mercredi, octobre 25, 2006

في معنى المقاومة الوطنية

الاتحاد 25 اكتوبر 06

قلت في مقال سابق أن الرأي العام العربي ممزق بين خيار إصلاح الدولة، بالرغم من كل ما يسمها من نقائص، وفي مقدمها ارتهانها للإرادة الخارجية، المافيوية والأجنبية، على أمل تحسين شروط عملها، وخيار المقاومة الذي يعكس انهيار الثقة بالدولة ويطمح إلى بناء سلطة أهلية، متحررة من الهيمنة الأجنبية، وقادرة على تلبية مطالب المجتمعات المتعلقة بالاستقلال الضامن للكرامة والهوية. وبينت في مقال آخر كيف أن سياسات السيطرة الخارجية قد قوضت مشروع الدولة ووضعته على طريق مسدود، كما يشير إلى ذلك تعثر خطط الاصلاح وموتها قبل أن ترى النور. وبالمثل كيف أن المقاومة التي نشأت في سياق الصراع ضد الدولة القاصرة، وعلى أنقاض الوطنيات التي نشأت بعد الاستقلال، قد ولدت بالضرورة في إطار مقاومات محمولة على العصبية، مما يحرمها من أي أمل في أن تقود إلى طريق آخر غير الصدامات المذهبية والطائفية والإتنية والدينية. فهي بالتعريف غير قادرة على إعادة بناء الوطنية السياسية التي تشكل روح الدولة القانونية، التي تساوي بين المواطنين وتجمع بينهم في إطار سياسي واحد يتجاوز الولاءات الجزئية العقائدية والإتنية.
وكل يوم يمر يتأكد فيه بشكل أكبر الوصول إلى هذا الطريق المسدود الذي دخل فيه مشروع الدولة، وطريق الفوضى الذي يهدد بإدخالنا فيه مشروع المقاومات المذهبية. وما حصل في الأيام القليلة الماضية من استعراض ميليشيات القاعدة لقوتها في شوارع الرمادي العراقية يعكس تماما مستقبل المجتمعات الخاضعة لمقاومات لا يمنعها عداؤها الفعلي والقاسي للأجنبي من أن تسير في اتجاه بناء إمارات تحكمها ميليشيات خاصة، تلغي مشروع الدولة القانونية، وتقود حتما إلى تعميق الانقسامات والنزاعات الداخلية. تماما كما عكس انهيار حلم الدولة الفلسطينية الموعودة، وتفجر الصراع على السلطة الوطنية الوهمية بين القوى القومية والاسلامية في فلسطين، المازق الذي وصل إليه مشروع الدولة المرتهنة للاجنبي والمفرغة من الاستقلال والسيادة.
في هذه الحالة على ماذا يمكن للشعوب العربية أن تراهن للخروج من الوضع المتردي الذي تعيشه على جميع المستويات، وما هو البديل لسياسات إصلاح الدولة وتوسيع عمليات المقاومة؟
والجواب أنه لا يمكن الفصل بين الدولة والمقاومة أصلا . فالدولة الحديثة من حيث هي دولة المواطنين، والتجسيد لإرادتهم تفترض من داخلها مبدأ المقاومة، أي التصدي لكل محاولات مصادرة هذه الإرادة من قبل قوة داخلية أو خارجية، ولا تستقيم من دون ضمان حق المقاومة، بل الثورة، لتأكيد قيم الحرية والمواطنية والسيادة الشعبية ضد مغتصبيها. وبالمثل ليس لأي مقاومة قيمة وشرعية إذا لم تقد إلى بناء هذه الدولة القانونية المواطنية التي تضمن الحريات والحقوق المتساوية. والفرق بين التمرد والمقاومة يكمن بالضبط في أن التمرد هو سمة الحركات التي تقف ضد الدولة رفضا للقانون والشرعية، بينما تقوم المقاومة لتأكيد تطبيق القانون المصادر وشرعيته. فأي دولة من دون ضمان حق مقاومة الشعب مدانة بالتحول إلى مملكة خاصة، بل مزرعة للمسكين بها، وأي مقاومة لا تنطلق من مبدأ تحقيق الحرية والسيادة الشعبية والقانون تتحول إلى تمرد يعطل إمكانية نشوء دولة جديدة مؤسسة على مباديء العدل والشرعية بدل تقريب اجلها. وهذا الارتباط بين المقاومة التي تجسد المصدر الشعبي للسلطة، وتعبر عن إرادة المجتمع التي تكمن وراء الدولة، وتضمن السير السليم لمؤسساتها، والدولة التي تشكل التجسيد المؤسساتي لحكم الحرية والسيادة والقانون، هي أساس تنظيم الإرادة الشعبية على أسس قانونية وعقلانية سليمة.
ولم يحصل الانفصال والتعارض بين مشاريع الدولة ومشاريع المقاومة إلا بقدر ما حصل إفسادهما معا وأفراغهما من مضمونهما. فانحط معنى الدولة ليطابق واقعها الراهن المساوي لفكرة التسلط بالقوة على مقدرات شعب وموارده وتحويله إلى أداة لخدمة السلطة والممسكين بها، وانحط معنى المقاومة لتصبح قناعا لمشاريع حروب أهلية سافرة أو خفية. وهكذا خرجت الدولة عن إرادة المجتمع وعليه وتحولت المقاومة إلى ذريعة لتشريع الميليشيات الأهلية المناوئة لفكرة الدولة والسلطة المركزية. هذا يعني أنه لا ينبغي لإخفاق شبه الدولة التي نشأت في بلداننا تحت الوصاية الاستعمارية المستمرة، ان تدفعنا إلى الكفر بمفهوم الدولة كإطار شرعي وعقلاني وحيد لتنظيم الحياة الاجتماعية أو جزء كبير منها. ولا ينبغي كذلك أن تدفعنا المقاومات المرتبطة بالانقسامات العصبوية، المذهبية والطائفية أن يسود في أفهامنا معنى المقاومة الوطنية والانسانية. فالمطلوب هو، بالعكس، استعادة مشروع الدولة وانتزاعه من حجر استراتيجيات السيطرة الدولية وتأهيله، وإصلاح المقاومة الأهلية التي لا سيادة لدولة ولا لحرية لأفرادها من دونها. وهو ما يتطلب العمل على إعادة الانسجام بينهما، بوصفهما مبدأين ناظمين للحياة السياسية في عصرنا: مبدأ السيادة (للدولة) والحرية (للمجتمع). فبالحرية نضمن عدم استلاب الدولة للقوى الخارجية، محلية او اجنبية، وبالسيادة نقي المقاومة من التحول إلى تمرد وخروج على القانون والشرعية. أي نؤكد تحرير الدولة من ارتهانها لغير الإرادة الاجتماعية، وتحرير المجتمع من الارتهان لإرادة قوى معادية للدولة، ومانعة من إعادة بنائها كدولة مواطنيها، بصرف النظر عن إنتماءاتهم وأصولهم الإتنية.
لا ينشأ هذا الانسجام بين المبدأين من تلقاء نفسه، ولكنه يحتاج إلى البناء. ويستدعي البناء العمل الواعي والدؤوب ضد الانحرافين القائمين معا: على صعيد بنية الدولة وبنية المقاومة. وبقدر ما يعكس هذان الانحرافان تحلل العقد الوطني، يستدعي تصويب عمل الدولة والمقاومة انبعاثا أو بعثا فكريا وسياسيا لفكرة الوطنية الجامعة. وكما أن قصر الوطنية العربية في المرحلة القومية السابقة على مواجهة السيطرة الغربية وتاكيد الذات ضد الآخر كان هو السبب الرئيسي في موتها، بعد ان قادها إلى سراديب التسلطية المظلمة، تشكل إعادة إحياء قيم المواطنية، والدفاع عن الحريات الفردية، وحق المقاومة الاجتماعية لسلطات الفساد والنهب والتسلط السائدة، أي لتمرد النخب الحاكمة على الشرعية والقانون، الشرط الرئيسي لولادة وطنية عربية جديدة وانبعاثها. وهي شرط إعادة بناء الدولة كدولة سيدة وفي الوقت نفسه دولة مواطنيها ومبرر وجودها.
وبقدر ما يتقدم هذا النشاط النقدي، الأخلاقي والفكري والسياسي، الذي يتصدى لتحقيق مهامه مثقفون وناشطون مدنيون وسياسيون من كل الاتجاهات، تتطور بإزائه حركة مقاومة وطنية تجمع بين مهام التصدي للاستبداد، وما يمثله من اغتصاب الدولة ومصادرة الإرادة العامة، وتغليب الولاءات الخاصة على الخضوع الطوعي الجامع للقانون من جهة، ومهام التصدي للهيمنة الأجنبية التي تمنع الدولة من الانصياع لإرادة مجتمعها ومواطنيها من جهة ثانية. في هذه الحالة لن تكون المقاومة لا نقيضا للدولة وسيطرة حكم القانون، ولا وسيلة للتغطية على الحرب الأهلية واغتصاب الإرادة العامة، ولكن عملية إعادة بناء أخلاقية وقانونية وسياسية للحقيقة الوطنية، على مستوى المجتمع المدني ومستوى الدولة معا. وتتطابق مع عملية تأهيل الدولة لجعلها دولة الجماعة، وتأهيل الجماعة لجعلها جماعة سياسية مدنية متجاوزة للانقسامات العصبوية. وفي هذه الحالة سيحل محل التعارض المصطنع بين الدولة كرمز للسيادة، والمقاومة كرمز لتأكيد الهوية الاجتماعية والشعبية، وحدة عميقة بين الدولة كقاعدة للحياة القانونية والمؤسسية التي تضمن حقوق الأفراد وحرياتهم وتطمئنهم عليها، والمقاومة التي تشكل روح الوطنية السارية في الدولة والجاهزة في كل مرة تتعرض فيها للتهديد، من الداخل والخارج، إلى الانطلاق لتثبيت مباديء السيادة والاستقلال تجاه العدوان الخارجي الواقع، وتثبيت حقوق الأفراد وحرياتهم تجاه العدوان الداخلي الناجم عن جنوح بعض جماعاتها إلى مصادرتها لجعل الدولة آلة في خدمة مصالحهم الخاصة وتلبية مطامعهم.
الدمج بين الدفاع عن الوطن ضد الضغوط الخارجية، والعمل على تحريره من شياطينه الاستبدادية والطائفية والمذهبية الداخلية، وتعميم رؤية ديمقراطية تؤكد على حقوق الأفراد وحرياتهم وعلى المساواة التامة في ما بينهم ينبغي أن يكون إذن جوهر برنامج المقاومة العربية المنشودة، بقدر ما يشكل هو نفسه أساس بناء الوطنية وتجاوز النزاعات والانقسامات العصبوية في أي مكان.
باختصار، ليس من الممكن بناء دولة من دون وطنية جامعة تقف وراءها وتكون حاملة لها ومحركة لمؤسساتها وآلتها. وأصل الوطنية اليوم ليس العرق ولا اللغة ولا الثقافة ولا الإرادة المشتركة بقدر ما هو أجندة سياسية تاريخية. وعندما نقول أجندة فنحن نعني أن الأمة برنامج عمل وليست شيئا معطى، وراثة عن الأجداد، أو إفرازا لحقائق ومباديء فكرية. إنها تنشأ وتنمو وتتطور وتنضج بقدر ما تتوفر للجماعة سياسات عملية تمكنها من حل التناقضات الخارجية، أي مسألة السيادة وتأمين هامش مبادرة وطنية مستقلة والتناقضات الداخلية، الأفقية والعمودية، التي تقسمها أو تباعد بين أطرافها وتمنع من تكوين إرادة عامة جامعة لا بد منها لتحويلها إلى ذات فاعلة. ولهذا لن يكون من الممكن إعادة بناء الوطنية العربية المزعزعة من دون النجاح في الوصول إلى أجندة وطنية عربية يتحد فيها ويترابط بطريقة ديناميكية هدف انتزاع القرار الوطني من الوصاية الخارجية من جهة، وإعادة استملاك الشعب للدولة القائمة وتأهيلها وأنسنتها من جهة ثانية.
فليس من الممكن بلورة أجندة وطنية عربية مع بقاء الدولة والدول رهينة الاستراتيجيات الأجنبية أو تحت رحمتها، أو في قبضة قوى محلية منفصلة عن المجتمع وخائفة منه. وليس من الممكن أيضا بلورة أجندة وطنية من دون إحياء الوطنية الجامعة التي دمرتها المقاومات العصبوية، وإعادة بنائها على أسس العدل والحرية والمساواة والتضامن بين أعضائها، وتربية الأفراد على الاعتراف والاحترام المتبادلين وروح التعاون والتضحية ونكران الذات، لصالح الهدف الجماعي الأسمى. فهذه الوطنية هي التي تضمن تحويل الدولة إلى دولة حقيقية، دولة مواطنيها، وتسمح لها بانتزاع هامش مبادرة فعلي في إطار العمل الإقليمي والدولي، تجاه الدول والقوى المهيمنة الأخرى. وفي مثل هذه الدولة لن يبقى هناك أي تعارض بين مهام بناء السلطة كسلطة سياسية وقانونية ديمقراطية، ومهام بناء السياسة الخارجية كسياسة تأكيد للاستقلال ومقاومة التدخلات الأجنبية والحفاظ على وحدة الإرادة الوطنية وتعزيزها. وعندئذ لن تنفصل السياسة عن العقيدة ولا الجماعة عن الدولة.
وبقدر ما ننجح في تحويل الدولة إلى دولتنا، أي موطن إجماعنا ومختصر إرادتنا كجماعة نستطيع أن نتجاوز نزاعاتنا وأن نوحد انفسنا، وأن نعيد في الوقت نفسه بناء علاقاتنا الدولية أيضا، على أسس مختلفة تضمن استقلالنا وسيادتنا. فليست المقاومة كما نريدها ونفهمها في حقيقة الأمر سوى النزوع إلى السيادة الجمعية التي تخونها الدولة، الوكالة الأجنبية أو المزرعة الشخصية والعائلية. وليست الدولة المرضعة، أو البقرة الحلوب للقابضين عليها، سوى التعبير المباشر عن انفصال الدولة عن مجتمعاتها وتحولها إلى أداة لإخضاع هذه المجتمعات ونزع السيادة والكرامة والفضيلة عنها. وإذا لم ننجح في إصلاح مفهوم المقاومة ومفهوم الدولة معا، من الممكن أن لا يكون ما قام به حزب الله سوى آخر صفعة أمكن للعرب توجيهها لاسرائيل الصاعدة والمتفوقة حتى زمن طويل.
ينجم عن ذلك أنه لا ينبغي علينا، مهما وصل وضع الدولة من امتهان لصالح القوى الخارجية، ولا أقصد بها الأجنبية فحسب، أن نتخلى عن نقد الدولة، بما يعنيه هذا النقد من تأكيد أولويتها وتبيان طرق إصلاحها ووسائله، أي ضرورة إنقاذ فكرتها من الضياع والفساد. فهذا ما يعزز مكانتها باعتبارها إطار التنظيم الوحيد الذي نصبو إليه، في مقابل مشاريع التنظيم الطائفي والإتني والمذهبي الذي يفتن قطاعات واسعة من الرأي العام العربي اليوم، بسبب انهيار الايمان بشبه الدولة القائمة وقرف الجمهور منها ومن وسائل عملها القمعية.
كما ينجم عنه ضرورة تجاوز مفهوم المقاومة الذي نشأ في سياق سقوط الدولة تحت السيطرة الخارجية وانفصالها عن المجتمع وفقدانها لحقيقتها الوطنية، والذي يحصر معنى المقاومة بالمهام الموجهة نحو إزالة الهيمنة الأجنبية، مبررا أي نوع من أنواع المقاومة، مهما كانت الأسس والمباديء التي يقوم عليها، طائفية أو مذهبية أو إتنية. والواقع أن إزالة الاستبداد الذي يشكل أساس التفاهم بين النخب المحلية المغتصبة للسلطة والهيمنة الأجنبية المستفيدة منها، ينبغي أن يكون الهدف الأول لأي مقاومة وطنية. والنجاح فيه هو شرط إنقاذ مشروع الدولة المهدد وشرط تحرير إرادة الشعوب وتنظيمها لتحقيق النجاح في مقاومة الهيمنة الخارجية. ولا ينبغي أن تخدعنا المظاهر والشعارات. فتركيز النظم الاستبدادية التي تجمعهما رسالة قتل الحرية وانتهاك حقوق شعوبهما كما لا يفعل أي طرف أجنبي، على خطاب العداء للخارج والانتقام منه، لا يهدف سوى إلى حرف أنظار الرأي العام عن السيطرة الداخلية شبه الاستعمارية، والتغطية على الطابع الطائفي والعصبوي للنظم وحركات التمرد والانشقاق والتصدع المنتشرة اليوم في المجتمعات العربية. وهي لا تقصد من وراء ذلك سوى إلى قطع الطريق على بلورة أجندة وطنية لصالح تمرير أجندة السلطة التسلطية أو فرضها. فلا يمكن للنظام القائم على لجم الرأي العام وإخضاعه والسيطرة عليه بالقوة ومنعه من الحركة، أن يكون هو نفسه نظام المقاومة والصمود والعمل على استعادة حقوق الشعب في وجه الضغوط الخارجية. فليس هناك ما يدفع النخب التي تنتهك حقوق شعوبها وتتكل بهم وتحرمهم من حق المشاركة إلى أن تضحي من أجل تأكيد هذه الحقوق تجاه القوى الأجنبية. إن التركيز على العداء للأجنبي غالبا ما يهدف لدى مثل هذه الأنظمة إلى طمس حقيقة الحرب التي تشنها على مجتمعها. ولا يمكن لنظام لا يستمر إلا بتخليد الحرب الأهلية وتقسيم المجتمعات وتفتيتها وشل إرادتها أن يكون، مهما فعل، نظام مقاومة وطنية. وأفضل مثال لما تطمح إليه هذه الأنظمة وما يمكن أن تقود إليه معا هو النظام الليبي الذي انتهت به معاركه الطاحنة ضد السيطرة الأجنبية إلى التسليم الكلي لها بعد ضمان مصادقة الدول الاستعمارية على سيطرته وعائلته على مقدرات البلاد التي يحكمها بالقوة والاحتيال.
إن رفض حصر معنى المقاومة في ممانعة الخطط الأجنبية أو التصدي لها لا يعني تجاهل هذه الخطط وغض النظر عنها، أو كما يفعل بعض اليائسين، التغطية عليها، أو النظر إليها باعتبارها ثانوية، ولكن بالعكس. إنه يعني أن معركة التحرر من الهيمنة الأجنبية تمر اليوم باقتلاع جذور التسلط الداخلي الذي يقدم الشعب مكتوف اليدين، ويحرمه من فرصة الدفاع عن نفسه وحقوقه. وأن تجاهل معركة الحرية لصالح مقاومة الهيمنة الخارجية أو فصلهما الواحدة عن الأخرى يجعل المقاومة تعمل لصالح النظم الاستبدادية التي هي الضمانة الحقيقية والوحيدة لنظم السيطرة الخارجية. من هنا ليست مقاومة وطنية تلك التي ترفض أن تضع التصدي للخطط الأجنبية في إطار مشروع أشمل يهدف إلى إعادة بناء الأوضاع السياسية والقانونية على أسس الحرية ويعمل على توحيد الشعب بجميع قطاعات رأيه العام ومكوناته الدينية والأقوامية والسياسية. وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق فرض الرأي الواحد أو إلغاء الآخر أو العمل تحت شعارات مذهبية أو طائفية أو دينية. إن مقاومة وطنية بالفعل لا تقوم من دون عقيدة وطنية جامعة، سياسية، تتيح لأي فرد إمكانية الانتماء والانخراط فيها من دون تمييز، وتجعل من هذا الانتماء المفتوح على الجميع قاعدة لإعادة لحم الكسور المجتمعية. وإن مقاومة وطنية حقيقية لا تقوم من دون رؤية واضحة ومنطقية، مقبولة ومشروعة بالنسبة للقسم الأكبر من الرأي العام، لإعادة بناء علاقات السلطة ونظم الحكم والإدارة والتنظيمات الاجتماعية. باختصار، ليست وطنية تلك المقاومة التي ترفض اليوم برنامج الديمقراطية. ولا يمكن للمقاومات التي تستند على عصبيات طائفية أو مذهبية أو أقوامية أن تبني أسسا صالحة لإعادة توليد إرادة جامعة وإحياء الوطنية وبعثها، ولا لإعادة بناء الدولة وتعزيز فرص إقامة المؤسسات السياسية والقانونية التي يقبل الجميع الخضوع لها والعمل من ضمنها.

dimanche, octobre 15, 2006

الشروق الجزائرية 15 اكتوبر 06 المتطرفون الغربيون والاسلام

المتطرفون الغربيون يجرون المسلمين إلى معارك دينية

حوار ليلى لعلالي

السؤال 1 :
أثارت تصريحات بابا الفاتيكان الأخيرة حول الإسلام موجة من الاحتجاجات الشعبية و انتقادات رجال الدين والسياسة، ولكن البابا لم يعتذر كما لم تعتذر من قبل حكومة الدانمارك اثر نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول محمد "ص" . ألا تعتقد أن العرب باتوا بحاجة الآن الى عقول تفكر وتنتج للتعريف بهوية العرب والمسلمين وإيصال الحقيقية الى الآخر بالوسائل التي يفهمها ويحترمها ؟

غليون:
هذا يعني أنه لو لم يقل البابا ما قاله في محاضرته، أو لو أنه اعتذر عنه، لما كانت هناك حاجة عند العرب للتفكير والتعريف بالهوية وايصال الحقيقية إلى الآخر بالوسائل التي يفهمها؟ وهل أصل التفكير رد الإساءة؟ ولماذا نحن مهتمين إلى هذه الدرجة بالآخر وما يقوله عنا وغير مهتمين إطلاقا بواقعنا نفسه، الذي هو أسوأ بكثير مما نظن، وكذلك بما نقوله نحن عن أنفسنا. فلم أسمع عربيا واحدا منذ سنوات لا يتهم قومه بالتخلف والتفكك وانهيار المعايير الخلقية والمدنية. هل صورتنا عن أنفسنا نحن العرب والمسلمين صورة ايجابية حتى نطلب من الآخرين أن ينقلوا عنا هذه الصورة، وهل تسمح أوضاعنا على جميع المستويات، خاصة على المستوى الأخلاقي والمدني والسياسي، بأن نكون صورة ايجابية عن ذاتنا وأن يبلور الآخرون صورة ايجابية عنا؟ الواقع هو المهم إصلاحه، أقصد واقعنا. وتضخيم أخطاء الآخرين ليس سوى وسيلة للهرب من هذا الواقع والسعي للتغطية عليه وطمسه. أي الاصرار على الاستمرار في تبرير العجز عن تغيير الواقع العربي والاسلامي وإصلاحه.


السؤال 2 :
هل كانت تصريحات البابا مجرد هفوة من هفوات الغرب أم أنها كانت مقصودة ، وكيف يمكن أن يتحقق الحوار بين الشرق والغرب في ظل وجود تيارات داخل كلا الطرفين لا تريد لهذا الحوار أن ينجح من منطلقات معروفة ؟

غليون:
ما الفرق في أن تكون هفوة أو مقصودة؟ وحتى لو كانت محاولة للاستفزاز، فهل علينا أن نسير في اللعبة ونستفز وندخل في منطق الحرب الحضارية كلما أراد بعض المتطرفين الاسرائيليين وحلفائهم الغربيين إدخالنا فيها لتشديد الحصار علينا وتشديد عزلتنا العالمية؟ ما دمنا مقتنعين بأن ديننا ليس دين عنف، وهو بالفعل ليس دين عنف بأي حال، فلماذا تثير لدينا أخطاء بعض الغربيين في قراءة تراثنا، أو سعيهم إلى استدراجنا إلى معارك ايديولوجية ودينية، كل هذه الثورة وذاك الطوفان من الانفعال وردود الأفعال؟ من لديه مشروع خاص لا يخضع للاستفزازات ولكنه يعمل على تحقيقه بأي ثمن، وبصرف النظر عن رأي الآخرين وردود أفعالهم. ومشكلتنا أنه لم يعد لدينا أي مشروع تاريخي أو اجتماعي أو سياسي سوى الرد على من يتهجم علينا، مشجعين بذلك كل من لديه رغبة في الشهرة على استخدام التهجم علينا والاساءة لنا كي يحظى بدرجة من الانتشار والحظوة الدولية ما كان ليحلم بهما في أي مناسبة أخرى. ردود أفعالنا الانفعالية المتطرفة أصبحت تربة خصبة لانتاج الأفكار المعادية للعرب والمسلمين والتحرش بهم.
ثم ما علاقة كل ذلك بالحوار؟ ومن قال إن الحوار لا يستمر إلا إذا خرست الأصوات المتطرفة والاستفزازية؟ أولا، نحن لسنا في حوار مع أحد، والشعب الذي يرفض الحوار بين أطرافه لا يقبل الحوار مع الآخرين، ولا يعرف كيف يحاورهم. نحن نتحدث عن حوار، والغربيون كذلك، لكن ليس هناك أي حوار منظم ولا نقاش جدي حول أي نقطة مهمة في ملف العلاقات العربية الاسلامية الغربية. ثم إن وجود متطرفين يرفضون الحوار ليس سببا لقطعه بل العكس هو الصحيح. إنه يستدعي تعميقه لعزل المتطرفين وتجاوز المحن التي يمكن أن يجرونها على الشعوب بسبب تطرفهم وتجاهلهم للمصالح المشتركة التي يمكن أن ينمونها فيما بينهم لصالحهم جميعا.

السؤال 3 :

هناك حالة جمود فكري في الوطن العربي، تظهر من خلال غياب دور المفكر وغياب تأثيره في الساحة وفي المجتمع الذي يعيش بداخله . كيف يمكن تحرير الفكر العربي من هذا الجمود ؟

غليون:

أولا تحرير الفكر لا يتم بقرار من أحد. فإما أن ينمو فكر حر في المجتمعات أو أن الشروط والظروف الداخلية والخارجية لا تسمح بنمو فكري ويبقى الفكر جامدا. وليس هناك علاقة بين جمود الفكر ودور المفكرين في الحياة العامة. فقد يكون هناك فكر حر ومتحرر ونضالي أيضا لكن من دون أن ينعكس في دور واضح للمفكرين على مسار الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهذا أقرب إلى وصف الوضع العربي الراهن من فكرة الجمود. ضعف دور المثقفين والمفكرين في الحياة العامة العربية ناجم عن جمود النظام السياسي العربي وتحوله حلقة مغلقة على بعض المجموعات البيرقراطية العسكرية والأمنية والمافيوزية، وعزل المفكرين والرأي العام بأكمله، أكثر بكثير مما هو ثمرة لجمود الفكر العربي. السؤال متى يمكن تحرير النظام السياسي من الاستعمار البيرقراطي والزبوني المدمر حتى يمكن إطلاق عملية المشاركة السياسية الواسعة التي تضم المفكرين وغيرهم من المواطنين، كما تفتح النقاش الوطني الحقيقي والعقلاني حول جميع المسائل التي لا يزال من الممنوع الحديث الجدي والعقلاني فيها، أو التي تحول الحديث فيها إلى كليشيهات جامدة ووصفات مبسطة تعكس الفراغ الفكري والسياسي للطغم الحاكمة والأجهزة الأمنية التي تعتمد عليها وتخضع لمنطق عملها في الوقت نفسه.
السؤال 4 :

تكتب كثيرا عن الديمقراطية المفقودة في الدول العربية وخاصة في بلدك سوريا .
كيف يمكن أن تتحقق هذه الديمقراطية إذا كان هناك عجز عن تغيير الأنظمة الاستبدادية، وإذا كان مشروع الإصلاح الأمريكي قد أعطانا نموذج العراق؟

غليون:
من قال إن العمل النظري والسياسي من أجل الديمقراطية لايكون مشروعا إلا إذا تغيرت الأنظمة الاستبدادية أو كانت هناك قوى قادرة على تغييرها؟ وما علاقة المعركة العربية من أجل الديمقراطية التي يخوضها ملايين المثقفين والسياسيين والمواطنين العرب، ويضحون بسنوات طويلة من عمرهم في السجون، وأحيانا يفقدون فيها حياتهم تحت التعذيب أو بالقتل والاغتيال والاختطاف، بمشروع الاصلاح الأمريكي الذي أعطانا الوضع العراقي نموذجا عنه؟ وكيف تسمحين لنفسك بتقويض شرعية الكفاح الديمقراطي في العالم العربي، الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من معركة إنسانية تضم كل المجتمعات، من أجل انعتاق الشعوب وفرض احترام إرادتها على الحكام الطغاة والظالمين، وتأكيد حقها في المشاركة في تقرير المصير العام، وضمان حقوق الانسان والحد من الانتهاكات الصارخة لها، بالربط التعسفي بين هذا الكفاح الانساني العظيم واستراتيجيات السيطرة الاستعمار الأمريكية أو الغربية التي تطلق شعارات فارغة لخداع الرأي العام وايقاع التشويش في الوعي العربي والاسلامي؟ ألا يعبر سؤالك عن نجاح الولايات المتحدة في تحقيق هذا الهدف حتى عند النخبة العربية بجعل نفسها وصيا على الديمقراطية وجعل الديمقراطية لا شرعية لأنها مرتبطة بالمشاريع الأمريكية، بينما يصبح الطغيان، الذي هو البضاعة السياسية الوحيدة التي سوقها الغرب والولايات المتحدة في بلادنا خلال أكثر من ستين عاما حسب تصريح الرئيس الأمريكي جورج بوش نفسه، هو الحكم الوطني أو نموذج الحكم الوطني وبالتالي الشرعي الوحيد أيضا؟
الكفاح من أجل الديمقراطية في البلاد العربية والاسلامية هو التعبير عن طموح العرب إلى الحداثة والحضارة والتقدم السياسي والفكري والأخلاقي، كباقي الشعوب والمجتمعات الأخرى، وليس له علاقة بمشروع الاصلاح الأمريكي المذكور. وهو كفاح مستمر منذ عقود، وتعبر عنه انتفاضات وثورات لم تتوقف لم يكن الأمريكان حلفاؤها ولكن العكس تماما. ثم إن ما تسميه بمشروع الاصلاح الأمريكي ليس سوى فقاعة أطلقت للفت الانظار وتبرير احتلال العراق والتغطية عليه، لم تلبث حتى انفجرت وتبين فراغ مضمونها اليوم. وقد كفت واشنطن عن الحديث في الاصلاح وعن الضغط على النظم العربية التي دعتها من قبل لتطبيق الاصلاح. اليوم لا أحد يتحدث عن شيء آخر، لا في سورية ولا غيرها، سوى عن الحرب ضد الارهاب الذي يريد الأمريكيون والحكام العرب إقامة تحالفهم الجديد على قاعدتها. والحكومات التي ترددت لفترة في القبول بإقامة تحالف جديد مع واشنطن على هذه القاعدة بسبب خوفها على المساس في هذا السياق ببعض أدوات عملها الإقليمي، تراجعت عن ترددها السابق، ولا تطلب شيئا آخر سوى قبولها في هذا التحالف وتطمينها على وجودها بعد ما حصل من توتر خطير في علاقاتها مع واشنطن بسبب المساومة على ثمن الدخول في هذا التحالف ودورها فيه.

السؤال 5 :
يعرف عن الأستاذ غليون انتقاده المستمر للنظام السوري بسبب سياسة التضييق التي يمارسها على حرية الرأي والفكر .هل ما زلت على موقفك، ولماذا تلوم النظام مادامت قوى التغيير ومن بينها النخبة والأحزاب السياسية تفشل في تحقيق التغيير وفي طرح البدائل ؟

غليون:
يبدو أن علي أن أكرر هنا إجابتي عن سؤال سابق. فمن قال أن عجز قوى التغيير عن التغيير يضفي الشرعية على النظام القائم ويفرض التشريع لنظام القهر والاضطهاد والطغيان؟ هل ينبغي للمثقف العربي أن يتبنى موقف الوقوف مع القائم والمنتصر مهما كان؟ هل هذه سياسة أو عقيدة أو أخلاق يمكن نشرها وتعميمها على الشبيبة العربية أو العالمية؟ نظام الطغيان يظل كارثة وينبغي أن يدان حتى لو انتصر على القوى المناهضة له. ولا يقدم له هذا النصر أي شرعية جديدة أو تبرير. إنه مدان لأنه يسيء إلى المجتمع بأكمله ويقوض الأسس والمباديء التي يقوم عليها ويشكل مصدرا للبؤس والقلق والعذاب للأفراد، بقدر ما ينكر حقوقهم ويستبيح حرماتهم ويهددهم في وجودهم. والتفكير بغير ذلك ليس شيئا آخر سوى انتهازية سياسية وضلوع مع الطغيان. هذا ينطبق على النظام السوري وعلى أي نظام آخر يسلك سلوكه في العالم أجمع.

السؤال 6 :
هناك من يعتبر أن النظام السوري خرج منتصرا من العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان . هل توافق على هذا الرأي ، وهل تعتقد أن هذا النظام يمكنه أن يفلت من القبضة الأمريكية والغربية لو مال الى التحالف المصري ـ السعودي بدل تحالفه الحالي مع إيران وحزب الله .

غليون:
ولنفرض أنه خرج منتصرا، ما الذي يقدمه هذا النصر للشعب السوري وللبنان ولشعوب المشرق والمنطقة عموما؟ هل تعزيز الطغيان من أجل التوصل إلى اتفاق أفضل مع واشنطن، يقوم على قبول الإدارة الامريكية الحمقاء بالتعامل مع الطغيان في المنطقة كما كان في السابق، هو أمر يستحق الابتهاج؟ وهل سيصبح النظام السوري في حالة اتفاقه مع واشنطن على أسس تكريس وجوده كما هو، أكثر احتراما لحقوق مواطنيه والمواطنين اللبنانيين وأكثر إصرارا على المطالبة بالجولان المحتل؟ لماذا لم يفعل ذلك عندما كان في غاية التوافق مع واشنطن في بداية حكم الرئيس الجديد لدرجة أصبح فيه التعاون بين أجهزة الامن السورية والمخابرات المركزية الأمريكية، تعاونا علنيا واستراتيجيا حسب تصريحات المعنيين أنفسهم؟ هل لدى النظام السوري مشروع وطني فعلا يريد من سياسته الراهنة الدفاع عنه وتعظيم فرص تحقيقه؟ أم أنه يدافع عن نمط للسيطرة أكثر تخلفا من نظم القرون الوسطى، وما هو هذا البرنامج الوطني أو الاجتماعي أو الثقافي الذي لم يسمع به أحد بينما لا يزال النظام في الحكم منذ 43 عاما؟ لماذا تريدون من الشعوب أن تظل تركض وراء أوهام فارغة من أي معنى بدل ايقاظها على واقعها وتشجيعها على المشاركة والفعل؟
ثم ما قيمة أن يفلت النظام أو لا يفلت من القبضة الأمريكية بالنسبة للمهام الكبرى المطروحة على شعوب تقف أمام تحديات ومخاطر لا حدود لها، وتعيش في ظروف قد تقود إلى انفجارها وتمزقها، كما هو حاصل في العراق وفي فلسطين وفي لبنان وغيرها؟ هل ستبقى محاور النقاش السياسي العربي، وتساؤلات وأسئلة الصحافة متمحورة حول مستقبل علاقات هذا النظام أو ذاك بواشنطن ولندن وباريس، ونزاعه او اتفاقه معها، أم ينبغي الكشف عن واقع الشعوب ودورها ومكانتها ومصيرها ومستقبلها وقدراتها على إعادة بناء نفسها وتجنب الحروب الأهلية أو الخروج منها؟
حقق النظام السوري نصرا في لبنان بالتاكيد، لكنه نصر فارغ وملغوم ستكون عواقبه قاسية على سورية وعلى لبنان بقدر ما سيدفع النظام السوري الذي يعيش في منطق الحصار إلى اتخاذ مواقف خاطئة كالسابق، تحمل مخاطر أكبر على سورية ومصالحها الإقليمية والدولية. وبدل أن يفلت من القبضة الأمريكية كما تقولين، فهو يسير في خط يدفع الامريكيين إلى الاعتقاد بأن ضرب سورية قد يكون الهدف العملياتي الأفضل في إطار مواجهة القوة الايرانية وتحالفها مع حزب الله. وهما قوتان أصعب منالا بكثير من دمشق.
السؤال 7 : هل ربح لبنان أم خسر في العدوان الأخير ، وما هو موقفك من القوات الدولية التي نشرت في لبنان وما هو دورها بالتحديد ؟

غليون:
الجواب نفسه عن سورية. العبرة في المدى الأطول وليس في الساعة ذاتها. لبنان ربح بصده عدوانا أمريكيا إسرائيليا غاشما. لكن إذا كان هذا النصر سيقود إلى تفجير الوضع اللبناني والعودة إلى حرب أهلية، يكون النصر ملغوما، حتى لو أنه مرغ أنف القوات الاسرائيلية بالوحل. والقوات الدولية ليست حلا، بل إن وجودها هو التعبير عن غياب الحل. القوات الدولية لا تمنع انفجار الوضع الداخلي ا للبناني الذي هو اليوم الشاغل الاول للبنانيين وللعرب أيضا. فدورها الرئيسي هو بالضبط حماية إسرائيل وتقييد حركة حزب الله على طريق تجريده من سلاحه بوسائل لبنانية. وهذا أيضا يظهر المفارقة التي يتسم بها هذا النصر والنصر السوري الذي نجم عنه. الأمور لا تطرح بمعيار الحاضر الفوري، ولا تطرح أيضا على مستوى اللعبة أو المناورة الاستراتيجية الصغيرة، وإنما بمعايير التحولات التي يمكن أن تقود إليها وفي حساب المناورة الاستراتيجية العامة التي تستهدف المنطقة المشرقية برمتها. وهنا نستطيع أن نقول إن العرب اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين والعراقيين وغيرهم لم ينجحوا في تجميع عناصر استراتيجية أكثر للدفاع عن استقلالهم وحرية أوطانهم ومواطنيهم وضمان حقوقهم، ولكنهم مستمرين في الانغماس في أزمة عميقة تعصف بهم، ولا يملكون إزاءها سوى ردود الأفعال المتضاربة، والتنازع فيما بينهم لرد الخطر عنهم في اتجاه الجار العربي، كما هو واضح من النزاع السوري اللبناني الذي أشعلته بشكل أكبر نتائج الحرب الاسرائيلية الاخيرة.
السؤال 8 :
هناك هواجس عربية من مساعي إيران للنفوذ والسيطرة على منطقة الشرق الأوسط. هل تعتقدون أن هذه الهواجس مشروعة ؟ و ماهي قراءتكم لدور إيران في المنطقة ؟

غليون:
نعم هي هواجس مشروعة، وبشكل خاص بعد استلام تيار أحمدي نجاد المتعصب مذهبيا للسلطة في طهران. فايران نجاد، من وراء التعصب الديني الذي تظهره، تسير في اتجاه تعزيز استراتيجية قومية ايرانية محض، جوهرها تمكين ايران من الحصول على السلاح النووي الذي يجعلها الطرف الأقوى في الشرق الأوسط والمحاور الوحيد للغرب وشريكه على حساب مواقع الدول العربية الأخرى ونفوذها. الشرق الأوسط الجديد الذي تحلم به ايران هو شرق أوسط يقوم على التفاهم بين طهران والغرب على اقتسام مناطق النفوذ في المشرق العربي، السياسية والاقتصادية والمذهبية والايديولوجية، ومن وراء ذلك تكريس تهميش الشعوب العربية واستبعادها لصالح نظم تابعة مسيرة من الخارج، كما كان لبنان مسيرا من الخارج لصالح تفاهم ضمني سوري أمريكي فرنسي قبل أن تنهار أسس هذا التفاهم عام 2003.
السؤال 9 :
العدوان الإسرائيلي على لبنان عزز الانقسام الموجود في المنطقة العربية ، بل أنه عمق الخلافات العربية ـ العربية . ما هي رؤيتك أستاذ غليون لمستقبل البيت العربي في ضوء هذا التشرذم ؟

غليون:
الوضع العربي مأساوي بكل المعايير. وما هو أكثر مأساوية فيه ليس الانقسام بين الحكام والنظم والفئات الحاكمة فحسب، ولكن أكثر من ذلك انعدام الثقة التام في ما بينها، ومزاودتها بعضها على البعض الآخر في التراجع والتنازل، لكسب ثقة الأمريكيين المتصدين لمشروع إعادة هيكلة المنطقة والحصول على ضمانات للحفاظ على النظام من قبلهم. وهذا يعني أننا، بالرغم مما نشهده اليوم من كوارث في فلسطين والعراق ولبنان، لسنا في نهاية النفق ولكن ربما في بدايته.

mercredi, octobre 11, 2006

مأزق الدولة وازمة المقاومة

الاتحاد 11 اكتوبر 06

في مواجهة فشل الدولة في القيام بوظائفها، يزداد الحديث اليوم في العالم العربي عن المقاومة وثقافة المقاومة. ويدفع الحماس لها إلى التوحيد بين ما هو قائم منها، بصرف النظر عن أساليب عملها ووسائلها وأهدافها، وتدمج جميعا في حركة واحدة اسمها المقاومة الوطنية، كما لو كانت جميع الأعمال التي تستهدف المصالح الاجنبية في البلاد العربية تصب في هدف واحد هو تحرير العرب من السيطرة الاجنبية وتأكيد استقلالهم إزاءها. وهو ما تسعى إلى تسويده قوى أهلية وحكومات محلية فقدت هي نفسها ثقتها بالدولة التي تتحكم بها وأصبحت تراهن في تبرير وجودها على التلاعب بورقة المقاومة.
والواقع أن المقاومات ليست واحدة وليست الأعمال الموجهة ضد المصالح الأجنبية أو ضد مواقع نفوذها وطنية، او ذات أهداف وطنية جميعا وبالضرورة. وقد يكون استهداف مثل هذه المصالح، بالعكس من ذلك، تقويضا للعلاقات الايجابية التي تحتاج إليها الشعوب والأمم للدفاع عن مصالحها على الساحة الدولية، وبالتالي سببا لتعريتها وتعريض مصالحها القومية لأعظم لأخطار.
فلا توصف المقاومة بالوطنية لأن من يحمل رايتها ناس من أهل البلاد في مواجهة أناس أو قوى أجنبية، ولا لأن الفاعلين يتبعون في أعمالهم عقيدة قومية او دينية. فعندما يساء تقدير الأوضاع أو فهمها يمكن لمثل هذه الأعمال أن تقود إلى عكس ما تهدف إليه، حتى عندما تكون نية القائمين بها مخلصة وصادقة. لا تكون المقاومة ذات صفة وطنية إلا عندما تهدف إلى حماية المصالح الوطنية العامة، وتحمل في طياتها، وهو ما ينبغي أن ينعكس في سلوكها وعقيدتها وبرنامجها معا، مشروع بناء وطني يجمع الأطراف المتفرقة المكونة للأمة او الشعب، ويتيح لها فرص التفاهم والتآلف والعمل المشترك. قما يجعلها وطنية هو توجهها لبناء حياة سياسية سليمة، مرتبطة بغايات وقائمة على قواعد عمل وقيم ومعايير عامة تنطبق على الجميع بالتساوي وتحظى بحد كبير من الإجماع العام. وهو ما يجعل منها حاملا لبناء أمة بالمعنى الحديث للكملة. وهو ما يقصد بصفة الوطنية. ولم تكن ثورة الاستقلال جامعة ومؤسسة لوطن إلا بقدر ما كان تحرير البلاد من الوصاية الأجنبية جزءا من مشروع بناء دولة وطنية يتساوى الجميع فيها أمام القانون ويؤسسون على الحرية الوطنية المكتسبة حرياتهم الفردية وحقوقهم الانسانية. وهو ما ينطبق كذلك على الانتفاضات السياسية الوطنية ضد الاستبداد والفساد.
أما تلك المقاومات التي تهدف إلى الدفاع عن مصالح فئوية خاصة، سواء أكانت اجتماعية او مذهبية أو دينية او طائفية أو عشائرية، فهي لا تحمل صفة الوطنية، حتى لو استهدفت مصالح أجنبية وكانت تحظى بالشرعية السياسية والأخلاقية. من هذا المنظور، ليست مقاومة وطنية تلك الأعمال التي تهدف إلى إرهاب السياح أو المستثمرين والعاملين الأجانب من الأرض الوطنية، ولا تلك التي تستهدف، بالسر أو العلن، تحسين مواقع فئة أو قوة سياسية أو اجتماعية في ساحة المنافسة الوطنية، ولا تلك التي تعمل على تحرير طائفة أو قبيلة أو أقلية من اضطهاد طوائف أو قبائل أو جماعات أخرى، حتى لو تمتعت هذه المقاومة كما قلت بقسط كبير من الشرعية. فصفة المقاومة مرتبطة بالغاية التي تعمل لأجلها، والمقاومة الوطنية هي التي تعمل لإعادة بناء الوطن من حيث هو اجتماع لوحدة الأرض والدولة والجماعة مما يستدعي التمسك بالوحدة الترابية وتعزيز سيادة الدولة وتأكيد الحقوق والواجبات المتساوية لجميع الأفراد. كل ما عدا ذلك مقاومات أخرى، لا علاقة لها بالمقاومة الوطنية حتى لو كان لها ما يبررها ويفرض واجب دعمها أو التعاطف معها.
بل ربما عكست هذه المقاومات بشكل أكبر، في طبيعتها ووسائل عملها وانقسامها وانتشارها، غياب هذا المشروع الوطني الجمعي، وارتداد الجماعات المتميزة والمختلفة التي كانت تشارك فيه على الدولة التي ترمز إليه، وسعيها إلى تأمين مصيرها الخاص بها على أنقاضه، سواء أكان ذلك من خلال السيطرة على مواقع ومصالح الجماعات الأخرى الشريك، أو بالانفصال عنها والارتباط بقوى خارجية، أو بالخروج الكامل من الساحة السياسية الداخلية، للعمل على الساحة العالمية، وفي إطار جيوستراتيجي شامل، لزعزعة المنظومة الدولية باعتبارها مرتكز الدولة المضادة الناشزة وحاضنتها، وهو ما تمثله بعض الحركات المتطرفة الاسلاموية. وباستثناء فلسطين التي تحولت فيها حماس إلى امتداد بوسائل أخرى للحركة الوطنية الفلسطينية الساعية إلى التحرر من استعمار استيطاني بغيض، ليس في ما هو قائم بذرة أو جنين مشروع مقاومة وطنية، ولكن مشاريع مقاومة خصوصية تتغذى من بقايا المشروع الوطني وتعيش على حطامه.
وفي معظم هذه الحالات، لا يعكس رفض الدولة والعمل على تحطيمها نشوء مفهوم جديد وايجابي لإعادة بناء النظام على أسس مختلفة، لا على المستوى الوطني ولا العالمي، ولا يرتبط بوجود مكونات إعادة بناء الدولة نفسها على أسس أفضل، تضمن تجديد فكرتها وإعادة تأهيلها، وتحويلها إلى إطار لبناء حياة أو علاقات جمعية أخلاقية قائمة على قاعدة القانون والمساواة بين الأفراد، والمشاركة في المسؤولية عند الرأي العام. إنه يعبر عكس ذلك عن خيبة أمل الجماعات المختلفة بالدولة، ويأسها من إصلاحها وجعلها أقدر على تلبية مطالبها العينية الملموسة في المشاركة في السلطة، أو على تأمين شروط الحياة والخدمات الأساسية، والمادية منها بشكل خاص. فهي لا تزال تقوم على السلب ولا تملك بعد، لا في النظرية ولا في الممارسة ولا في الشروط التاريخية، فرصة تحولها إلى حركة ايجابية تنحو نحو التوحيد والتوليف والبناء والتأسيس الأخلاقي والقانوني. لذلك هي تتخذ في كل الحالات، حتى عندما تكون وطنية الأهداف، أشكالا خصوصية تتميز بها عن غريمتها الأخرى، مذهبية أو أقوامية أو طائفية، وتجعل من هذا التميز منبعا لتوليد عصبية جزئية تشكل قاعدة للتضامن والتفاهم والألفة التي تمكنها من توفير السلوكات والفعاليات الكفاحية، الخاصة بها وحدها، وعلى نطاقها المحدود. وليس هناك بعد أي عقيدة او ايديولوجية أو قيمة أو شعار أو رمزيات يمكن أن تجمع بين الأطراف المقاومة، أو تشكل قاسما مشتركا لها. فما يقرب الواحدة ينفر الاخرى، وما يشكل هدفا لبعضها يشكل مصدر قلق وثورة عند بعضها الآخر، حتى عندما تنتمي جميعها إلى الايديولوجية الاسلامية أو القومية نفسها. ومعظمها أقرب بالفعل إلى الممانعة منها إلى المقاومة، بقدر ما تعني الممانعة رفض النظام القائم فحسب من دون وجود أي مشروع بديل لإحلاله محله.
لذلك، بصرف النظر عن المظاهر السطحية الخادعة التي توحي بإجماع ضد الهيمنة الأجنبية، ما نعيشه اليوم بالعمق هو حرب أهلية، تكملها وتغطي عليها صطدامات مفهومة ومشروعة مع قوى خارجية. فالمستهدف الأول في النزاع هو دائما أطراف محلية متنافسة فيما بينها على السيطرة الداخلية، سواء من أجل تحييد منافسيها أو إحراجهم أو قطع الطريق عليهم أو إخضاعهم لأجندة خصوصية، في إطار إعادة ترتيب القوى والمواقع والمصالح على أرضية النزاع المتفجر على السلطة والموارد الوطنية. فكل الأطراف تسعى من خلال الممانعة وإعاقة مشاريع الغير إلى تحقيق مصالح جزئية خاصة بها. وهذا يفسر أن عداء بعض المقاومات لقوى أجنبية معينة لا يمنعها من تبرير تحالفاتها مع قوى أجنبية أخرى، أو التفاهم معها ضد الجماعات المحلية المنافسة لها. كما لا تمنع وحدة شعاراتها المعادية للغرب والهيمنة الأجنبية من تفاقم الانقسامات والنزاعات داخل المجتمعات العربية . وهو ما يفسر أننا لا نزال نعيش حالة خصومة متنامية داخل البلدان والمجتمعات ونغرق في الخلافات والصدامات الأهلية أكثر مما ننزع إلى تجاوز الخلافات أو نعمل على إعادة بناء الفكرة الوطنية وتوليد إرادة تحررية حقيقية، تجاه الاحتلالات الداخلية والخارجية.