التي تمارس الضغوط الخارجية، والمراهنة على التعاون معها للحفاظ على وجودها والوفاء بوعودها التغييرية. وهذا ما يخدم قضية هذه الدول الكبرى الضاغطة التي تتلقاها بين أذرعها لتعيد تصديرها إلى الداخل، إما على شكل قوى معارضة مسلحة أو إنقلابية، أو كغطاء سياسي لتدخل عسكري أجنبي مباشر.
تحت تأثير هذه الجدلية سقط النظام العراقي السابق بعد أن دفعه الحصار الدولي الطويل إلى ضرب حصار لا يقل شراسة على المجتمع، وحول المعارضة التي التجأت إلى الخارج، في ايران او سورية أولا، ثم في الدول الغربية المعنية والقادرة على تقديم الدعم المناسب معا، إلى حامل للاستراتيجيات الأجنبية. وفي النهاية، لم يكن النظام وحده هو الضحية لسياساته القمعية وإنما البلاد بأكملها، دولة وشعبا.
وكما يخطيء النظام عندما يعتقد أن خنق المعارضة الوطنية لصالح إبراز المعارضات المرتبطة بالخارج يزيد من قدرته على المناورة السياسية مع القوى الأجنبية، ويبرهن لها على أنه لا أمل لها من دون التعاون معه، تخطيء بعض أطراف المعارضة السورية عندما تبني استراتيجية التغيير، الذي تحلم به عن حق، على استدراج عروض الضغوط الخارجية، أو تراهن على النتائج المحتملة لإقامة المحكمة الدولية. لا يكمن خطؤها في أنها تقدم بذلك الذريعة التي يحتاجها النظام ليبرر سياساته القمعية وإنما، أكثر من ذلك، لتغذيتها أوهاما في التغيير لا تملك هي نفسها سيطرة على أي عنصر من عناصرها الفعلية. فليس هناك أي سبب يدفع إلى الاعتقاد بأن الضغط الذي تمثله هذه المحكمة سوف يعمل على إسقاط النظام أو يجبره، كما تظن العديد من الأطراف، على الانفتاح على الشعب وتوسيع هامش الحريات المدنية والسياسية. بل إن العكس تماما هو الصحيح. فكما بينت ذلك السنوات الماضية، يشجع الخوف المتزايد من زعزعة الاستقرار أي نظام استبدادي يتعرض لضغوط خارجية قوية، على توجيه مثلها إلى قوى الاحتجاج الداخلية وتدفيعها ثمنها، من خلال تشديد الإجراءات الأمنية وزيادة الاعتقالات وإصدار الأحكام الاستثنائية. بل ليس من المبالغة القول إن لدى مثل هذا النظام مصلحة في أن يستغل هذه الضغوط ليبيح لنفسه إجراءات أمنية تعزز مركزه الداخلي، كان من المستحيل تبريرها في الظروف الطبيعية، لا تهدف إلى تقييد المعارضة وإخماد أنفاسها فحسب ولكن، في ما وراء ذلك، إلى تعقيم المجتمعات والقضاء على فكرة التغيير نفسها، وإخماد روح الاحتجاج والاعتراض والانتقاد بل والتفكير فيها. وربما أمل من خلال ذلك بأن يضمن لنفسه مزيدا من السيطرة على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، ويقنع أصحاب الضغوط الخارجية أن من المستحيل تجاوزه أو الاستغناء عنه في أي مشروع يهدف إلى الحفاظ على الحد الادنى من الاستقرار والأمن ومواجهة مخاطر تعميم الخراب والفوضى الداخلية والإقليمية.
لا يعني هذا أن المحكمة لن تنتج أوضاعا تضر بالنظام، أو أنها تفتقر للمبرر أو الشرعية، أو أن إنشاءها، كما يقول أنصار النظام، مؤامرة دولية. ولكن فقط أن الذي سيدفع ثمن ترويعها النظام سيكون الشعب نفسه والقوى السياسية والمدنية المكافحة من أجل الحرية، وربما حولتهم، كما حصل سابقا في العراق، إلى ما يشبه الرهائن في مواجهة لا يعرف أحد مآلاتها النهائية. ويعني كذلك أنها، حتى في حالة تحولها إلى آلة حرب فعالة ضد النظام القائم، لن تخدم المعارضة السورية، ولن يستخدمها أحد لصالحها، وذلك بالضبط لأنها تندرج ضمن استراتيجية حرف النظر عن الأزمة الكبرى التي تعصف بالمنطقة، وتجنب البحث في حلول المشكلات الحقيقية، وفي مقدمها مسائل الاحتلال والاستيطان الاستعماري والسيطرة الغربية على مصائر شعوب المنقطة وحرمانها من حقوقها الوطنية. فما يتوجب على الولايات المتحدة وأوروبة ويقع على عاتقهما ليس تغيير النظم السياسية وإنما التخلي عن السياسات الاستعمارية أو شبه الاستعمارية التي تفسر وجود هذه النظم، ومعالجة نتائجها المتراكمة منذ عقود، والتي قادت المنطقة إلى الهاوية. فالمحكمة بالضرورة وبالأساس أداة في يد السياسة الأمريكية أو الأمريكية الاوروبية، بصرف النظر، كما ذكرت، عن مشروعية إنشائها أو تماسك الأسس القانونية وغير القانونية التي أقيمت عليها، واستهدافها أطرافا شاركت بالفعل في الأحداث المأساوية التي جرت على الساحة السياسية اللبنانية منذ مقتل رفيق الحريري وبعده. ومن يحلم بالاستفادة من المحكمة الدولية لتحقيق أهداف وطنية سورية، فهو لا محالة يعتقد، او لا يزال يعتقد بأن هدف واشنطن والإدارة الأمريكية القائمة، أو على الأقل أحد أهداف سياستها، في المنطقة المشرقية، هو فعلا الضغط في سبيل تعزيز قضايا الديمقراطية، وتأهيل الشعوب للتمكن من حقوقها السياسية والمدنية. وإذا كان هذا هو اعتقاده فلن يطول الوقت قبل أن يجد نفسه، في سياق المراهنة على هذه الضغوط، واقفا، بإدراك أو من دون إدراك، في المواقع الأمريكية، حتى لو كان من أكثر الكارهين لسياسات واشنطن العدوانية.
من هنا كان ينبغي التذكير بأن المحكمة الدولية ليست بعيدة عن أن تساعد على تطور قضية الديمقراطية في سورية والمنطقة العربية فحسب، ولكنها تشكل أكثر من ذلك وينبغي أن ننظر إليها كمصدر للمخاطر، واستحقاقا من الاستحقاقات الكبرى التي تستدعي من أطراف النخبة الوطنية جميعا التعامل معها بحكمة وحذر، في سبيل محاصرة مفاعيلها وإطفاء النيران التي ستشعلها، إذا أردنا أن لا تتحول إلى فخ نقع فيه جميعا، سلطة ومعارضة ووطنا. وهذا يعني أن نتجنب ما أمكن تحويلها إلى محور استراتيجياتنا السياسة، وأن لا نراهن عليها وعلى نتائجها للهرب من الاستحقاقات الوطنية أو للتغطية على ثغرات سياستنا المختلفة، فيعتقد بعضنا، من الموجودين في مواقع المسؤولية، أنه عثر فيها على الذريعة المناسبة لتشديد قبضة النظام القائم، وتعزيز دفاعاته القانونية وغير القانونية ضد الهزات الداخلية والخارجية، ويعتقد البعض الآخر، من أعضاء المعارضة، التي تعاني محنة التهميش والقمع والقهر، أنه وجد كلمة السر التي ستفتح باب الفرج، وتنقذ مشروع التغيير الذي انعدم الأمل بتحقيقه بقدراتنا الذاتية. ويخشى أننا إذا لم نحسن التصرف، سلطة ومعارضة، إزاء هذه القضية، أن تتحول المحكمة الدولية من فخ منصوب للنظام بهدف تطويعه وتركيعه من قبل الغرب، إلى قنبلة موقوتة تتفجر فينا وتفجر آخر ما تبقى لنا من وهم الدولة الوطنية. والخوف المشروع من مثل هذا الاحتمال هو الذي يفسر في نظري الموقف السلبي الذي اتخذه الرأي العام السوري منذ البداية منها، حتى لو أنه لم يذهب إلى حد تبرئة السلطة من التهم الموجهة أو التي يمكن أن توجه إليها.
والخلاصة، تخيم الهواجس المرتبطة بإقرار المحكمة الدولية على العديد من الصراعات القائمة في بلدان المشرق العربي وتهدد استقرارها. وليس لنا، نحن السوريين، أمل في تجنب المحنة التي قادت إليها في بلدان أخرى، وفي لبنان الذي أصبح رهين أجندتها بشكل خاص، ولا في وقف المواجهة الداخلية العنيفة التي نعيشها منذ سنتين، والعودة إلى مناخ التعايش بين الأطراف، من دون اللجوء اليومي إلى العنف المفرط، وربما استعادة منطق الحوار الداخلي، إلا بفصل أجندة المحكمة الدولية التي تسيطر عليها المصالح الخارجية عن أجندة نزاعاتنا السياسية التي لا تخضع، ولا ينبغي أن تخضع، إلا لحسابات المصالح الداخلية، أي الوطنية. وهذه ليست دعوة لبعض أطراف المعارضة الديمقراطية التي راودتها بعض الأوهام بشأنها كي تصحح موقفها، ولكن قبل ذلك لأطراف النظام الذي ينزع إلى إخضاع السياسات الوطنية والإقليمية بأكملها، وما يرتبط بتحقيقها من مصالح شعبية، لهدف واحد وحيد هو مقاومة المحكمة الدولية واحتواء نتائجها.