الجزيرة نت 31 مايو 07
يعبر الاختزال المتزايد للسلطة العمومية، أي سلطة الدولة، في شخص الرئيس، بل في شخص رئيس، وجعل تقديس هذا الرئيس والتمديد المتواتر له ولأحفاده من بعده، عن أمرين أساسيين. الأول غياب المؤسسات أو ضعف البنية المؤسسية للسلطة، مما يعني تحويل الدولة إلى أداة في يد السلطة المشخصنة نفسها، بدل ان تكون مصدر النظم الضابطة لسلوك صاحب السلطة أو الصلاحية، في أي مستوى كان من مستويات التنظيم الاجتماعي، والثاني افتقار هذه السلطة أو السلطات للشرعية القانونية الناجمة من احترام الشروط أو الأصول الدستورية المعتمدة والتقيد بنصوصها في عمليات استلامها وممارستها وتداولها معا.
فبقدر ما تعكس شخصنة السلطة غياب المؤسسات أو افتقارها الشديد للفاعلية، يعكس تقديس الشخص الحاجة إلى بناء شرعية يستحيل أن تستمد من الممارسة المؤسسية، ولا يمكن تأمينها إلا من خلال وضع الشخص الرئيس نفسه في مقام استثنائي فوق الدولة وفوق القانون، وإضفاء صفات من البطولة والقداسة والفخامة عليه تجعل منه مصدر شرعية استثنائية، لا تناقش بمعايير العقل، أي رسولية إذا صح التعبير، تبدو أمامها الشرعية القانونية، أي السياسية، باهتة وغير ذات معنى. بل يبدو التذكير بها وبمعاييرها افتئات على السلطة الاستثنائية التي يجسدها الرسول، وإنكارا لرسالته بوصفه مؤسس كل شرعية وحياة مدنية معا. فليس الحاكم هنا رئيس دولة إلا في المظهر، أما في الواقع فهو زعيم وقائد ملهم، بل هو مخلص ومنقذ، أرسله القدر، وبه تبدأ مسيرة الجماعة. وهي بالضرورة، مثل مؤسسها، جماعة استثنائية، أو ذات خصوصية استثنائية، لا يمكن أن تكون كالجماعات الأخرى، ولا تستطيع أن تبني سلوكها وحياتها العمومية على القواعد ذاتها التي تصدق على غيرها. فلا جماعة من دونه ولا سياسة ولا وطنية ولا سيادة ولا شرعية خارج إرادته ورأيه. إنه يختصر في ذاته كيان الأمة والدولة معا وجميع المؤسسات الرسمية أو العمومية. وهو العموم وكل ما عداه خصوص وفردية ومصالح شخصية. وأي تقليل من شأن سياساته أو التعرض لأقواله وأفعاله بالنقد أو التصويب يهدد وحدة الأمة ويزعزع استقرار الدولة واستمرارها ويشكل إهانة للكرامية القومية والسيادة الوطنية. فبالشخصنة تحل مشكلة غياب البنية المؤسسية للسلطة، وبالتقديس ووضع الشخص/الدولة موضع الزعامة والقيادة والرسالة، تحل مشكلة غياب الشرعية، ومن ورائها زوال الفكرة القانونية أو انمحاؤها. وبالتمديد الدوري تحل مشكلة استمرارية السلطة ووحدتها. فكما تتعرف الأمة في القائد الملهم والرسول على هويتها، تجد في تقديسه منبع سموها ومصدر أخلاقها وغايتها ونجاعة أعمالها الدنيوية، وتضمن بالتمديد الدائم له ولأحفاده استمرارها ووحدتها وسيادتها. فالزعيم الملهم لا يعوض بسلطته شبه الإلهية عن ضعف الدولة فحسب ولكنه يحل محلها ويستوعبها. فهو الدولة، ومن دونه لا يمكن أن يكون سوى الفراغ والدمار والفوضى.
بالتأكيد لم يأت هذا الوضع من فراغ ولكنه التعبير عن نظام سياسي جديد نجح في أن يحتوي الدولة ويحولها إلى أداة من أدوات سيطرته، بدل أن تكون الإطار الذي يرسم حدود أي سلطة أو نظام سياسي، ويخضعه لقواعد ثابتة، ويفرض عليه التقيد بمعايير يشكل احترامها شرط تقديم المصلحة العمومية على المصالح الخصوصية، وهو أصل الدولة ومنطقها. ووضع النظام فوق الدولة وإخضاعه لها، في مؤسساتها المختلفة، التنفيذية والقضائية والتشريعية والإدارية والتربوية، لم يحصل من تلقاء نفسه، ولكنه ثمرة سياسات عملية طبقتها نخب حاكمة على مدى عقود. ونجحت في تطويع الدولة بقدر ما أفسدت النظم والقواعد الاجرائية والأصول الثابتة التي كانت تقوم عليها المؤسسات السياسية والاقتصادية والقانونية والقضائية والإعلامية والثقافية والنقابية، وغيرها، وفي مقدمتها العبث بالدستور أو التلاعب به حسب المصالح والأهواء الشخصية أو الفئوية. فالنخب العربية الحديثة التي انتزعت السلطة في لحظة استثنائية وفي ظروف استثنائية، في سياق حركات الاجماع الآلي ضد الاستعمار أو عبر الانقلابات العسكرية، كانت تدرك مدى صعوبة الاحتفاظ بالسلطة، وتحويل سيطرتها من سيطرة عرضية إلى سيطرة دائمة، من دون تقويض هذه الأسس والقواعد والأصول التي كانت في اساس الإجماع القومي، وتبديلها بأصول وقواعد أخرى تضمن تأبيد اللحظة الاستثنائية والعرضية.
وبشكل عام، يشتد النزوع إلى إضعاف المؤسسات العمومية وتقويضها أو ينقص حسب ما إذا كان بإمكان النخبة الجديدة أن تفرض نفسها وتضمن استمرارها بوسائل أكثر أو أقل استثنائية وتعسفا. فحاجة النخبة الانقلابية المفصولة عن الشعب، والتي تفتقر إلى أي أمل بتكوين قوة أو قاعدة سياسية واجتماعية عريضة تسمح لها بالتداول الطبيعي والسلمي على السلطة، والاستمرار فيها، تميل بشكل أكبر إلى تفريغ المؤسسات من مضمونها، وإلى اكتساحها لفرض سلطتها من خارج المؤسسات، وعلى حسابها، أي من خلال شبكات المصالح والتحالفات العلنية والضمنية العديدة التي تقيمها من ورائها.
الهدف أن شخصنة السلطة هي عنصر رئيسي في استراتيجية التمديد والتأبيد للحكم القائم. وهي ليست تعبيرا عن نزعة شخصية أو إرادة ذاتية عند الفرد المدفوع إلى موقع الزعامة والقدسية. بالعكس، إن شخصنة السلطة هي اختيار نظام بأكمله، من حيث أن النظام يعني هنا مجموعة المصالح الرئيسية القائمة والمتحكمة بالوضع والمستفيدة منه. فليس هناك فرد يستطيع أن يقدس نفسه أو ينجح في وضع نفسه في موقع المنقذ الملهم. إن الطبقة التي يعتمد عليها، هي التي تدفع به إلى موقع القداسة بقدر ما تشعر أن ضمان مصالحها يكمن في وجود سلطة شخصية تتفاعل معها وتتعامل من وراء القانون وتقلبات السياسة وحساباتها. وبقدر ما تدرك هذه الطبقة أن استمرارها وإعادة إنتاج نفسها لا يمكن أن يتحقق باحترام القانون، حتى لو كان مجحفا، ولكن بتعليق القانون كليا أو بتعليقه على إرادة فرد، فهي تميل إلى اختراع الشخصية الانقاذية، البطولية والرسولية، وتسعى إلى بناء صورتها لبنة لبنة، كبديل عن المؤسسات التي لا تقوم من دون نظم إجرائية قانونية ثابتة ومعروفة، وكتعويض عنها معا.
لكن هذا لا يعني أن فئات الشعب الأخرى لا تشارك أيضا شبكات المصالح الاستثنائية واللاقانونية في إعادة إنتاج نظام السلطة الكاريزمية بشكل أو آخر، ولا تتحمل جزءا من المسؤولية. ففي ظروف انسداد أي أفق لنشوء سلطة إنسانية، مدنية، سياسية، يزداد التطلع إلى سلطة إلهية، أي قادمة من خارج المجتمع والسياسة وغير خاضعة لهما، ويصبح التعلق بالإرادة الفردية الملهمة، الرسولية، تعبيرا عن التعلق بالقانون بقدر ما تتحول السلطة الابوية نفسها إلى قانون، بما يعنيه القانون من ضمان وحدة الجماعة واستمرار النظام العام وبقائه. تبدو السلطة الأبوية الزعامية في هذا الوضع بالنسبة للجمهور العام وكأنها السدادة التي تمنع المارد من الانفلات، والمقصود بالمارد هنا الفوضى الناجمة عن استبداد المصالح الكبرى وسيطرتها اللامحدودة من جهة، وعن الفراغ القانوني والسياسي من جهة ثانية. ففي ظروف مجتمع فقد كفالة الدولة المؤسسية ولم تعد توجد فيه، وراء سلطة الأب القائد ولا الزعيم الخالد، أي سلطة شرعية ذات صدقية، يصبح أي مساس بالسلطة الشخصية، بل أي تغيير للوضع القائم، مرادفا للتضحية بالاستقرار والاستمرار والوحدة "الوطنية". وهي الشعارات التي لا تكف النظم العربية عن التذكير بها في كل مرة تواجه فيها ضغوطا خارجية أو تحديات داخلية تهدد بزعزعة النظام أو تشعر أن من الممكن أن تضعف استقراره. وإذا لزم الأمر، ليس هناك ما يمنع هذه النظم من إعطاء أمثلة حية على مثل هذه المخاطر والتهديدات التي تريد من الرأي العام أن يأخذها بالاعتبار قبل أي تفكير بمصالحه وأوضاعه ومصيره السياسي.
يقود بناء النظام العام القائم بأكمله من حول زعيم فرد، في كل زمان ومكان، إلى الجمود العميق والتحجر في كل مظاهر الحياة المدنية والسياسية والمؤسسية. ذلك أن الزعامة الملهمة ذاتها التي تنشؤها المصالح الخاصة، المافيوية والبيرقراطية والزبائنية، غير الشرعية وغير المبررة، كما كان عليه الحال في النظم الشيوعية مثلا، لا تشكل الضمانة الرئيسية لاستمرار نظام يخرق القانون ويتجاوز المباديء التي ينادي بها فحسب، ولكنها تشكل أيضا، بالنسبة للجمهور العريض المفتقر لأي رؤية جماعية وروح سياسية ومدنية، الكافل الوحيد لما يشبه النظام والاستقرار. وأي مساس بشخص الزعيم أو بموقعه يهدد بانهيار البناء كله. وهذا يفسر ما تعاني منه حركات التغيير الديمقراطي وغير الديمقراطي من مصاعب في استقطاب الجمهور أو حتى اختراقه وتحسيسه بمسؤولياته السياسية.
لكن هذه الصلابة والقساوة التي تشكل مصدر قوة النظم الفردية واللاقانونية، أي المفتقرة لمؤسسات دستورية فعالة، هي نفسها السبب في ما يسم هذه النظم من هشاشة وقابلية للانكسار. فالجمهور المفتقر لأي وعي سياسي أو إرادة سياسية أو شعور بالمسؤولية الجماعية، أي المسلم للزعيم الملهم والمستسلم له، سرعان ما ينقلب عليه وعلى النظام عند أول شعور بفقدانه السيطرة على الوضع، وتزايد شدة العواصف والضغوط الداخلية والخارجية. هكذا ما إن انهارت النظم الشمولية الشيوعية في التسعينات من القرن الماضي حتى ضاع أثرها وذكرها، كما لو أن الشعوب لم تحفظ من تراثها شيئا. وتحولت الأحزاب الشيوعية التي كانت تعد بالملايين إلى أحزاب صغيرة لا تكاد تجمع المئات.
والنتيجة، لا ينبغي للتقنيات البدائية التي تستخدمها النظم العربية لضمان استمرار السلطة وتأبيدها في يد حزب واحد أو رئيس واحد أو أسرة حاكمة واحدة، أن تلهينا بغرابتها ونشازها عن تحليل المعنى الحقيقي لما تعرفه العديد من البلدان العربية من عجز متزايد عن تأسيس قواعد مدنية ثابتة لتداول السلطة وانتقالها وممارستها. ولا أن تحجب عنا المسألة الأساسية المتعلقة بفساد مفهوم السياسة وممارستها في المجتمعات العربية. فاستمرار هذه الظاهرة وتكرار حدوثها في أكثر من بلد عربي يظهر أن الأمر يتجاوز مسألة الرغبة الشخصية أو شهوة السلطة الفردية ويرتبط بطبيعة النظم السياسية القائمة نفسها، بل بآليات عملها الموضوعية التي تفرض نفسها على الأشخاص وتتحكم بهم أكثر مما يتحكمون بها. وهي التي تحولهم من أفراد عاديين، أعني من بشر آدميين، إلى ميكانيك مدفوع بقوة لا يعيها ولا يتحكم بها، تعيد تكوين رغباتهم وإرادتهم وأخلاقهم معا، وتفرض عليهم ممارسات ومواقف خارجة عن طاقة الفرد واختياراته الأخلاقية والفكرية. وهذا هو مصدر الخيبات المتكررة التي يعيشها الجمهور تجاه أفراد يراهن على نزاهتهم لتغيير مجرى الأمور ويفاجأ بأدائهم وتوجهاتهم في ما بعد. وهو ما يفسر أيضا استسلام الجمهور عموما، بل ومشاركته أحيانا في طقوس تبدو لقسم كبير من النخبة السياسية والاجتماعية ممارسات بالية لا تتماشى مع معايير العصر ومتطلباته، لكنها تستجيب في الواقع لمنطق نظام يتعرض اليوم، في جميع البلدان العربية، وبالرغم من المظاهر الخادعة لأقسى وربما آخر امتحان.
يعبر الاختزال المتزايد للسلطة العمومية، أي سلطة الدولة، في شخص الرئيس، بل في شخص رئيس، وجعل تقديس هذا الرئيس والتمديد المتواتر له ولأحفاده من بعده، عن أمرين أساسيين. الأول غياب المؤسسات أو ضعف البنية المؤسسية للسلطة، مما يعني تحويل الدولة إلى أداة في يد السلطة المشخصنة نفسها، بدل ان تكون مصدر النظم الضابطة لسلوك صاحب السلطة أو الصلاحية، في أي مستوى كان من مستويات التنظيم الاجتماعي، والثاني افتقار هذه السلطة أو السلطات للشرعية القانونية الناجمة من احترام الشروط أو الأصول الدستورية المعتمدة والتقيد بنصوصها في عمليات استلامها وممارستها وتداولها معا.
فبقدر ما تعكس شخصنة السلطة غياب المؤسسات أو افتقارها الشديد للفاعلية، يعكس تقديس الشخص الحاجة إلى بناء شرعية يستحيل أن تستمد من الممارسة المؤسسية، ولا يمكن تأمينها إلا من خلال وضع الشخص الرئيس نفسه في مقام استثنائي فوق الدولة وفوق القانون، وإضفاء صفات من البطولة والقداسة والفخامة عليه تجعل منه مصدر شرعية استثنائية، لا تناقش بمعايير العقل، أي رسولية إذا صح التعبير، تبدو أمامها الشرعية القانونية، أي السياسية، باهتة وغير ذات معنى. بل يبدو التذكير بها وبمعاييرها افتئات على السلطة الاستثنائية التي يجسدها الرسول، وإنكارا لرسالته بوصفه مؤسس كل شرعية وحياة مدنية معا. فليس الحاكم هنا رئيس دولة إلا في المظهر، أما في الواقع فهو زعيم وقائد ملهم، بل هو مخلص ومنقذ، أرسله القدر، وبه تبدأ مسيرة الجماعة. وهي بالضرورة، مثل مؤسسها، جماعة استثنائية، أو ذات خصوصية استثنائية، لا يمكن أن تكون كالجماعات الأخرى، ولا تستطيع أن تبني سلوكها وحياتها العمومية على القواعد ذاتها التي تصدق على غيرها. فلا جماعة من دونه ولا سياسة ولا وطنية ولا سيادة ولا شرعية خارج إرادته ورأيه. إنه يختصر في ذاته كيان الأمة والدولة معا وجميع المؤسسات الرسمية أو العمومية. وهو العموم وكل ما عداه خصوص وفردية ومصالح شخصية. وأي تقليل من شأن سياساته أو التعرض لأقواله وأفعاله بالنقد أو التصويب يهدد وحدة الأمة ويزعزع استقرار الدولة واستمرارها ويشكل إهانة للكرامية القومية والسيادة الوطنية. فبالشخصنة تحل مشكلة غياب البنية المؤسسية للسلطة، وبالتقديس ووضع الشخص/الدولة موضع الزعامة والقيادة والرسالة، تحل مشكلة غياب الشرعية، ومن ورائها زوال الفكرة القانونية أو انمحاؤها. وبالتمديد الدوري تحل مشكلة استمرارية السلطة ووحدتها. فكما تتعرف الأمة في القائد الملهم والرسول على هويتها، تجد في تقديسه منبع سموها ومصدر أخلاقها وغايتها ونجاعة أعمالها الدنيوية، وتضمن بالتمديد الدائم له ولأحفاده استمرارها ووحدتها وسيادتها. فالزعيم الملهم لا يعوض بسلطته شبه الإلهية عن ضعف الدولة فحسب ولكنه يحل محلها ويستوعبها. فهو الدولة، ومن دونه لا يمكن أن يكون سوى الفراغ والدمار والفوضى.
بالتأكيد لم يأت هذا الوضع من فراغ ولكنه التعبير عن نظام سياسي جديد نجح في أن يحتوي الدولة ويحولها إلى أداة من أدوات سيطرته، بدل أن تكون الإطار الذي يرسم حدود أي سلطة أو نظام سياسي، ويخضعه لقواعد ثابتة، ويفرض عليه التقيد بمعايير يشكل احترامها شرط تقديم المصلحة العمومية على المصالح الخصوصية، وهو أصل الدولة ومنطقها. ووضع النظام فوق الدولة وإخضاعه لها، في مؤسساتها المختلفة، التنفيذية والقضائية والتشريعية والإدارية والتربوية، لم يحصل من تلقاء نفسه، ولكنه ثمرة سياسات عملية طبقتها نخب حاكمة على مدى عقود. ونجحت في تطويع الدولة بقدر ما أفسدت النظم والقواعد الاجرائية والأصول الثابتة التي كانت تقوم عليها المؤسسات السياسية والاقتصادية والقانونية والقضائية والإعلامية والثقافية والنقابية، وغيرها، وفي مقدمتها العبث بالدستور أو التلاعب به حسب المصالح والأهواء الشخصية أو الفئوية. فالنخب العربية الحديثة التي انتزعت السلطة في لحظة استثنائية وفي ظروف استثنائية، في سياق حركات الاجماع الآلي ضد الاستعمار أو عبر الانقلابات العسكرية، كانت تدرك مدى صعوبة الاحتفاظ بالسلطة، وتحويل سيطرتها من سيطرة عرضية إلى سيطرة دائمة، من دون تقويض هذه الأسس والقواعد والأصول التي كانت في اساس الإجماع القومي، وتبديلها بأصول وقواعد أخرى تضمن تأبيد اللحظة الاستثنائية والعرضية.
وبشكل عام، يشتد النزوع إلى إضعاف المؤسسات العمومية وتقويضها أو ينقص حسب ما إذا كان بإمكان النخبة الجديدة أن تفرض نفسها وتضمن استمرارها بوسائل أكثر أو أقل استثنائية وتعسفا. فحاجة النخبة الانقلابية المفصولة عن الشعب، والتي تفتقر إلى أي أمل بتكوين قوة أو قاعدة سياسية واجتماعية عريضة تسمح لها بالتداول الطبيعي والسلمي على السلطة، والاستمرار فيها، تميل بشكل أكبر إلى تفريغ المؤسسات من مضمونها، وإلى اكتساحها لفرض سلطتها من خارج المؤسسات، وعلى حسابها، أي من خلال شبكات المصالح والتحالفات العلنية والضمنية العديدة التي تقيمها من ورائها.
الهدف أن شخصنة السلطة هي عنصر رئيسي في استراتيجية التمديد والتأبيد للحكم القائم. وهي ليست تعبيرا عن نزعة شخصية أو إرادة ذاتية عند الفرد المدفوع إلى موقع الزعامة والقدسية. بالعكس، إن شخصنة السلطة هي اختيار نظام بأكمله، من حيث أن النظام يعني هنا مجموعة المصالح الرئيسية القائمة والمتحكمة بالوضع والمستفيدة منه. فليس هناك فرد يستطيع أن يقدس نفسه أو ينجح في وضع نفسه في موقع المنقذ الملهم. إن الطبقة التي يعتمد عليها، هي التي تدفع به إلى موقع القداسة بقدر ما تشعر أن ضمان مصالحها يكمن في وجود سلطة شخصية تتفاعل معها وتتعامل من وراء القانون وتقلبات السياسة وحساباتها. وبقدر ما تدرك هذه الطبقة أن استمرارها وإعادة إنتاج نفسها لا يمكن أن يتحقق باحترام القانون، حتى لو كان مجحفا، ولكن بتعليق القانون كليا أو بتعليقه على إرادة فرد، فهي تميل إلى اختراع الشخصية الانقاذية، البطولية والرسولية، وتسعى إلى بناء صورتها لبنة لبنة، كبديل عن المؤسسات التي لا تقوم من دون نظم إجرائية قانونية ثابتة ومعروفة، وكتعويض عنها معا.
لكن هذا لا يعني أن فئات الشعب الأخرى لا تشارك أيضا شبكات المصالح الاستثنائية واللاقانونية في إعادة إنتاج نظام السلطة الكاريزمية بشكل أو آخر، ولا تتحمل جزءا من المسؤولية. ففي ظروف انسداد أي أفق لنشوء سلطة إنسانية، مدنية، سياسية، يزداد التطلع إلى سلطة إلهية، أي قادمة من خارج المجتمع والسياسة وغير خاضعة لهما، ويصبح التعلق بالإرادة الفردية الملهمة، الرسولية، تعبيرا عن التعلق بالقانون بقدر ما تتحول السلطة الابوية نفسها إلى قانون، بما يعنيه القانون من ضمان وحدة الجماعة واستمرار النظام العام وبقائه. تبدو السلطة الأبوية الزعامية في هذا الوضع بالنسبة للجمهور العام وكأنها السدادة التي تمنع المارد من الانفلات، والمقصود بالمارد هنا الفوضى الناجمة عن استبداد المصالح الكبرى وسيطرتها اللامحدودة من جهة، وعن الفراغ القانوني والسياسي من جهة ثانية. ففي ظروف مجتمع فقد كفالة الدولة المؤسسية ولم تعد توجد فيه، وراء سلطة الأب القائد ولا الزعيم الخالد، أي سلطة شرعية ذات صدقية، يصبح أي مساس بالسلطة الشخصية، بل أي تغيير للوضع القائم، مرادفا للتضحية بالاستقرار والاستمرار والوحدة "الوطنية". وهي الشعارات التي لا تكف النظم العربية عن التذكير بها في كل مرة تواجه فيها ضغوطا خارجية أو تحديات داخلية تهدد بزعزعة النظام أو تشعر أن من الممكن أن تضعف استقراره. وإذا لزم الأمر، ليس هناك ما يمنع هذه النظم من إعطاء أمثلة حية على مثل هذه المخاطر والتهديدات التي تريد من الرأي العام أن يأخذها بالاعتبار قبل أي تفكير بمصالحه وأوضاعه ومصيره السياسي.
يقود بناء النظام العام القائم بأكمله من حول زعيم فرد، في كل زمان ومكان، إلى الجمود العميق والتحجر في كل مظاهر الحياة المدنية والسياسية والمؤسسية. ذلك أن الزعامة الملهمة ذاتها التي تنشؤها المصالح الخاصة، المافيوية والبيرقراطية والزبائنية، غير الشرعية وغير المبررة، كما كان عليه الحال في النظم الشيوعية مثلا، لا تشكل الضمانة الرئيسية لاستمرار نظام يخرق القانون ويتجاوز المباديء التي ينادي بها فحسب، ولكنها تشكل أيضا، بالنسبة للجمهور العريض المفتقر لأي رؤية جماعية وروح سياسية ومدنية، الكافل الوحيد لما يشبه النظام والاستقرار. وأي مساس بشخص الزعيم أو بموقعه يهدد بانهيار البناء كله. وهذا يفسر ما تعاني منه حركات التغيير الديمقراطي وغير الديمقراطي من مصاعب في استقطاب الجمهور أو حتى اختراقه وتحسيسه بمسؤولياته السياسية.
لكن هذه الصلابة والقساوة التي تشكل مصدر قوة النظم الفردية واللاقانونية، أي المفتقرة لمؤسسات دستورية فعالة، هي نفسها السبب في ما يسم هذه النظم من هشاشة وقابلية للانكسار. فالجمهور المفتقر لأي وعي سياسي أو إرادة سياسية أو شعور بالمسؤولية الجماعية، أي المسلم للزعيم الملهم والمستسلم له، سرعان ما ينقلب عليه وعلى النظام عند أول شعور بفقدانه السيطرة على الوضع، وتزايد شدة العواصف والضغوط الداخلية والخارجية. هكذا ما إن انهارت النظم الشمولية الشيوعية في التسعينات من القرن الماضي حتى ضاع أثرها وذكرها، كما لو أن الشعوب لم تحفظ من تراثها شيئا. وتحولت الأحزاب الشيوعية التي كانت تعد بالملايين إلى أحزاب صغيرة لا تكاد تجمع المئات.
والنتيجة، لا ينبغي للتقنيات البدائية التي تستخدمها النظم العربية لضمان استمرار السلطة وتأبيدها في يد حزب واحد أو رئيس واحد أو أسرة حاكمة واحدة، أن تلهينا بغرابتها ونشازها عن تحليل المعنى الحقيقي لما تعرفه العديد من البلدان العربية من عجز متزايد عن تأسيس قواعد مدنية ثابتة لتداول السلطة وانتقالها وممارستها. ولا أن تحجب عنا المسألة الأساسية المتعلقة بفساد مفهوم السياسة وممارستها في المجتمعات العربية. فاستمرار هذه الظاهرة وتكرار حدوثها في أكثر من بلد عربي يظهر أن الأمر يتجاوز مسألة الرغبة الشخصية أو شهوة السلطة الفردية ويرتبط بطبيعة النظم السياسية القائمة نفسها، بل بآليات عملها الموضوعية التي تفرض نفسها على الأشخاص وتتحكم بهم أكثر مما يتحكمون بها. وهي التي تحولهم من أفراد عاديين، أعني من بشر آدميين، إلى ميكانيك مدفوع بقوة لا يعيها ولا يتحكم بها، تعيد تكوين رغباتهم وإرادتهم وأخلاقهم معا، وتفرض عليهم ممارسات ومواقف خارجة عن طاقة الفرد واختياراته الأخلاقية والفكرية. وهذا هو مصدر الخيبات المتكررة التي يعيشها الجمهور تجاه أفراد يراهن على نزاهتهم لتغيير مجرى الأمور ويفاجأ بأدائهم وتوجهاتهم في ما بعد. وهو ما يفسر أيضا استسلام الجمهور عموما، بل ومشاركته أحيانا في طقوس تبدو لقسم كبير من النخبة السياسية والاجتماعية ممارسات بالية لا تتماشى مع معايير العصر ومتطلباته، لكنها تستجيب في الواقع لمنطق نظام يتعرض اليوم، في جميع البلدان العربية، وبالرغم من المظاهر الخادعة لأقسى وربما آخر امتحان.