mercredi, août 30, 2006

أسئلة ما بعد الحرب اللبنانية الاسرائيلية في تموز 06

الاتحاد 30 آب أغسطس 06
بصرف النظر عن الموقف من الحرب التي اندلعت في الثاني عشر من آب أغسطس الجاري، ومن الطريقة التي انتهت بها، وجه صمود المقاومة الإسلامية أمام قوات الاحتلال الإسرائيلي تحديا، وبالتالي إحراجا كبيرا أيضا، للعديد من الإطراف العربية والإقليمية والدولية، الرسمية والشعبية على حد سواء، يتوجب على كل منها الرد عليها في المستقبل القريب إذا لم تشأ أن تذهب ضحية مضاعفاتها السياسية والاستراتيجية.
فقد شكل تحديا لم يسبق له مثيل لإسرائيل أولا، صانعة الحروب، التي اعتادت على الانتصارات السهلة والسريعة والخسائر المحدودة، إن لم تكن المعدومة، متمترسة وراء دبابات جنودها التي لا تخرق، وسلاح طيرانها الذي لا يطال. فقد وجدت إسرائيل نفسها غارقة في حرب برية، في مواجهة قوات غير نطامية تجهل مواقعها، ولم تجد طريقة للالتفاف عليها سوى إتباع استراتيجية الأرض المحروقة التي اتبعتها الولايات المتحدة سابقا في فيتنام، وقادت إلى مأساة إنسانية انعكست آثارها سلبا على الرأي العام العالمي برمته. ولأول مرة يواجه الجيش الإسرائيلي تحدي تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ومن وراء ذلك انهيار نظرية الردع القائم على القدرة على القتال والانتصار في أي حرب محتملة يمكن للعرب أن يشنوها على إسرائيل، منفردين ومجتمعين معا. وستكون مهمة استعادة القيادة الإسرائيلية، السياسية والعسكرية، صدقيتها الردعية، شاقة جدا بعد انتهاء العمليات الحربية الراهنة.
وشكل صمود حزب الله ثانيا، تحديا كبيرا وحاسما للإدارة الأمريكية التي اعتقدت أنها تستطيع إعادة السيطرة على مصائر البلاد العربية، والمشرق العربي بشكل خاص، بالقوة. واستخدمت إسرائيل كذراع ضاربة لتحقيق هذا الهدف. وهو تحد موجه بشكل خاص لإدارة المحافظين الجدد، أصحاب خطط التغيير والانقلاب، الذين دفعتهم غطرسة القوة إلى الاعتقاد بأنهم يستطيعون إعادة بناء الواقع كما يشاؤون، وحسب أفكارهم المريضة وأوهامهم، مهما كانت عواقب هذا البناء أو آثاره على مصالح الشعوب والمجتمعات ومصيرها.
وهو يشكل تحديا خطيرا للعديد من النظم العربية التي اعتقدت أنها، باستقالتها أمام التوسع الإسرائيلي المدعوم من قبل واشنطن، تستطيع أن تنقذ رهانها، وتحتفظ بوجودها، في مرحلة عاصفة من الصراع على تحديد مستقبل المنطقة ومصائر شعوبها، فوجدت نفسها متجاوزة من قبل هذه الشعوب نفسها، ومحاصرة أكثر فأكثر بطوفان القوى الإسلامية وغير الإسلامية المناهضة لسياساتها، والمستعدة لمواجهة العدوان الإسرائيلي الدائم، من وراء ظهرها وضد إرادتها. فهي محصورة اليوم أكثر من أي فترة سابقة بين مطرقة التدخل الأجنبي، العسكري والسياسي، الذي يقرر للمنطقة ويسعى إلى تحديد مصيرها لعقود طويلة قادمة، من وراء ظهرها، وسندان الحركات الشعبية، المسلحة والسلمية، التي تتهمها بالاستسلام والمشاركة في الجريمة والضلوع مع قوات الاحتلال والسيطرة الخارجية. هكذا، تبدو هذه الأنظمة اليوم معلقة في الفراغ، مفتقرة للحد الأدنى من الشرعية السياسية.

وهو يشكل رابعا تحديا لا نظير له للجيوش العربية النظامية التي قبلت الهزيمة أمام جيش إسرائيل، وانسحبت من المواجهة الوطنية للتفرغ للمواجهة الداخلية، فتحولت إلى أداة لضمان استقرار النخب الحاكمة وقاعدة لاستمرار النظم الديكتاتورية اللاشعبية. إن نجاح بضعة آلاف من مقاومي حزب الله في تعطيل آلة الحرب الإسرائيلية وتمريغ قادتها بالوحل لأكثر من شهر، وتكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر كبيرة بالأرواح لم يعهدها من قبل، وايصال الحرب، عبر الصواريخ الصغيرة، إلى قلب المدن الإسرائيلية، عرى القيادات العسكرية العربية، وذرع الشك في مهنيتها وكفاءتها، ومثل اتهاما لها في التزامها وإرادتها الوطنية. وهي مضطرة الآن إلى إعادة النظر في مذاهبها العسكرية وتأهيلها، والتفكير من جديد بدورها ومكانتها في الحياة الوطنية: هل تكون أداة بيد المصالح الضيقة واللاوطنية القائمة وشريكة معها، أم تكون أداة الدفاع عن المصالح الوطنية والعربية.
وهو يشكل بصورة أقوى تحديا استفزازيا لؤلئك القادة الذين لم يكفوا خلال السنوات الماضية عن تسويق خطابات واستراتيجيات المقاومة والممانعة، لكن سرعان ما لاذوا بالصمت عندما أصبحت المعركة، التي نظروا لها طويلا، واقعا فعليا، وصار همهم الأول والأخير المساومة على استخدام نفوذهم داخل صفوف المقاومة للوصول إلى تسوية تضمن مصالحهم الخاصة، وتفك عزلتهم عن الدول الكبرى نفسها التي تقف وراء الحرب. لقد أظهروا بما لن يدع مجالا للشك أن المقاومة ليست شأنهم ولا مشروعهم، وإنما ورقة للمساومة من بين أوراق كثيرة أخرى، وأن دماء المقاومين اللبنانيين، لا تسمو على منطق التجارة المادية والسياسية والاستراتيجية.

لكن الصمود البطولي لمقاومي حزب الله قد وجه تحديات كبرى أيضا لجميع أولئك الذين حلموا، من مثقفين وساسة وهيئات مدنية واجتماعية، بأن يكون الخيار ا لديمقراطي هو الخيار الأول، مقابل خيار المقاومة، أي أن تعطى الأولوية في الجهد السياسي الشعبي إلى إصلاح الدولة والسياسة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات، حتى يمكن إخراج البلاد من المطبات العديدة الواقعة فيها، وإنقاذها من فساد يكاد يقضي، إن لم يحصل بالفعل، على مباديء الحق والقانون والعدالة والمساواة فيها، أي على كل ما يجعل منها مجتمعات مدنية ومتمدنة، بالمعنى الأصيل للكلمة، ويجنبها السقوط في البربرية والعنف والمواجهات العمياء الذي يقدم عراق اليوم نموذجا حيا لانتشارها و توسعها بين الطوائف والتشكيلات القبلية والدينية والمذهبية والاجتماعية معا. فكيف يمكن تحقيق الديمقراطية مع الاختطاف السافر للإرادة الشعبية، وتحويل الشعوب إلى رهائن في مساومات دولية لا تنتهي، وكيف يمكن الإصلاح مع استمرار الدمار، والتهديد المستمر بتعميمه؟ وكيف يمكن بناء الدولة في سياق سياسات عالمية تخضع لقانون البلطجة الدولية، وتحييد الهيئات الدولية القانونية كالأمم المتحدة، وتأمين الحماية للمعتدي ومكافأته على المجازر المتكررة التي ارتكبها بحق المدنيين وتدميره المنهجي واللئيم للبنية التحتية لمجتمع كامل؟

لقد أحرج صمود حزب الله الجميع. النظم العربية التي تخلت، بما فيها النظم المتاجرة بالقومية، عن التفكير في أي رؤية إستراتيجية أو تخطيط لاسترجاع الأراضي المحتلة، أو تأكيد حقوق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة، منذ انهيار محادثات جنيف عام 2000، وأصبحت تنتظر، كالمتبول في ثيابه، ابتلاع إسرائيل وتهويدها لما احتلته من الأرض العربية. وأحرج بالقدر نفسه المعارضات الديمقراطية التي اعتقدت أن تهافت النظم القائمة، وتغير موقف الدول الكبرى منها، قد جعل المراهنة على الإصلاح والديمقراطية حقيقة واقعة والبند الأول في أجندة الشعوب التاريخية. وأحرج المثقفين الذين اعتقدوا أن العلمانية هي الوريث الشرعي لانحسار القومية وتنامي ديناميكيات العولمة الثقافية والاقتصادية. فإذا بمصير المشرق العربي معلقا، أكثر من أي فترة سابقة، على مقاومة ميليشيا شعبية ومذهبية معا، تستمد قوتها الرئيسية، المعنوية والعسكرية، من ارتباطها الروحي والمادي ببؤرة الثورة/ الدولة الإسلامية الإيرانية، وتمفصلها عليها. وهي ثورة/دولة من خارج العالم العربي، وفي منظور الكثير من أبنائه، في تنافس معه.
كل هذا يطرح أسئلة كبيرة، أو يعيد طرح أسئلة مصيرية على الفكر والسياسة العربيين، سيكون من الصعب علينا التحرك مستقبلا في أي اتجاه قبل الإجابة عنها بصورة جدية وفعالة. ولا يشكل إجابة جدية وفعالة التمسح بخطابات المقاومة الاسلامية وإظهار الولاء لها، ولا الاختباء وراء المهاترات الكلامية، ولا الشكوى من جديد إلى الأمم المتحدة، ولا النحيب على الدولة الوطنية المقوضة.

دروس ما بعد الحرب اللبنانية الاسرائيلية

الاتحاد 30 آب أغسطس 06

بصرف النظر عن الموقف من الحرب التي اندلعت في الثاني عشر من آب أغسطس الجاري، ومن الطريقة التي انتهت بها، وجه صمود المقاومة الإسلامية أمام قوات الاحتلال الإسرائيلي تحديا، وبالتالي إحراجا كبيرا أيضا، للعديد من الإطراف العربية والإقليمية والدولية، الرسمية والشعبية على حد سواء، يتوجب على كل منها الرد عليها في المستقبل القريب إذا لم تشأ أن تذهب ضحية مضاعفاتها السياسية والاستراتيجية.
فقد شكل تحديا لم يسبق له مثيل لإسرائيل أولا، صانعة الحروب، التي اعتادت على الانتصارات السهلة والسريعة والخسائر المحدودة، إن لم تكن المعدومة، متمترسة وراء دبابات جنودها التي لا تخرق، وسلاح طيرانها الذي لا يطال. فقد وجدت إسرائيل نفسها غارقة في حرب برية، في مواجهة قوات غير نطامية تجهل مواقعها، ولم تجد طريقة للالتفاف عليها سوى إتباع استراتيجية الأرض المحروقة التي اتبعتها الولايات المتحدة سابقا في فيتنام، وقادت إلى مأساة إنسانية انعكست آثارها سلبا على الرأي العام العالمي برمته. ولأول مرة يواجه الجيش الإسرائيلي تحدي تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ومن وراء ذلك انهيار نظرية الردع القائم على القدرة على القتال والانتصار في أي حرب محتملة يمكن للعرب أن يشنوها على إسرائيل، منفردين ومجتمعين معا. وستكون مهمة استعادة القيادة الإسرائيلية، السياسية والعسكرية، صدقيتها الردعية، شاقة جدا بعد انتهاء العمليات الحربية الراهنة.
وشكل صمود حزب الله ثانيا، تحديا كبيرا وحاسما للإدارة الأمريكية التي اعتقدت أنها تستطيع إعادة السيطرة على مصائر البلاد العربية، والمشرق العربي بشكل خاص، بالقوة. واستخدمت إسرائيل كذراع ضاربة لتحقيق هذا الهدف. وهو تحد موجه بشكل خاص لإدارة المحافظين الجدد، أصحاب خطط التغيير والانقلاب، الذين دفعتهم غطرسة القوة إلى الاعتقاد بأنهم يستطيعون إعادة بناء الواقع كما يشاؤون، وحسب أفكارهم المريضة وأوهامهم، مهما كانت عواقب هذا البناء أو آثاره على مصالح الشعوب والمجتمعات ومصيرها.
وهو يشكل تحديا خطيرا للعديد من النظم العربية التي اعتقدت أنها، باستقالتها أمام التوسع الإسرائيلي المدعوم من قبل واشنطن، تستطيع أن تنقذ رهانها، وتحتفظ بوجودها، في مرحلة عاصفة من الصراع على تحديد مستقبل المنطقة ومصائر شعوبها، فوجدت نفسها متجاوزة من قبل هذه الشعوب نفسها، ومحاصرة أكثر فأكثر بطوفان القوى الإسلامية وغير الإسلامية المناهضة لسياساتها، والمستعدة لمواجهة العدوان الإسرائيلي الدائم، من وراء ظهرها وضد إرادتها. فهي محصورة اليوم أكثر من أي فترة سابقة بين مطرقة التدخل الأجنبي، العسكري والسياسي، الذي يقرر للمنطقة ويسعى إلى تحديد مصيرها لعقود طويلة قادمة، من وراء ظهرها، وسندان الحركات الشعبية، المسلحة والسلمية، التي تتهمها بالاستسلام والمشاركة في الجريمة والضلوع مع قوات الاحتلال والسيطرة الخارجية. هكذا، تبدو هذه الأنظمة اليوم معلقة في الفراغ، مفتقرة للحد الأدنى من الشرعية السياسية.

وهو يشكل رابعا تحديا لا نظير له للجيوش العربية النظامية التي قبلت الهزيمة أمام جيش إسرائيل، وانسحبت من المواجهة الوطنية للتفرغ للمواجهة الداخلية، فتحولت إلى أداة لضمان استقرار النخب الحاكمة وقاعدة لاستمرار النظم الديكتاتورية اللاشعبية. إن نجاح بضعة آلاف من مقاومي حزب الله في تعطيل آلة الحرب الإسرائيلية وتمريغ قادتها بالوحل لأكثر من شهر، وتكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر كبيرة بالأرواح لم يعهدها من قبل، وايصال الحرب، عبر الصواريخ الصغيرة، إلى قلب المدن الإسرائيلية، عرى القيادات العسكرية العربية، وذرع الشك في مهنيتها وكفاءتها، ومثل اتهاما لها في التزامها وإرادتها الوطنية. وهي مضطرة الآن إلى إعادة النظر في مذاهبها العسكرية وتأهيلها، والتفكير من جديد بدورها ومكانتها في الحياة الوطنية: هل تكون أداة بيد المصالح الضيقة واللاوطنية القائمة وشريكة معها، أم تكون أداة الدفاع عن المصالح الوطنية والعربية.
وهو يشكل بصورة أقوى تحديا استفزازيا لؤلئك القادة الذين لم يكفوا خلال السنوات الماضية عن تسويق خطابات واستراتيجيات المقاومة والممانعة، لكن سرعان ما لاذوا بالصمت عندما أصبحت المعركة، التي نظروا لها طويلا، واقعا فعليا، وصار همهم الأول والأخير المساومة على استخدام نفوذهم داخل صفوف المقاومة للوصول إلى تسوية تضمن مصالحهم الخاصة، وتفك عزلتهم عن الدول الكبرى نفسها التي تقف وراء الحرب. لقد أظهروا بما لن يدع مجالا للشك أن المقاومة ليست شأنهم ولا مشروعهم، وإنما ورقة للمساومة من بين أوراق كثيرة أخرى، وأن دماء المقاومين اللبنانيين، لا تسمو على منطق التجارة المادية والسياسية والاستراتيجية.

لكن الصمود البطولي لمقاومي حزب الله قد وجه تحديات كبرى أيضا لجميع أولئك الذين حلموا، من مثقفين وساسة وهيئات مدنية واجتماعية، بأن يكون الخيار ا لديمقراطي هو الخيار الأول، مقابل خيار المقاومة، أي أن تعطى الأولوية في الجهد السياسي الشعبي إلى إصلاح الدولة والسياسة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات، حتى يمكن إخراج البلاد من المطبات العديدة الواقعة فيها، وإنقاذها من فساد يكاد يقضي، إن لم يحصل بالفعل، على مباديء الحق والقانون والعدالة والمساواة فيها، أي على كل ما يجعل منها مجتمعات مدنية ومتمدنة، بالمعنى الأصيل للكلمة، ويجنبها السقوط في البربرية والعنف والمواجهات العمياء الذي يقدم عراق اليوم نموذجا حيا لانتشارها و توسعها بين الطوائف والتشكيلات القبلية والدينية والمذهبية والاجتماعية معا. فكيف يمكن تحقيق الديمقراطية مع الاختطاف السافر للإرادة الشعبية، وتحويل الشعوب إلى رهائن في مساومات دولية لا تنتهي، وكيف يمكن الإصلاح مع استمرار الدمار، والتهديد المستمر بتعميمه؟ وكيف يمكن بناء الدولة في سياق سياسات عالمية تخضع لقانون البلطجة الدولية، وتحييد الهيئات الدولية القانونية كالأمم المتحدة، وتأمين الحماية للمعتدي ومكافأته على المجازر المتكررة التي ارتكبها بحق المدنيين وتدميره المنهجي واللئيم للبنية التحتية لمجتمع كامل؟

لقد أحرج صمود حزب الله الجميع. النظم العربية التي تخلت، بما فيها النظم المتاجرة بالقومية، عن التفكير في أي رؤية إستراتيجية أو تخطيط لاسترجاع الأراضي المحتلة، أو تأكيد حقوق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة، منذ انهيار محادثات جنيف عام 2000، وأصبحت تنتظر، كالمتبول في ثيابه، ابتلاع إسرائيل وتهويدها لما احتلته من الأرض العربية. وأحرج بالقدر نفسه المعارضات الديمقراطية التي اعتقدت أن تهافت النظم القائمة، وتغير موقف الدول الكبرى منها، قد جعل المراهنة على الإصلاح والديمقراطية حقيقة واقعة والبند الأول في أجندة الشعوب التاريخية. وأحرج المثقفين الذين اعتقدوا أن العلمانية هي الوريث الشرعي لانحسار القومية وتنامي ديناميكيات العولمة الثقافية والاقتصادية. فإذا بمصير المشرق العربي معلقا، أكثر من أي فترة سابقة، على مقاومة ميليشيا شعبية ومذهبية معا، تستمد قوتها الرئيسية، المعنوية والعسكرية، من ارتباطها الروحي والمادي ببؤرة الثورة/ الدولة الإسلامية الإيرانية، وتمفصلها عليها. وهي ثورة/دولة من خارج العالم العربي، وفي منظور الكثير من أبنائه، في تنافس معه.

كل هذا يطرح أسئلة كبيرة، أو يعيد طرح أسئلة مصيرية على الفكر والسياسة العربيين، سيكون من الصعب علينا التحرك مستقبلا في أي اتجاه قبل الإجابة عنها بصورة جدية وفعالة. ولا يشكل إجابة جدية وفعالة التمسح بخطابات المقاومة الاسلامية وإظهار الولاء لها، ولا الاختباء وراء المهاترات الكلامية، ولا الشكوى من جديد إلى الأمم المتحدة، ولا النحيب على الدولة الوطنية المقوضة. وللموضوع تتمة.

dimanche, août 20, 2006

الطائفية في الدولة والمجتمع

الجزيرة نت 20 أغسطس 06
دافعت في كتابي "نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة[i]،
عن أطروحة تقول بأن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقا موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم او مباديء أو مذاهب دينية لجماعة خاصة. والفرضية الرئيسية في هذه النظرية هي ان الطائفية لا علاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف أو الديانات. فمن الممكن تماما أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية أو الإتنية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية على الحياة السياسية ، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله.
وفي اعتقادي أن الخلط النظري الذي نشأ من الربط، داخل الأدبيات القومية، في البلاد العربية، بين التعددية الدينية والإتنية القائمة على مستوى المجتمع المدني، والتي هي ظاهرة طبيعية، حتى لو لم تكن مرتبطة بمفاهيم حديثة أو بممارسات مدنية سليمة، واستخدام الولاءات الجزئية من قبل النخب الحاكمة داخل الدولة، للالتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص، وفي سبيل ضمان السيطرة غير المشروعة عليها، قد أساء إساءة كبيرة إلى إدراك حقيقة الظاهرة ووضع اليد على الآثار الخطيرة المرتبطة بها. فقد استسلم السياسيون والمنظرون لفكرة اعتبروها بديهية، مفادها ان المجتمع العربي مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب والإتنيات، أو حسب التعبير الذي شاع، فسيفسائي. وأن هذه التعددية هي المسؤولة عن اختراق الدولة بالطائفية. وبالتالي ليس هناك ما يمكن عمله لمقاومتها سوى الاشتغال على وعي المجتمع وثقافته لاقناعه بخطر التحيزات الدينية والأقوامية.
وكانت نتيجة هذه السياسة سلبية على مستويين. على مستوى الوعي الجمعي الذي ما كان من الممكن أن يقتنع بسوء التضامنات الدينية والأقوامية التي يستند إليها في ضمان الحد الأدنى من التعاون والتضامن، خاصة في إطار دولة تتلاعب بها المصالح الخاصة وتكاد لا تستجيب لأي مطالب عمومية. فاستمر يراهن على علاقات التضامن الدينية والمدنية القديمة لكن مع شعور بالاثم يدفع به إلى إخفائها، وإظهار التمسك المبالغ فيه وأحيانا المرضي بمباديء الوطنية المجردة ومظاهرها الشكلية. وهو ما ساهم في تكوين وطنية وقومية شكلية، فارغة من أي التزام، ومفتقرة إلى أي محتوى سياسي، بل عاطفي، خارج إطار ترداد الشعارات وتكثيرها. وعلى مستوى النخبة الاجتماعية نفسها، الرسمية والأهلية، التي منعها الخلط بين طائفية المجتمع وطائفية الدولة من اكتشاف خصوصية الطائفية السياسية، والعمل على استئصالها داخل الدولة، وهو أمر ممكن وضروري، بصرف النظر عن وعي المجتمع المدني ودرجة تمثله لقانون الدولة السياسي.
وفي النهاية، عمل هذا التصور الذي يقول إن الطائفية داخل الدولة هي انعكاس للطائفية داخل المجتمع على القبول بالتعايش داخل الدولة مع ممارسات طائفية عديدة، إن لم يشرعن لقيام الدولة الطائفية نفسها، بوصفها حتمية اجتماعية أو تعبيرا عن خصوصية محلية لا يمكن التجاوز عنها من دون ارتكاب مخاطر السير في اتجاه اقتسام غير عادل للسلطة والثرورة المرتبطة بها. وكما عمل هذا التصور على تحرير النخبة، في الحكم والمعارضة معا، من مسؤولياتها تجاه بناء دولة حديثة حقيقية، قوامها مفهوم الحق والقانون، لا تقاسم السلطة بين نخب الطوائف والعشائر القائمة، غطى على الممارسات الطائفية ورفعه فوق النقد، ووحد تماما بين منطق عمل الدولة ومنطق عمل المجتمع الأهلي ملغيا بذلك أي إمكانية لتصور دولة سياسية. والحال يمكن لطوائفية المجتمع، أو تكوينه الفسيفسائي، أن يفسر صعوبات وتحديات نشوء نخبة وطنية منسجمة ومتماسكة. لكنه لا يبرر بأي شكل ممارسة الطائفية من قبل هذه النخبة أو بعضها داخل الدولة. فشرط تكوين هذه القوة السياسية الأساسية، وتبوئها مركز نخبة وطنية، هو قدرتها على الارتفاع فوق المصالح الجزئية والعصبيات الخاصة، ومنها النعرات الطائفية، حتى تصبح في مستوى المسؤولية الوطنية أو العمومية. وفشلها في ذلك يعكس عجزها عن تمثل قيم السياسة الحديثة ومعاييرها، أكثر مما يعكس جهل الشعب وأميته أو تعصبه لهذا الدين أو ذاك. فليس المطلوب أن يتحرر المجتمع المدني من عصبياته أو تضامناته الطبيعية المتعددة، الدينية أو المذهبية أو الإتنية التي تعكس واقع الحال، خاصة في مجتمعات تقليدية، أو خارجة حديثا من التقاليد، وإنما أن تتحرر النخبة السياسية من تماهياتها الجزئية لتتمكن من تجسيد مثال الوطنية وأن تحرر معها الدولة ومؤسساتها من احتمال ارتهانها للعصبيات الخاصة، حتى تتحول بفضل سياساتها الوطنية إلى دولة امة، أي دولة مواطنيها.
ولعل أفضل مثال على ذلك ما عرفته المجتمعات العربية الحديثة نفسها، حتى وقت قريب، من تطور مضطرد للولاءات الوطنية وللكتل السياسية المعبرة عنها، قبل أن تقع فريسة نظم الطغيان الحديثة منذ السبعينيات من القرن الماضي. فلم تكن هذه المجتمعات أقل تقليدية ولا أقل تعددية طائفية وإتنية ومذهبية مما هي عليه اليوم. ومع ذلك فهي التي أنجبت أقوى الحركات الوطنية التي كان لنشوئها وتطورها الفضل الأول في تحقيق الاستقلال وطرد قوات الاحتلال. وقد ولدت هذه الحركات والدول المستقلة التي نشأت عنها، في مصر وسورية والعراق وبقية البلدان المتعددة الطوائف، في لحظة ترفع وارتفاع رائعين من قبل جميع الطوائف والطبقات والأقوام على جميع الحساسيات التقليدية، وأشكال التعصب والانغلاق الماضية، لإقامة جمهورية تعددية ديمقراطية مفتوحة بالتساوي لجميع أبنائها. ونشأت الدول الحديثة وتكونت منذ البداية بوصفها دول وطنية لا تميز بين أبنائها. وترسخت فيها خلال حقبة الوصاية والحماية الأجنبية، وفي مواجهة سياساتها التقسيمية، ثقافة وطنية قوية ترفض الطائفية وتشجب الاعتماد عليها، لدى كل الطوائف، كبيرها وصغيرها. ولا تزال معظم الشعوب العربية، بالرغم مما تعرضت له من أزمات ثقة داخلية بين الطوائف، تستلهم تلك التجربة الفذة التي تجاوزت فيها زعامات الطوائف والمناطق المتعددة، بإرادتها، منظوراتها الجزئية، لتنخرط في حركة وطنية واحدة وتعمل ضد النزعات الانقسامية، بالرغم مما تعرض له بعضها من إغراءات من قبل سلطات الوصاية، بما في ذلك تشكيل دول مستقلة خاصة ببعض الطوائف والجماعات المذهبية.
وتستند هذه التجربة نفسها، وهو ما يفسر انتصارها، في العراق وسورية على ترسخ الفكرة العربية في وعي الأفراد، بصرف النظر عن مذاهبهم الدينية، والتطلع المشترك والشامل لنهضة حضارية عربية كبرى، تنقل المجتمع إلى مصاف المجتمعات الحديثة المتمدنة الديمقراطية، وتساعده على تجاوز انقسامات المجتمعات التقليدية الموروثة، وتحرر الفرد من التبعية لعصبية العشيرة والقبيلة والطائفة الدينية.
وقد شكل هذا الإرث السياسي الوطني الحي، ولا يزال يشكل إلى الآن، واليوم بشكل خاص، حصانة ومنعة حقيقيتين ضد النزوعات الطائفية والضغوط الانقسامية القوية التي تتعرض لها العديد من المجتمعات العربية. فبالرغم من بعض الانزلاقات الطائفية التي حصلت هنا وهناك، في سياق التحولات الاجتماعية العنيفة التي شهدتها في العقود الأربع الماضية، بقي القسم الأكبر من ا لرأي العام مخلصا لهذا التراث، ورافضا الانجراف وراء الطرح الطائفي للأزمة السياسية التي تعصف بالفعل بمعظم البلدان.
إن التوحيد بين منطق عمل المجتمع ومنطق عمل الدولة واعتبار الطائفية التي تمارسها النخب السياسية انعكاسا مباشرا وطبيعيا للتعددية الطائفية التي تسم المجتمعات، يقودان لا محالة إلى الاعتقاد بأن محاربة الطائفية تمر عبر إدانة جميع العصبيات والتضامنات الأهلية وحلها، لتكوين مجتمع خال من العصبيات الأهلية. وهو ما يعني عمليا تفكيك عرى التلاحم المجتمعي وتحويل الممسكين بالسلطة والشأن العام، أنفسهم، داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها، إلى طائفة وحيدة، محتكرة للسلطة والثروة جميعا، بصورة نهائية، في وجه شعب أفرغ من أي علاقة اجتماعية، وتحول إلى ذرات لا تعمل ولا تتحرك ولا تفكر ولا تشعر إلا عبر طائفة السلطة وبإرادتها وأوامرها. وهذا ما راهنت عليه، بوحي ايديولوجية قومية مجردة ولا تاريخية، السلطة البعثية في سورية والعراق، وكانت نتيجته عودة مظفرة للطائفية واحتلال لا مثيل له من قبل العصبيات الأهلية لفضاء الدولة، بصورة علنية أو مقنعة، ثم دمارا حقيقيا للدولة والمجتمع، مع فتح الباب واسعا امام التدخل الخارجي والاحتلال.
من هنا، ليست الطائفية، سواء اكانت شعورا عدائيا لطائفة تجاه طائفة اخرى أو استراتيجية موازية تستخدمها بعض فئات النخبة السياسية في التنافس على السلطة أو سياسة منهجية تتبعها سلطة معينة في سبيل تأمين قاعدة اجتماعية او إتنية أو مذهبية تعزز مواقعها الاستراتيجية، حتمية اجتماعية أو تاريخية لا ترد. وليس لها، بعكس ما تشيعه بعض الأدبيات القوموية السطحية، جذور عميقة في النظام الوطني الذي نشأ مع ولادة الدول العربية الحديثة، بعد انهيار الدولة العثمانية في العشرينات.
كما أن الطائفية لم تنبع من مؤسسات الدولة الاستقلالية نفسها، وإنما أتت إليها من خارجها. فهي أحد أبعاد الأزمة الوطنية الشاملة، وليست أزمة قائمة بذاتها، ولا حتى البعد الرئيسي فيها. وهذا يعني أن الطائفية، بالرغم من تحولها إلى استراتيجية رئيسية عند بعض القوى الاجتماعية للدفاع عن مصالح وامتيازات ومكاسب استثنائية وتكريسها، ليست ظاهرة مستقلة، ولا يمكن دراستها بمعزل عن الأوضاع السياسية والاجتماعية. إنها تشكل بعدا من المسألة السياسية والاجتماعية، وهي مرتبطة بها ارتباطا عميقا وليس لها من دون هذا الارتباط حظ في الحياة والبقاء. وهي لا تملك حتى الآن، على الأٌقل، أي ديناميكية مستقلة، ولا تعمل إلا مقنعة ومن وراء حجاب. ويعني كل هذا، أخيرا، أنه من غير الممكن فهمها بمعزل عن السياق الاجتماعي والسياسي الذي نشأت فيه في العقود الماضية.

[i] صدر عن دار المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، 1990

samedi, août 12, 2006

الخسارة الثانية للجولان


ليس هناك أي شك في أن الحرب التي شنتها إسرائيل، بالأصالة عنها وبالوكالة عن الولايات المتحدة الأمريكية، مثلت مرحلة متقدمة على طريق حسم المواجهة التاريخية بين العرب وإسرائيل على السيادة في منطقة المشرق بأكملها وفرض قانون إسرائيل، أي سيطرتها فيها. فبعد الانسحاب الشامل لجميع الدول العربية من المواجهة، بما في ذلك تلك التي لا تزال تصدح بالممانعة والصمود اللفظيين، بقي حزب الله الشوكة الوحيدة في خاصرة إسرائيل، لما يجسده من رمزية للمقاومة الناجحة، منذ طرده قواتها في الجنوب عام 2000، ولما يملكه من أسلحة يستطيع أن يهدد بها العمق الاسرائيلي، ولما يمثله من ذراع حماية للنظام السوري، الذي يشكل حلقة الوصل التي لا بديل عنها في قيام محور الممانعة الاسلامية الايرانية.
وبالتخلص من هذه الشوكة كانت إسرائيل، ومن ورائها الإدارة الأمريكية المزاودة عليها في الشرق الأوسط، تأمل في أن تستكمل مشروعها الذي بدأ بحرب العراق عام 1991، و تفرض نفسها على العرب كما تريد هي أن تكون، وليس عبر أي تفاهم، أو مفاوضات محتملة تضطرها إلى اقتسام المصالح، أو حتى التفكير بمصالح الشعوب العربية، سواء أكانت مصالح أمنية أو اقتصادية أو سياسية. فقد قامت إسرائيل على مبدأ الأمر الواقع المكرس بالقوة العسكرية، وهي مستمرة في فرض سيطرتها وتفوقها الشامل كأمر واقع، وبوسائل أكثر عنفا من السابق. وفي هذا الميدان لا تقدم حرب لبنان أي مفاجأة أو تغيير في السياسات التي عرفتها البلدان العربية في علاقتها مع إسرائيل. فبهذه الطريقة فرضت الدولة العبرية نفسها على العرب الرافضين لها، وبها أيضا حققت توسعها وتغيير ترسيمة حدودها. وبها أخيرا أرادت أن تفرض واقعها أو أمرها الواقع على الشعب الفلسطيني، وهو ما سعت إليه أيضا في لبنان ومع حزب الله الذي يواجهها.
لم تكن المفاجأة في هذه الحرب، لا في العنف الاسرائيلي، ولا في ما تلقته تل أبيب من دعم أمريكي غير محدود، عسكري ودبلوماسي، ولا أيضا في تساهل المجتمع الدولي، أي في الواقع المنظومة الغربية التي تسيطر على مؤسساته، معها. كانت المفاجأة الوحيدة هي صمود مقاتلي حزب الله وبسالتهم. وهو ما فتح نوافذ فرص جديدة وآفاق لم تشأ الدول العربية المعنية، التي يبدو أنها يئست من مواجهة اسرائيل وتعسفها، أن تلحظها، ومن باب أولى أن تستفيد منها.
وإذا كان من المفهوم والمنطقي أن لا ترى دول عربية عديدة هذه الفرص ولا تسرع لاستغلالها، وهي التي اختارت طريق التسوية المنفردة، وحققت من خلالها مصالح أساسية، مثل استرجاع سيناء كما حصل بالنسبة لمصر، والاحتفاظ بالعلاقات التفضيلية مع الدولة الكبرى الرئيسية، أعني الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أزمة خطيرة أصابت هذه العلاقات وكادت تقضي عليها بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما هو الحال بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فمن غير المفهوم أن تخفق بلدان مثل سورية، كانت ولا تزال تدعو إلى المقاومة، وتبذل جهودا دعائية كبيرة لاستمرارها في فلسطين ولبنان والعراق، في رؤية هذه الفرص، وأن لا تسعى إلى استغلالها.
ولا أعني بذلك أبدا أنه كان على النظام السوري أن يدخل المعركة تأييدا للمقاومة اللبنانية الحليفة أو دعما لها. فليس هناك سبب يدعو هذا النظام إلى أن يختلف في سلوكه عن الأنظمة والحكومات العربية الأخرى، التي لا تتذكر التضامن العربي إلا عندما تتعرض مصالحها الخاصة للخطر. وعندما لا تجد كثير صدى لاستغاثاتها تبدأ حملة الردح والندب على عالم عربي لم تبذل أي جهد لبنائه، ثم لا تلبث حتى تجعل من التقاعس العربي ذريعة لتبرير الفشل والتهرب من مسؤولياتها في حماية مصالح شعوبها أمام الرأي العام المحلي والعربي. ما أقصده هو أن المقاومة البطولية التي أظهرها حزب الله، وفرض على الجيش الاسرائيلي أن يعيد بناء خططه مرات عديدة بسببها، كانت المناسبة الوحيدة التي يستطيع فيها النظام السوري، التذكير بوجود الاحتلال الاسرائيلي في الجولان، وإعادة فتح ملف هذا الاحتلال، ودفع مطلب تحريره إلى طاولة المفاوضات من جديد. ولم يكن في حاجة لتحقيق هذا الهدف إلى أكثر من تقديم يد العون إلى لبنان، والانخراط الجدي وراء المقاومة، وترك إسرائيل ترد عليه قبل أن يرد هو في الجولان. ولم يكن من شان ذلك أن يكسر الجليد المتراكم حول قضية الجولان فحسب ولكنه كان سيمكن النظام السوري من استعادة صدقيته تجاه لبنان وعند الرأي العام اللبناني أيضا.
بالتاكيد كان مثل هذا الموقف سيجره إلى الحرب مع إسرائيل، وما تعنيه من احتمال تدمير جزء من البنية التحتية السورية، كما حصل في لبنان. لكن كان هذا هو الثمن الوحيد لإعادة طرح مسألة الاحتلال، وخوض الحرب من أجله، في أحسن ظرف يمكن لسورية أن تحقق فيه أهدافها الوطنية المشروعة. فالولايات المتحدة موحلة في العراق، وإسرائيل تخوض حربين واسعتين في فلسطين ولبنان، ولا أمل لها في حسمهما امام قوات غير نظامية، كما تبين ذلك بوضوح اليوم. والرأي العام السوري المعبأ وراء صمود المقاومة اللبنانية، كان مستعدا أيضا لتأييد أي تحرك سوري في الاتجاه نفسه، وقبول التضحيات المترتبة عليه. وكان بإمكان النظام السوري أن يتبع الاستراتيجية اللبنانية نفسها في دفع عناصر مغاوير وكومندوز إلى الجولان، واستخدام ترسانته من الصواريخ، المزودة بشحنات تدميرية تفوق بما لا يقاس ما يملكه حزب الله، لضمان بقاء الحرب في دائرة محدودة، أي لردع القيادة الاسرائيلية ومنعها من المبالغة في تدمير المواقع الاستراتيجية والبنية التحتية السورية، لأن ثمن ذلك سيكون تحقيق الهدف نفسه في إسرائيل. وعلى كل حال هذا هو مضمون المعادلة التي تبرر الاحتفاظ بهذه الترسانة من الصواريخ، والانفاق المستمر على القوات المسلحة. وإلا لا أحد يعرف ما وظيفتها ومتى سيكون من المجدي استخدامها، وما هي الحكمة في ترك إسرائيل تستفرد بالجبهات العربية واحدتها بعد الأخرى.
لو حدث ذلك لا ختلفت النتائج العسكرية والسياسية تماما للحرب الدائرة الآن. فمن جهة ما كان بمقدور إسرائيل أن تحقق نتائج على الأرض كالتي حققتها في جنوب لبنان، وهي قليلة على أية حال. أي لكان حرمان اسرائيل من النصر أقوى بكثير مما حصل. وهو ما يعادل تكبيدها هزيمة تضطرها إلى مراجعة جميع حساباتها الاستراتيجية. ومن جهة ثانية ما كان لمثل هذا الانفجار العام حول إسرائيل الذي يشمل سورية وفلسطين ولبنان في الوقت نفسه إلا أن يهز الرأي العام العالمي الرسمي والشعبي، ويعيد طرح مسألة الصراع العربي الاسرائيلي برمتها، أي تصميم إسرائيل على الاحتفاظ بالأراضي المحتلة وتهويدها والدفاع عن حقها في تهويدها بالحروب والدمار، كما لم يحصل في أي وقت خلال العقود الثلاث الماضية، وأن يجعل من إعادة فتح المفاوضات لايجاد تسوية سياسية عامة وشاملة لهذا الصراع أولوية في أجندة السياسية الدولية جميعا. وهو ما نطالب به نحن العرب منذ عقود، والسوريين خاصة، مراهنين في ذلك على حسن النوايا الأمريكية، بينما كان علينا نحن أن نفرضه بجهودنا وتضحياتنا على الأمريكيين والاسرائيليين.
بالتأكيد كان هذا العمل سيكلف سورية خسائر كبيرة بالأرواح والأملاك. بيد أنه كان سيحررها أيضا من عبء الاحتلال ويحرر المنطقة من ارتهانها الطويل والقاتل للنزاع غير المتكافيء مع ا سرائيل، أي لطغيان القوة الاسرائيلية، ويعيد بناء الشرق الأوسط بالفعل على أسس مختلفة عن تلك التي تطمح إسرائيل والولايات المتحدة إلى بنائه عليها اليوم، من خلال الحرب في لبنان والعراق وفلسطين معا.
لقد رفضت سورية رهان المقاومة في اللحظة التاريخية التي كانت مقاومتها تشكل مفصلا وأداة حسم لوضع متفسخ، يقوض الأسس التي تقوم عليها المجتمعات العربية في المشرق، ويدفعها إلى الغوص والغرق في أوساخه كل يوم أكثر من قبل. وبدل أن يختار النظام السوري أن يكون شريكا في المقاومة وعاملا من عوامل انتصارها، سعى بالعكس إلى أن يظهر استعداده للتعاون والتدخل لإطفاء النيران. لقد اختار في الواقع أن يكون الحفاظ على النظام، من خلال تحسين صورته في نظر الدول الغربية التي قررت عزله ومقاطعته، هدفه الأول بدل تحرير الجولان أو حتى نصرة لبنان. وهكذا ما كان بإمكانه إلا أن ينزع إلى الصمت والسكون، ويظهر الاعتدال والحكمة والهدوء وضبط النفس، في الوقت الذي كانت اللحظة تتطلب منه الحركة والنشاط والحسم. وهو عكس ما اعتاد عليه من إظهار التهور وروح التحدي والاستعداد للقتال في وقت السلم والاستقرار.
هكذا لم ينجح النظام السوري في ترميم علاقاته مع الدول الغربية، و بالتالي في استعادة جزء من دوره الإقليمي الزائل في لبنان، كما كان يأمل، وخسر إلى الأبد صدقيته أمام الرأي العام السوري والعربي في ما يتعلق بالموقف من استعادة الجولان. ولهذا، خرج النظام السوري، بعكس ما يقوله بعض أعدائه، الخاسر الأكبر، داخليا وخارجيا، من حرب لبنان. وكما غاب عن ساحة المعارك استبعد أيضا من مائدة مفاوضات وقف النار. فكان منها لا في العير ولا في النفير.

dimanche, août 06, 2006

واجب العرب تجاه لبنان


أصبح من الواضح اليوم أن الحرب التي خاضتها الحكومة الاسرائيلية، بالتفاهم مع الإدارة الأمريكية وبتشجيع منها، كانت تهدف إلى القضاء على حزب الله في إطار تتفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1959، الذي لم تستطع الحكومة اللبنانية أن تنفذه بوسائلها الخاصة، أي بالطرق السياسية. وكان من المفروض أن يحقق هذا غرضين رئيسيين. يتعلق الأول بسياسة واشنطن. فبكسرها ما أصبح يشكل الذراع الضاربة للتحالف الايراني السوري، كانت الإدارة الأمريكية تامل في زعزعة هذا التحالف وإجبار أطرافه المختلفة على التسليم بالأمر الواقع، أي التعاون مع الولايات المتحدة، والمجموعة الدولية التي تقف وراءها، لتحقيق هدفيين : قبول ايران بالعرض الغربي المتعلق بوقف عملية تخصيب اليورانيوم، واحترام دمشق الوضع الناشيء في لبنان بعد انسحاب الجيش السوري، وتأمين قاعدة سياسية قوية للاستقرار فيه. وما كان لمثل هذا المشروع إلا أن يثلج صدر تل أبيب التي لم تكن تنتظر فرصة أفضل للتخلص من التهديد الدائم القابع على حدودها الشمالية، من قبل حزب الله وترسانته العسكرية والصاروخية بالدرجة الأولى. وعلى هذا الأساس تم التخطيط للحرب الدائرة منذ 12 آب أغسطس الجاري بين العاصمتين، والتنسيق العسكري والدبلوماسي الفاضح بينهما، داخل مجلس الأمن وخارجه.
لكن الأهداف التي تسعى واشنطن وتل أبيب إلى تحقيقها في هذه الحرب ليست مرتبطة بمصالح اسرائيلية وأمريكية فحسب، وإنما هي محل إجماع دولي تقريبا. فأوروبة وفرنسا على رأسها ليست أقل انشغالا بملف التخصيب النووي الايراني، ولا أقل اهتماما بتثبيت الوضع غير المستقر في لبنان. ولذلك فقد وقفت وراء أهداف الحرب، حتى لو أنها سعت إلى تمييز موقفها عن الموقف الأمريكي، من خلال التأكيد على ضرورة وقف إطلاق النار بأسرع وقت ممكن، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان فيه إلى تأجيل تقديم قرار بوقف إطلاق النار إلى أقصى مدة ممكنة، أملا بتحقيق إنجازات على الأرض، تجعل تنفيذ القرار 1959 أمرا واقعا ومفروغا منه، قبل أن يكرسه قرار دولي رسمي. يفسر هذا البطء الشديد الذي وسم حركة الدبلوماسية الدولية في مجلس الأمن وخارجه، كما يفسر موقف الصمت والحياد الذي اتخذته الدبلوماسية العربية، التي لا يقل خوفها من امتلاك ايران السلاح النووي، ومن احتمال تفجر الوضع السياسي والعسكري في لبنان، عن خوف العواصم الأوروبية نفسها. وكان من الواضح أنها لن تتخذ موقف المناصر لحزب الله، أو المدافع عن وجوده العسكري، في الوقت الذي تطمح فيه إلى أن تزيد الدول الغربية من ضغوطها على ايران لحملها على وقف تخصيب اليورانيوم، كما تتخفظ بشكل واضح على سياسة دمشق المتحالفة مع ايران، وتكاد تعيش في حالة قطيعة تامة مع النظام البعثي الذي تنظر إليه، منذ اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري العام الماضي في بيروت، على أنه فقد سيطرته على نفسه، وأصبح مصدرا للمخاطر واشعال الحرائق في المنطقة، ولا تحلم، أقل من العواصم الغربية، في عزله وفرض الحظر السياسي عليه، على أمل احتوائه وتطويعه.
وليس من المبالغة القول إنه لم يحصل توافق دولي ضمني منذ فترة طويلة حول أهداف حرب، بالرغم من المظاهر المخالفة الكاذبة، كما هو حاصل حول الحرب القائمة اليوم في لبنان. وهذا التوافق، الذي دفع إلى القبول باستمرار الحرب والدمار المرافق لها لأربع أسابيع متتالية، من دون أي اعتراض قوي لأي دولة، هو الذي يفسر منحى الاستثمار السياسي المطروح اليوم لهذه الحرب في مجلس الأمن، والذي من المحتمل أنه سيجعل من الصعب جدا التوصل إلى وقف فعلي للقتال.
فليس لمضمون هذا المشروع الفرنسي الأمريكي المقدم إلى مجلس الأمن للتصويت عليه هذه الأيام إلا معنى وحيدا واحدا، هو تفريغ النصر العسكري الذي حققه، من دون أدنى شك، حزب الله، في مقاومته الباسلة للعدوان الإسرائيلي الغاشم على لبنان، من محتواه وتحويله إلى هزيمة سياسية، ومن وراء ذلك معاقبة لبنان نفسه، الرسمي والشعبي معا، على وقوفه صامدا امام حرب التدمير الإسرائيلية، وعدم انقلابه على المقاومة الإسلامية، كما كانت تنتظر الدوائر التي خططت للحرب ونفذتها. فكما اعترف العديد من المسؤولين الاسرائيلين أنفسهم، يكاد هذا القرار يستجيب كليا لمطالب إسرائيل وحاجاتها، سواء في تساهله مع استمرار وجود القوات الاسرائيلية في الأراضي اللبنانية، بعد وقف العلميات "الهجومية"، بل مع استمرار العمليات العسكرية نفسها، كما ادعى ناطق باسم الحكومة الاسرائيلية، أملا باستكمال أهداف الحرب، أو بتأييده فكرة خلق منطقة عازلة في جنوب لبنان ووضع قوات دولية فيها حسب البند السابع، تكون مهمتها مساعدة الجيش اللبناني على نزع سلاح حزب الله، أو في جميع الحالات، تحييده وإزالة أي قدرة لديه على الضغط على إسرائيل، أو في الحديث غير الواضح عن ترسيم للحدود، يتجنب ذكر مزارع شبعا اللبنانية، أو في مطالبته بالافراج عن الجنديين الاسرائيليين الأسيرين وتجاهل الأسرى اللبنانيين.
وهذا يعني أن مجلس الأمن، والدبلوماسية الدولية، قد أقرا مشروعية تحقيق أهداف الحرب الاسرائيلية الأمريكية، بصرف النظر عن نتائج المواجهة العسكرية، في الوقت الذي كان جميع المراقبين يتوقعون، على أقل تقدير، أن يفتح توازن الردع النسبي، الذي أنجبه صمود المقاومة الاسلامية، الباب أمام تسوية سياسية شاملة للنزاع اللبناني الاسرائيلي، بكل ما يتضمنه من ملفات : احتلال الأرض والأسرى وضمان الأمن والاستقرار على الحدود. بل لقد كان الوضع الناشيء عن هذا الردع النسبي مناسبة مثالية لفرض حل دائم وشامل، يخرج لبنان من دائرة الصراع العربي الاسرائيلي، ويفرض في النهاية على حزب الله التخلي الطوعي عن سلاحه، والانضمام إلى بقية القوى اللبنانية لبناء لبنان الديمقراطي والسلمي معا. ولم يكن مثل هذا الحل في صالح لبنان فقط، ولكن في صالح إسرائيل أيضا، التي يهمها الفصل بينه وبين محيطه العربي والايراني. ورفض واشنطن وتل أبيب مثل هذه التسوية يلقي ضوءا جديدا على أهداف هذه الحرب نفسها، ويؤكد أن منطق الصراع والسيطرة والاستفراد بالقرار الإقليمي لا يزال هو السائد في الطرف الآخر، وليس منطق التسوية، حتى في صورتها الفردية المضرة بمصالح العرب ككتلة متعاونة أو مؤهلة للتعاون في ما بينها في المستقبل.
من حق لبنان الرسمي والشعبي أن يرفض مثل هذا القرار الذي يهدر قيمة تضحياته الكبرى ويكرس الهيمنة والاحتلال ولا يخدم سوى مصالح إسرائيل وأمنها. ومن واجب العرب ومصلحتهم دعم لبنان في رفضه هذا، والعمل بكل ما يملكونه من وسائل سياسية ودبلوماسية، من أجل فرض تسوية سياسية تؤمن حقوق لبنان المشروعة، وتخفف من نزوع إسرائيل إلى التصرف كما لو أنها هي التي تقرر مصير الشرق الأوسط ومصير أقطاره، وأنه لا وزن للعرب ولا مكان لهم ولا دور في كل ذلك سوى الإذعان. لا يتعلق الأمر بصدقية وجود العرب ككتلة أو مجموعة واحدة فحسب، فقد اختفت هذه الصدقية منذ زمن طويل، ولا بصدقيتهم تجاه شعوبهم، فهي معدومة تماما، ولكن بصدقية حكوماتهم تجاه محاوريها من الأمريكيين والاسرائيليين أنفسهم، وبالتالي بأسلوب تعامل هؤلاء مع هذه الحكومات واحترامهم لها.

mardi, août 01, 2006

من المسؤول عن دمار الشرق الأوسط؟


لا ينبغي لعمليات القتل الجماعي التي ترتكبها القوات الاسرائيلية في لبنان، والتي كانت مجزرة قانا الثانية نموذجا حيا لها، أن تخفي المأزق الذي وصلت إليه نظرية الأمن القومي الاسرائيلي القائمة على اعتبار التفوق العسكري الساحق أساس الردع الشامل والوقاية المؤكدة من احتمالات تعرض المصالح الاسرائيلية الاستراتيجية للخطر. بل إن هذه العمليات التي تشير إلى العودة إلى منطق الانتقام والقتل والإرهاب البسيط، ليست سوى التعبير عن هذا المأزق والرد الهمجي واللاعقلاني عليه. فما كانت تخشاه اسرائيل وتعمل جاهدة لابعاده عن الحدوث قد حدث بالفعل. فقد كشفت ضربات المقاومة اللبنانية، التي وجهت للأراضي الاسرائيلية في سياق المواجهة المستمرة منذ أسابيع ثلاثة، عن هشاشة هذه الاستراتيجية وانهيارها أمام صواريخ حركة مقاومة بسيطة لا تكاد تزن شيئا في موازين القوة الاستراتيجية العالمية. وأصبحت المدن الاسرائيلية، التي بقيت في منأى من ضربات الجيوش العربية منذ عقود، على مرمى الصواريخ القريبة والبعيدة. وحتى لو لم يشارك أي بلد عربي في هذه الحرب، قدمت معركة الصواريخ صورة مصغرة للحروب المحتملة الممكنة، وبينت الهشاشة البنيوية لاسرائيل ودفاعاتها الاستراتيجية في مواجهة أي قوى منظمة ومحدودة، تمتلك حدا أدنى من التصميم والإرادة. والدرس الرئيسي الذي يبنغي على اسرائيل أن تأخذه مما حصل هو أنها لن تستطيع الحصول على السلام والاستقرار بالقوة العسكرية، مهما بلغت هذه القوة من التقدم التقني، ومهما كانت درجة تفوقها على الدول العربية منفردة أو مجتمعة. فلم تكن هناك حاجة حتى إلى تدخل هذه الدول ولا إلى جمع قواتها معا كي يمكن اختراق حاجز الردع والرعب الذي حاولت إسرائيل أن تشيده خلال العقود الماضية، بتكرار الحروب التدميرية والانتقامية المتواصلة وعمليات الاجتياح والعقوبات الجماعية والتدمير المتواصل.
وما ينطبق على إسرائيل ينطبق على الإدارة الأمريكية نفسها. فلم تعد مشاركة واشنطن في الحرب الراهنة سرا على أحد، لا من حيث القرار ولا التخطيط ولا التصميم ولا الرعاية السياسية والدبلوماسية. لا بل إن هناك من المحللين من اعتبر أن إسرائيل تخوض حربها في لبنان بالوكالة عن الولايات المتحدة. لكن بصرف النظر عن ذلك، لا يختلف سلوك الإدارة الامريكية في سعيها إلى الدفاع عن رؤيتها للاستقرار العالمي وعن مصالحها الحيوية عن سلوك إسرائيل عموما. فهي تبني استراتيجيتها القومية أيضا على نظرية التفوق العكسري والاستراتيجي الحاسم، وتعتقد أن زيادة قدرتها على خوض الحرب في أكثر من مكان وعلى أكثر من جبهة، وانفرادها في ذلك، يشكل أو ينبغي أن يشكل رادعا يمنع أي قوة أخرى، رسمية أو أهلية، من التعرض للمصالح الأمريكية خوفا من عواقب الانتقام. لكن إذا كان هذا المبدأ يسري على الدول والجيوش الرسمية التي لا تستطيع إلا أن تحارب في مسارح مكشوفة، فهو لا يسري على القوى غير النظامية وغير الرسمية التي لا تعبأ كثير بنتائج عملها على المستوى الرسمي، بل تجد في انتقام القوة المتفوقة من المدنيين وتدمير البنى التحتية للدول والمجتمعات فرصتها لتعبئة ما تبقى من الرأي العام، وجره معها إلى معركة الكرامة والدفاع عن النفس. وكما ولد حزب الله ومقاومته من أنقاض المنازل والبنى التحتية المدمرة بالقصف العشوائي وعمليات الاجتياح الاسرائيلية المتكررة في جنوب لبنان، منذ ثلاثة عقود، نشأت قوى التمرد الاسلامية على أنقاض المشاريع السياسية الوطنية التي دمرتها سياسة القوة والتفوق العسكري الاسرائيلي والأطلسي في أكثر البلاد العربية، وفي مقدمها فلسطين والعراق.
فالقاسم المشترك بين اسرائيل والإدارة الأمريكية الحالية هو الرهان على القوة، وعدم الاعتراف بالطرف الآخر، ولا احترام مصالحه الرئيسية. وسبب هذا الرهان ومصدره واضح للعيان. إنه الطمع والأنانية والسعي إلى الاستئثار بالمصالح جميعا، وفرض الأمر الواقع والإذعان على الخصم، أي رفض الحلول السياسية، القائمة بالضرورة، وبقدر ما هي سياسية تحتكم إلى القانون والأخلاق لا إلى القوة المادية المدمرة، على القبول بتوازن المصالح وتقاسم المنافع بين الأطراف، بصرف النظر عن ضعفها أو قوتها.
وبعكس ما تردده تحليلات الدبلوماسيين والمراقبين الامريكيين والغربيين عموما، ليل نهار، لا ينبع الإخفاق في ايجاد حل لأزمة الشرق الأوسط، التي لا تزال الدبلوماسيات الامريكية والأوروبية ترسل المبعوثين لمعالجتها منذ عقود، من صعوبة المشاكل التي تطرحها، ولا من تعقد النزاعات التي تكمن في أساسها، وإنما من رفض هؤلاء مبدأ التسوية السياسية الذي هو مفتاح أي حل، في الشرق الأوسط وفي جميع مناطق العالم أيضا. فاسرائيل تريد الأمن والاستقرار المطلق على حدودها، لكن من دون أن تتخلى عن أهدافها التوسعية، سواء ما تعلق منها باحتلال الأرض أو حجز الأسرى أو ممارسة الحق في قصف المدن والقرى وتدمير بنيات المجتمعات، جراء أي مساس، مهما كان تافها او رمزيا، بأمنها أو سيادتها. وتريد إسرائيل استيطان الأرض الفلسطينية، وتقطيع اوصالها، وتحويل الفلسطينيين إلى مهجرين داخل وطنهم، وأن تقيم نظاما عنصريا أسوأ بما لا يقاس من النظام العنصري الذي كان قائما في جنوب أفريقيا، وترفض الاعتراف بأي حق مقاومة لهذا الاستيطان وذاك النظام، وتعتبره مساسا بسيادتها وأمن مواطنيها. وتبرر بذلك الاستخدام الدائم والشامل للعنف بكل أبعاده ضد الفلسطينيين. وهي تريد السلام كذلك مع سورية والعالم العربي، لكن مع ضم الجولان السوري كأمر واقع، وتحويله إلى أرض للاستيطان اليهودي المتوسع باستمرار. والنتيجة أن أمن اسرائيل واستقرارها لا يمكن ضمانهما إلا بتقويض الأمن القومي لجيرانها، وزعزعة استقرار مجتمعاتهم، حتى في حده الأدنى. بل إنها تطلب أن تجعل الدول العربية من هاجس الأمن القومي الاسرائيلي مركز اهتمامها، وتحوله إلى البند الأول في أجنداتها "الوطنية" نفسها إذا وجدت.
هذا التصور العصابي للأمن القومي والمصالح القومية عند إسرائيل، كما هو الحال عند الإدارة الامريكية، الذي يخفي طمعا لا حد له في السيطرة على مصالح الآخرين وحقوقهم، هو منبع الحروب ومفجر النزاعات في الشرق الأوسط، بما في ذلك النزاعات داخل البلاد العربية نفسها، التي تمثلت العديد من نخبها الحاكمة منطق السيطرة الاسرائيلية والامريكية القائم على الاستخدام المفرط للقوة، وطبقته على شعوبها. وجوهر هذا المنطق الاحتكام الدائم والأعمى للسلاح، بدل الحوار والتفاوض والتسوية. ولا يمكن لمثل هذا المنطق إلا أن يقود إلى طريق مسدود، أي إلى تخليد الأزمة وجعل الحروب والمعارك العسكرية والانقلابات اللغة السائدة في علاقات الشرق الأوسط الدولية والوطنية على حد سواء.
وهذا الانسداد، بما يعنيه من عجز مستمر عن ضمان الأمن، بالرغم من الاستثمار المفرط فيه، هو الذي يحول النزاع الخارجي إلى تنافس على انتاج العنف بين طائرات قوى الاحتلال والسيطرة الأجنبية، من جهة، ومجموعات المقاومة الوطنية أو شبه الوطنية، من جهة ثانية. وهو نفسه الذي يحول الصراع على السلطة بين الأطراف السياسية وجماعات المصالح، داخل المجتمعات، إلى مزايدة في العنف وتصعيد متبادل فيه، بين أجهزة الأمن، التي لا تكف عن تجديد وسائل القهر والبلطجة وتدمير البنيات المجتمعية المدنية لفرط الشعب وإخضاعه، وجماعات المعارضة، السياسية والأقوامية والمذهبية، التي تجد نفسها أكثر فأكثر مكرهة، للحفاظ على البقاء، إلى استخدام العنف، كما تفعل بعض الحركات الاسلاموية، أو إلى تبريره أو حتى استدعائه من جانب القوى الأجنبية.
من هنا، لا تترك الهمجية الاسرائيلية، مضافة إلى الأمبريالية الأمريكية، والعماء الأوروبي، خيارا للشرق العربي غير الاتجاه نحو العنف والفوضى والاقتتال الداخلي والإقليمي، ومن وراء ذلك تدمير النظم الاقتصادية والمدنية معا. فهذه السياسات اللاأخلاقية واللا إنسانية هي المسؤولة عن دمار نظام العلاقات الإقليمية بين دول المنطقة والتضحية به لصالح قانون الحرب المستمرة. وهي المسؤولة أيضا عن دمار نظام السياسة والقانون داخل الدول ذاتها، وتكريس نظام الحكم بالقوة وبالأحكام العرفية، بقدر ما أغلقت وتغلق الباب أمام أي سلام او استقرار إقليميين، أي بقدر ما تصر على إقامة هذا السلام والاستقرار على حساب الحق والقانون، وتراهن على العنف المستمر لفرض نظام الاغتصاب والبلطجة كأمر واقع على الأطراف الأخرى.
من هنا، لن تكون هناك قيمة للتدخلات الخارجية الإنسانية، ولا لقرار وقف إطلاق النار، ولا لقوات الفصل الدولية، ولن يكون بإمكانها وضع حد لمسلسل العنف والدمار، ما لم ترتبط بمعالجة أصل المشكلة. وأصل المشكلة ليس وجود حزب الل،ه ولا حكومة حماس، ولا تمرد نظامي دمشق وطهران وخروجهما عن الطريق المرسوم، وإنما في تجاهل المجتمع الدولي لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة التي نص عليها قرار الأمم المتحدة نفسه الذي أضفى الشرعية على قيام إسرائيل منذ أكثر من نصف قرن، وقبوله سياسة الاستيطان وتهويد الأرض والاستعمار المكشوف فيها، وتساهله مع سياسة ضم الأراضي بالقوة، كما حصل بالنسبة للجولان السوري المحتل ومزارع شبعا، وقبوله بمعاملة إسرائيل كدولة فوق القانون، والتغطية، المقصودة أو غير المقصودة، على جرائمها المستمرة.
وإذا ما أردنا إنقاذ الشرق الأوسط وإخراجه من محنته، فمن واجبنا أن نعمل جميعا، عربا وغير عرب، حكومات ورأيا عاما، على أن نجعل من محنة لبنان الحالية منعطفا في وعي الساسة الغربيين لهذه لخطيئة الأصلية، التي حولت الشرق الذي يتوسط العالم ويشكل عصبه، منطقة الزلازل السياسية والأخلاقية الرئيسية.