lundi, juillet 24, 2006

الهرب إلى الأمام لن يجنب أحدا الهزيمة


تشكل الحرب التي تشنها إسرائيل اليوم على لبنان حلقة جديدة من حرب إعادة السيطرة على الشرق الأوسط التي تدور رحاها منذ حرب العراق في 1991. وكما سعى حزب الله من خلال خطف الجنديين إلى استعادة زمام المبادرة السياسية من قبل دمشق وطهران في هذا الصراع الطويل، تسعى الحرب الاسرائيلية الشاملة على لبنان بالمثل إلى استعادة الأنفاس، واستكمال الحرب الأمريكية العراقية التي لم تنجح في حسم الأمور لصالح القوى الغربية، وتحقيق مشروع هيكلة المنطقة الشرق أوسطية على قاعدة الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الأمريكية الاسرائيلية بالدرجة الأولى. وهذا يعني أنه في الوقت الذي كان خطف الجنديين يمثل جزءا من "اللعبة" السياسية المقبولة حتى الآن، وهو ما طمأن حزب الله على محدودية المخاطر، أرادت واشنطن وتل أبيب من حربهما الجديدة أن تغيرا بالضبط من قواعد اللعبة التي اعتقد السوريون، وحلفاؤهم في طهران ولبنان معا، بسبب تغريز القوات الامريكية في العراق، أن في إمكانهم فرضها، وما تعنيه من تأكيد عجز المعسكر الغربي عن فرض نظام معاد لدمشق او مستقل عنها في بيروت، وضمان استقرار النظام السوري، وفرض ايران حقها في الحصول على التقنية النووية، التي تريد الولايات المتحدة أن تجعل منها تقنية محظورة على غير إسرائيل في المنطقة الشرق أوسطية.
من هنا ليس هناك أي سبب للاعتقاد بأن الحرب الراهنة مهيأة لوضع أوزارها قريبا، أو أن من الممكن أن تتوقف في محيط لبنان، أو تكتفي بتحجيم حزب الله أو القضاء عليه. إن هدفها الرئيسي هو بالضرورة سورية التي تشكل حلقة الوصل، والحلقة الضعيفة معا، في محور ثلاثي يجمع بين طهران ودمشق وحزب الله. فضرب النظام السوري هو وحده الذي يهدم هذا المحور الجديد الذي تكون لغايات مختلفة، لكن في مواجهة عدو مشترك. وهذه الأهداف الاستراتيجية البعيدة للحرب هي التي تجعل من إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية أمرا بعيد الاحتمال، قبل أن تحقق المعارك الراهنة حسما يبدو لي أن إسرائيل، وبشكل خاص الولايات المتحدة، مستعدة اليوم أكثر من أي فترة أخرى لدفع ثمنه في سبيل انقاذ رهاناتها الكبيرة المهددة في العراق والشرق الأوسط بأكمله. وهذا يعني أن الولايات المتحدة وإسرائيل تنظران إلى هذه المعركة بوصفها معركة مصيرية. وهي ستكون للسبب ذاته، وبالضرورة، مصيريه أيضا بالنسبة للأطراف الإقليمية المشاركة فيها، وفي مقدمها المقاومة اللبنانية الاسلامية التي يشكل القضاء عليها حلقة أساسية في تحطيم محور دمشق طهران ومن ورائه تطويع النظام البعثي وحرمان ايران من الحصول على التقنية النووية المنشودة. ومن الواضح أن حزب الله يدفع اليوم ثمن تحالفه مع عواصم هذا المحور، ويشكل الهدف الاول في حرب شاملة تتجاوزه بكثير.
ومن هنا لم يعد للحديث في صواب ما قام به حزب الله، من حيث التوقيت أو مشروعية استخدام المقاومة القومية والوطنية لأهداف السياسة الداخلية، قيمة كبيرة. فالمهم اليوم هو الحيلولة بكل الوسائل دون السماح للولايات المتحدة وإسرائيل بربح هذه الحرب، سياسيا إن كان ذلك غير ممكن عسكريا، خاصة إذا استمرت المقاومة اللبنانية تخوض المعركة لوحدها. ولعل هذا ما أدركه الرأي العام العربي عندما نزل إلى شوراع المدن العربية ليعبر عن دعمه وتأييده للمقاتلين العرب في وجه الخطة الاسرائيلية الأمريكية. فقد أدرك الجمهور العربي بسرعة، أنه لا مجال هناك للاختيار. فالوقوف إلى جانب المقاومة وفضح الحرب الاجرامية الاسرائيلية الأمريكية ودعم جميع الجهود الرامية إلى وقف العدوان هو الموقف الوحيد الذي يضمن حرمان تل أبيب وواشنطن من تسجيل نصر جديد لا يمكن إلا أن يترجم إلى تراجع جديد في المواقع العربية.
ومهما كانت الذريعة التي أطلقت شرارة هذه الحرب، التي اتخذت من لبنان مسرحها اليوم، قبل ان تنتقل غدا على مسارح أخرى، يظل المسؤول الرئيسي عما حصل ويحصل اليوم، وسيحصل في المستقبل، من كوارث على الشعوب والمجتمعات والبلدان، هو الوضع غير المقبول وغير المعقول الذي خلقه التوسع الاسرائيلي في فلسطين ولبنان وسورية معا، أي رفض الاسرائيليين والأمريكيين من ورائهم، القبول بأي حل سياسي يعيد الحد الأدنى من الحقوق إلى الشعوب المنكوبة، ويخرج المنطقة من الطريق المسدود الذي أدخلها فيه منطق الغلبة العسكرية وكسر الإرادة وإنكار الحق والسيطرة بالقوة، كما تبرهن على ذلك الأوضاع على جميع الجبهات بالتساوي، الفلسطينية واللبنانية والسورية والعراقية والايرانية. فجوهر الموضوع وأصل الخطأ هو هذه السياسة بالذات، أي أهدافها ووسائلها وتكاليفها المدمرة بالنسبة لشعوب الشرق جميعا. ولا ينبع التأييد الساحق الذي تحظى به أعمال المقاومة اليوم من الاعتقاد بما يمكن أن تحققه هذه الأعمال من انتصارات، بقدر ما ينبع من إرادة التأكيد على رفض الخضوع والاستسلام لهذه السياسة بالذات.
ولذلك، لا ينبغي لنا أن نكف عن ترداد أن القضاء على المقاومة اللبنانية أو تطويع النظامين السوري والايراني لن يشكلا أي مخرج من الأزمة التاريخية التي نعيشها منذ عقود، والتي تسعى الحروب المدمرة الاسرائيلية والأمريكية إلى تجنب مواجهتها. فلن يمكن انهاء الصراع، مهما كانت نتائج الحرب الراهنة، مادامت فلسطين والجولان ومزارع شبعا محتلة، وسياسة الهيمنة والسيطرة ورفض الاعتراف بحق تقرير الشعوب العربية هي السياسة الوحيدة المنظورة من قبل العواصم الأمريكية والاسرائيلية والأوروبية. فمن دون العودة إلى مباديء السياسة الدولية، وايجاد الحلول العادلة والمقبولة لمسائل الاستيطان والاحتلال والسيطرة الخارجية الاستعمارية أو شبه الاستعمارية، وإنهاء فكرة تغييب الشعوب عن حقوقها ومصالحها الوطنية، لن تكون نتيجة الاستخدام المفرط للعنف سوى تفجير عنف مقابل لا يقل عنه عماءا وتعصبا واستهتارا بالقيم والمباديء الأخلاقية والانسانية. وليس هناك أي ضمانة أن لا يسفر القضاء على حزب ا لله عن ظهور حركات أكثر تشددا، تماما كما أسفرت هزيمة القوى القومية والوطنية في العقود الماضية عن نشوء الحركات الاسلامية المتطرفة والأكثر تطرفا.
إن الاستمرار في بث الدمار والرعب والموت في الشرق العربي يعكس إخفاق السياسات الأمريكية الإسرائيلة وعجزها عن تحقيق أي إنجاز سياسي ونزعتها الدائمة إلى الهرب إلى الأمام والمراهنة المتزايدة على العنف والقتل. ولا يمكن لمثل هذا الهرب، الذي يشكل بديلا عن البحث عن حلول حقيقية وقانونية وعادلة للنزاعات والمشاكل القائمة، إلا أن يقود المنطقة برمتها إلى الانزلاق نحو البربرية. فبقدر ما تسعي واشنطن وإسرائيل في مسعاهما لإعادة بناء النظام شبه الاستعماري المتهاوي في الشرق الأوسط على أنقاض الأمة العربية ومطامح العرب وآمالهم، إلى المغالاة في العنف والإفراط في استخدامه كما هو واضح الآن، فإن الدمار النابع منه لا يمكن أن يؤسس لأي خيار آخر في المجتمعات المدمرة سوى العنف والمقاومة. ومهما بدا الجمهور العربي ساكنا اليوم، ستأتي لحظة لا تعود فيها المقاومة بالنسبة للرأي العام العربي خيارا سياسيا بين خيارات، وإنما رد الفعل العفوي والطبيعي على إغلاق كل طرق التقدم والرفاهية والديمقراطية والاستقرار أمام الشعوب. إن القول بأن العنف الاستعماري هو المؤسس للعنف في المجتمعات الخاضعة لم يكن أكثر صدقا في أي منطقة من العالم مما هو عليه في منطقتنا اليوم.

vendredi, juillet 14, 2006

مقابلة السفير 14 تموز06


2006/07/14السفير

weekly_culture
ينبغي الكفّ عن التطلع إلى حلول مثالية ورخيصة
برهان غليون: نحن مسؤولون بقدر ما نقبل السلطة ولا نذكّرها بحقوقنا
جابر الدمشقي
برهان غليون أستاذ علم الاجتماعي السياسي، مدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس حائز على دكتوراه الدولة في العلوم الإنسانية، وأخرى في علم الاجتماع السياسي. له العديد من المؤلفات بالعربية والفرنسية أهمها: <بيان من أجل الديموقراطية>، <المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات>، <الطليعة مجتمع النخبة>، <اغتيال العقل>، <الوعي الذاتي>، <ما بعد الخليج>، <نقد السياسة الدولة والدين>، <المحنة العربية>، <الدولة ضد الأمة>، <ثقافة العولمة>، مع سمير أمين <النظام السياسي في الإسلام>، مع سليم العوا، إضافة إلى العشرات من المؤلفات الجماعية والدراسات والتحليلات السياسية والاجتماعية المنشورة في المجلات والصحف اليومية. نحاوره اليوم حول قضايا وهموم الشباب العربي الموضوع الأهم في مجتمع يشكّل الشباب فيه النسبة العظمى، ونبدأ أولاً بمحاولة تلخيص الواقع الراهن.
دكتور غليون: يعاني الشباب في العالم العربي وسوريا من عدد كبير من المشكلات منها البطالة وعدم المشاركة في صناعة القرار السياسي والميل نحو التطرف الديني أو العرقي أو الإيديولوجي، فما هو توصيفك للوضع الراهن؟
عندما نتحدّث عن الشباب في العالم العربي، فنحن نتحدث في الواقع عن أكثر من 60 بالمئة من الشعب لا عن فئة قليلة أو هامشية. ولذلك فإن مأساة الشباب العربي جزء أساسي من مأساة الشعوب العربية التي يتعامل جميعها ككم مهمل، وتفرض عليها الوصاية الفكرية والسياسية. لكن، أكثر من ذلك، يشكل الشباب في جميع المجتمعات الخزان الكبير للمواهب والتجديدات و الإبداعات التي من دونها لا تقوم حياة اقتصادية ولا فكرية ولا سياسية. وعليهم تتوقف تغذية الدولة والاقتصاد والمؤسسات الاقتصادية والأحزاب والجمعيات بالأطر والكوادر الحية والنشيطة، لأنهم الأقدر على التضحية والبذل، والأسرع إلى الأخذ بالمعارف الجديدة، ومراجعة التجارب السابقة، وتقديم مقترحات للتجدد والتطور في جميع مجالات الحياة الاجتماعية. فإذا همش الشباب ومنعوا من التفكير والحركة، كما هو الحال في النظم البيروقراطية التسلطية التي تعيث فساداً في البلاد العربية، ومنها سوريا، وتمّ تعليبهم في منظمات خاضعة مباشرة لأوامر السلطة الأمنية، ضاع الأمل في أي تجديد أو نقد أو تغيير، وقضي على روح المبادرة الاجتماعية. وهو ما سعت ولا تزال تسعى إليه السلطة البعثية القائمة التي لا أمل لها بالاستمرار إلا بتعقيم المجتمع و<غربلته> وتحجيره وقتل روح الشبابية فيه. فليس لسلطة الوصاية الأمنية والحزبية المفروضة على المجتمع من هدف، مع ما تعنيه وتتضمنه من حرمان الأفراد من ممارسة حقوقهم الطبيعية، في النفاذ إلى المعلومات وتمثل المعارف، والتعبير عن آرائهم ومواقفهم، وتنظيم شؤونهم بأنفسهم، سوى فرض الإذعان على شعب كامل، ومنعه من التطور الفكري والسياسي، حتى يبقى شعباً أسيراً وقاصراً، غير أهل لتحمل مسؤولياته وتسيير شؤونه بنفسه. وعلى هذا القصور تراهن النخب الحاكمة للحفاظ على الوضع القائم والمصالح الضيقة التي تمثلها. وفي سبيل ضمان استمراره ترفض تعديل القوانين الاستثنائية التي أمّنت لها الوصول إلى ما هي فيه، والتي تقوم على إلغاء الحريات والحقوق الأساسية وعلى حظر المشاركة وتحويل الجميع إلى أدوات في يد الآلة العسكرية والأمنية المسيطرة على جميع مقدرات البلاد.
سؤال: ما هو تعريفك للمشاركة في صناعة القرار؟
من خصائص السياسية الحديثة، أنها لم تعد رهينة ملك ملهم، أو يدّعي الألوهية والإلهام، ولا حكراً على طائفة أو طبقة ارستقراطية أو طائفة اجتماعية، ترث وظيفة الأمر والحكم جيلاً عن جيل، كما كان الحال في المجتمعات الإقطاعية والارستقراطية. كما أن السياسة لم تعد في العصر الحديث قرارات مفروضة من قبل نخبة، مهما كانت سمّتها ومواهبها وكفاءاتها، على شعب يفتقر إلى السيادة ويعامل معاملة الأتباع أو الأقنان والعبيد. ولكنها أصبحت، في المفهوم الحديث، ثمرة مشاركة شعبية على مستوى الأفراد والجماعات معاً، بقدر ما حطّمت النظرية السياسية الحديثة مفهوم وصاية الطبقة الارستقراطية، وأعادت إلى الشعب كله حق السيادة. فالسيادة تعني أن الشعب هو مصدر السلطة، وأنه هو الذي يقرر، عبر انتخابات تعبر عن رأي الأغلبية واختيارها، في أمر القيادة التي ستدير شؤون البلاد لفترة محددة، وحسب قانون ودستور واضحين. وتعني السيادة أن القيادة السياسية لن تكون شرعية، ولن تحظى بدعم الرأي العام وتأييده، وبالتالي بخضوعه الطوعي للقوانين والقرارات وتطبيقه لها، إلا إذا كانت منبثقة من خيار شعبي معبر عنه بصورة واضحة من خلال انتخابات نزيهة وشفافة وتنافسية. وأن السياسات التي تطبقها هذه القيادة المنتخبة هي نفسها خاضعة باستمرار لموافقة الشعب ومراقبته. وأن أهل الحكم هم خدام للشعب وموظفون عنده، يسحب منهم الوكالة التي أعطاهم في أي وقت، إذا اعتبر أنهم لم يؤدوا المهمة أو لم يفوا بالالتزامات المرتبطة بمناصبهم. فالمشاركة في صناعة القرار أساس شرعية السلطة ومنطلق الشرعية ومبدؤها باحترام حق كل مواطن في التعبير عن رأيه في نوع القيادات السياسية التي ستتولى شؤون الدولة، وفي أسلوب ممارسة هذه القيادات للسلطة، سلباً أو إيجاباً، من خلال وسائل إعلام حرة ومستقلة، وحق كل جماعة مهنية أو اجتماعية في التظاهر والاحتجاج للدفاع عن مصالح جزئية، وحق الاستشارة والاستفتاء في جميع الأمور التي لا يقدّم الدستور ولا القانون تفصيلاً أو تفسيراً واضحاً لها. فالشعب، أي مجموعة المواطنين الذين يكونونه، هم المرجعية الأولى والأخيرة للسلطة. ولا يحق لحاكم أن يعمل بما يخالف رأي الشعب واختياراته كما تعكسها الانتخابات وتقرّرها الأكثرية العددية. وكل مخالفة لهذا الرأي هي مخالفة للدستور وخروج عن الشرعية وتهديد للوحدة الوطنية.
أساليب الإدارة المملوكية
كيف ترى الطريقة المناسبة لحل مشكلة عدم المشاركة في صناعة القرار السياسي، في العالم العربي؟
رفض الحاكم الاعتراف بحق الشعب في المشاركة في صناعة القرار عندنا ليس قضية جزئية. إنه الثمرة الطبيعية والحتمية لإلغاء السيادة الشعبية لمصلحة سيادة مفروضة بالقوة للأجهزة الأمنية المقنعة غالباً بنزعة أبوية، وأحياناً بدين عبادة الشخصية وتأليه الحاكم واعتبار كل ما يصدر عنه، من أفكار أو قرارات أو مواقف، خطوطاً حمراء لا يجوز اجتيازها، ومحرمات لا ينبغي التناقش فيها ولا التفكير في مضمونها ولا، من باب أولى التشكيك في صلاحها المنطقي أو السياسي. فالمطلوب تطبيقها كما لو كانت أوامر دينية ومقدرات إلهية. ولا يمكن حل مشكلة المشاركة السياسية إلا من خلال العودة إلى مفهوم السيادة الشعبية، التي تعني كما ذكرت أن الشعب هو مصدر السلطات، ولا شرعية لأي قرار ولا تصديق أياً من السياسات من دون استشارة الشعب، سواء أكانت الاستشارة عبر الانتخابات التشريعية التي تمكنه من انتخاب ممثليه في مجلس تشريعي يقر القوانين ويراقب تنفيذها، أو من خلال الاستفتاءات الخاصة، أو عبر الرأي العام المعبر عنه في الصحافة والإعلام الحر، أو من خلال التظاهرات المختلفة، المادية واللامادية، للرأي العام. ونحن نعيش اليوم صراعاً مريراً بين نمطين من الشرعية المرتبطة بمفهوم السيادة هذا. نمط يلغي سيادة الشعب كلياً، ويرفض استشارته بأي شكل كان، ويفرض الوصاية عليه، بذريعة أنه جاهل و أمي، أو خاضع لتأثير القوى الظلامية، أو غير مدرك لتعقيدات السياسة الدولية، ونمط آخر يسعى إلى انتزاع السيادة للشعب، ويعتبر الحكم باسم الثورة أو الانقلاب أو السيطرة العسكرية أو تفوق القوة، أو باسم الملك أو الرئيس الملهم والأب القائد، اغتصاباً للسلطة، ويرفض تكريسه كأمر واقع وحقيقة نهائية. ومصير المشاركة مرتبط بحسم هذا الصراع لمصلحة أنصار السيادة الشعبية. وفي الحالة الثانية ليس هناك شك في أن البديل هو العودة إلى ثقافة القرون الوسطى السياسية وأساليب الإدارة المملوكية للمجتمعات. أي ضبط المجتمعات بالقوة العسكرية والعنف لحساب نخبة ارستقراطية تملك البلاد والعباد ولا تسأل عما تفعل ولا تقبل بوضع سياستها واختياراتها السياسية أمام أي مساءلة أو مناقشة أو اعتراض.
سؤال: ما هي آليات بناء وتطوير المشاركة في صناعة القرار السياسي العربي؟
المشاركة لا تحتاج فقط إلى نظام سياسي يعترف بالسيادة الشعبية ويوفر شروط ممارستها والتعبير الحقيقي عنها فحسب، وإنما تحتاج كذلك إلى وجود أفراد مواطنين يعرفون حقوقهم وواجباتهم وقادرين على تحمل مسؤولياتهم في قيادة الدولة أو في المشاركة في بلورة القرارات السياسية. أي إلى رجال واعين، متضامنين وأحرار معاً. فالوعي بالمصالح العامة والتضامن للدفاع عنها وحمايتها من سيطرة شبكات المصالح الخاصة والدفاع عن الحرية والتمسك بقيمها، أي رفض الإمّعية والتبعية والتسليم للآخرين، هي من الشروط الأساسية لممارسة المسؤولية. ومن لا وعي له بالمصلحة العمومية ولا قدرة له على التعاون مع غيره أو النظر فيما وراء مصالحه الأنانية، ومن لا يشعر بالحرية أو لا يعتبر نفسه حراً وسيداً، لا يقبل تحمّل المسؤولية ولا يعرف مضمونها ومعناها. وبالعكس بقدر ما تدفع التربية السائدة في مجتمع من المجتمعات الأفراد إلى تعلم حمل المسؤولية وتدربهم على إدارة شؤونهم بأنفسهم، وعلى مناقشة الأمور بصورة عقلانية، تؤهلهم للمشاركة في الشؤون العمومية وتشجعهم على رفض الاستقالة الأدبية والسياسية. وبالمقابل لا تهدف سياسات النظم الاستبدادية، القائمة على تخويف الناس وإرهابهم ومنعهم من التفكير أو العمل في السياسي، سوى إلى ردعهم عن الاهتمام بالشأن العام، ودفعهم إلى الاستقالة السياسية والأخلاقية، بحيث لا يعود هناك فرد يهتم بما يحصل للفرد الآخر، ولا يفكر إلا بضمان بقائه وحفظ مصالحه الشخصية. وهو ما تعيشه قطاعات أساسية من شبابنا اليوم، وما يجعل الحياة الاجتماعية والعمومية تبدو في نظرهم صحراء قاحلة، لا ترضي العقل ولا الضمير، ولا تفتح أي نافذة للأمل في المستقبل. وليس من المستغرب في هذه الحالة أن ينزع العديد من الشباب إلى الهرب من هذا الموقف العدمي أخلاقيا وسياسيا نحو الحلول المتطرفة، الدينية أو المادية الاستهلاكية. فينقسمون، كما هو ملاحظ الآن، بين متدينين من دون تسامح في أي شأن، ومتغربين من دون أي دين، أي عدميين من دون أي مبدأ أو مثال.
سؤال: ماذا عن دور المشاركة في بناء المجتمع السليم؟
ما ذكرته عن وجود الفرد المواطن القادر على تحمل المسؤولية، يضع مسؤولية كبيرة على النخب المثقفة والسياسية الديموقراطية في بناء المجتمع السليم. فالسياسة مسؤولة إلى حد كبير عما يعيشه المجتمع السوري من مآزق ومآسي اليوم، بما في ذلك عن تخليد نمط الاستبداد ودفع المجتمع إلى الاستقالة من الشأن العام والانطواء على المصالح الخاصة الجزئية، وهو شرط سيطرة النخب الحاكمة بالقوة وحدها. لكن السياسة لا توجد من دون الثقافة أو خارج بيئة ثقافية معينة. وبقدر ما ربحت السلطة القائمة معركة الثقافة، أي قتلت حس الحرية والاستقلال والسيادة والضمير الجمعي عند الفرد، وجعلته ينظر بالفعل إلى نفسه وكأنه فأر صغير عاجز ومشلول أمام القوة القاهرة، فقد ضمنت سيطرة المواقف السلبية، والانسحاب من الشأن العمومي، وأمنت تجديد نظام الاستبداد. وبالعكس بقدر ما يستعيد الفرد شعوره الإنساني واحترامه لنفسه وإدراكه لقدرته على تمييز الحق والباطل وتحمل المسؤولية الفردية والجمعية تتطور مواقفه الايجابية تجاه نفسه والمجتمع، ولا يبقى هناك أي أمل أو أساس لاستمرار حكم الاستعباد والقهر والإرهاب القائم.
تغيير المناهج
سؤال: هل تعتقد أن تغيير المناهج التعليمية سيساعد في رفع سوية المشاركة الفعالة في صناعة القرار السياسي؟
نعم بالتأكيد. لكن من سيغير هذه المناهج؟ وهل تسمح السلطة الاستبدادية التي عملت المستحيل من أجل تجويف الوعي والضمير، وتفريغ البرامج من كل ما يساعد على نمو الفكر النقدي والحس الجماعي بالمسؤولية، بإعادة النظر في هذه البرامج في الاتجاه المطلوب؟ يبدو لي أن الأمر يتوقف في المرحلة الراهنة، على الشجاعة والتضحية ونكران الذات عند الشباب لفرض علاقة أخرى غير علاقة الاستتباع والخنوع و الإمّعية، داخل المدرسة والحزب والدولة. بعد ذلك، بالتأكيد، لا يمكن أن نتحدّث عن تربية ديموقراطية، أي عن تعليم الأجيال والشعوب عموماً مفهوم الحق والواجب والمسؤولية، من دون إصلاح تعليمي وتربوي واسع. كما أننا لا ينبغي أن ننسى الجهد المطلوب لتغيير سلوك الأفراد داخل الأسرة وفي الشارع وعلى مستوى العلاقات بين الجنسين أيضاً، وزرع قيم جديدة قائمة على الاحترام والمساواة والتضامن، وهي قيم تكاد تضيع كلياً اليوم في سياق تحريم الاهتمام بالشأن العام وتوجيه الناس نحو التنافس والتناحر على مراكمة المنافع والثروات والمصالح الفردية الأنانية.
سؤال: ماذا عن تنشيط دور مؤسسات المجتمع المدني؟
كل ما ذكرته يتعلّق بنشاط مؤسسات المجتمع المدني. فالأفراد لا يوجدون خارج المجتمع المدني، سواء أتجسّد هذا المجتمع في الأسرة أو المصنع أو المدرسة أو الجمعية أو المنتدى الفكري أو الحقوقي أو الحي أو القرية أو المدينة. لكن التجربة الماضية بيّنت أن تنشيط مؤسسات المجتمع المدني مرتبط هو نفسه بشروط العمل السياسي. ففي نظام يعتبر أن توقيع بيان يشكل بحد ذاته عملاً سياسياً عدوانياً يستحقّ صاحبه الحبس، وربما الأشغال الشاقة مدى الحياة، من الصعب بناء مؤسسات مجتمع مدني نشيطة وفاعلة. فهي ستبقى محاصرة لا محالة من قبل الأجهزة نفسها التي تحاصر الفرد في المدرسة والمعمل والدائرة الرسمية والمؤسسة الخاصة، بل في الطريق.
سؤال: يعتبر البعض أن المشاركة لا تكون إلا بوجود فكر داخل هذا المجتمع يضغط للخروج بشكل من أشكال التعبير؟ ويعتبر البعض الآخر أن السلطة هي المسؤولة عن انقطاع المشاركة، فمن المسؤول برأيك عن توفير القنوات الشرعية للتعبير عن الرأي؟
السلطة هي المسؤولة الأولى عن غياب المشاركة السياسية، لأنها تحرم الناس علناً منها عندما تكون استبدادية أو تتلاعب بإراداتهم واختياراتهم أو في أفضل الحالات تعجز عن توفير شروط ممارستها. وهي تخلق في بلادنا أجهزة قمعية كلية القدرة والجبروت ومتحررة من أي محاسبة قانونية، من أجل ردع الأفراد وقتل روح المسؤولية الجماعية فيهم ومنعهم حتى من المطالبة بالمشاركة أو الحديث فيها. إن أكبر ما يعاقب عليه القانون، قانون الاستبداد، في مجتمعنا، هو التضامن بين الأفراد وسعيهم لممارسة حقوقهم السياسية، بل والمدنية البسيطة، بينما يعيش المجرمون وناهبو المال العام حياة وديعة لا يخشون فيها شيئاً. لكن بعد ذكر هذا ينبغي القول أيضاً أننا جميعاً مسؤولون، بقدر ما قبلنا هذه السلطة ولم نعمل على تذكيرها بحقوقنا وفرض قواعد ومعايير السياسة الحديثة عليها. أي بقدر ما قبلنا أن نكون أقناناً، ودفعنا أصحاب السلطة الغاشمة المفروضة بالقوة علينا إلى أن يتحوّلوا إلى أسياد إقطاعيين قساة ومتجردين من كل قيمة أو معيار.
سؤال: ذكرت في حديثك عن هروب الشباب باتجاه التطرف، كيف ترى الحل للتخلص من هذه الظاهرة بكل أشكالها وأطيافها الدينية والعشائرية والإيديولوجية؟
أراه في توفير شروط الحياة الكريمة للجميع. وهو ما يعني الاعتراف بالناس، بصرف النظر عن أصلهم وعقائدهم ومرتبتهم الاجتماعية، واحترام حقوقهم وآرائهم، وعدم التعامل معهم كما لو كانوا أدوات أو دمى تتلاعب بها أجهزة لا يهمها سوى حماية أصحاب المصالح والحاكمين. كما يعني حداً أدنى من المعيشة المادية والمساواة والعدالة الاجتماعية والقضاء السليم، وبالتالي الحدّ من فحش الإثراء غير المشروع، والتفاوت الصارخ في المداخيل، ومن تذليل القضاء للمتنفذين وحرمان الشعب أو أغلبيته من أي حماية في مواجهة العسف والاحتيال والاضطهاد و الإذلال والتنكيل في كل صوره وأشكاله. إن إتاحة الفرصة كي يكون الإنسان إنساناً، ووقف التعامل معه كما لو كان عبداً مأموراً، أي وقف القهر والظلم والتسيير ب<الرومونت كنترول> وكسر احترام الناس لأنفسهم، هو الطريق إلى التخلّص من التطرف والاحتماء بالعصبية العشائرية التي يلجأ إليها بعض الأفراد للتعويض عما يعانونه من احتقار وتهميش وإنكار لوجودهم وهويتهم، ومن ظلم وعدم اعتبار.
سؤال: أخيراً وصفة مختصرة كحل لمشكلات الشباب العربي والسوري؟
الكفّ عن التطلع إلى حلول مثالية ورخيصة، سواء عن طريق الهجرة إلى الخارج أو عن طريق الهرب من الواقع والانطواء الجماعي والفردي على الذات، وبالعكس، النظر إلى الأمام وإلى ما هو موجود وقائم، وأعني به البلد، بلدكم. هذا هو مستقبلكم. لا تتركوه يُنتزع منكم، ولا تسمحوا لزمر ضئيلة من الفاسدين وأصحاب الضمائر الميتة، والمتاجرين بالقومية والوطنية الرخيصة، والمجرمين والمحتالين، أن يسرقوه منكم، ويمنعوه عنكم، أنتم أصحابه الحقيقيون. فهو مستقبلكم وملاذكم وآخرتكم. وهو مفتوح الذراعين لكم، ينتظر أن تخلصوه من محنته وتنزلوه عن صليبه حتى يصبح بلدكم، بل وطنكم. أنقذوه ينقذكم. وليس لكم عنه أي بديل.

2006 جريدة السفير

jeudi, juillet 13, 2006

مقابلة القدس العربي 13 تموز 06

حوار مع المفكر برهان غليون عن الثقافة وسورية والمعارضة: الضغوط الأمريكية على سورية أضرت بآمال التقدم والتحرر ولأنها ارتبطت بأجندة الاستعمار وعلاقات الهيمنة المعارضة السورية ضعيفة.. وثلاثة أرباع الشعب في المعارضة دون تنظيم.. والنخبة السياسية تريد الشعب شحاذا
حاورته: فاطمة عطفة: صحيفة القدس العربي 13/7/2006
هذا لقاء تم في مدينة أبو ظبي مع الدكتور برهان غليون، وفيه اضاءة او اضاءات علي الكثير من القضايا الفكرية الساخنة التي تشغل بال المثقفين في العالم العربي. وغليون يتمتع بمكانة فكرية ونضالية متميزة، وله حضوره الفعال في المنتديات العالمية. وهو أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس. وله العديد من المؤلفات، من أهمها بالعربية: اغتيال العقل ، بيان من أجل الديمقراطية ، المسألة الطائفية و مشــكلة الأقليات .
البداية: الاغتراب بعيدا عن سورية، المزايا التي حصلت عليها من جراء هذا السفر سواء في المجال الأكاديمي في باريس أو الحضور الفاعل في المنتديات العالمية مقارنة مع زملائك في الدراسة الذين بقوا في سورية؟
أهم شيء أن الإقامة في الخارج تتيح للإنسان أن يعيش في مناخ إنساني حر.. بمعني ألا تكون الضغوط اليومية، والضغوط التي لا علاقة لها بالمشاكل التي يفكر فيها، هي التي تحدد سلوكه، أي أن يعيش الإنسان في مناخ طبيعي، وليس مناخا مليئا بالضغوط والإكراهات والحساسيات والمراقبات. بصرف النظر عن الظروف السياسية، نحن مجتمع مراقبة، مجتمع ضغط علي الفرد وتقيد حريته، ويُطلب من الفرد أن يتأقلم أكثر ما يمكن مع الجماعة، وبالتالي: نحن أيضا مجتمع تقليدي ومحافظ من ناحية العلاقات بين الأفراد، حتي علي مستوي السلوك والقيم التي تتغير بسرعة، ولكن لا يزال هناك علاقات كثيرة محافظة، لأن مجتمعاتنا بسيطة نسبياً علي مستوي التكون الطبقي، وهي تختلف عن المجتمعات الصناعية. أما الاغتراب فقد أعطاني الحرية الفردية، والمسؤولية ومناخ الشعور بهذه المسؤولية. وفي هذا المناخ يكون عند الإنسان قدرة علي أن يبذل جهده للقضية التي يعمل من أجلها، ولا يكون ثلاثة أرباع شغله مكرسا لشيء آخر حتي يؤمن ظروف معيشته. هناك تكون ظروفه آمنة وهو موجود بشكل طبيعي وقادر أن يعمل ما يشاء. أما السلبيات في البعد عن الوطن، فأنا أقول إنه صعب، ولكني كنت دائما قريبا ومنخرطا في قضايا شعبي وهموم أمتي. أنا من الناس الذين أرهقهم الشعور السياسي، وكنت ملتزما بالثقافة وبالمجتمع. أنا من الذين راحوا إلي أوروبا علي أساس أن يرجعوا ويشتغلوا في تغيير المجتمع، مثل كل الأجيال من المثقفين العرب. أول ما يصير الواحد يقرأ ويفكر يشعر بأنه وقع علي كاهله العمل علي تغيير المجتمعات وتحديثها وتطويرها، ولكن ظل المجتمع ـ ليس السوري فقط ـ بل المجتمع العربي وهو ساكن وكأنما لا يعنيه تفكيرنا. كل فترة الدراسة كانت مركزة أيضا، دون أن نشعر، علي تحليل وتفكيك المجتمع العربي، وإعادة تركيبه علي أسس جديدة. فنحن نعيش فــــي العالم العربي حتي لو كنا نقيم علي الأرض الأوروبية، لقد بقينا نعيش فيه فكريا ونفسيا أيضا، هذا كان يخفف عنا الشعور بأننا منفيون، وإن لم يوجد هذا الشعور عندي، بل كنت أشعر أني في بلد ثان وهمومي ما زالت نفسها وعلاقتي مع الوطن ما زالت علي الرغم من مرور ست وعشرين سنة لم أعد إلي البلد إلا في زيارات قليلة جدا وقصيرة. هذا طبعا هو الشيء السلبي الذي تمثل في عدم رؤيتي الأهل، عدم رؤيتي الأصدقاء، وعدم التواصل مع الناس الذين عشت معهم في البداية، والناس الذين تربيت معهم. وفي مجال العمل أيضا، نحن في أوروبا صرنا ننظر ونشتغل في الثقافة، بينما كانت نشأتنا وشبابنا في السياسة، وهمنا السياسي كان كبيرا. الحقيقة أننا دخلنا في الفكر وانشغلنا بالثقافة من خلال السياسة، وهذا يعني تمردا علي الوضع الاجتماعي، وتمردا علي النظام التقليدي القائم، وكانت الممارسة السياسية في تصورنا. ولكن في أوروبا تعلمنا أن نعيد التفكير بشكل أساسي في سلوكنا، في تفكيرنا في التغيير، وأن نطور أيضا رؤيتنا للتغيير، كانت تلك خطوات مفيدة أيضا في هذا السياق. لماذا لا يؤثر المفكر علي السياسة أكثر المفكرين في الغرب أو في أمريكا يكون لهم تأثير كبير في السياسات القائمة في بلادهم، وقد لاحظت في الملتقي الأخير أن وزير الدفاع الأمريكي السابق عرض أفكارا وشواهد من أعمال المفكرين والأدباء في بلاده. أنت مفكر عربي صدرت لك كتب عديدة في الثقافة وعلم الاجتماع.. سؤالي: لماذا تظل مؤسساتنا السياسية غير قادرة علي أن تستفيد من أي كتاب عربي؟.. أقصد عدم تأثير المفكرين العرب في بنية وتفعيل السياسة والتغيير الاجتماعي.. لأن المفكر العربي بقي بعيدا أو معزولا إلي حد كبير عن السياسة؟ الحقيقة أن التحولات في الوطن العربي وبشكل عام، منذ الخمسينيات من القرن الماضي، حصلت بشكل يمكن أن نسميه مصادرة للسياسة والثقافة. مجموعة صعدت علي ظهور الدبابات وقامت بذلك، لم يكن عندها أصلا تراث ثقافي، ولا هم ثقافي ولا سياسي. وصعودها علي ظهور الدبابات جعلها تعتمد القوة. لا يوجد عندها أي هم فكري، ولم تشعر بضرورة تطوير فكرها وثقافتها بشكل عام. صعودها أعطاها شعورا بأن الذي يحسم الأمر والذي يحكم هو القوة. وهناك نخب بدأت تتفاعل مع القوة ولا تزال، ثم انتقلت بالعمل مع أجهزة الأمن والرهان علي أجهزة الأمن.. واستمرت علي قمع المواطنين، علي قمع الحريات والحد من حرية التعبير حتي تستمر بالسلطة وتستمر بالوجود.. وجودها نفسه صار معاديا للثقافة. وصارت تشعر أنه حتي تبقي بالحكم يجب أن تلغي الثقافة، يجب أن تلغي الحرية، يجب أن تلغي المثقف الذي كانت هي قريبة منه أو كان بعض المثقفين قريبا منها. لذلك أنا كتبت منذ خمس عشرة سنة سلسلة من المقالات كان يجب أن تصدر في كتاب وحتي الآن لم تصدر. سميتها محنة المثقفين العرب . المثقفون العرب، في الحقيقة، هم الذي كانوا وراء تشكيل الأحزاب القومية واليسارية.. وحتي الليبرالية. لكن حين وصلت تلك الأحزاب إلي السلطة كان المثقـــــفون انفسهم ضحيتها الاولي والذين حرموا من كل فرصـــــة، حتي للتعبير عن وجودهم، او حتي للتعبير عن آمالهم وأفكارهم. وسيـــــطرت نخبة سياسية باسم الحزب وتحولت إلي نخبة بيروقراطية مرتبطة بأجهزة الأمن، همومها لا تتعدي ـ إلي حد كبير ـ مصالحها الشخصية وتأمين موارد أكبر وثروات أكبر. نحن نقول: إن مصادرة حقيقية للفكر حصلت، مصادرة أيضا للسياسة فأصبح السياسيون دون فكر ودون سياسة عملية. هذه الحالة تفاجئني، مثلا من هم السياسيون العرب الذي يحاورون المثقفين؟ لا وجود لهم لا في محاورة المعارضة الديمقراطية ولا غيرها، لا تجدين غير أجهزة الأمن وقادة الأمن الذين أصبحوا الوحيدين السياسيين، فلم يعد هناك غيرهم! وإذا حرمنا السياسة من الفكر لم يبق هناك سياسة، لم يعد هناك سياسيون، ولا فكر، أصبح هناك قادة أجهزة ومسؤولو أجهزة وإداريون وبيروقراطيون هم الذين يتكفلون بإدارة البلاد. لذلك، حقيقة، فإن مجتمعاتنا تفتقر حتي إلي طبقة سياسية، لا إلي نخبة سياســـــية تدور بأوامر بيروقراطية، من قبل بيروقراطية عسكرية أو إدارية، وليس هناك سياسة. هذا يفســـر تراجع أوضاع هذه المجتمعات
.
الضغط على سورية
هناك قوى عالمية تخطط وتمارس ضغوطا علي سورية، برأيك كيف يجب التعامل مع هذه القوي، وخاصة أن الشعب يعاني من ضــغوط داخلية خانقة؟
النظام في سورية يعيش أزمة سياسية عميقة، وهو يواجه الشارع بضغوط داخلية قوية جدا، كلما ازدادت عليه الضغوط الأجنبية، وبشكل خاص الضغوط الأوروبية والأمريكية. وقد حصل شعور عند الرأي العام، وخاصة المثقفين والمعارضة، أن هذا النظام القائم لا يريد أن يفتح أي حوار، لقد رفض بالفعل خلال الخمس سنوات الماضية أن يبدأ أي شكل من أشكال الحوار، رغم كل حسن النية التي أظهرتها المعارضة. ورفض حتي أن يقوم بأي إصلاحات تسمح للمثقفين أو للمعارضة بأن يعبروا عن أنفسهم بشكل ما من الحرية، وليس بحرية مطلقة. لذلك تزايد الشعور بأنه دون ضغوط خارجية من الصعب أن يقوم هذا النظام بأي تنازلات أو أن يتخلي عن الاحتكار المطلق للسلطة، والاحتلال المطلق للفكر والإعلام والدعاية إلي آخره. وأكثر من ذلك صار هناك شعور بأن هذا النظام لم يكن ليستمر لولا الدعم الخارجي، وبالتالي ما دام هو قائما علي الدعم الخارجي، فإن تغير الدعم الخارجي له سيكون لصالح الحركة الشعبية. وليس هناك من سبب لرفض هذا الشيء. اليوم، بعد أربع أو خمس سنين من هذا الوضع، شعوري بأن الضغوط الأجنبية، والأمريكية بشكل أساسي، كانت نتائجها سلبية، بل أضرت بآمال التقدم والتحرر والإصلاح أكثر مما أفادت. السبب أنها ارتبطت بأجندة استعمارية، أجندة إعادة علاقات الهيمنة والنفوذ في المنطقة. وكمثال كبير عليها هو احتلال العراق من قبل قوات التحالف الأمريكي والبريطاني. هذا أضعف إلي حد كبير، وما كان بالإمكان إلا أن يضعف معني ومضمون الضغوط الأمريكية علي النظام في سورية الذي له بشكل أساسي علاقة بلبنان أيضا. أما الأوروبيون فما عندهم أي سياسة منسقة للمنطقة. وكان واضحا أنهم غير قادرين علي التأثير. وأنا من الناس الذين اقتنعوا بأنه لا بد من طلب من الأمم المتحدة بشكل رئيسي، كممثل للمجموعة الدولية التدخل بشكل أو بآخر، ليس كوسيلة للضغط وإنما من أجل فتح خطوط المفاوضات بين الأطراف السورية علي مختلف اتجاهاتها. أنا أقول: أن يكون هذا النموذج للعمل الدولي علي مستوي عالمي، ليس فيما يتعلق بسورية وحدها، ينبغي أن تكون هناك مسؤولية لدي الأمم المتحدة، بدل أن تقوم بها الولايات المتحدة التي هي تقوم بالضغط وتعتبر نفسها وكأنها هي مسؤولة عن قيادة العالم ومسؤولة عن تطبيق الديمقراطية هنا في هذه البلاد أو في هذه المنطقة. نحن نقول إن الولايات المتحدة غير كفؤ وغير أهل بسبب سياساتها الاستعمارية حتي اليوم، بالنسبة لنا في فلسطين وفي العراق، فهي غير مؤهلة لأن تقوم بهذا الدور. المؤهل لأن يقوم بهذا هو مجموعة دولية في الأمم المتحدة تمثل دولا ليس لها مصالح استعمارية في بلادنا بشكل أو بآخر. وتحاول أن تضغط من أجل فتح مفاوضات بين الأطراف للوصول إلي تفاهم جديد من أجل فتح المجال السياسي في بلد مثل سورية، كما هو الحال في بلدان أخري تعيش نفس الظرف. نحن في الظروف الراهنة وبقوانا المحلية غير قادرين علي أن نفتح الحوار، وواضح أن السلطة فشلت في أن تخضع ولن تستطيع أن تخضع الشعب والرأي العام. وبنفس الوقت فإن المعارضة والمثقفين بقواها الضعيفة، في وجود نظام قائم علي احتكار كل شيء، غير قادرة أن تفرض الحوار. ولن تستطيع أن تفرض حتي التحويل التدريجي، وبأبطأ صورة ممكنة، علي نظام يعتقد أنه مدجج بالسلاح قادر علي قمع أي تحرك، ولا يسمح حتي اليوم باعتصام حتي عشرة أشخاص أو عشرين شخصا في ساحة عامة. فأنا أعتقد أن المسؤولية اليوم أصبحت دولية وينبغي أن نتوجه إلي الأمم المتحدة من أجل دفعها إلي رعاية حوار تحت إشراف ومراقبة وشهود دوليين بين الأطراف السوريين والمعارضة وأطراف المجتمع المدني التي تعاني من اضطهاد حقيقي ويومي ومن حرمان من أي شكل من أشكال الممارسة والحرية وبين أطراف النظام علي قاعدة التحول إلي نظام ديمقراطي، وليس علي قاعدة المشاركة واقتسام المنافع واقتسام السلطة، وإنما علي قاعدة فتح النظام تدريجيا تحت إشراف الأمم المتحدة.
ما العمل؟ فشل النظام السياسي أدى إلى تراجع خاصة في سورية وفي المجتمعات العربية بشكل عام، ما هو المخرج وكيف يكون ترميم هذا المجتمع في رأيك، وأنت مفكر وباحث ودراستك في علم الاجتماع؟
المهمة ليست سهلة أبدا. أنا باعتقادي أنه حصل تخريب حقيقي للمجتمع، تخريب حقيقي للنظم والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والثقافية. تخريب بأي معني؟ لم تعد هذه المؤسسات كلها تقوم بوظائفها، أصبحت كلها في خدمة السلطة، أصبحت كلها فاقدة للمعني وفاقدة للنجاعة. النشاطات الاجتماعية تدول خارجها، القانون ليس هو الشيء الحقيقي السائد اليوم، وإنما العرف حل محل القانون كمثال. كيف يمكن أن نعود إلي الحالة الطبيعية؟ باعتقادي أن المطلوب اليوم ليس الانقلاب، بعكس ما كنا نتحدث بالخمسينيات والستينيات. المطلوب العودة إلي أن الإنسان يشعر بأنه إنسان له حريته، له حقوقه، وهو مساو للآخر، بعيدا عن الاضطهاد. العودة إلي الحياة الطبيعية، لا تتم في يوم وليلة، عملية بناء وإعادة بناء للمجتمع من جديد. هناك ثلاثة مستويات لإعادة البناء: المستوي الأول هو الأعمق وهو المستوي الثقافي، وضع المثقفين أمام مسؤولياتهم من أجل بناء ثقافي فعلا.. أن نعبر عن القيم، ننمي قيم الديمقراطية، قيم المساواة، قيم الإنسانية، في مقابل ما ينمو في هذا الخراب من قيم الطائفية، وقيم التعصب، وقيم العداء المشترك، وقيم غياب الثقة بالآخر، وقيم الشك والتشكيك بالنوايا والتخوين. نحن نعيش الآن ضمن ثقافة ضاغطة لأنها تبنت كل القيم السلبية، هذه مهمة لا يمكن أن تفرض بالقوة ولا بالقوانين ولا بالمراسيم. هذه أمور لا يمكن أن تحقق ثقافة. باعتقادي أن أخطر شيء حصل في مجتمعاتنا هو تخريب البنية الاجتماعية والاقتصادية. إن الذي يتحكم بالمجتمعات خلال التاريخ هو الطبقات التي تملك الوسائل، وسائل العلم والإنتاج والمعلومات والتوجيه، والوسائل اليوم هي رأس المال، فالذي يملك رأس المال يستطيع أن يبني مؤسسات ويبني صحافة ويبني جمعيات أهلية، كلها تمول من قبل الناس. رأس المال اليوم وقع في يد مجموعات ليس لديها ثقافة ولا سياسة ولا فكرة عن المجتمع ولا شاعرة أنها هي جزء من هذا المجتمع، وأن عليها مسؤوليات، حتي الإقطاعي كان يشعر أن عليه مسؤوليات. الفلاح الذي كان تحت سيطرته، كان يزوجه، يطببه، كان يراعيه، هؤلاء يشعرون أن المجتمع غابة يصطادون فيها كما يشاؤون ويهربون بصيدهم إلي الخارج. المهم أن تكون ثرواتهم في الخارج لا تمس، مصير المجتمع في النهاية لا يهمهم علي الإطلاق. أسوأ ما حصل في مجتمعاتنا هو نوعية النخبة الاقتصادية، الطبقة المالكة لرأس المال التي تكونت في بلادنا، وتكونت في ظل سلطة احتكارية أو سلطة سياسية محتكرة، بعلاقة مشبوهة بين المال وبين السلطة. أعتقد أنه علي المدي المتوسط، هناك رأس المال في العالم العربي، وفي سورية بشكل خاص هذا عمل إلي تفكير: كيف نحول هؤلاء الوحوش الكاسرة التي تري في المجتمع فريسة ولا تفكر أن هؤلاء مكونون من بشر وعندهم عواطف، وعندهم مشاعر، وعندهم حياة وأولاد ويفكرون بالمستقبل. كل واحد من هؤلاء الجشعين لا يفكر إلا بنفسه وأولاده. كان في مجتمعنا الحرام والحلال، وكان فيه زكاة، وكانت هناك القيم الدينية التي تشجع الناس علي أن يتواصلوا ويتراحموا، حتي هذا لم يعد موجودا. الوضع الراهن يؤدي إلي مزيد من التوتر الاجتماعي لا حدود له، كما يؤدي إلي خلق طبقة لا تهتم بمصير المجتمع، وإنما تقوم كالمضخة بأخذ وجمع رأس المال وتصديره إلي الخارج، وبناء عالمها خارج البلدان. وعندنا أمثلة كثيرة في سورية. كثيرون منهم سرقوا وهربوا بأموال الشعب، وكل يوم سوف يسرقون ويهربون لأنهم يخافون أن يظلوا في البلاد ويجيء يوم للمساءلة. إن مثل هذه الأمور لا يمكن أن تتم بين المثقفين، ولكن يجب أن تطرح علي إطار دولي، وأن يكون الموضوع علي مستوي دولي ومؤسسات دولية، وأن يكون حوله حوار من أجل النظر في سلوك وتأهيل هذه الطبقة. علي مستوي أقصر، أعتقد أن العمل يجب أن يكون علي مستوي سياسي، بالتأثير مباشرة علي النخب السياسية الحاكمة. يجب أن يكون في إطار يتنظم في الأمم المتحدة لتحسن التأثير علي هذه النظم وتفرض عليها الحد الأدني من المعايير، كيف يجب أن تتعامل مع شعوبها، فاليوم أصبح العالم كتلة واحدة. لا يمكن لنخبة لأنها أخذت السلطة، بطريقة أو بأخري، أن تمارس علي شعبها قوانين الرق والعبودية ومنعه من أي شكل من أشكال التعبير عن رأيه والتعبير عن إرادته.
المعارضة السورية
هل تعتقد أن المعارضة التي تسعي إلي تحقيق الديمقراطية في سورية، تستطيع أن تصل إلي هذا المطلب ولو بمساعدة الأمم المتحدة؟ وهل يمكن للأمم المتحدة أن تتجاوب مع ذلك؟ وهل أنتم قادرون علي تقديم ذلك المشروع إلي الأمم المتحدة؟
نحن نقود تجربة جديدة تحتاج إلي تفكير وإنضاج، ولماذا لا تستطيع النخبة ومؤسسات المجتمع المدني في سورية وفي غيرها من البلدان أن تؤثر أو يكون لها جدوي فاعلة في عملية التغيير، وهي تشعر فعلا أن هناك اضطهادا وترفض أن يكون الأمر عن طريق الاحتلال العسكري كما حصل في العراق، وترفض أيضا تدخل الولايات المتحدة من أجل استخدام قضية الديمقراطية وترسيخ سياسات استعمارية وهيمنة وفرض الوجود الإسرائيلي علي العرب كما تشاء إسرائيل. فنحن نريد حلا له علاقة مباشرة بتطوير النظم السياسية وتطوير علاقة النخب مع شعوبها وليس له مضاعفات تتعلق بالأمن الإقليمي والاستراتيجيات المحلية. فأنا برأيي أنه ينبغي أن نعمل بهذا الطريق ونستطيع فعلا، إذا أقنعنا كل منظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة وقدمنا عريضة للأمم المتحدة تطلب رعاية حوار ومفاوضات بيننا وبين الحكم الراهن في سورية وبشهود دوليين من شخصيات محايدة، ليست شخصيات لها مصلحة خاصة في سورية، رجال أعمال كبار، نستطيع أن نفتح ربما ثغرة في دفاعات النظام وإصراره علي رفض أي حوار مع مجتمعه.
يوجد ضعف وتشتت في المعارضة في سورية، هل من الممكن تنظيم هذه المعارضة أو تقويتها؟ وهل تستطيع أن تقوم بدورها في أن تكون فعلا عامل ضغط مؤثرا علي المؤسسة السياسية لقبول الانفتاح علي الشعب وتقبل بالتالي الدخول مع المعارضة في جو ديمقراطي؟
المعارضة كانت ضعيفة ولا تزال بسبب الظروف السياسية التي تعمل فيها. نحن نعرف أنه ممنوع العمل السياسي ولا يزال ممنوعا بشكل رسمي. قانون الحزب الواحد هو قانون محدد، وبقانون الطوارئ اليوم ممنوع الاجتماع، حتي أربعة أو خمسة أشخاص غير قادرين علي أن يجتمعوا مع بعضهم ليتناقشوا في مستقبل ومصير بلدهم. فإذاً، مفهوم لماذا المعارضة ضعيفة، ولكن شعوري خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وخاصة مع انحسار الآمال بأن هناك إرادة تغيير وإرادة اصلاح من قبل النظام، شعوري أن هناك نموا كبيرا للمعارضة. هناك نمو واسع جدا، حتي النظام لا يدركه. الشعب اليوم ثلاثة أرباعه معارضون، يعبرون عن معارضتهم، ولكنهم غير منظمين، وهذا النمو سوف يفرض منحي جديدا علي المعارضة، سوف يغذيها بأفكار جديدة، وسوف يفرض عليها أيضا أن تخرج من الأطر التقليدية التي تعبر عن الانقسام والتشتت. من أين يأتي الشتت؟ من انعدام رؤية واضحة، ضغــــــوطات خارجية قوية جدا تقع علي الأفراد من أجل منعهم من التفاهم والتواصل مثلما يحصل في كل البلدان الشمولية، والنظم الاستبدادية. الآن أعتقد أن سياسة القمع وسياسة الحد من الحريات المبالغ فيها وصلت نهاياتها، وبعد أن بدأت الناس تفقد الأمل بالاصلاح الموعود ولم يحصل، وكل حديث عنه كسب للوقت، لذلك فالسنوات القادمة وربما الأشهر.. وقريبا جدا سوف تعطي المعارضة السورية قوة دفع كبيرة. سورية أصبحت تعاني اليوم من الطبقة السياسية وشريكتها في المكاسب والامتيازات طبقة التجار والمستفيدين الذين لا يهمهم إلا الربح وتأمين مصالحهم، بينما بقيت غالبية الشعب يؤمنون حاجاتهم ومتطلباتهم علي هامش هاتين الطبقتين بكل ما تتمتعان به من تسلط ونهب واستغلال. هؤلاء يريدون أن يجعلوا من الشعب شحاذاً ليس له حقوق، لا أحد يعترف له بحقوق، بل يمنون عليه حتي إذا أعطي خمسة أو عشرة بالمئة، وهم يعطونها وكأنها إكرامية وما شابه.. وعليه أن يتقدم بطلب واستجداء من أجل نيلها، يجب أن يتوسط عند هذه الطبقة المشتركة، والتي هي المالكة للسلطة السياسية ورأس المال. إنهم عبارة عن أسر وعائلات ومجموعات من بين رجال الأعمال والتجار الكبار والمسؤولين، وقد أصبح أبناء المسؤولين هم أنفسهم التجار. فعلا هذا الالتقاء الجشع بين السلطة السياسية وبين السلطة المالية (شلّح.. بالتعبير العامي)، شلح الشعب كل حقوقه، وشكل مركز قوة هائلا بأنه لا أحد يستطيع أن يقف أمامه، وأن الشعب صار تماما كما كان في فضاءات القرون الوسطي. وهؤلاء ينصبون أنفسهم كأسياد ويتصرفون كذلك، ويمنون علي الناس كأسياد، وهم الوحيدون القادرون علي أن يؤمنوا لهذا أو ذاك منافعه أمام تنازلات يمكن تكون معنوية. إنهم يريدون التبعية المطلقة والمحسوبية والزبائنية، أو مقابل شيء عيني مثل رشوات يقطعها المواطن من دمه ولحمه ومن حياته. نحن فعلا أصبحنا في نظام ألغي كل ما كسبته المجتمعات الحديثة من نظم كنظم القانون، نظم المواطنة، نظم الحرية، نظم المساواة بين المواطنين والأفراد، هذا كله ألغي تماما لصالح تكوين أرستقرطية مشتركة، وكل ما عدا ذلك هم أتباع تشكل منهم المليشيات التي تضرب الشعب أيضا والتي يمولها هؤلاء. لذلك أنا أقول إننا بالفعل فقدنا، بالتفاهم العميق بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية، فقدنا كل مكتسبات الحداثة بما فيها الفكرية، بما فيها قيم المجتمعات نفسها. وأنا، مثلا، حتي أكون نافعا يجب أن أتصرف كزبون وأتخلي عن كرامتي، وأتخلي عن حريتي، وأتعامل مع صاحب النفوذ باعتباره السيد المطاع، وأبجله وأكرمه حتي أستطيع أن أضمن البقاء لنفسي. عدنا تماما إلي المجتمعات الاقطاعية التي كنا نناضل ضد بقاياها، لكن عدنا إليها بشكل أصيل وكامل. والحداثة بدأت عندما فرض الاستقلال بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية، وقلنا إن الدولة تعبر عن الشعب ولا تعبر عن مجموعة المصالح القائمة. عندما تعود الدولة لتكون هي التعبير المباشر والدقيق عن مجموعة المصالح للطبقات المالكة، انتهت كل الدولة الحديثة. العلاقات السورية ـ اللبنانية
كيف تنظر إلى مستقبل لبنان وسورية ومن خلال السياسة الدولية في المنطقة والضغوط الخارجية، ولأهمية موقعهما بعد احتلال العراق؟
هناك علي المدي المتوسط معركة كبيرة نخوضها. نحن في مخاض حقيقي. أنا لا أعتقد أننا سوف نستسلم للظروف التي نحن فيها. طبعا هذه ظروف لا يمكن لأي شعب أن يقبلها. هذه الظروف الاقطاعية، ومن أجل تغييرها، هناك معركة قوية جدا بدأت من قبل ونحن نعيشها وهي بتصاعد واستمرار، ومعركة الديمقراطية جزء منها، ليست كلها معركة الديمقراطية السياسية، هي معركة إعادة تجديد الثقافة، تجديد المجتمع، النهوض بثقة المجتمع، وثقته هو بنفسه، تكوين الفرد المواطن من جديد بعد أن تم إلغاؤه. نحن شعب نرفض التدخل الخارجي ولكن فشل المؤسسات السياسية كان ســــببا لهذه الضغوط الخارجية، كما وصلنا إلي هنا بسبب تخــــلف البني الاجتماعية وغياب الفـــــردية القوية والمسؤولية. ولكن علي المدي المتوسط، هناك معركة، وهناك معاناة وصعوبات بلا شك علي المدي الطويل. إن ما يحصل من ظلم واضطهاد اليوم سوف تكون نتائجه ثورة تحرر حقيقية في العالم العربي.
انشقاق خدام بعد ثلاثين سنة من مشاركته، كيف تنظر إلي هذا الحدث؟ هل يمكن أن يكون بإيحاء خارجي أو هو بفعل طمعه في العودة والسيطرة من جديد؟
أنا أتصور أن انشقاق خدام هو بداية تصدع النظام القائم وتضارب أطرافه. طبعا عبد الحليم خدام هو جزء قائم من نظام، بل هو أحد مؤسسي النظام، أحد أطرافه الرئيسية وليس طرفا ثانويا فيه. وتحليلي أن انشقاقه دليل علي أن النظام نفسه بدأ يفقد قدرته علي تحقيق أهدافه بين أطرافه المختلفة، هذا يعني أن قاعدة السلطة بدأت تضيق لتصبح قاعدة عائلية. هذا جزء من تفكك النظام. ماذا يستطيع خدام أن يفعل؟ هذا كله متوقف فعلا علي تطور المعارضة. وإذا كان هو نفسه قادرا أن يخرج من جلده، كما يعد في بعض الأحيان.. وإلا فسوف يبقي كما هو حتي الآن، لم يقدم أي تقييم أو نقد ذاتي أو أي اعتذار عما حصل. كان عنده فرصة، علي الأقل، أن يقنع المعارضة لو أنه اعترف وقام بالحد الأدني من المسؤولية عما حصل. ومحاولة التبرؤ منها - كما قال - بأنه لم يكن مسؤولا، هذا أخطر شيء يقوله مسؤول ونائب رئيس دولة وعضو بالقيادة القطرية، يقول إني لم أكن مسؤولا ولكن كنت فقط وزير خارجية، هذا شيء غير مقبول.