mercredi, mai 24, 2006

اغتيال الثقافة بعد اغتيال السياسة

اتحاد 24 مايو 06

من الحرب لا يخرج إلا نظام واحد، هو نظام الحكم المطلق واللامشروط الذي يخضع فيه المنتصر خضوعا كليا للغالب، يقبل بكل ما يفرضه عليه ويحمده على تفضله عليه بالبقاء. ومن هذا النظام يستحيل أن تخرج حياة سياسة ويتحقق أي تعديل أو تغيير في توزيع المصالح والمواقع الاجتماعية بالطرق التفاوضية، أو عن طريق ممارسة الضغوط السلمية. لأن من المستحيل أن ينمو أي شكل من أشكال العمل الجمعي المنظم الذي يجسد وعيا متميزا يستجيب لمباديء ومصالح مميزة، أو حتى صوغ أجندة مصالح عامة أو المشاركة فيها. الغالب وحده يقرر ما يصلح وما لا يصلح للجميع. ووحده يملك الحق في أن يمارس السياسة، ويتخذ القرار، ويفرض القوانين والقواعد التي يراها مناسبة للاستمرار، استمرار النظام الناشيء عن الانتصار العسكري، وتخليده ما أمكن.
والنظام القائم في سورية اليوم ولد في حرب المواجهات الدامية لعام 1980. ولم يكن له هدف ولا غاية، حتى الآن سوى إدامة هذه الغلبة، وهو ما يفترض الابقاء على الحرب والمواجهات التي رافقتها بصورة مادية أو رمزية والتشبث بها كمرجعية لأي حياة سياسية أو قانونية أو ثقافية ممكنة. ومن هنا فهو يرفض القبول بأي قانون أو قاعدة أو ممارسة أو تفكير يقود إلى تغيير شروط هذه الغلبة أو يحرف عنها. وفي هذا السياق حصل الإلغاء الرسمي والعلني للسياسة، كحقل ممارسة، وكثقافة، وكقيم وقواعد عمل معا، من المجتمع، كما يشير إليه تثبيت قيادة الحزب الحاكم كقائد للمجتمع والدولة في الدستور، وتخليد حالة الطواريء، وإلحاقها حكما ومطلقا بالغالب وتحريم التعامل بها وفيها على كل ما عداه. وهذا هو الشرط الأول لإلحاق المجتمع، كشتات من جماعات وأفراد لا رابط بينهم ولا قوام لهم، به أيضا.
وقد سارت الامور بالفعل على هذه الحال حتى وفاة الرئيس حافظ الأسد في حزيران يونيو 2000. فقد انحنى الشعب أمام القوة، وقبل المثقفون والقلة المتبقية من الناشطين السياسيين، الناجين من مذبحة السياسة في حماة وبقية المدن السورية، بالخضوع للأمر الواقع. وخلد المجتمع بأكمله للصمت والاستسلام. وبتمثل الجميع لقواعد اللعبة الجديدة، أي القبول بالغلبة المادية والتسليم بها، من دون مناقشة ولا اعتراض ولا حتى تذكير بحقوق أو مطالب، من قبل أي فئة أو طرف من الأطراف الاجتماعية، ساد "استقرار" طويل لدرجة أخرجت المعارضة السياسية نفسها بنفسها من الصراع، وأفقدت النظام ذاته ومؤسساته الحاجة للتدخل المباشر والدائم، كما كان يحصل قبل أحداث حماة لضبط الأوضاع أو معاقبة المخالفين.
وبالفعل يكاد العقد الأخير من القرن العشرين يخلو من الاعتقالات والملاحقات السياسية باستثناء تعقب القوى الاسلامية، التي طلقت هي أيضا مفهوم السياسة وقاعدتها لتتحول إلى قوى مقاتلة، وتتبنى منطق الحرب وقانونها. وأصبح البطش بهذه القوى والتنكيل بها واستباحة حياة أفرادها، كما ينص عليه قانون 49 الذي يحكم بالاعدام على كل منتسب لجماعة الأخوان المسلمين ومن شاكلهم، هو الدرس اليومي الذي يلقيه قادة النظام على الرأي العام، ليبين لكل من تسول له نفسه الخروج على النظام أو الاعتراض على نمط الغلبة التي يفرضها، بالمثال المادي الملموس، الثمن الباهظ لأي مقاومة محتملة، والمآل المأساوي لأصحابها. وقد اختصر النظام في البطش بالأخوان المسلمين وتحويلهم إلى كبش فداء، البطش بكل الأشكال الممكنة والمحتملة للاحتجاج أو الاعتراض أو المقاومة. وأصبحت إعادة إنتاجهم والملاحقة اليومية، الواقعية والوهمية، لهم ضرورة مادية ومنطقية للابقاء على تماسك العصبية الحاكمة، تماما كما حلت تغذية مشاعر الخوف والترهيب المستمدة منها في قلوب السكان محل الحيل والألاعيب السياسية التقليدية التي تلجأ إليها الحكومات عادة لقطع الطريق على نمو قوى معارضة سياسية.
بيد أن السلام والاستقرار القائمين على خضوع المجتمع الكامل واستسلامه لسلطة الغلبة العسكرية خلال ما يقارب العقدين لم يستغل، من قبل النظام، لتغيير الشروط الاجتماعية والاقتصادية، بما يمكنه من استعادة القاعدة الاجتماعية، والرجوع عن الحكم العسكري العصبوي إلى الحكم السياسي، الذي يمكنه من إعادة الربط مع المجتمع والتفاعل معه. بل إن ما حصل كان، على العكس تماما، الابتعاد الكامل عن المجتمع والاستهتار بالمسؤوليات والمصالح العامة معا. فقد شجع خنوع المجتمع واستسلامه النخب الحاكمة، المتحررة من أي قيد أخلاقي أو قانوني او سياسي، على التحول إلى قوى مفترسة كاسرة. وبدل العمل على تحسين شروط حياة المجتمع لاستعادة ثقته، زادت عمليات السلب والنهب والفساد وتجيير الدولة والمصالح العامة لحساب فئات المصالح المؤتلفة الحاكمة..
وحتى وقت قريب، لم يكن هناك إدراك لعمق التدهور الحاصل في الأوضاع السورية، ولخطورة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي أحدثها حكم الغلبة العسكرية في البلاد، عند أي فئة او جماعة من فئات وجماعات المجتمع. لا عند الساسة ولا المثقفين ولا حتى العلماء الاقتصاديين والاجتماعيين. فقد حيد الانكسار وعي المجتمع وخدرت روايات السلطة الغالبة، الممزوجة بقصص الانتصارات أو شبه الانتصارات الخارجية، والمعارك المستمرة العازفة على وتر القضايا القومية، الضمير الجمعي، فسلم الكل بخطاب السلطة أو خضعوا له وتخلوا، مع فقدانهم استقلالهم وارتدادهم إلى وضعية التابعين، عن إرادتهم الخاصة ووعيهم أو قدرتهم النظرية. فتوفي الرئيس حافظ الأسد والجميع يعتقد أن سورية تتمتع بأوضاع استراتيجية واقتصادية واجتماعية وثقافية لا تجارى لا في الغرب ولا في الشرق. وكان المسؤولون يرفضون حتى الحديث عن مشاكل أو تحديات، ولا يقبلون باستخدام مفردة أقوى من كلمة "المصاعب المؤقتة" لوصف الأزمات المتفجرة على جميع المستويات.
لكن الأوضاع سوف تنقلب رأسا على عقب بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد وتولي ابنه الأصغر السلطة، في حزيران يونيو 2000. وما حدث ويحدث منذ ذلك الوقت ليس أقل من يقظة متزايدة لجميع قطاعات الرأي السوري الذي بدأ يكتشف يوميا، وأثناء حياة النظام، ما اكتشفته الشعوب الشرقية التي خضعت لحكم الغلبة المادية ذاته، بعد زوال النظم الشمولية الشيوعية من كوارث وتحديات في كل المجالات تكاد تستحيل معالجتها. ولم يشذ عن ذلك حتى فئات واسعة من أنصار النظام أو الملتفين حوله. وشيئا فشيئا يزداد الوعي بالخسران ويتعمق الشعور بالصدمة مما آلت إليه أوضاع البلاد. وبموازاة تنامي مشاعر الخوف واليأس والقلق على المستقبل، وزوال التسليم الذي حرم شعبا كاملا من التفكير والتأمل في وضعه وتحمل مسؤولياته في إصلاح أوضاعه، ينبثق الوعي النقدي، ويبرز دور المثقفين الذين يحملونه ويجسدونه، ويتحولون بمناسبته إلى ما يشبه الناطق باسم المجتمع بأكمله. ولو تابعنا ما يحصل في سورية منذ بعض السنوات، للاحظنا إلى أي حد كانت الحياة السياسية السورية الوليدة أو الخارجة من القبر، وكل ما يتعلق بها، متمحورة حول الصراع بين السلطة والمثقفين. وكما بدأت الحركة ببيانات فكرية سياسية وتبلورت بسرعة في شكل منتديات وروابط إنسانية وفكرية، جاء القمع وتركز بشكل أساسي في حرمان المثقفين من الحديث مع المجتمع والتواصل معه بما في ذلك الاقتراب من المعارضة، أي في كسر حركة المنتديات التي أطلق عليها اسم ربيع دمشق، ثم اليوم في إخراس المثقفين أنفسهم، حتى لو كان ثمن ذلك وضعهم جميعا في السجون.
فالواقع، بعد انقشاع ضباب الوهم وانكسار الحلم، لم يعد إلغاء السياسة شرطا كافيا لإعادة إنتاج نظام الغلبة كما ولد من حرب 1980 المأساوية، والتي لا تزال سورية ترفض التفكير فيها ومراجعتها لتخرج منها بصورة صحية. لقد أصبح من الضروري لضمان البقاء إلغاء الثقافة نفسها وتعليق العقل أيضا. وربما يشكل هذا الإلغاء إذا نجح الانجاز الرئيسي للعهد الجديد. وهو ما يعني استكمال منطق الغلبة المادية، أي في الواقع الوحشية، جميع أسبابه، وبالمناسبة، إعلان اكتماله ونهايته في الوقت ذاته.

mardi, mai 23, 2006

Au rassemblement du soutien aux intellectuels syriens

L’intervention du Professeur B. Ghalioun
Au rassemblement du soutien aux intellectuels syriens le 23 mai 06, Place de l’Institut du Monde arabe

Je tiens à remercier toutes les personnes présentes avec nous aujourd’hui à ce rassemblement.
Nous sommes réunis ici pour témoigner de notre soutien à nos frères, nos sœurs et nos amis qui mènent en Syrie un combat sans relâche pour la liberté, un combat qui est aussi le notre et celui de tous ceux qui militent pour la démocratie et la l’émancipation des peuples;
Nous sommes ici pour dénoncer l’arbitraire, l’état de non-droit qui permet au pouvoir d’arrêter des intellectuels et des militants des droits de l’homme, et de les condamner à de lourdes peines d’emprisonnement pour le seul fait d’avoir signé une déclaration appelant à des relations plus équilibrées entre deux pays voisins et frères.
Connaissant les méthodes humiliantes et dégradantes pratiquées dans les prisons syriennes, nous sommes réunis ici pour exprimer notre inquiétude pour le sort qui leur est réservé.
Nous sommes réunis pour exiger leur libération et celle de tous les prisonniers politiques.
Priver un peuple de ses intellectuels, c’est le condamner à l’asphyxie.
Priver les intellectuels de leur liberté, c’est assassiner la culture et la pensée, car il n’y a pas de pensée et de culture sans liberté. Une pensée sous tutelle est une pensée morte.
Imposer le silence aux intellectuels c’est fermer définitivement la porte du dialogue, encourager tous les extrémismes et préparer les conditions d’une nouvelle explosion.
Par ce rassemblement, nous voulons manifester notre attachement à la Syrie , à ce grand pays de culture et de civilisation.
Nous sommes ici pour défendre l’espoir.
Nos pensées vont à Michel Kilo, Anouar Bunni, Fateh Jamous, Aref Dalila, Ali Abdallah, ses fils Mohammad et Omar, Kamal Labouani, Khaled Hussein, Nidal Darouish, Mohammad Mari’, Mohamad Mahfoud, Riad Darar, suleiman Chammar, Massoud Hamid, Jihan Ali, Nazia Kajal Sophie et à tous les autres prisonniers d’opinion.

intervention au rassamblement de soutien aux intellectuels

L’intervention de B. Ghalioun
Au rassemblement du soutien aux intellectuels syriens le 23 mai 06, Place de l’Institut du Monde arabe

Je tiens à remercier toutes les personnes présentes avec nous aujourd’hui à ce rassemblement.Nous sommes réunis ici, pour témoigner de notre soutien à nos frères, nos sœurs et nos amis en Syrie qui mène un combat sans reache pour la liberté, un combat qui est aussi le notre et celui de tous ceux qui militent pour la démocratie et la l’émancipation des peuples;Nous sommes ici pour dénoncer l’arbitraire, l’état de non-droit qui permet au pouvoir d’arrêter des intellectuels et des militants des droits de l’homme, et de les condamner à de lourdes peine d’emprisonnement pour le seul fait d’avoir signé une déclaration appelant à des relations plus équilibrées entre deux pays voisins et frères.Connaissant les méthodes humiliantes et dégradantes pratiquées dans les prisons syriennes, nous sommes ici pour exprimer notre inquiétude pour le sort qui leur est réservé.
Nous sommes réunis ici pour exiger leur libération et celle de tous les prisonniers politiques. Priver un peuple de ses intellectuels, c’est le condamner à l’asphyxie.Priver les intellectuels de leur liberté, c’est assassiner la culture et la pensée, car il n’y a pas de pensée et de culture sans liberté. Une pensée sous tutelle est une pensée morte.Imposer le silence aux intellectuels c’est fermer définitivement la porte du dialogue, encourager tous les extrémismes et préparer les conditions d’une nouvelle explosion.Par ce rassemblement, nous voulons manifester notre attachement à la Syrie , à ce grand pays de culture et de civilisation.Nous sommes ici pour défendre l’espoir Nos pensées vont à Michel Kilo, Anouar Bunni, Fateh Jamous, Aref Dalila, Ali Abdallah et son fils Mohammad, Khaled Hussein, Nidal Darouish, Mohammad Mari’, Mohamad Mahfoud, Riad Darar, suleiman Chammar, Massoud Hamid, Jihan Ali, Nazia Kajal Sophie et à tous les autres prisonniers d’opinion.

التضامن مع المثقفين السوريين في باريس


ترجمة نص الكلمة التي ألقاها برهان غليون باسم المثقفين السوريين في التجمع التضامني الذي أقيم أمام معهد العالم العربي الثلاثاء في 23 مايو أيار 2006


اسمحو لي أن أشكر جميع الحاضرين على مشاركتهم معنا اليوم في هذا التجمع.

إننا نجتمع اليوم هنا للإعراب عن تضامننا مع أخوتنا وأخواتنا ومع أصدقائنا في سورية التي تخوض معركة الحربة من دون كلل، معركتنا نحن أيضا، ومعركة جميع أولئك الذين يكافحون من أجل الديمقراطية وانعتاق الشعوب.
إننا نجتمع اليوم هنا للإعراب عن رفضنا للحكم التعسفي، لدولة اللاقانون التي تسمح فيها السلطة لنفسها بايقاع عقوبات مشددة وقاسية، وبالسجن لسنوات طويلة على مثقفين ونشطاء حقوق الانسان، لمجرد توقيعهم على بيان يدعو إلى بناء علاقات متوازنة بين بلدين جارين وشقيقين معا.
إننا نجتمع اليوم هنا للتعبير عن قلقنا على مصير هؤلاء المثقفين ونشطاء حقوق الانسان، أشقائنا، نظرا لما نعرفه من طرق الإهانة والإذلال والقهر التي تمارس في السجون السورية.
إننا نجتمع اليوم هنا للمطالبة بالافراج عن المثقفين والنشطاء القانونيين وجميع المعتقلين السياسيين.

إن حرمان شعب من مثقفيه يعادل إدانته بالجمود والموت سما.
وإن حرمان المثقفين من حريتهم يعني اغتيال الثقافة والفكر، لأن الثقافة والفكر لا يعيشان من دون حرية، والفكر الذي يعيش تحت الوصاية فكر ميت لا محالة.
إن فرض الصمت على المثقفين يعني الإعلان عن الإغلاق النهائي لباب الحوار، كما يعني تشجيع كل أشكال التطرف، وخلق شروط الانفجار.

إننا نجتمع اليوم هنا لنعلن تعلقنا بسورية، بلد الثقافة والحضارة بامتياز

إننا نجتمع اليوم هنا لنحافظ على الأمل.

قلوبنا مع ميشيل كيلو، أنور البني، عارف دليلة، فاتح جاموس، علي العبد الله وابنيه محمد وعمر العبد الله، كمال اللبواني، خالد حسين، نضال درويش، محمود معري، محمد محفوظ، رياض ضرار، سليمان شمر، مسعود حميد،جهاد علي، ناجية كجل سوفي، وجميع معتقلي الرأي، قلوبنا معكم.

تجمع للتضامن مع معتقلي دمشق

باريس ـ القدس العربي :
لبي أمس المئات من السوريين والعرب والفرنسيين الدعوة التي وجهتها هيئة العمل الوطني الديمقراطي السوري ، وهي مجموعة من المثقفين والناشطين السوريين في أوروبا، للتجمع أمام معهد العالم العربي في باريس، تضامناً مع معتقلي الرأي في سورية، ومطالبة السلطات السورية إطلاق سراحهم والالتزام بالمواثيق الدولية التي تنصّ علي احترام حقوق الإنسان. وقد تميّز اللقاء بحضور ملحوظ لشخصيات ثقافية وأدبية عربية، بينها من لبنان الياس خوري، يمني العيد، نجوي بركات، زياد ماجد، عيسي مخلوف، نهلة الشهال؛ ومن العراق فريال غزول، نجم والي، إنعام كججي؛ ومن المغرب محمد برادة؛ ومن مصر رؤوف مسعد؛ ومن الأردن الياس فركوح، وسواهم. كما تميّز اللقاء بحضور كثيف لممثلي الأحزاب السياسية ومنظمات حقوق الإنسان ورجال الإعلام في فرنسا.
وألقي الدكتور برهان غليون كلمة موجزة باسم هيئة العمل الوطني الديمقراطي، شدّد فيها علي أنّ اللقاء يستهدف التعبير عن التضامن مع أخواتنا وإخوتنا وأصدقائنا في سورية الذين يخوضون معركة الحرية دون توقف، والتي هي معركتنا ومعركة كلّ الذين يناضلون من أجل الحرية والديمقراطية وتحرر الشعوب . وندّد غليون بالتدابير العشوائية واعتقال المثقفين والمدافعين عن حقوق الإنسان، مطالباً بإطلاق سراحهم وسائر المعتقلين السياسيين، مذكراً بخطورة حرمان البلد من المثقفين وحرمان المثقفين من الحرية، لأنه ليس هناك فكر وثقافة بدون حرية . كما أعاد التذكير بأنّ فرض الصمت علي المثقفين هو إغلاق لباب الحوار، وتشجيع للتطرف وتهيئة الظروف لإنفجار جديد .
كما ألقي جاك فات، ممثل الحزب الشيوعي الفرنسي ومسؤول العلاقات الخارجية في قيادة الحزب، كلمة أكد فيها أنه جاء ليعبر عن تضامنه وتضامن الشيوعيين والديمقراطيين الفرنسيين مع معتقلي الرأي وكلّ المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية في سورية ، وكذلك مع الشعب اللبناني والديمقراطيين العرب الذين يناضلون ضد أنظمة متخلفة تجاوزها التاريخ ، و ضدّ التدخل الأجنبي ومن أجل انتصار دولة الحق والقانون واحترام حقوق الإنسان .
ثم ألقت السيدة كلير إيديغا ماسو، ممثلة الحزب الإشتراكي الفرنسي، كلمة موجزة عبرت بدورها عن تضامن الإشتراكيين والديمقراطيين الفرنسيين مع الشعب السوري ومثقفيه، في نضالهم المشروع ضدّ القمع ومن أجل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وانتصار الديمقراطية .
وأخيراً تحدث بشير هلال باسم المثقفين اللبنانيين وحركة اليسار الديمقراطي ، فأكد علي الروابط الأخوية بين الشعبين الشقيقين ومعاناتهما كليهما من تحكم وسيطرة الأجهزة الأمنية . وتوقف عند اعتقال ميشيل كيلو وأنور البني ورفاقهما بذريعة التوقيع علي إعلان دمشق ـ بيروت/ بيروت ـ دمشق، فاعتبر أنّ هذه الحملة دليل جديد علي غياب دولة القانون ورفض أي شكل من أشكال التعبير عن الرأي، ورفض الفريق الحاكم في دمشق لأية تسوية تاريخية مع الشعب .

vendredi, mai 19, 2006

دفاعا عن ابن خلدون في مئويته السادسة

الوطن 19 مايو 06

أثار ابن خلدون اهتمام الباحثين العرب وغير العرب منذ القرن التاسع عشر ولا يزال لأسباب عديدة: الأول المنهج الذي اتبعه في كتابة التاريخ، والذي قام على ما نسميه اليوم الملاحظة العلمية للوقائع، وقطع مع المألوف في صناعة التاريخ العربي الذي سبقه، والقائمة على رواية الأخبار المسندة أو غير المسندة، ونقده الواضح والقوي لها. والثاني المضمون الجديد الذي أعطاه للتاريخ والذي جعله يكتشف، كما يذكر هو نفسه، علما جديدا هو علم العمران، ويميزه عن غيره من العلوم. ولا يزال هناك اعتقاد كبير عند الكثير من الباحثين حول العالم العربي في ميدان العلوم الاجتماعية بأن كشوف ابن خلدون المتعلقة بالعصبية ووزنها في تكوين السياسة والاجتماع العربيين لم تفقد قيمتها بعد في تأويل التاريخ أو تفسير التشوهات التي تسم بنية الحياة الاجتماعية في هذه المنطقة. والثالث هو الطابع الكوني لتأويله التاريخي ومجمل عمله الفكري الذي يجعل منه رائدا في بناء خطاب كوني في التاريخ، أو خطاب تاريخي ذي طابع عالمي، وبالنسبة للبعض في إنشاء نظرية في الحضارة.وفي وقتنا الراهن يستحضر ابن خلدون وفكره التاريخي عند العديد من الباحثين والأيديولوجيين، في سياق محاولة تفسير العودة القوية للعصبيات القبلية والطائفية في بعض المجتمعات العربية وفي الوقت نفسه، بطريقة غير مباشرة، لإضفاء المشروعية عليها باعتبارها جزءا من بينة عصية على التغيير. كما أن العديد ممن يستعيدون فكر ابن خلدون من بين الباحثين العرب المعاصرين يفعلون ذلك في سياق استراتيجية دفاعية تسعى إلى تبيان عظمة التراث العربي الإسلامي ورياديته، وبالتالي قدرة العرب والمسلمين على الوقوف جنبا لجنب مع الغرب، وعدم الاضطرار إلى الخضوع أو التبعية له، ومن ثم الأخذ الأعمى بعلومه. ويشكل هذا الاستحضار للفكر الخلدوني بالنسبة للكثير من الباحثين العرب وسيلة للتخفيف من الشعور بالإحباط والنقص تجاه الغرب المتغطرس من جهة، وأساسا لاستراتيجية الاستقلال الثقافي وإعادة بناء العلوم على قاعدة عربية تضمن استمرار الهوية، وتؤسس لتاريخية خاصة، أو تعزز من فكرة وجود زمانية حضارية عربية إسلامية متميزة عن الزمانية الحضارية العالمية الموسومة بالطابع الغربي.لاشك في أن ابن خلدون معلم كبير على طريق نهضة النظرة العلمية في العلوم الاجتماعية، بشكل عام وليس في العالم العربي فحسب. وهو ما يفسر احتفاء الجامعات الغربية والشرقية معا بإحياء ذكراه. لكن قراءته لا تغني عن الأخذ بمناهج البحث التاريخي الحديث الذي تجاوزه، مع احتواء العناصر الثورية في فكره. كما أن تأويله للتاريخ، حتى العربي منه، أصبح بعيدا جدا عن أن يفي بحاجة بناء علم تاريخ نشوء الدول والممالك والسياسات والاجتماع البشري للأقطار العربية المعاصرة، ومن باب أولى ببناء النظم الاجتماعية والسياسية في أقطار العالم. فكما يقول هو نفسه، مبررا تأويله الجديد للتاريخ، لقد تغير العالم كثيرا وتغيرت الوقائع، وهي تحتاج لعلم جديد يتسق مع ما حصل من تغير. فالمجتمعات العربية أصبحت مندمجة كليا اليوم في تاريخ عصرها ومشابهة في بنياتها للمجتمعات الحديثة، بالرغم من التشوهات التي لا تزال تطبع حداثتها. ولم يعد من الممكن فهم ما يجري فيها ويطرأ لها من دون اعتبار هذه التغيرات، وفي مقدمتها ما أطلقت عليه اسم الحداثة الرثة بما تتضمنه من عناصر الآلية والتفكك والخضوع للسيطرة الخارجية ورأسمالية المضاربة والصناعة الخردة. وحتى مجتمعات الخليج التي كانت تسيطر عليها البنيات القبلية لعقود قليلة ماضية أصبحت اليوم مشدودة، أكثر من العواصم الحضارية التاريخية، في القاهرة ودمشق وبغداد وعواصم المغرب الكبرى وغيرها، إلى حركة البورصات والمضاربة بالأسهم والعملات الدولية. ولعل هذا ما يفسر أنه بالرغم من التقدير والافتتان الكبيرين اللذين لاقتهما ولا تزال فلسفة ابن خلدون التاريخية، منذ اكتشافها في الغرب وفي العالم العربي في القرن التاسع عشر، لم يترك هذا المفكر الكوني أي أثر ظاهر في تكون العلوم الاجتماعية الحديثة، ولا يزال يبدو كما لو كان منارة عالية، لكن معزولة كليا عما حولها. لقد مثل ابن خلدون لحظة بصيرة استثنائية ثاقبة نظرت فيها المدنية العربية الإسلامية الكلاسيكية إلى نفسها وهي تطلق آخر أنفاسها وتكتشف في الوقت نفسه عناصر قوتها وتتأمل في موتها الحتمي. ولهذا السبب كان خاتما لتقليد علمي قديم ومحققاً لكماله، وبالتالي لموته أيضا، أكثر مما كان تأسيسا لعلم جديد أو لعلوم الإنسان والمجتمع التي ستطلقها الحداثة. فعندما كتب ابن خلدون كتابه كان ملك العرب قد زال نهائيا منذ زمن طويل كما كان ملك البربر الذي كان موضوع تأمله الأكبر قد فارق الحياة أو في حالة احتضار طويل. وكما سيتوقف ملك العرب والبربر أو سيطرتهم عن الحياة منذ القرن الرابع عشر، سيجد علم ابن خلدون التاريخي نفسه خارج السياق، ولن يبقى منه سوى العناصر المنهجية الجديدة التي اكتشفها وهو يخرج من التاريخ، تاريخه الخاص. أما المضمون فقد أصبح أقرب إلى الحكمة العظيمة منه إلى العلم التجريبي الذي دافع عنه ابن خلدون نفسه. بهذا المعنى كان كتاب العبر الكبير لابن خلدون نشيد رثاء وتأبين للمدنية الإسلامية الكلاسيكية في المشرق والمغرب معا. وما كان من الممكن أن يقيم سنة أو تقليدا جديدا بقدر ما أنجز التقليد القائم. هكذا سيعقب تأليف كتاب ابن خلدون صعود سيطرة جديدة من نمط مختلف لا تخضع للقوانين التي اكتشفها ابن خلدون، أو لا يستنفد فهم حركتها فيها، أعني قوانين الغلبة المبنية على التفوق في العصبية. وسوف تنشأ دولة من نوع جديد أيضا تتجاوز ما عرفته الدول الصغيرة التي عاش ابن خلدون تاريخ نشوئها وانهيارها. ولذلك لم يهتم أحد في ذلك الوقت بعلم ابن خلدون. فلا بقي لدى العرب والبربر أمل يدفعهم للتفكير في المستقبل ولا كانت السيطرة الجديدة الصاعدة في الشرق البعيد معنية بعلم التاريخ بقدر ما كانت منشغلة في صنع التاريخ نفسه. ولم تكن تهتم، وهي لا تزال في عصر التقدم والإنجاز، بفهم قوانين صعودها هي نفسها في تلك الحقبة. ولم تكن لديها أي حاجة لتأمل نفسها وتبين موقعها في الخارطة الكونية والتفكير في مستقبلها. لقد كانت واثقة من نفسها وقوية بما فيه الكفاية حتى تعتقد أنها مظفرة وخالدة ولا خوف عليها. ولم يكتشف الأتراك العثمانيون ابن خلدون إلا عندما دفعهم الانحطاط، الذي لم يكف مفكروهم عن إثارته منذ القرن الثامن عشر، إلى البحث في أسباب انحطاط السلطنة العثمانية والتأمل في مآلها وتبين هشاشة موقعها في حركة التاريخ العالمي. يظل تاريخ ابن خلدون، بالرغم من المكتسبات الاستثنائية المنهجية التي مثلها في عصره، مطبوعا بعمق في نظرة القرون الوسطى الجبرية والدائرية التشاؤمية التي لا ترى الجدليات الكونية التي تعبر المجتمعات وتوحد في ما بينها معا. وهو لا يتفق وروح التقدم أو التاريخ الخطي الذي سيشكل محور الرؤية التاريخية للمجتمعات الحديثة. ومن هنا، باستثناء العناصر المنهجية النقدية والعقلية التي أدخلها في كتابة التاريخ، وهي التي تم إدراجها كما قلت في العلم الحديث وتجاوزها في الوقت نفسه، ينطوي تاريخ ابن خلدون المستند إلى مفهوم العصبية والغلبة المادية على رؤية وتأويلات محافظة ومتشائمة جدا، لا تفتح أي أفق ولا تنسجم مع المنظورات التي قادت الحداثة ورافقتها منذ الخروج من العصور الوسطى. وهذا ما يفسر أنه، حتى بعد اكتشافه، وبالرغم من الإعجاب الشديد الذي حظي به، لم يشكل تاريخ ابن خلدون منطلقا لتأسيس علم تاريخ حديث، لا في الغرب ولا في العالم العربي المعاصرين.من هنا، بعكس ما يسعى إليه جميع أولئك الذين يعتقدون أنهم سيفهمون مجتمعاتنا بشكل أفضل من خلال مصطلحات ابن خلدون القرسطوية، لا تنبع أهمية ابن خلدون مما يقدمه لنا من أدوات لفهم تاريخنا الراهن وحركة مجتمعاتنا، وإنما مما يرمز إليه بالفعل من طفرة في تاريخ الفكر والعلم الإنسانيين، أي في ما يمثله بالنسبة لنا من تعبير عن المشاركة الأصيلة للعرب في الفكر الإنساني والحضارة الكونية، ومن قدرة على الارتفاع فوق الذاتية نحو العلمية الموضوعية. وهذا على عكس الأهداف التي يسعى الكثير من مستحضري ابن خلدون في العالم العربي إلى تأكيدها من خلال الاحتفاء بذكراه، أعني تأكيد خصوصية العرب في البنية المجتمعية وفي النظرة العلمية معا. فلا تكمن قيمة ابن خلدون وفلسفته التاريخية في تأكيد خصوصية العرب وتميزهم، كثقافة وحضارة ومجتمعات وعلوم، بقدر ما يشير إلى قدرتهم على الارتقاء إلى مستوى قيم العلم الموضوعية، أي المشاركة في حضارة عالمية واحدة والانتماء إلى تراث إنساني شامل، وهو ما أصبحت غالبية رأينا العام، للأسف الشديد، تضيق به وتشيح عنه.

mercredi, mai 10, 2006

عندما يتحول الاصلاح إلى معضلة

اتحاد 10 مايو 06

لا ينجح الاصلاح إلا داخل نظم سليمة بالاجمال، أي في بنياتها الأساسية، وتتميز بحد أدنى من المرونة والتعددية والتنافسية وآلية المفاوضة الاجتماعية. وهو يهدف في هذه الحالة إلى تحرير النظم التي تعرضت لعوامل الهرم والتدهور أو البيرقراطية من العوائق التي تحول دون اشتغالها الأقصى، أو إلى تعديل جزئي في قواعد اشتغالها للرد على تحديات طارئة أو جديدة تواجهها. ولذلك فهو يتحقق على أيدي الأفراد والجماعات الأكثر إخلاصا لروح النظام وتعلقا بالمباديء التي يقوم عليها، وتكون نتيجته تعزيز هذا النظام والحفاظ عليه بتحسين أدائه وتعميق الاتساق في حركته. هكذا يشكل الاصلاح وسيلة للتجديد، أي لإعادة تأسيس النظم التي فقدت فعاليتها لكنها لا تزال تنطوي على قيم ثابتة ومقبولة لا يزال من الممكن الرهان عليها.
وبالعكس، يؤدي الفساد البنيوي للنظام إلى جعل التغيير شرطا لأي إصلاح. ويعني التغيير استبدال نظام بنظام آخر،، يستند على مؤسسات وقواعد عمل مختلفة ويستدعي قيامه وجود قوى منظمة تحقق هذا الاستبدال، سواء أجاءت من خارج النظام، أو من خارج المجتمع والبلاد، أو عن طريق الانقلابات والثورات المدنية.

وقد بينت التجارب التاريخية أن النظم القائمة على غير اختيار شعبي، وتلك المستندة إلى تغييب الشعب والرأي العام، مهما كانت عقائدياتها وفي أي مكان وجدت، لا تستطيع تحمل أي إصلاح وذلك لأن الاصلاح لا يعني شيئا آخر هنا سوى العودة إلى تطبيق حكم ا لقانون وإلغاء الامتيازات والأفضليات، وتعميم قاعدة الشفافية والكفاءة والمسؤولية، واحترام حقوق الأفراد ودفعهم إلى تحمل المسؤولية، من دون تهديد الأسس التي تقوم عليها، وهي الولاء والزبونية والرشوة المعممة والتعسف وطمس المسؤولية وإخفاء الحقائق عن المجتمع والاستهتار بحقوق الأفراد ومستقبلهم وفرض الأحادية الفكرية والسياسية عليهم. وأي فتح جدي للنظام، ولو ضمن حدود، بما يعنيه من القبول بالتعددية والاختلاف، والعودة إلى حكم القانون، يشكل مخاطرة كبرى لما ينطوي عليه من إضعاف احتكار موارد القوة ومصادرها، ويخلق ديناميكيات تنافسية تهدد عاجلا أو آجلا بتقويض أسس النظام القائم. فهو يلغي آليات القمع الرئيسية التي تحفظ توازن النظام، في الوقت الذي يفتح فيه الطريق أمام تمظهر تيارات الاحتجاج والمعارضة المحبوسة منذ عقود طويلة، والتي لا تنتظر إلا إشارة بسيطة أو ثغرة صغيرة كي تنفس عن احتقانها الطويل. وفي هذه الحالة، من المحتمل جدا أن تقود أي خطوة تبدو ضعيفة في طريق الاصلاح إلى إطلاق إشارة الانطلاق لحركة تغيير شامل، بل لحركات قوية تالية وغير منتظرة، كما دلت على ذلك تجارب دول أوروبة الشرقية الشيوعية.
سيكون التغيير على سبيل المثال النتيجة الحتمية لإلغاء الخلط المتعمد والبنيوي بين السلطات، مباشرة أو عن طريق رفع الرئاسة إلى مقام قدسي وتكليفها بمهام استثنائية وجعلها فوق القانون والنقد والمساءلة، كما هو سائد في معظم الأنظمة الشمولية. وسيكون التغيير أيضا النتيجة الحتمية لإلغاء حالة الطواريء والأحكام العرفية وسيطرة الأجهزة الأمنية على الحياة السياسية في الكثير من البلدان العربية. وسيكون التغيير النتيجة الحتمية كذلك لإطلاق ديناميكية المساءلة والمحاسبة والشفافية، ليس في الأمور السياسية فحسب، ولكن أيضا في المجالات الاقتصادية، وليس في ميدان القطاع العام الخاضع للدولة وإنما، أكثر من ذلك، في ميدان القطاع الخاص. فالشفافية هي العدو اللدود لنوعية الرأسمالية المضاربة التي تستند إلى التداخل بين حيازة الثروة والعلاقات السياسية الرسمية وغير الرسمية.
والواقع أن الرأسمال الأول في هذه النظم، الذي يشكل المصدر الرئيسي لتراكم الثروة ورأس المال معا، ليس رأس المال بالمعنى الحرفي للكملة، وإنما جملة العلاقات السياسية المجسدة في علاقات النفوذ، أو في التحالفات مع أصحاب القرار، على جميع المستويات الرسمية والأهلية. ومن هنا لا تنبع قوة المشاريع التجارية الخاصة، حتى الصغيرة والعائلية منها، من نجاحها في تطبيق المعايير الاقتصادية والإدارية السليمة، أو في تجديدات أساسية في نمط الإدارة أو التقنية المتبعة، بقدر ما يكمن في ما يملكه أصحابها من علاقات تفاهم وشراكة أحيانا مع ضباط أو مسؤولين يقدمون الحماية لهم ويغطون على خروقاتهم القانونية.

فلا يتفق استمرار هذا النمط من النظم، ولا إعادة إنتاجها، إذا أخذت بالفصل الفعلي بين السلطات، واستقلال القضاء، ووجود سلطة تشريعية ممثلة بالفعل لقطاعات الرأي العام، وتطبيق حكم القانون، وتعزيز دور المؤسسات، خاصة مؤسسات الرقابة، واحترام قواعد المحاسبة والشفافية، والاعتراف بالمواطنية المتساوية للجميع. فجوهر هذه النظم هو التلاعب بالقانون في سبيل إعادة إنتاج طبقة طفيلية كطبقة أرستقراطية وارثة ومالكة معا، وغير قابلة بالتعريف لأي تغيير أو تعديل. ولا يمكنها أن تنجح في ذلك إلا بإلغاء الحراك الاجتماعي وتثبيت المواقع والمكانات، وإعادة إنتاج فكرة التراتبية الطبقية-الطائفية التي ميزت في الماضي جميع النظم التقليدية. فإعادة إنتاج الطبقة الحاكمة كطبقة ارستقراطية يستدعي إعادة إنتاج المجتمع ضمن مراتب ثابتة ومتفاوتة أيضا، وبالتالي إلغاء مفهوم المواطنية والمساواة القانونية والأخلاقية وتكافؤ الفرص، لحساب تأكيد الأسبقية لفريق اجتماعي على فريق آخر، وتغذية عقيدة التفوق الطييعي لنخبة ثقافية على أخرى، بوصفهما شرطان ضروريان للمحافظة على الاستقرار وضمان الأمن والسلام الاجتماعيين.
باختصار، ليس من الممكن تغيير هذا النوع من الأنظمة إلى أنظمة تعددية ديمقراطية، كما حلم الاصلاحيون، لأن وجودها نفسه يتوقف على تغييب شعوبها وإخراجها من دائرة الفعالية السياسية، وأحيانا المدنية، ودفعها نحو الكساح، في سبيل فرض الوصاية عليها، وإبعادها عن المشاركة في تقاسم الريع الذي يشكل مصدر الثروة الرئيسي فيها. فبعكس ما تحتاجه النظم الرأسمالية، ليس الاستثمار المنتج لفائض قيمة هو السائد والمطلوب هنا، ولكن عمل السخرة والشغل غير المدفوع وغير المقدر بثمن. وهذا ينطبق على مجتمعات بكاملها. وكما أن اقتصاد الريع يجر اقتصاد الاستهلاك والتبذير والانفاق الاحتفالي والرمزي الباهظ، لا يمكن للرأسمال المكون عن طريق المضاربة، إن لم يكن عن طريق السلب والنهب مباشرة، أن يتحول إلى وسيلة للاستثمار والتجديد والتطوير. إنه يجر المجتمعات بصورة متزايدة نحو القرون الوسطى، ويعيد إنتاج قيم المحسوبية والتبعية الشخصية والإمعية، ويعممها على نطاق واسع، بحيث يختفي المجتمع والرأي العام الحديثين بالفعل عند الفرد، لصالح التابع والعبد المأمور. والواقع ليس هناك في المجتمعات التي تسود علاقاتها هذه الصيغ الناشزة من الحكم إلا سيد إقطاعي واحد، أما بقية البشر فهم عبيد مأمورون، بصرف النظر عن مسؤوليتهم السياسية ومكانتهم الاجتماعية وموقعهم الديني أو الثقافي أو المدني.

هذا يفسر لماذا أخفقت جميع خطط الاصلاح العربية في العقود القليلة الماضية. فالمساس بقواعد اللعبة السياسية القائمة على خرق القانون وتعليقه، وإلغاء هوية المجتمعات السياسية، أي حل البنية الوطنية والمواطنية، وتخليد المواقع والمناصب والمرتبيات، هو شرط بقاء أنظمة الإقصاء الجماعي واستمرارها.

mercredi, mai 03, 2006

مصير النظم الثورية العربية ومآلها

الوطن 4 مايس 06
شهدت معظم الدول العربية منذ بدايات النهضة في القرن التاسع عشر تطورا كبيرا للفكر السياسي والاجتماعي الحديث، انعكس في ما يمكن تسميته بالثورة الدستورية التي شارك فيها العرب مع المنظمات التركية الحديثة في إطار السلطنة العثمانية. وقد استمر هذا التطور بعد الانفصال عن السلطنة وخلال فترة الهيمنة الاستعمارية، وعبر عن نفسه من خلال تمسك الحركات الاستقلالية بالدستور وبالسيادة الوطنية ورفض التبعية ومقاومة السيطرة الأجنبية والحصول على الاستقلال الكامل والناجز. وورثت العديد من البلدان العربية، في المغرب ومصر وسورية والعراق ولبنان والسودان وغيرها، بعد الاستقلال نظما تعددية ديمقراطية الطابع، بالرغم مما كان يشوبها من نواقص وتشوهات لم يكن من المستحيل التغلب عليها وتجاوزها مع الزمن.
لكن السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية شهدت، في البلدان العربية كما هو الحال في معظم بلاد العالم، صعودا عاصفا لأفكار الثورة الاجتماعية والتقنية على أمل اللحاق السريع، كما حصل في روسيا الشيوعية وصين ما وتسي تونغ، بالدول الصناعية الغربية. وقد أنشات هذه الأفكار التي انتشرت في العالم أجمع مناخا جديدا بدت فيه النظم الليبرالية او شبه الليبرالية القائمة ضعيفة وبالية، لا تفي بالمطالب الشعبية ولا تستجيب لآمال تحقيق القوة والسيادة والأمجاد القومية. وخلال سنوات محدودة تلت حقبة الاستقلال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اكتسحت الثورات والانقلابات التي ارتبطت بها القسم الأعظم من الدول الصغيرة التي ولدت من حركات تصفية الاستعمار وانحسار الهيمنة الأوروبية في القارات الثلاث.
بيد أن الأزمات العديدة التي مرت بها النظم الثورية، بمساعدة الحرب الباردة أحيانا، والزوال السريع للأوهام التي ارتبطت بها، وإخفاقها في تلبية المطالب الاجتماعية والرد على التوقعات التي ولدتها في مرحلة صعودها، كل ذلك وضع حدا للمد الثوري، وفتح باب العودة من جديد إلى الحالة الطبيعية، أي إلى نظام التعددية والتنافس على السلطة، بوصفه النظام الوحيد الذي يسمح في وقتنا الحاضر بإقامة سلطة سياسية شرعية، ويجنب المجتمعات التغريز الطويل في الحرب والنزاعات الاهلية. كانت بلدان أمريكا اللاتينية، التي شكل مقتل شي غيغارا صدمة كبيرة لشعوبها، هي السباقة للدخول في هذا الطريق عبر مفاوضات صعبة للتسوية السياسية بين حركات المقاومة المسلحة والنخب اليمينية الحاكمة. لكن ستعقبها بسرعة الكثير من الدول الأفريقية قبل أن تلتحق بها، منذ نهاية الثمانينات، الكتلة السوفييتية برمتها، أعني الاتحاد الروسي ودول أوربة الشرقية وآسيا الوسطى جميعا.
لم يختلف وضع الدول العربية التي دخلت في التجربة ذاتها عن ذلك. فقد كانت مصر سباقة لاكتشاف مأزق نموذج النظام السوفييتي، أولا بسبب هشاشة الأسس النظرية والسياسية التي قام عليها هذا النموذج عندنا. وثانيا بسبب الضربة المعنوية القاسية التي أصابت السلطة العربية الثورية نتيجة الهزيمة المؤلمة التي تكبدتها في مواجهة قوات التحالف الإسرائيلي الأمريكي عام 1967. وهكذا بينما بدأت القاهرة في التحلل من أوهامها الثورية منذ موت الرئيس جمال عبد الناصر والعودة إلى طربق الليبرالية الاقتصادية، بل والتحالف مع الغرب، كانت السلطة الثورية في سورية والعراق لا تزال تتخبط من دون أن تصل إلى قرار. أما في الجزائر فقد عوضت الموارد النفطية الكبيرة عن إفلاس النموذج نفسه وسمحت باستمراره من دون هزات كبيرة حتى التسعينات.
لم يكن هناك من حيث المبدأ ما يمنع البلاد العربية التي اختبرت النموذج السوفييتي من الخروج السلمي والتدريجي من حكم الحزب الثوري الواحد إلى الوضع الطبيعي، كما حصل في كل بقاع العالم باستثناء كوبا وكوريا الشمالية. لكن ما حصل كان معاكسا تماما لما جرى في العالم أجمع. فبدل الخروج من أزمة النظم الثورية من باب العودة إلى التعددية والديمقراطية فضلت البلاد العربية الخروج من باب الفاشية وإعادة بناء النظم المطلقة على أسس جديدة، سواء ما تعلق بالقاعدة الاجتماعية التي تقوم عليها، أو بالايديولوجية التي تبني شرعيتها، أو بالأجهزة والمؤسسات التي تستند إليها في فرض سلطتها وإرادة أصحابها. وهكذا احتلت البيرقراطية أو التضامنات العشائرية والطائفية أو كلاهما معا محل طبقة العمال والفلاحين كقاعدة فعلية للنظم المتحولة. وصارت عقيدة الحفاظ على الأمن والاستقرار، أو مقاومة الصهيونية والوقوف في وجه الاستعمار أو كليهما، المصدر الرئيسي للشرعية المبتغاة، بدل الثورة الاجتماعية والصناعية والزراعية والتعليمية. واخذت الأجهزة الأمنية المتقاطعة والمتنامية تحتل المكانة التي كانت من اختصاص الجيوش الشعبية والوطنية العقائدية في تأمين شبكات الدفاع والحماية عن النخب الحاكمة، بل في ضمان اتساق النظام بأكمله وضبط حركته وتوحيد مؤسساته وتسييرها، بما في ذلك تجديد النخب نفسها والعناية بتأمين العناصر القيادية السياسية والإدارية اللازمة لتشغييل النظام. وشيئا فشيئا أصبح النظام رهينة مباشرة لهذه المؤسسة الأمنية التي لا هدف ولا برنامج لها سوى الحفاظ على نفسها، وتخليد الوضع القائم، وتأبيد زعاماته وأعوانه في مواقعهم وأدوارهم، والقضاء في المهد إذا أمكن على احتمال ظهور أي عامل أو عنصر يمكن أن يشكل في المستقبل تهديدا للنظام، فكريا كان ام سياسيا أم إقتصاديا أم تقنيا.
وهكذا وجدتا أنفسنا أمام نظم مغلقة كليا تسير بقوة دفعها الذاتية وحسب منطقها الداخلي، لا تدين للمجتمع بشيء ولا تتأثر به أو تلتفت إلى ما يقول، وتقتصر علاقتها به على تحييده ومنعه من المبادرة أو الحركة أو الاحتجاج. نحن في الواقع أمام آلات لا يمكن النفاذ إليها، ومن باب أولى فتح حوار معها او التفاوض، بأي صورة كانت، حول السياسات التي تتبعها. ذلك أنها لا تخضع هي نفسها في سلوكها او سيرها إلى أي مفهوم سياسي، وليس لها علاقة بالسياسة أو بالمجتمع. إنها قمرات قائمة بذاتها، تعيش في فلك خاص بها وتتبنى مفاهيم وتعتمد معايير من صنع يديها لا علاقة لها بالمعايير القائمة في العالم الخارجي المحيط بها. وبعد أن استملكت موارد البلاد التي تسيطر عليها، لم تعد بحاجة كي تضمن بقاءها إلى التعامل أو التفاعل مع أحد من خارجها. ولا تتصل بالمجتمع أو تتعامل معه إلا عبر المؤسسات التي خلقتها هي نفسها، والتي تشكل جزءا من جهاز امنها، بما فيه المؤسسات غير الأمنية. والمكان المفضل لديها للتواصل مع أفراد مجتمعها والاتصل بهم هو مكاتب فروع الأمن المنتشرة في كل قرية وحي ودوار، حتى لم يعد من الممكن إحصاؤها. هذه هي الوضعية الوحيدة التي يجد فيها أعضاؤها الأمان والثقة الضروريين لبناء علاقة مع الآخر أو الاستماع له والتعرف على كلامه والاعتراف بحقه فيه.
هكذا، تجد بعض الشعوب العربية نفسها في مأزق دقيق وعميق يصعب الخروج منه. فهي في وضعية استثنائية لا تفيد فيها الثقافة ولا السياسة ولا يمكن أن ينمو فيها أي أمل بالحوار، ولا ينفع معها لا الضغط ولا الاحتجاج ولا الاعتصام. إنها أمام غول نشأ في احشائها ونما في رحمها وهو يمتلكها من الداخل ويستبد بكل مواردها وإمكاناتها العقلية والمادية معا، ويتحكم بها حتى يكاد يحصي عليها أنفاسها وتنهداتها.
كيف حصل ذلك؟ وما هي الظروف والعوامل التي ساعدت عليه؟ وهل لا يزال لدى المجتمعات العربية المبتلاة القدرة على التحرر من قبضة هذه الآلة الجهنمية وتحطيمها أم لا تزال الشروط الإقليمية والدولية التي ساهمت في نشوئها غير ملائمة لذلك ؟ هذه أسئلة تستحق التفكير، حتى لو أن الإجابات المطلوبة عنها ليست بالضرورة جاهزة.

mardi, mai 02, 2006

في سبيل مبادرة دولية لإطلاق الحوارات الوطنية الممنوعة

الجزيرة نت

أصبح من البديهي اليوم لكل المراقبين أن عمليات الضغط والتدخل العسكري التي قادتها واشنطن في أفغانستان والعراق، قد أثرت بشكل سلبي تماما على مسارات التحول الديمقراطي في العالم أجمع. وبدل أن تقود الضغوط الأجنبية التي مورست في السنوات الخمس الماضية إلى تعزيز فرص التحولات الديمقراطية، عملت على عزل القوى الديمقراطية وتهميشها وتوجيه أصابع الاتهام لها من قبل فئات واسعة من ا لرأي العام العربي والعالمي.
وهكذا، بدل الثورة الديمقراطية الموعودة، بمساعدة القوى الأطلسية التي اكتشفت بعد عقود طويلة مساويء تعزيز النظم الاستبدادية، دخلت الشعوب في أزمة جديدة تتجاوز بمخاطرها ما كانت تعيشه من قبل. فقد أدت السياسات اللامسؤولة للدول الكبرى الصناعية التي ربطت بين التحول الديمقراطي وإعادة تجديد نظام السيطرة شبه الاستعمارية في المنطقة إلى كسر ديناميكيات التحولات الداخلية، ودفع جميع الأطراف إلى التثبت على مواقف قصووية مغالية، لا يمكن أن تقود إلا إلى طريق مسدود. ونحن نعيش اليوم هذا الانسداد كما لم نعشه في أي حقبة سابقة. فلا النخب الحاكمة مستعدة لتفهم أوضاع المجتمعات وإدراك الحاجة المتزايدة لإعادة إشراك الشعب في الحياة السياسية وتحمل قسطه من المسؤولية في عالم يسير أكثر فأكثر نحو الاندماج والتوحد، ولا المعارضات الديمقراطية التي اعتقدت بأن المناخ الدولي قد تغير لصالح أطروحاتها، تمكنت من صوغ أجندة واقعية وعملية لفرض التقدم إلى الأمام على قوى المحافظة الرسمية. وفي العالم العربي بشكل خاص أخفقت جميع المساعي التي بذلتها القوى المدنية لجر الحكومات إلى مائدة الحوار، في أي مستوى كان، خلال السنين الطويلة الماضية. وبالرغم من اعتراف السلطات نفسها بالأزمة العميقة التي تعيشها مجتمعاتها، وتأكيدها على الرغبة في الاصلاح، أو حسب وثيقة الجامعة العربية، في التطوير والتحديث، والانتقال من التسلطية السائدة إلى نظام التعددية الحزبية، وبالرغم من إدانة قوى المعارضة الرئيسية التدخلات الأجنبية وتضحيتها بحلفاء خارجيين ممكنين كثر، وتبنيها برنامج عمل يؤكد على الانتقال السلمي والتدريجي المتفق عليه إلى الديمقراطية، لم يمكن تحقيق أي تقدم يذكر على هذا الصعيد، ولا يزال العالم العربي يبدو في نظر الرأي العام الدولي منطقة مستعصية على أي تغيير ديمقراطي. بل ليس من المبالغة القول إنه بالرغم من تنامي وزن المعارضات وتيارات المعارضة الديمقراطية الفكرية تشهد العديد من الدول العربية تراجعا مؤلما على صعيد احترام الحريات العامة وحقوق الانسان. ويسيطر على بعضها مناخ الحرب الأهلية، مع مسلسل الاغتيالات والقتل على الهوية، بينما يستمر مسلسل تعقب الناشطين المدنيين وأصحاب الرأي من المثقفين، والتنكيل بهم وتشويه سمعتهم، بالإضافة إلى عودة سياسات الخطف والاختفاء التي عادت إلى الواجهة من جديد لتغييب المعارضين أو الانتقام منهم ومن أسرهم، في بعضها الآخر.
يقود هذا التحول السلبي، بما يجسده من تراجع عن وعود الاصلاح وانكفاء على مواقف دفاعية أكثر تصلبا، إلى اليأس، ويقتل أي أمل ولد في السنوات الخمس الماضية في إمكانية الخروج من النظام القائم على التسلط والتعسف والعنف بالوسائل الذاتية وبالأساليب السلمية التفاوضية. والنتيجية الطبيعية لهذا الوضع تنامي الرهان على التدخلات الخارجية والإنكفاء من جديد، كما حصل في عقد الثمانينات والتسعينات في العديد من الأقطار العربية، على الوسائل العنيفة، وربما الاستسلام لإغراء الحروب الداخلية، والطائفية منها بشكل خاص كتعبير عن التخبط والمراوحة في المكان. وحتى لو نأت المعارضة الديمقراطية بنفسها عن هذه المخاطر وتابعت سياستها النشيطة في لجم قواها والخاضعين لنفوذها ومنعهم من الانجرار وراء مثل هذا الحل، فليس هناك ما يضمن أن لا يثير هذا الوضع اليائس شهية قوى خارجية لا تحسب أي حساب لمصالح البلاد، وأن لا يفجر غرائز قوى داخلية ضائعة فقدت جميع الآمال وأصبحت مستعدة وجاهزة لكل المخاطرات.
أمام هذا الوضع الذي يزيده الجمود الاقتصادي والتدهور الاجتماعي والضغوط الخارجية هشاشة لا يمكننا البقاء مكتوفي الأيدي، ولا الانتظار حتى لحظة الانفجار. ولا بد في نظري من مبادرة جريئة تساعدنا، في العديد من أقطار العالم العربي التي تعيش حالة من الاستعصاء والأزمة المتفاقمة، على كسر مناخ الحرب الداخلية وتجاوز القطيعة القائمة، وتفتح الباب أمام إمكانية الانتقال المفاوض عليه نحو صيغ للحكم والإدارة تقضي على بؤر النزاع المشتعلة والكامنة، وتفتح الطريق أمام تسوية سياسية وعودة إلى الحالة الطبيعية، أي إلى حالة السلام الأهلي الذي لم يعد من الممكن تجاهلها من دون تعريض مستقبل المجتمعات في التنمية والتقدم الانساني، بل في وجودها نفسه للخطر. وأنا أقترح :

1- ما دمنا قد أثبتنا فشلنا حتى الآن، معظم البلاد العربية، في فتح حوار جدي في ما بيننا، أقصد بين السلطة والمعارضة، فنحن نحتاج لا محالة إلى وسيط خارجي نزيه يساعدنا على فتح هذا الحوار وتنظيمه حتى يؤتي ثماره ويبعدنا عن خيار المواجهة والحرب الأهلية التي هي الثمن الحتمي لكل احتباس وانسداد في حياة المجتمعات. فليس هناك شك في أن سنوات طويلة من إلغاء الحياة السياسية والسيطرة الشاملة على جميع مقدرات الشعوب باسم الثورة أو مقاومة الاعتداءات الخارجية، جعل العديد من النخب الحاكمة تستسهل الحكم عن طريق احتكار السلطة، والتمديد التلقائي لقوانين الطواريء والاحكام العرفية، واستبدال الوصاية الأمنية على المجتمع بالحوار. فهي لا تجهل طرق الحكم السياسية فحسب ولكنها أكثر من ذلك تخشى أن يقود أي انفتاح في اتجاه المعارضة إلى خلق الانطباع عند قطاعات واسعة من الرأي العام بأنها أصبحت ضعيفة، أو أن يتحول إلى مناسبة لتفجير طوفان النقمة والاحتجاج الشعبي المرتبط بتدهور مستويات المعيشة وشروطها الانسانية. وبالمقابل، ليس هناك شك في أن استمرار ضعف المعارضة الديمقراطية وعدم قدرتها على كسر الحصار الذي فرضته السلطات القائمة عليها لا يساعدانها على أن تشكل قوة ضغط مقنعة بما فيه الكفاية حتى تأخذها الأنظمة بالاعتبار.
وحتى نضمن الحد الأكبر من نجاح هذه المبادرة، لا بد أن يتحلى الوسيط الدولي الذي نتطلع إلى مساعدته لنا بحد كبير من الحكمة والنزاهة والصدقية. وقد يكون على شكل لجنة مساع حميدة دولية، مكونة من شخصيات عالمية معروفة برجاحة عقلها واستقلالها، ولديها قسط كبير من الرصيد السياسي والأخلاقي والمعنوي. وأنا أفكر بأشخاص من نوع نيلسون منديلا وجيمي كارتر والسيدة ماري روبنسون والسيدة غاندي وغيرهم ممن يتمتعون برصيد معنوي كبير مثل الحائزين على جائزة نوبل المعروفين بمواقفهم الانسانية والديمقراطية.

2- ليس الغاية من لجنة الوساطة الدولية فرض حلول على أي طرف من الاطراف. وليس هذا هو المطلوب منها. إن غايتها هي تسهيل فتح الحوار بين الأطراف المتنابذة، وتذليل العقبات التي تحول دون تواصل هذه الأطراف، وإبراز إمكانية المراهنة على الحلول السياسية المتفاوض عليها وجدواها. أي وضع الأطراف أمام مسؤولياتها ودفعها إلى التوصل هي نفسها إلى حلول قابلة للحياة والتطور. وهي تستند في ذلك إلى تعزيز ثقة الأطراف بعضها بالبعض الآخر، ومساعدتها على بلورة أجندة واضحة ومحددة للحوار بهدف بلورة مشروع للتحول التدريجي والسلمي والمفاوض عليه إلى التعددية والديمقراطية، والسهر على تحقيقه وتقديم الاقتراحات البناءة للتوصل إلى التفاهم المطلوب عند الحاجة. وتحتاج من أجل ذلك إلى إزالة المخاوف والحساسيات، وتشجع الاطراف على اتخاذ المخاطرات المطلوبة والضرورية وتجنيبها المفاجآت والانقلابات التي يمكن أن تحرف الحوار عن هدفه الحقيقي الأول، وهو الانتقال السلمي والتدريجي من صيغ الحكم المطلقة التي أصبحت مصدرا لأزمة شاملة إلى صيغ تعددية وديمقراطية تقوم على مشاركة جميع الأطراف وتفتح الطريق أمام تجديد الحياة السياسية وتنشيط الحياة الاقتصادية وتغيير المناخ الاجتماعي الذي تسوده التوترات ومخاطر المواجهات الدموية.
وفي اعتقادي أن مثل هذ الخيار يشكل اليوم البديل الوحيد لمواقف ثلاثة متعايشة تجاه أزمة التسلطية والعجز عن استبدالها في العديد من الأقطار، وفي مقدمها الأقطار العربية: الاستقالة السياسية المحلية والدولية وترك المجتمعات تتخبط إلى ما لانهاية، القبول بالمغامرات الانقلابية العسكرية والمدنية معا، وأخيرا التسليم بحتمية سياسات التدخل والضغط والعقوبات الجماعية باعتبارها الدواء الأخير الذي لا مهرب منه لمحاربة بؤر التعفن والفساد العالمي، بالرغم مما أبرزته التدخلات التي حصلت في الأعوام الماضية من نتائج سلبية ومساهمتها غالبا في تفاقم أوضاع التعفن والفساد هذه.
3- من المفيد والضروري ان يتم تشكيل هذه اللجنة في إطار الأمم المتحدة وبالتعاون مع أمينها العام، السيد كوفي أنان، لكن مع الاحتفاظ بكامل استقلالها في كل ما يتعلق باجندة تدخلاتها الانسانية ومساعيها لتطوير عمليات الانفتاح.
4- لا تلجأ اللجنة إلى أي تهديد ولا يرتبط بعملها أي نظام عقوبات. إن وظيفتها تتوقف على إزالة عوامل انعدام الثقة المتبادل وتطمين الأطراف المختلفة وحماية المعارضات الديمقراطية في الأنظمة التي تفتقر لحكم القانون. وليس لدى هذه اللجنة أداة للضغط على الأطراف المتفاوضة سوى سمعتها المعنوية ونفوذها الأدبي وتواصلها مع الرأي العام المحلي والعالمي، الذي ينبغي أن تتوجه إليه للإعلان عن ثمرة مساعيها وحدود نجاحاتها. إن ما هو مطلوب منها ليس إجبار أحد على الانخراط في عملية التحول الديمقراطي وإنما وضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها في مواجهة الرأي العام، والإشارة إلى من يخل منها بالتزاماته أو يعمل على عرقلة التقدم في اتجاه بلورة أجندة وطنية للعودة إلى الحالة الطبيعية، أي إلى حكم القانون وتداول السلطة ونظام التعددية والمنافسة بين النخب السياسية والاصلاح.

بالتأكيد لن تقوم الحكومات بمثل هذه المبادرة التي تضعها تحت أنظار الرأي العام وليس من مصلحتها عمل ذلك. كما أن الدول الغربية الكبرى المعنية بضمان نفوذها وسيطرتها الدولية لن تقبل بالتخلي عن قميص عثمانها الذي هو اليوم الديمقراطية التي تستخدمها لفرض أجندتها على الدول الضعيفة والصغيرة، لصالح لجنة دولية لا تخدم مصالحها وإنما تقطع عليها طريق التدخل السياسي وربما العسكري في الشؤون العالمية. إن السعي إلى تشكيل مثل هذه اللجنة يقع على كاهل القوى الديمقراطية المحاصرة والمثقفين العالميين الذين يشعرون بالمسؤولية في مواجهة المشاريع الاستبدادية والاستعمارية معا ويأملون في فتح طريق آخر للعمل المدني خارج الخطط والاستراتيجيات الرسمية، مؤمنين بإمكانية الرهان على الرأي العام والاعتماد عليه في التغيير. فعليهم يقع واجب اتخاذ المبادرة والتشاور في الأمر، في العالم العربي وخارجه معا. وأنا على يقين من أنه لو قيض لهذه اللجنة أن تتشكل في القريب، وأن تحصل على دعم المنظمة الدولية والمؤسسات الانسانية المعروفة بنزاهتها، فستكون لها مساهمة فعالة في التقليل من مخاطر اللجوء، هنا وهناك، إلى سيف العقوبات الاقتصادية الذي لا يطال في النهاية سوى الشعوب، وبشكل أكبر، من مخاطر اللجوء إلى التدخل الأجنبي المباشر أو، وهذا أهم أيضا، في تجنب انحلال عرى العديد من الجماعات الوطنية وتفجرها، عبر حروب طائفية ودينية وعرقية لا طاقة للمجموعة الدولية اليوم في احتمال نتائجها الكارثية، كما هو حاصل اليوم في أفغانستان والعراق بشكل خاص، وفي العديد من البلدان التي تعيش حالة استعصاء وانسداد سياسي مماثل.

الأسدية في السياسة

مساهمة في كتاب مركز دراسات القاهرة لحقوق الانسان، أفريل 2006
دور السياسة الإقليمية في تحقيق السيطرة الداخلية

1- مرحلة الصعود والبناء
أمام ما تواجهه سورية من تحديات كبيرة لم يسبق أن تعرضت لها من قبل، وما يمكن أن ينجم عنها من تغيرات دراماتيكية في عاصمة الأمويين، أصبح البحث في التجربة السياسية التي قادها الرئيس حافظ الأسد، وتسليط الضوء على نموذج الحكم الذي بلوره خلال عقود ثلاثة من السلطة المتواصلة، ذا أهمية خاصة اليوم في أي مسعى لمعرفة اتجاهات التطور السورية، سواء ما تعلق منها باحتمالات تطور النظام القائم أو بقدرة البلاد والقوى الاجتماعية والسياسية على التعامل مع الأوضاع المستجدة والتحولات الجارية في المشرق والعالم العربي عموما.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن نظام الأسد قد شكل، في ما أظهره من استقلالية وما أعطاه لسورية من مكانة استثنائية في المنطقة المشرقية، لغزا لا يزال الباحثون يسعون إلى سبر غوره حتى اليوم. ومارس بسبب ذلك نوعا من الافتتان على كل أولئك الذين احتكوا به، سواء أكانوا من المراقبين الخارجيين أو من أوساط الرأي العام العربي والعالمي. ومصدر هذا الافتتان ما بدا على النظام من قدرة كبيرة على الجمع بين التناقضات، وتبديل السياسات، والانتقال من تحالف إلى آخر، من دون أن تختل توازناته الداخلية أو تتأثر صورته الخارجية. وبالفعل كيف يمكن أن نفسر نجاح هذا النظام في الجمع بين الاستخدام المفرط للقوة، وما يعنيه من استهتار بالمعايير القانونية والسياسية، وما اتسم به في الوقت نفسه من مظهر السلطة العقائدية والمواقف المبدئية التي جنبته إلى وقت قريب أي اتهامات أو انتقادات جدية خارجية رسمية وشعبية معا؟ وكيف يمكن التوفيق بين ما تميزت به قيادته السياسية من الحنكة والقدرة التكتيكية من جهة والاستخدام المفرط للعنف، الذي طبع سياساته منذ انقلاب الثامن من آذار مارس 1963، في مواجهة منافسيه الداخليين من جهة أخرى؟ وكيف نفسر نجاحه في تكوين صورة عنه لدى الرأي العام السوري والعربي بوصفه النظام الأكثر تعبيرا في سياساته عن المصالح العربية الجماعية، والمدافع الأول عن القضية الفلسطينية، في الوقت الذي لم يتردد فيه في سحق العديد من القوى العربية المجاورة التي غالبا ما خاض ضدها حروبا إخضاعية ضارية، وفي مقدمها منظمة التحرير الفلسطينية ولبنان والأردن وغيرها، في سبيل تعزيز مكانة سورية وتأكيد أسبقية مصالحها على أية مصالح أخرى، ومن وراء ذلك تكريس شرعية النظام؟ وكيف يمكن أن نفسر نجاحه في الجمع بين أكثر الخطابات الايديولوجية إنسانية وراديكالية، كحكم العمال والفلاحين والطوائف المهمشة والفقيرة، وأكثر الممارسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية انغماسا في انتاج شبكات المصالح الخاصة، العائلية والزبائنية، وتكوبن الثروات الشخصية الاستثنائية بجميع المعايير، حتى بمعايير البلدان الخليجية النفطية ؟ وكيف يمكن أن نفهم العلاقة بين مظهر الجمهورية العلمانية المستقلة تجاه الانتماءات الدينية التي قدمها عن نفسه، والاعتماد الكلي تقريبا في بقائه على تعبئة العصبيات البدائية وتعميم الحسابات والمعادلات العشائرية والطائفية والمناطقية، بل والعائلية؟ وكيف أمكن له أن يجمع في الوقت نفسه بين مظهر الجبروت والقوة المليئة، وما تميز به الوضع السوري في عهده من الفراغ السياسي والفكري والأخلاقي معا؟
بالرغم من كل مظاهر الاستقلالية والثبات التي اتسم بها في الأربعين سنة الماضية، لم يضمن نظام البعث، الذي حصلت في ظله أكبر عملية إعادة توزيع للثروة والسلطة والجاه لصالح نخبة جديدة كانت لحقبة طويلة هامشية، الاستمرار والبقاء بفضل ما تمتع به من شعبية، بقدر ما جاء نتيجة مراكمته للقوة السياسية، المادية والمعنوية التي وحد بها أصدقاءه وأرهب أعداءه[1]. ويرجع المدافعون عن النظام في سورية وغيرها مصادر هذه القوة التي حكم بها الأسد سورية حكما مطلقا خلال أكثر من ثلاثين عاما، وسمح لنفسه بأن يعين ابنه خلفا له، إلى نظرية رئيسية مفادها أن نظام البعث كان جزءا من الحركة الشعبية القومية العربية التي تنامت في الخمسينات والستينات. وأن حافظ الأسد هو الذي وضع، بحركته التصحيحية عام 1970، هذه التجربة على طريقها السليم. ومما يشجع على هذا التفسير واقع أن حزب البعث العربي الاشتراكي قد مثل خلال المرحلة ذاتها، بعقيدته وكفاحه العملي معا، جزءا لا يتجزأ من هذه الحركة بالفعل. وفي هذا المنظور يظهر حافظ الأسد على أنه واحد من أولئك القادة الكبار الذين جسدوا مرحلة الصراع الوطني والقومي العربي، خلال حقبة ما بعد الاستقلال، مثل عبد الناصر وأحمد بن بله والهواري بومدين ومعمر القذافي، وغيرهم من الزعماء العرب التقدميين، أو الذين وصفوا بهذا الوصف لتبنيهم برنامج تحويلات للمجتمعات تنسجم مع خط الحداثة والعدالة الاجتماعية ورفض التبعية والهيمنة الأجنبية.
وبالمقابل يشدد المناوئون للأسد على نظرية الاستخدام الموسع للعنف الذي واجه به الحكم البعثي خصومه منذ استلامه السلطة في الثامن من آذار 1963، حيث قضى على القوى الناصرية المعادية بالقوة، كما ضرب بعنف جميع حركات المقاومة والاحتجاج المدنية التي قدمت أحداث حماة في عام 1982 نموذجا معبرا عنه. وتكاد التفسيرات التي يقدمها المحللون السياسيون المحايدون لقدرة النظام البعثي الذي افتقر إلى الشعبية والقاعدة الاجتماعية الوطنية، على الاستمرار والبقاء لأكثر من أربعين عاما، تتمحور حول عامل رئيسي وحيد: استغلال ظروف الحرب الباردة التي مكنت الأسد من بناء قوة عسكرية وسياسية استثنائية، بالتحالف مع دولة عظمى هي القوة السوفييتية وتحت تغطيتها الاستراتيجية.
لكن أصبح من الواضح اليوم، بعد مرور أربعة عقود على قيام النظام البعثي في سورية، أن جدول أعمال الحكم البعثي لا يتطابق أبدا مع جدول اعمال الحركة القومية العربية الذي تمحور حول الوحدة العربية، واستخدم الحركة الشعبية للضغط على النظم المحافظة لدفعها لتبني أجندة وطنية تضمن استقلال القرار العربي القومي وابتعاده عن التبعية لقرارات الدول الأجنبية، والغربية منها بشكل خاص. بل بالعكس من ذلك، أظهر نظام البعث، وعهد الأسد منه بشكل خاص، اهتماما واضحا بإعادة بناء الموقع الاستراتيجي السوري المتميز في المنطقة العربية، والدفاع عن هذا الموقع بأي ثمن، وذلك عكس ما حصل في نهاية الخمسينيات، عندما انسحب القادة السوريون لصالح القيادة الناصرية، وقبلوا بأن يحولوا سورية إلى قطر تابع إلى حد كبير لمصر في إطار الجمهورية العربية المتحدة. بل ربما كان هذا الخيار القطري أحد عوامل القوة الرئيسية للنظام الذي بناه حافظ الاسد بعد زوال النزاعات البعثية الداخلية. وبالمثل، لم يكن الصراع ضد النفوذ الغربي هو السمة المميزة للسياسة السورية الخارجية في العهد الجديد، ولا أحد محاورها الرئيسية، بقدر ما كانت سمتها التعاون مع جميع الاطراف الدولية، والسعي إلى التفاهم معها، من الاتحاد السوفييتي السابق إلى الصين إلى الولايات المتحدة الامريكية، التي استأنفت تقديم المساعدات المالية لسورية منذ منتصف السبيعينيات، وشجعتها على الدخول في لبنان لوضع حد للحرب الاهلية المشتعلة. كما أن النظام البعثي لم يغذ أي وهم خاص حول قدرته على الاعتماد على الحركة الشعبية، وراهن منذ الأيام الاولى لنشوئه على أجهزة الأمن والسيطرة العسكرية. ولا تدل مراكمة الثروات الشخصية الهائلة، التي تميز بها المسؤولون السوريون وأبناؤهم وأقرباؤهم وأنصارهم المقربين، على تمسك كبير بقيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والدفاع عن العمال والفلاحين التي ارتبطت بالحركة القومية العربية الشعبية، بالرغم من عدم تردد النظام في تكرار شعارات الاشتراكية وإنصاف الطبقات الشعبية.
أما أولئك الذين لا يرون في استمرار نظام الأسد إلا النتيجة الطبيعية لاستخدام القوة المادية والعنف ضد المعارضين والخصوم فهم ينظرون إلى الوضع من زاوية الحاضر فحسب. لكن من الصعب على أي مراقب سياسي محايد أن ينفي الشعبية التي حظي بها الأسد عندما صعد إلى مسرح القيادة في السبعينات من القرن الماضي والتحولات السياسية التي أحدثها في سبيل تعزيز هذه الشعبية وتكريسها أيضا، سواء ما تعلق منها بتكوين الجبهة التقدمية الحاكمة أو بناء مؤسسات النظام الجديد السياسية والنقابية والاقتصادية.
وإذا لم يكن هناك من يشك في ما قدمته حقبة الحرب الباردة من فرص لإظهار مهارة الأسد التكتيكية وتجسيدها في علاقات استثنائية مثمرة لصالح تعزيز النظام الذي أسسه في السبعينات من القرن الماضي، إلا أن بقاء النظام لأكثر من عقدين بعد زوال الحرب الباردة يجعل من الصعب القبول بالتفسير الذي يقول إن مصير النظام السوري قد ارتبط بالحرب الباردة، بالرغم من أنه استفاد من ظروفها استفادة كبيرة من دون شك.
اعتمد الأسد في إقامة بنيان نظامه وترسيخ أقدامه في الداخل والخارج على المزاوجة بين مبدأي القوة والحيلة أو الحنكة في الوقت نفسه. فمن دون القوة ما كان بإمكانة الحفاظ على النظام في الداخل ولا توسيع قاعدة النفوذ الإقليمي التي ستمكنه في مرحلة لاحقة من تحقيق الفائض الذي سيمكنه من كسب ولاء الرأي العام وخضوعه. لكن ما كان من الممكن تأمين هذه القوة أيضا من دون السياسة البراغماتية الجديدة التي اتبعها والتي جعلته، بعكس ما هو شائع عند أغلب المحللين، يتحرر مبكرا من استقطابية الحرب الباردة ويضمن لنفسه وسورية هامش مبادرة مستقلة تمكنها من العمل خارج إطار التبعية التقليدية التي ميزت الأقطار التي كانت تلتحق بالمعسكرين الشرقي والغربي. وهذه الاستقلالية النسبية بالطبع هي التي شكلت خصوصية حقيقية للنظام بالمقارنة مع أغلب نظم المنطقة التابعة.
بالتأكيد، لم يترك النظام عاملا يمكنه أن يثمره في مشروعه لبناء مركز القوة المستقلة من دون أن يستغله ويستثمره، سواء ما تعلق باستثمار رصيد تراث الحركة القومية الشعبية أو بالاستخدام المفرط للعنف أو باستغلال الحرب الباردة. لكن قوة النظام السياسية لم تنبع من التسليم لأي منها، ولكن من تطويعها جميعا لحساب بناء مركز القوة المستقلة التي مكنت الأسد من التحرر النسبي من ضغوط القوى الدولية والعربية معا, وتعزيز موقع سورية الاستراتيجي في توازن القوى الإقليمية. السؤال: كيف تم تكوين مركز القوة هذا أو تحويل سورية إلى مركز قوة مستقل إلى درجة كافية لتمكينها من التدخل في الشؤون الإقليمية والاستفادة منها، أو من أين أتت هذه الاستقلالية السورية في ممارسة السياسة والقوة؟
ينبغي القول بداية أن القسم الأكبر من هذه القوة لا يرجع لحجم الموارد الداخلية الاقتصادية أو البشرية بقدر ما كان ثمرة العمل خارج حدود الدولة واستغلال بيئتها الإقليمية للحصول على موارد جانبية. وجوهر هذا العمل هو تبني موقف مستقل عن جميع الأطراف المتنازعة، التقدمية والمحافظة، والاشتراكية والليبرالية والشرقية والغربية، والتموضع على مفترق الطرق التي توصل بينها، والوقوف في قلب النزاعات التي تمزقها، والاستفادة، نتيجة ذلك، من خوف جميع الأطراف من الأطراف الأخرى وحثها على الاستثمار في القوة السورية كقوة موازنة واستيعاب للنزاعات الإقليمية. والمقصود بهذه المصادر الجانبية ما راكمه الحكم من فرص للنفوذ ومن هامش للمبادرة الإقليمية تتجاوز الحجم الحقيقي للقوة السورية الموجودة، وتنبع من العمل على هامش الاستراتيجيات الدولية، وعلى حدودها، من دون أن تخرقها أو تصطدم بها، ومن التقريب بين الأطراف، أو تحييد بعضها، أو تقديم الخدمات التي يحتاجها بعضها الآخر، مقابل تعاون أو غض نظر عن نفوذ وسلطة أخذا يتمددان في الداخل والخارج معا.
وهكذا نجح الأسد في تحويل سورية من طرف في النزاعات إلى مركز تقاطع مصالح وقوى متعددة ومتضاربة، عربية وإقليمية ودولية. وجعل من الدولة التي بقيت تابعة لغيرها خلال عقود طويلة، مصدر مباردة سياسة فعلية، ومكنها من مواجهة الدول الأخرى، وأحيانا فرض أجندتها الخاصة عليها. ومن الصعب أن نفصل النزوع إلى تكوين هامش مبادرة مستقلة في سورية عن التحدي الذي وضعها فيه صعود القوة الاسرائيلية الجارف والتحديات التي كان هذا الصعود يوجهها لاستقرار النظام البعثي الجديد ويحول مواجهة التفوق الاسرائيلي مهمة سورية مركزية. كما أن من الصعب الفصل بين تبني حافظ الأسد لهذه الاستراتيجية وشعوره العميق بالمسؤولية في خسارة الجولان في حرب حزيران يونيو 1967 التي كان يحتل في زمنها منصب وزير الدفاع.

وقد مكنت الاستراتيجية الجديدة سورية من الاستفادة من دعم جميع الأطراف الإقليمية والدولية وتكوين قوة عسكرية وسياسية تتجاوز بكثير قدراتها الذاتية وترتبط إلى حد كبير بعوائد الدور الإقليمي الجديد الذي بدأت تلعبه والذي يقوم على احترام التوازنات الدولية والحرص على حراسة المصالح الإقليمية. وقد أعطت هذه الاستراتيجية صدقية كبيرة للسياسة المعلنة التي تهدف إلى مواجهة اسرائيل وتحرير الجولان كما قدمت موارد مادية ورمزية كبيرة لتحقيق الاستقرار داخل الحدود السورية، سواء لجهة زيادة حجم المكاسب الريعية الضرورية لتوسيع قاعدة الطبقة البيرقراطية التي يستند إليها النظام داخل أجهزة الأمن والجيش والإدارة المدنية، أو لتكوين رصيد من الشرعية الرمزية القومية والوطنية.

وقد اكتشف الأسد أهمية هذا التوظيف الايجابي لموقع سورية ورصيدها التاريخي وإمكانية استخدامه للإمساك بطرفي المعادلة، منذ اليوم الأول لانشقاقه عن رفاق السلاح ووصوله إلى الحكم، حيث حظي بتأييد واسع من قبل قواعد حزب البعث الحاكم، الذي وجد فيه قائدا واقعيا قادرا على إخراجه من المأزق الذي أدخله فيه الفريق الايديولوجي السابق، وكذلك من المعارضة، التي أملت أن يكون الانضمام إلى الجبهة التقدمية، التي أعلن عن رغبته في إقامتها، مخرجا لها من الطريق المسدود الذي وصلت إليه بعد استتباب الوضع للبعث وتأكيد سيطرته الشاملة على مصادر القوة والنفوذ والثروة في السنوات السبع السابقة. وهذا ما حصل أيضا على مستوى العلاقات الإقليمية والدولية. فلم يتردد الأسد، الذي عزز علاقاته منذ البداية مع المملكة العربية السعودية، زعيمة المعسكر المحافظ في المنطقة، في أن يطور بشكل مواز لها، أوثق العلاقات مع جمهورية ايران الاسلامية المناوئة لها، حتى الوصول إلى إعلان تحالف استراتيجي معها. كما نجح بالطريقة ذاتها في الابقاء على علاقاته المتميزة مع الاتحاد السوفييتي، الذي كان حليفا للنظام البعثي منذ نشوئه عام 1963، وفي كسب تأييد الولايات المتحدة الأمريكية التي وجدت فيه زعيما واقعيا، لا تلغي صعوبة إدخاله في دائرة النفوذ الغربي إمكانيات التفاهم والتعاون معه على الأرض من أجل تأمين مصالح مشتركة. ومن خلال موقعة نفسه ونظامه على خط تقاطع مصالح الأطراف المتنازعة والمتنافسة، وتقاسم المصالح الجزئي معها، نجح الأسد في أن يدخل سورية شريكا، معترفا به أحيانا، وشريكا مضاربا أحيانا أخرى، في العديد من الملفات الصعبة والمعقدة التي تحتل أجندة السياسة الإقليمية، من ملف القضية الفلسطينية إلى الملف النفطي إلى الملف اللبناني إلى الملف الكردي ثم أخيرا الملف العراقي. ولهذا بدا النظام، حتى عام 1980 على الأقل، وكأنه قد نجح في التغلب على عوامل الضعف السورية التاريخية، وقدم لهذا البلد، الذي عرف بالاضطراب وضعف الاستقرار منذ استقلاله في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، دورا أكبر من إمكاناته الفعلية في جغرافية المنطقة السياسية. وبدا وجوده نفسه وكأنه المحصلة المباشرة لنجاحه في تسهيل عملية التواصل بين الأطراف المتصادمة وقدرته على تجاوز تناقضاتها، بل تفريغها من توتراتها والاستفادة من الريع السياسي والاستراتيجي الناجم عنها لانتزاع دور إقليمي لا مراء فيه للدولة السورية. وقد تمكن الأسد من خلال هذا الدور، الذي سيصبح في مرحلة لاحقة عالة على البلاد ونظامها معا بقدر ما كان في المرحلة الأولى مصدر مكاسب سياسية واقتصادية عظيم الأهمية، من إخضاع الشعب السوري نفسه، وتخديره حتى يسلم بحقوقه السياسية الأساسية. فنجح بذلك في بناء امبرطورية شخصية حقيقية، حل فيها شعار سورية الأسد محل شعار سورية البعث الذي ولد مع نشوء النظام الجديد. وتبوأ الأسد بالفعل، في قائمة الزعماء السوريين بل العرب، وفي نظر الرأي العام، مكانة عالية تذكر بتلك التي احتلتها الشخصيات الكارزمية في العديد من البلدان العربية. ووصلت الأبهة والمجد والشعور بالثقة والاطمئنان على الانجاز الاستثنائي درجة لم يعد حافظ الأسد يشك فيها لحظة، لا هو ولا أنصاره، أنه مؤسس لشرعية جديدة مرتبطة باسمه، وأن بإمكانه توريث سلطته لأبنائه، من دون أن يثير هذا العمل حفيظة أي قوى داخلية أو أن يسبب أي ردود فعل سلبية، شعبية أو دولية.
بهذا المعنى، أيضا، لم يستمد نظام الأسد قوته ونفوذه من إنتمائه الرسمي والمعلن لمنظومة الدول الاشتراكية العالمية بقدر ما استمدها من إظهاره الاستعداد الدائم "لخيانتها" واعتبارها مجرد شعارات مفيدة للدعاية لكن لا للتطبيق. وبالمثل، لم يكن هذا النظام، كما يسعى إلى إظهاره باستمرار، الابن الشرعي للحركة القومية الشعبية العربية، التي جسدت الناصرية ذروة إنجازها، ولا حتى الابن الشرعي لحزب البعث العربي الاشتراكي، بقدر ما قام على أنقاضهما واستفاد من تراجعهما وانهيارهما ليدشن تحت غطائهما دورا جديدا ليس له علاقة بأهدافهما. وكان بهذا المعنى مؤسس سلطة وصاحب مشروع مختلف عن مشروع الحركة القومية العربية، هو تأسيس مملكة وراثية قوية على أكتاف هذه الحركة ومن ركامها.
فالأسدية التي جاءت في فترة فاصلة من تاريخ الحركة الاستقلالية العربية الطموحة لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ليست في الواقع إلا محصلة عمليتين: أولا تحلل الحركة الاشتراكية والقومية العربية ومصادرة تراثها وما خلفته من خطاب ومواقع ومطامح لتحقيق أهداف خاصة مختلفة عن أهدافها، وثانيا استثمار مناخ السيولة وعدم اليقين الذي سيطر على العلاقات الدولية مع ترهل الاستراتيجية السوفييتية وجمودها وغياب استراتيجية أطلسية بديلة، بكل ما عناه ذلك من ارتخاء القبضة والضغوط الخارجية على الشرق الأوسط، والحاجة المتزايدة، شرقا وغربا، إلى المراهنة على قوى محلية قادرة على ضمن الأمن والاستقرار وعدم صب الزيت على النار في منطقة زلازل جيوسياسية متواصلة. وبدخوله على خطوط تقاطع القوى المتنازعة والسعي إلى التوفيق بين مصالحها، نجح الأسد بالفعل في أن يحصل على عوائد كبيرة من المشاركة في حفظ النظام وتحييد عوامل زعزعته، سواء بالقضاء على القوى المشاغبة، أو بالتقريب بين الأطراف المتنازعة. وهكذا تمكن من الاحتفاظ بعلاقات ايجابية مع جميع الأطراف الفاعلة، بصرف النظر عن علاقاتها في ما بينها، وتحول إلى شريك، صغير، ولكنه شريك حقيقي، في النظام الشرق أوسطي الذي تبلور في السبعينات بعد انهيار الحركة الشعبية القومية. وهذا هو الوضع الذي قبلت فيه الولايات المتحدة الأمريكية أن تضغط على إسرائيل لإجبارها على الدخول في مفاوضات جدية حول الجولان، ولم تكن هناك عقبة حقيقية لاستعادة الهضبة السورية المحتلة لولا مقتل رئيس الوزراء السابق رابين وتردد الرئيس الأسد نفسه بالقبول ببعض التنازلات على الأرض بعد ذلك.
فالواقع أن جمود السياسات الدولية في السبعينات والثمانينات في المنطقة وغياب المبادرات ونوافذ الفرص المتبادل، دفع الأطراف جميعها، الدولية والإقليمية، إلى جعل الحفاظ على الاستقرار والوضع القائم هدفا مشتركا. وهذا ما أدركه الأسد واستثمره لإقامة تحالفات كانت تبدو للجميع في ذلك الوقت مفارقة وغير منطقية. لكن هذه التحالفات المتناقضة هي التي حولته إلى شريك، أي صاحب مساهمة ايجابية خاصة، وسمحت له بتوسيع دائرة نفوذه وهامش مبادرته الذاتية. فكما تجلت قوة سياسة حافظ الأسد في تجاوزها منطق الخصومة التاريخية مع الولايات المتحدة، والصداقة التقليدية مع الكتلة السوفييتية، أي منطق الحرب الباردة، تجلت أيضا في تجاوزه، على الصعيد العربي، منطق الصراع الذي كان قائما بين المعسكر التقدمي القومي والمعسكر التقليدي المحافظ والمقرب من الغرب، وتغلبه عليه، ليقيم علاقات متينة مع جميع الدول العربية القوية. وما حققه على صعيد العلاقات الدولية والعربية حققه بالمهارة نفسها على الصعيد الإقليمي. فقد جمع من دون صعوبة تذكر، وبشكل لم يسبق له نظير، بين علاقاته العربية الوثيقة وتغطيتها القومية والتحالف، في الوقت نفسه، مع ايران الخيمنية التي كانت تمثل قلعة الثورة الاسلامية، والتي وضعت الدول العربية والغربية معا أمام تحديات سياسية لا سابق لها في المنطقة، ودفعتها إلى العداء المكشوف لها. وفي الوقت الذي أباد فيه النزعة الاسلامية المسلحة في سورية باسم العلمانية، جعل من تحالفه مع هذه الحركة، منذ منتصف الثمانينات، خارج بلاده، وعلى حدودها المباشرة، سلاحه الأمضى في تحقيق النفوذ الاقليمي[2].
وقد مكنته سياسة الحفاظ على الاستقلال والموازنة بين الفرقاء جميعا من أن يضمن لنظامه، على المستويات الاستراتيجية والدفاعية والاقتصادية والسياسية، الدعم السوفييتي الشامل من دون أن يلتزم بأي هدف مشترك معه، حتى اتهم من قبل العديد من قوى اليسار العربي بالازدواجية والتفاهم الضمني العميق مع الولايات المتحدة وخدمة أهدافها الاستراتيجية. وتمكن أيضا بالسهولة ذاتها، ومن دون أن يضطر إلى التنكر لعلاقاته الخاصة مع موسكو، من تحييد العديد من القوى الغربية المناوئة، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبة، التي تمتعت دائما بنفوذ استراتيجي وسياسي قوي في الشرق الأوسط، بل وحصل منها على معاملة استثنائية ورعاية خاصة، لم تحظ بها حتى النظم التابعة لواشنطن وغيرها من العواصم الغربية، سواء أتعلق الأمر بالتغطية على الخروقات الاستثنائية لحقوق الانسان أو بتكليف النظام بمهام استراتيجية، ربما كان أهمها إنهاء الحرب الأهلية في لبنان، والاشراف على السلام والأمن فيه لسنوات عديدة بعدها. وقد زادت أهمية هذه السياسة بعد أن أخذ على عاتقه العديد من المهام الصعبة التي كان من غير الممكن لأي نظام عربي آخر أن يقوم بها، سواء ما تعلق بشن الحرب المستمرة على منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات، أو بمواجهة القوى الاسلامية المعادية للغرب. وضمن لنفسه النجاح فيها من دون أن يعرض حكمه لأي مخاطر كبيرة، بفضل النظام الأمني الحديدي الذي فرضه على شعبه في الداخل[3].
ومما لا شك فيه أن نجاح الأسد في تشكيل مركز قوة مستقلة، أو على درجة كبيرة من الاستقلال وحرية المبادرة، قد حول نظامه إلى عنصر توازن واستقرار داخل المنظومة الإقليمية الخاصة بالمشرق العربي، أو هكذا بدا الأمر على الأقل لقطاعات واسعة من الرأي العام وللدبلوماسيات الدولية. فنظرت الدوائر الغربية، التي استفزتها من قبل رديكالية الفريق اليساري الذي سيطر على ساحة العمل السياسي في الستينات من القرن الماضي في دمشق، إلى سياسات الأسد الجديدة على أنها سياسات معتدلة، عقلانية وبراغماتية تختلف جذريا عن السياسات الايديولوجية الطفولية التي مارسها العديد من القوى الوطنية العربية اليسارية والقومية في المنطقة. وترسخ الاعتقاد عند هذه الأطراف الدولية والعربية أن سورية الأسد يمكن أن تكون شريكة في تحقيق الأمن والاستقرار التي كانت تبحث عنه، جميعا، بعد انحسار الناصرية، وفي حقبة عاصفة من الحياة السياسية العربية، كما يمكن أن يتم التفاهم بسهولة معها والبناء على تعاونها لإخراج المنطقة من أتون الصراعات العقائدية، التي هددت النظم المحافظة والقريبة من الغرب، وفي ما بعد، في مواجهة قوى التطرف الاسلاموية. وهي النظرة ذاتها التي بلورتها الأنظمة العربية القريبة من الغرب أيضا للسياسات السورية الجديدة في ظل قيادة حافظ الأسد. بل إن هذه الأنظمة قد أدرجت مشروع القوة السورية الخاصة والمستقلة، التي كان الأسد يعمل من أجل تكوينها، في استراتيجيتها الخاصة ذاتها، وجعلت منها عنصرا في التوازنات الإقليمية. فبدت سورية القوية المدعمة بالمساعدات الخليجية في الثمانينيات أحد أهم أدوات الضغط التي تعتمد عليها دول الجامعة العربية، وفي مقدمها الدول الخليجية، لمواجهة تحدي الغطرسة الاسرائيلية، وفي المناسبة ذاتها، للتغطية على القصور والتقصير العام الذي يثير حفيظة الرأي العام العربي، والانسحاب الفعلي للقسم الاكبر من العواصم العربية من دائرة المواجهة العربية الاسرائيلية. وهكذا صارت القدرة العسكرية السورية ستارا لإخفاء عورة السياسات التخاذلية العربية عموما، وصار دعم هذه القوة هو التعويض المباشر عن غياب أي مبادرة عربية حقيقية جماعية، شعبية أو رسمية، لدعم القضية الفلسطينية. وقد ورث نظام الاسد الابن جزءا كبيرا من هذا الرصيد الذي يجعل الرأي العام العربي ينظر إلى سورية كدرع للقضية العربية، بالرغم من المواجهات الدموية التي قادها النظام ضد قوى وطنية عديدة، وفي طليعتها منظمة التحرير الفلسطينية، وبصرف النظر عن التغيرات التي طرأت على دور النظام السوري وسلوكه في العقود الثلاث الماضية[4].
وقد استفاد الأسد من هذه الصورة الايجابية للدور السوري في المنطقة، ووظفها في سبيل تأمين الغطاء الايديولوجي لسلطته الشخصية. فلم يكف عن ترديد شعار تحقيق التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل وبناء أسطورة القوة الاستراتيجية السورية وما ارتبط بها من شعارات عن رسالة الحكم القومية. وبقدر ما نجح في تحويل سورية إلى مركز مبادرة استراتيجية إقليمية، بالتفاهمات المتعددة الاطراف مع القوى الكبرى، سعى إلى تكريس صورة سورية كبلد الصمود والتصدي بامتياز، وألصق بنفسه رسالة الدفاع عن الثوابت القومية أو العربية، فصار من الممكن ببساطة تفسير صراعه ضد القوى العربية الضعيفة أو الثانوية، وسعيه لإلحاقها به، مثل القوى الفلسطينية واللبنانية، كجزء من المعركة الضرورية لتوحيد قوى المقاومة العربية. لكن في ما وراء ذلك، لم يعد للنظر في مضمون سياساته الداخلية أي أهمية بالنسبة للرأي العام العربي الذي قرر، تعويضا عن العجز والاستقالة العربيين العامين، توظيف سورية كرأس حربة رمزي في المعركة القومية المعادية لاسرائيل والهيمنة الغربية.
وهكذا أمكن للنظام السوري أيضا أن يستخدم ما ينسب إليه من دور قومي مبررا للتحلل من التزاماته الوطنية تجاه الشعب السوري نفسه، وأصبح يتصرف بحرية لا حدود لها في داخل الأراضي السورية، سواء في ما يتعلق بإطلاق يد الأنصار والأتباع في موارد الدولة والمجتمع وتوزيع الإقطاعات التجارية العينية والمناصب والامتيازات عليهم، من دون حسيب ولا رقيب ولا معترض، أو بإخضاع المجتمع لسلطة الأجهزة الأمنية ووضعه تحت مراقبتها وإشرافها، خارج أي مساءلة قانونية أو سياسية. بل لقد أصبح التساؤل نفسه حول مضمون سياساته، الاقتصادية أو الاجتماعية أو الإدارية أو الثقافية، وحول صلاحها يبدو، في نظر الرأي العام السوري والعربي معا، تشكيكا خطيرا وغير مقبول بمقدرة الرئيس وبالدور القومي الذي تجسده السياسة السورية في مواجهة قوى التحالف الصهيونية والاستعمارية.
وقد أدركت القيادة السورية بسرعة الفائدة الكبرى التي يمكنها أن تجنيها من هذا التماهي من دون التزامات بالقضية القومية العربية، فصارت القومية هي الحجاب الذي تخفي من ورائه صعود المصالح الخاصة واستفحالها كما تغطي به على حروبها المستمرة ضد خصومها وعلى أخطائها الاستراتيجية، بل على إلغاء السياسة نفسها من حيث هي تفكير في الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبعد أن عهد إلى الرئيس القائد بتقرير هذه الخيارات جميعا، بعيدا عن النواب والخبراء، صارت الرديكالية القومية، أو بالأحرى المزاودة بالوطنية، أفضل وسيلة لفرض السيطرة الداخلية والخارجية وتكبيل القوى العربية المنافسة وإخضاعها بالقوة. وهذا ما يفسر كيف أمكن للنظام أن يخوض في الثمانينات حربا دموية، بكامل أسلحته العسكرية، ضد مدينة سورية، وليس ضد المتمردين فيها فحسب، كان من المحتم أن توصف، لو حصلت اليوم، بحرب إبادة جماعية، من دون أن يتعرض لأي مساءلة عربية أو دولية، بل من دون أن تصاب الصورة التي رسمها عن نفسه بوصفه نظام المقاومة والصمود وحماية الثوابت القومية، بأي أذى عند قطاعات الرأي العام العربية الواسعة. لقد لعبت الايديولوجية القومية في نظام الاسد دورا محوريا في التغطية على الالتزامات الوطنية السورية، بل لضرب هذه الوطنية وتقويضها لتحويل المجتمع إلى ذرات متنافرة يسهل التلاعب بها واحتواؤها بعد أن لم يعد يجمع بينها لا مبدأ ولا قانون.
في هذا السياق، وتحت غطاء التمسك بالمباديء والثوابت القومية، تكون نظام الأسد في الداخل، وتم فيه تصفية نظام الإدارة الوطنية، وإشادة نظام إدارة على الطريقة المملوكية، قائم بالدرجة الرئيسية على العلاقات الزبونية، العائلية والعشائرية والطائفية والجهوية والمحسوبية. ولذلك بقدر ما تميزت سياسة النظام الخارجية بالبراغماتية والبحث عن التسويات والتفاهمات والصفقات، غلب على السياسات الداخلية الجمود والتصلب والشعاراتية العقائدية والدغمائية، وتحكم بها مبدأ الأحادية ورفض أي شكل من أشكال الحوار أو التفاوض او التفاهم أو القبول بالتعدد أو الاختلاف أو التنافس على أي صعيد كان.
إن ما ميز نظام الأسد هو هذا التباين الكبير بين التفهم العميق للمصالح المتعددة والمتباينة على ساحة العمل الإقليمي والدولي، والتعامل معها بحسابات دقيقة جدا، كونها أساس استقرار النظام ومصدر موارده الرئيسية، والتعامل القاسي والعسكري مع قوى المجتمع الداخلية والإهمال الشديد لكل ما يتعلق بمصالحها وتوازناتها ومستقبلها. ولهذا لم يكن هناك هدف للسياسة الداخلية سوى العمل بجميع الوسائل، القانونية أو شبه القانونية أو العنيفة، لتحييد المجتمع وشل حركته وإخضاع بصورة سلبية للسيطرة الأحادية[5]. وهذا ما أدى في النهاية إلى انحطاط معايير السياسة والعمل والسلوك في كل الميادين، وإلى نشوء نموذج بدائي للإدارة المدنية والسياسية، كما نشاهد اليوم[6]. فلم يكن الأسد ينظر إلى ما تحتويه سورية من موارد مادية وبشرية يمكن تثميرها وإطلاق طاقاتها لتحويلها إلى قوة قائمة بذاتها، وإنما كان يرى فيها أداة سياسية وعسكرية يستطيع باستخدامها أن يحصل من المكاسب الخارجية والريوع التي تزخر بها المنطقة أكثر وأسرع بكثير مما يمكن أن يحصله من الإنكفاء عليها والعمل من داخلها. ومن هنا بدا الشعب السوري في هذه المعادلة وكأنه، في ما عدا الموارد التي يمكن توظيفها في المشاريع الخارجية، فائضا عن الحاجة. بل لقد شعر النظام وأصحابه لفترة بأنهم هم الذين يعيلونه، وأن من حقهم لقاء ذلك أن يكافئوا أنفسهم باقتطاع ما يريدونه من عوائد سياستهم الخارجية. وهذا هو أصل العلاقة التي نشات بين النخبة الحاكمة والمحكومين والتي تحول فيها الشعب إلى ما يشبه العيال الموضوعين تحت الوصاية والذين لا يحق لهم المشاركة في أي قرار. وبذلك لم يصبح النظام خارجيا بالنسبة لشروط إعادة إنتاج نفسه، يعتمد في بقائه وازدهاره وتوسعه على ما يراكمه من غنائم فحسب، وإنما صار خارجيا بالنسبة للمجتمع نفسه، ولم يسع في أي وقت إلى التواصل الفعلي مع هذا المجتمع من خلف الشعارات الجوفاء، ولم يبذل أي جهد حتى لاستغلاله بالمعنى الرأسمالي الحديث، أي وضعه في شروط العمل المنتج وتوفير وسائل هذا العمل له، وإنما سعى إلى تهميشه وإخراجه من معادلة القوة التي بناها والتي تقتصر على الشراكة، والمنافسة أيضا، بين النظام كنظام، والقوى الخارجية الفاعلة الإقليمية والدولية على تقاسم النفوذ والمنافع. وهو لا يزال يسعى إلى الآن إلى تأكيد هذا التحييد في النزاع الجديد الذي نشأ منذ بضع سنوات بين الحكم وهذه القوى الخارجية نفسها.
لم يوفر الأسد أي أسلوب في سبيل تحقيق هذا الهدف. فاستخدم جميع الوسائل، من العنف العاري إلى أساليب المراوغة التقليدية ومصادر العمل الحركية والايديولوجيات والدعاية الثورية المبدئية والتعبئة الطائفية، في سبيل القضاء على قوى المعارضة ومصادر الاحتجاج أو الاختلاف، ليس في وسط الرأي العام السوري فحسب، بل في وسط حزب البعث نفسه. وكما قضى بقسوة قل مثيلها على كل من هدد، أو شك في إمكان أن يهدد، ما أصبح بمثابة مملكة خصوصية، أغدق كل ما يستطيعه وتستطيعه البلاد من غنائم ومغانم وامتيازات على كل من قبل بالعمل تحت زعامته كما وسلم بالقواعد التي سنها. وفي إطار استرضاء المنافسين وشرائهم يدخل مشروع بناء الجبهة التقدمية التي سيجعلها غلالة للحكم الفردي والحزبي الأحادي ويؤلف فيها بين قلوب قادة أحزاب لم يعد فيها غير الاسم. وفي إطار ردع الخصوم والمشاغبين على مشروعه يدخل الحماس الذي أظهره في بناء السجون وفتح الزنزانات وأبواب المنافي لكل من حدثته نفسه بمناوأة السلطة أو خروجه عن خطها وعليها، حتى فرغ له الأمر تماما داخل البلاد[7]. وبالمثل، بقدر ما هاجم الأسد بعنف لا مثيل له تلك القوى التي تجرأت على الوقوف في وجه مصالحه، أو شك في وقوفها إلى جانبه، فقضى على قسم كبير منها بالحرب أو بالإرهاب أو بالاغتيال، حتى لو كانت من حلفائه أو المتعاونين معه في هذه الفترة أو تلك، لم يوفر وسيلة لاسترضاء القوى الأخرى التي توخى منها خيرا لتعزيز قوته. هكذا تحول نظام الأسد إلى طرف مرهوب الجانب، يثير الرعب عند أعدائه وينتزع الاعجاب من أصدقائه والرغبة في التفاهم والتعاون لدى منافسيه وأنداده.
ليس هناك شك أنه كان لنجاحات حافظ الأسد الاستراتيجية هذه وتعاونه المثمر والايجابي مع جميع الأطراف الخارجية أثر كبير على طبيعة نظام الحكم الذي أقامه في سورية وعلى تطور هذا النظام أيضا. فإلى جانب أن هذه النجاحات قد وفرت له رصيدا سياسيا كبيرا جعل منه شخصا أسطوريا يعلو على أي مساءلة أو نقد، ساهم الدعم المالي والسياسي الذي حصل عليه من قبل جميع الأطراف الدولية والإقليمية في التغطية على جوانب القصور في النظام القائم وحد من اهتمام النخبة الحاكمة في التفكير في إصلاحه. لقد عوض النجاح الخارجي عن أي جهد لبناء الداخل بل دفعه إلى مؤخرة اهتمام القيادة السياسية. ومع مرور الوقت دخل النظام بأكمله في دين عبادة الشخصية وتقديس الأب القائد، فغابت المهام والمسؤوليات العادية واليومية عن أذهان أصحاب المناصب والمسؤولية في الدولة والإدارة والقطاع الاقتصادي معا. وفي موازاة انتشار الدين الجديد، وبالارتباط به، تنامت أيضا شبكات المصالح الزبائنية، وعمت الفوضى الاقتصادية والمالية والقانونية. وفي غياب أي محاسبة أو مساءلة، وبالاحتماء بتقديس الرئيس وتبجيله، نجح التفاهم الضمني بين أصحاب هذه الشبكات في تحييد مؤسسات الدولة جميعا وتجييرها لتحقيق مآرب خاصة. وكان ذلك مفجرا للأزمة العنيفة الأولى التي شهدها النظام في بداية الثمانينات.
بالتأكيد لم يثر هذا الإهمال الشامل للمجتمع أزمة كبيرة في مرحلة الازدهار، وما رافقها من تعاظم المكاسب الناجمة عن توسيع دائرة النفوذ الخارجي وزيادة الاستهلاك [8]. لكن الأمر سوف يتغير بسرعة مع قدوم مرحلة التراجع والانحدار. فقد دفع النضوب النسبي للموارد الريعية وتناقص وزنها، منذ منتصف الثمانينات إلى مضاعفة الضغط على المجتمع لتأمين فوائض إضافية تعوض عنها وترد على احتياجات الاحتفاظ باستراتيجية توسع خارجي جيوستراتيجي وأمني مكلفة. ولم يتردد النظام، لضمان إنتاج الريوع التي يحتاجها من إخضاع المجتمع بأكمله لنمط النهب الاقطاعي وفرض نظام شبه عبودي عليه. وهكذا سيترافق تفاقم الفساد ونهب موارد الشعب بوسائل مختلفة، وعن طريق الرشوة المعممة بشكل رئيسي، مع تنامي دور الأجهزة الأمنية وتوسع صلاحياتها وتأكيد حضورها الدائم والشامل في كل مناحي الحياة الفردية والجمعية. وبقدر ما سيقود هذا الوضع إلى الكساد والشلل العام، سيعمل أيضا على تدهور جميع معايير الحياة والعمل والمعرفة الحديثة، والتقهقر نحو معايير المجتمع ما قبل الصناعي، وإعادة إنتاج بنياته القديمة المفوتة وانعدام ديناميكيات التجدد والتقدم العلمي والتقني والإداري والانتاجي. وسيؤدى التركيز المفرط للثروة، مع الجمود والاستنقاع العام على مستوى المجتمع الكلي، إلى إحياء قيم المجتمعات الريعية التقليدية، وما تربتط بها من سيطرة عائلية أو أبوية جديدة، ومن استزلام للأفراد ومحسوبية وعلاقات شخصية قضت على التقاليد والقيم والمعايير المؤسساتية. وسوف تختفي فاعلية السياسة والقانون والثقافة لصالح سيطرة التقاليد والأعراف والعلاقات الزبائنية وما يرتبط بها من بعث العصبيات البدائية، العائلية والعشائرية والطائفية وما تقود إليه من الانحطاط الحضاري والمدني والأخلاقي. وهكذا سوف يستسلم المجتمع لسلطة الأجهزة الامنية التي تحولت مع غياب القانون وتبعيتها الكاملة لأمراء الحرب الذين يقودونها إلى ميليشيات مسلحة منفلتة لا هدف لها سوى إخضاع المجتمع ودفعه إلى إعلان ولائه ل"سيد البلاد" ورئيسها وقائدها وصاحبها ومن يرتبط به من الأتباع والموالين والمؤيدين[9].

2- عوامل الأزمة والانحسار
بدأ النظام السوري يفقد قوة دفعه الحقيقية منذ الثمانينات، مع تراجع حجم موارده السياسية والمعنوية ومصادر الريع الخارجية واضطراره إلى التحول من جديد نحو الداخل. فعلى المستوى الاقتصادي، لم تتمكن عوائد تصدير النفط المحلي من التعويض عن نضوب الريع الخارجي والوفاء بالتكاليف المرتفعة للسياسات الأمنية الداخلية والخارجية معا. وكما أن ريع الالتحاق بالثورة الاشتراكية العالمية سوف ينهار مع انهيار الكتلة السوفييتية وتفاقم الفساد وتدهور مستويات المعيشة وشروط الحياة الاجتماعية للسورين، ستتراجع أيضا قيمة الريع الايديولوجي والمالي المستمد من التعلق بالشعارات القومية والنطق باسمها مع نهاية الصراع المسلح مع إسرائيل والقبول بمبدأ حل النزاع بالوسائل التفاوضية وتلاشي التناقضات بين الدول العربية المحافظة والتقدمية وتراجع الحاجة إلى خدمات النظام السوري لضمان استقرار المنطقة المشرقية. ولم تكن المواجهة العسكرية التي حصلت بين بعض الأجنحة الإسلامية والنظام في بداية الثمانينات وانتهت بمجزرة حماة الشهيرة إلا التعبير المباشر عن الطريق المسدود الذي وصلت إليه ديناميكية توسع النظام في الداخل والخارج[10].
وليس هناك شك في أن زوال الحرب الباردة قد حرم النظام، بالإضافة إلى ذلك، من عدة العمل الرئيسية التي كان يملكها ليزيد من وزنه ويبني قوته الاستراتيجية. فلم يعصف انهيار الاتحاد السوفييتي كقوة عسكرية وسياسية عظمى بالدعم الجيوستراتيجي الحيوي الذي كان يتمتع به خلال عقود طويلة لضمان مصداقيته الاستراتيجية فحسب، ولكنه أنهى أيضا دوره في تحقيق توازن لم يعد له وجود أصلا بين مصالح قوتين عظميين، في المنطقة المشرقية، وفرض عليه، بالعكس من ذلك، التكيف الإجباري المتواصل مع استراتيجية الدولة الوحيدة التي بدأت تفرض نفسها في العالم، على الساحة الشرق أوسطية، كقوة عظمى، فريدة واستثنائية. وسوف تظهر النتائج الدراماتيكية لهذا التكيف الحتمي الذي سيجبر عليه النظام السوري، مع متطلبات الاستراتيجية الشرق أوسطية الجديدة، منذ مجيء الرئيس جورج بوش الابن إلى السلطة، وبصورة خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 المأساوية[11]. فلم تمر سنوات قليلة قبل أن يفقد هذا النظام هامش مبادرته الاستراتيجية ويجد نفسه في مواجهة مباشرة مع القوة الأمريكية التي قررت أن تمسك هي نفسها، بعد ما أصابها من عدوان، بمسألة الامن والاستقرار والسلام في المنطقة الشرق أوسطية وتنهي دور جميع الوكلاء المحليين الذين فقدت الثقة بهم، وفي مقدمهم النظامين البعثيين في دمشق وبغداد.
لقد قضى التخلي العربي الجماعي عن خيار الحرب في الصراع العربي الاسرائيلي، وتبني المجموعة العربية لخيار السلام والمفاوضات السياسية مع إسرائيل، منذ توقيع مصر على اتفاقية كمب ديفيد وخروجها من المواجهة العربية الاسرائيلية، على السبب الثاني الذي كان يجعل من نظام دمشق البراغماتي نقطة تقاطع مصالح عربية وشرق أوسطية متعارضة ومتباينة. ولم يؤد هذا التحول إلى تقليص الحاجة إلى النظام السوري لتحقيق التوازن مع إسرائيل، وما كان يرتبط بهذا الدور من دعم مالي وعسكري وسياسي وشعبي فحسب، ولكنه سوف يقود، أكثر فأكثر، إلى تكثيف الضغط العربي عليه للتخلي عن شعاراته القوموية والنضالية التقليدية، والقبول بالدخول في استراتيجية التسوية السياسية والتعاون مع الدول الغربية لتحقيق السلام مع إسرائيل عن طريق المفاوضات. لقد تم بذلك أيضا، وشيئا فشيئا، تطبيع صورة سورية بوصفها بلد المواجهة والصمود، بل والقضاء عليها تماما في ما بعد. وهكذا أخذت المطابقة السريعة بين النظام السوري والدفاع عن ثوابت الأمة العربية، والتي كانت توحي بأن سورية هي حصان الرهان العربي الوحيد الرابح ضد إسرائيل، تتراجع وتبهت عند الرأي العام العربي، وهو ما سوف تؤكده زيادة المصاعب التي ستواجهها القيادة السورية في الحصول على المساعدات المالية العربية، وفي ترتيب موقف مؤيد لها على طول الخط داخل إطار الجامعة العربية، وبالتالي في التثمير السياسي للقوة التي راكمتها على قاعدة قيادة المواجهة العربية مع الدولة الاسرائيلية. وبعد أن كان وجود "سورية الصمود" هو المبرر الرئيسي لوجود حزب الله عند غالبية الرأي العام العربي والسوري، أصبح وجود حزب الله والحفاظ على ما يمثله من قوة مقاومة عربية ضد إسرائيل والقوى الأجنبية هو المبرر الرئيسي للإبقاء على النظام السوري والدفاع عنه.
من هنا يمكن القول إن مبررات وجود النظام نفسه، أي أيضا المنازعات العربية والدولية العميقة التي عاش على استثمارها وسمحت باستمراره، قد زالت منذ التسعينات من القرن الماضي. وبدأت منذ ذلك الوقت ديناميكيات تراكم القوة التي حظي بها النظام تنقلب إلى ما يعاكسها تماما. فكان على النظام أن يواجه، أكثر من أي نظام آخر بعد نظام صدام حسين، الهجوم المعاكس الشامل للولايات المتحدة الأمريكية، الذي أعقب زوال الحرب الباردة في الشرق الأوسط، في سبيل استرجاع المواقع التي أخلاها الاتحاد السوفييتي المدفون وملء الفراغ الجيوستراتيجي الذي خلفه انهياره. ومما زاد من زعزعة أركان النظام الأسدي في دمشق أن هذه المواجهة التي وضعته في المعسكر المعادي لواشنطن لم تحصل في ظل زوال التغطية والدعم السوفييتيين فحسب، ولكن في مرحلة تهلهل النظام السوري نفسه وتراجع قواه الذاتية أيضا. وقد رافق هذا التحول الجذري في منظومة العلاقات الجيوستراتيجية الدولية تحول لا يقل عنه أهمية بالنسبة لتأمين موارد النظام السياسية والايديولوجية منذ بداية التسعينات. فلم يقتصر أثر توقيع اتفاقيات كمب ديفيد على انسحاب مصر من معركة المواجهة العسكرية، ولكنه كان يشير إلى تراجع إرادة المواجهة العسكرية عند الدول العربية جميعا ضد اسرائيل. وكان ذلك يعني أن الاحتفاظ بالدعم العربي الريعي كان يفرض على النظام التكيف مع خط المفاوضات واستراتيجية السلام التي أصبحت الاستراتيجية المعلنة لدول الجامعة العربية، وبالتالي الانخراط في المبادرة السلمية التي تضغط في اتجاه تطبيقها أوروبة والولايات المتحدة التي ترفض أي ضغوط عسكرية على إسرائيل. وهو ما قلص قدرة النظام على استخدام ايديولوجية المقاومة القومية والصمود لتبرير إرادة السيطرة الداخلية والخارجية.
وهكذا لم يجد حافظ أسد، المصمم الوحيد لمفهوم النظام السوري والباني لنمط العلاقات الإقليمية والدولية التي ضمنت استمراره، بدا من إعادة النظر في استراتيجيته المعهودة، والسعي إلى الخروج من منطق اللعب على التناقضات القائمة في اتجاه استراتيجية جديدة. ولم يكن امام الرئيس السوري خيار سوى التكيف، ولو بشكل متدرج، مع الاستراتيجية الوحيدة الصاعدة والمسيطرة في المنطقة، استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية المعززة بالكتلة الأطلسية. وهو ما برهن عليه وجسده في مشاركته الإشكالية في حرب التحالف الدولي على العراق عام1991 [12]. ثم في دخوله في مسيرة السلام التي أطلقتها مبادرة برشلونة منذ عام 1993 وما أعقبها من مفاوضات التسوية السياسية مع اسرائيل.
لكن الأسد لم يكن مضطرا أبدا إلى التسليم وإعلان الهزيمة. وكان بإمكانه أن يستفيد من سمعته ورصيده الكبيرين الذين راكمهما، كلاعب أساسي وعقلاني كبير في المنطقة، في العقود السابقة، حتى يبعد عن نظامه خطر الانحياز أو الانعطاف المفاجيء والسريع الذي يهدد بزعزعة توازناته الداخلية والإقليمية. وهكذا كان عليه أن يضمن في حركة التكويع المفروضة عليه، وما تتطلبه من تنازلات عن المواقع والمفاهيم وأساليب العمل العنيفة السابقة، التوفيق بين حاجات الانسجام مع الاستراتيجية الدولية الجديدة في المنطقة، بما يمنع من استعداء واشنطن، من دون أن يبالغ ليحظى برضاها تماما، وحاجات الحفاظ على هامش مبادرة النظام المستقلة، السياسية والايديولوجية، بما يمنع من إفقاد النظام صدقيته وتوازنه في مواجهة الرأي العام الداخلي والعربي معا. وعلى هذا الأساس قبل منذ بداية عقد التسعينات المشاركة بعد تردد في مؤتمر مدريد بعد أن كان قد قبل المشاركة في العمل إلى جانب قوات التحالف الدولية في الحرب على العراق. لكن، في الحالتين، مع التأكيد على موقف الاستقلالية، والتمسك بما درجت الدبلوماسية السورية على تسميته بالثوابت القومية. ومما لا شك فيه أن الأسد قد نجح من خلال هذه المعادلة الدقيقة للموازنة بين حاجات التكيف مع الاستراتيجية الأمريكية الإقليمية وحاجات الحفاظ الشكلي على استقلالية النظام واستمرارية خياراته الأساسية، في أن يعيد إدراج نفسه في المعادلة الإقليمية الدولية. وكان ثمن ذلك أن يوظف جزءا من رصيد النظام وقوته ونفوذه معا، في خدمة الاستراتيجية الأطلسية، أي ان يضمن لنظامه وظيفة جديدة في نظام الشرق الأوسط الغربي الجديد لحقبة ما بعد الحرب الباردة. وهو ما مكنه من الاستمرار لعقد كامل قادم. ومن عناصر هذه الوظيفة الإقليمية الجديدة المساهمة في إنجاح عملية السلام مع إسرائيل وتصفية ثقافة الحرب والمشاركة مع القوى الأطلسية في استتباب الأمن والاستقرار الشرق أوسطي من خلال التعاون مع الدول الحليفة في العراق ولبنان وفلسطين وتركيا ثم في ما بعد، من خلال العمل النشيط المشترك ضد الارهاب الاسلامي.
باختصار لقد أدرك حافظ الأسد بحسه الاستراتيجي العميق تبدل الوضع الإقليمي والدولي. ولم يتردد هو نفسه في البدء بتصفية ما أسماه ب"الدور الإقليمي" السوري عندما قبل التخلي عن دعم التمرد الكردي الذي يقوده أوجلان، ووقع مع أنقره على اتفاقية الأمن المشترك في نهاية التسعينات[13]. ولم يمنعه تصاعد الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط من ايجاد نقاط التقاء معها تسمح له بوضع المرحلة السوفييتية وراءه والمراهنة على تعاون مثمر مع القوة العظمى الجديدة، للاحتفاظ بقوة نظامه والنجاح في ايجاد توازن دبلوماسي بديل للتوازن العسكري مع اسرائيل. ولم يحرمه توقيع اتفاقية أضنة مع أنقرة، ولا الدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة، ولا تبني السلام كخيار استراتيجي مع اسرائيل، من تعاطف الدول والشعوب العربية. وبالرغم من أن أحدا لم يعد يؤمن في العالم العربي بأن سورية لا تزال جبهة صمود ومقاومة، أو أن لديها القوة الكافية لمتابعة استراتيجية مواجهة عسكرية محتملة لتحرير الأراضي العربية، أو حتى لتقديم العون للمقاومة الفلسطينية، إلا أن العرب، رأيا عاما وحكومات معا، بقوا حساسين للخطابات القومية السورية ومؤيدين لها. ولم ينسوا لنظام حافظ الأسد التمسك بخطاب المواجهة العربية ورمزيتها فاستمروا يعاملونه بعين العطف ويتضامنون مع سورية التي صنعها، بصرف النظر عن كل ماحدث ويحدث من انتهاكات صارخة لحقوق الانسان، وغياب أي شكل من أشكال الحياة السياسية والقانونية السليمة التي ستعمل المعارضة على إبراز حقيقتها في نشراتها الاليكترونية. كما استمر العرب يعتقدون بأن النظام جاد في استرجاع الجولان بالقوة حتى بعد أن ظهر الاختلال الهائل في ميزان القوة، وقبلت سورية نفسها المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام وتبنت شعار السلام كخيار استراتيجي.

3 – مرحلة الانحلال
تقاطع التحديات الداخلية والخارجية

عاش نظام الأسد، كما ذكرت، على عوائد سياساته الإقليمية والدولية أكثر بكثير مما استند إليه من مصادر قوة داخلية. بيد أن الدور الإقليمي السوري قد بدأ يتراجع ومعه العوائد المادية والمعنوية التي ارتبطت به منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي مع زوال الحرب الباردة من جهة والإنهاء المأساوي للمواجهة العسكرية العربية الاسرائيلية بخروج مصر من المعركة وتوقيعها على اتفاقيات كمب ديفيد من جهة ثانية. وكان على النظام الأسدي أن يعيد تكييف نفسه وأن يجد مخارج للأزمة الحقيقية التي واجهته. وهو ما قام به بالفعل بنجاح عندما قبل المشاركة بقوات التحالف الدولي لغزو العراق (1991) والدخول في مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية التي أطلقها مؤتمر مدريد للسلام. وكان المغزى الحقيقي لهذا التوجه الجديد هو تجاوز الاستراتيجية القديمة التي كانت تراهن على استثمار التناقضات الدولية والإقليمية والاستفادة منها لبناء قوة مستقلة أو توازن استراتيجي مع إسرائيل، نحو القبول بالتعاون إن لم يكن بالاصطفاف وراء الاستراتيجية الوحيدة الصاعدة في المنطقة، وهي الاستراتيجية الأمريكية الأطلسية. وقد برهن هذا التغيير السريع نسبيا في خيارات السياسة السورية على قدرة كبيرة على التكيف مع الوضع الجديد الذي نشأ على أثر زوال حقبة الحرب الباردة. ولم يعن هذا التغيير شيئا في الواقع سوى التخلي عن السياسات القديمة التي أقام عليها النظام هيبته في الداخل والخارج، أي استتباع القوى العربية الصغيرة المجاورة لبناء مركز قوة محلية وتحقيق أكبر إجماع عربي وإقليمي ممكن وراء سورية يمكنها من استعادة أراضيها المحتلة بالطرق العسكرية أو السياسية. وقد ترافق هذا التحول عن مذهب إرادة السيطرة الإقليمية العربية في السياسة الخارجية السورية مع انفراج داخلي كبير منذ عام 1995 عبر عن نفسه بانسحاب قوى الأمن من مواقع تمركزها الكثيفة والمتعددة داخل المدن السورية، ووقف عمليات الملاحقة والاعتقال العشوائي والكثيف خلال تلك الفترة، وبدء إطلاق سراح المئات من المعتقلين السياسيين، بل وتقديم بعضهم إلى المحاكمة لأول مرة، بعد قضاء مدة سجن طويلة من دون تهم قانونية.
لكن الوضع سوف يختلف منذ استلام بشار الأسد السلطة.
فقد دفع انعدام التجربة والمزايدات وصراعات القوى المتناحرة بالنظام، منذ ذلك الوقت إلى العمل بعكس هذا الاتجاه تماما. فمن جهة حاول النظام بجميع ما يملك من وسائل الحفاظ على ما أطلق عليه اسم دور سورية الإقليمي، أي حقها في التدخل في شؤون المجتمعات والبلدان الأخرى المحيطة، من دون أن يدرك ما يعنيه ذلك بالنسبة للهيمنة الأمريكية الصاعدة وللشعوب التي أخضعت طويلا بالخوف والتي تجد نفسها اليوم أمام فرص جديدة للتحرر والانعتاق. ومن جهة ثانية اعتقد النظام أن بإمكانه، عن طريق التلويح أو التلميح ببعض مظاهر الانفتاح، أن يكسب ولاء الرأي العام السوري أو أن يعيد تجديد هذا الولاء له مقابل بعض الإصلاحات الشكلية والتزينية.
والواقع أن العهد الجديد قد زج بنفسه من دون أن يدري في مواجهتين لم تهدآ ولن يمكن تهدئتهما بعد ذلك أبدا: أعني المواجهة مع الاستراتيجية الأمريكية الصاعدة في المنطقة التي اتخذت منحى عدوانيا خطيرا بعد أحداث 11 سبتمبر، وذلك منذ اللحظة التي عجز فيها عن إدراك زوال الشروط التي كانت تسمح لنظام الأسد في سورية بالتلاعب بالتناقضات الإقليمية والدولية لبناء مركز قوة محلية مستقلة أو على درجة كبيرة من الاستقلال. وهو ما أدركه حافظ الأسد منذ بداية التسعينات. والمواجهة الثانية كانت مع روح التحرر المتنامية في أوساط المجتمع المدني ولطبقات الوسطى في سورية ولبنان معا، تحت تأثير الشعور العميق والصحيح بانحسار موارد النظام وتراجع موقفه الاستراتيجي الدولي ونشوء توازن قوة إقليمي يخلق فرصا جديدة. وقد نجح خصوم النظام الخارجيين، منذ تصويت مجلس الأمن على قرار 1559، بعد تصويت الكونغرس الأمريكي على قانون محاسبة سورية وسيادة لبنان، على عزل سورية وتضييق الخناق على نظامها وحشره في زاوية ضيقة. لكن التخبط الذي أظهرته السلطة السورية في ردها على هذين القرارين الخطيرين قد قذفا بها، أكثر من ذلك، في رمال متحركة جعلت أي مقاومة من جانبها أو أي محاولة للخروج من الورطة مناسبة إضافية لدفعها بشكل أكبر نحو الأسفل. باختصار لقد وقعت السياسة السورية في شرك الحفاظ على نمط السيطرة الداخلية والإقليمية القديم الذي بنى عليه النظام قوته في مرحلة ازدهاره السابقة، في الوقت الذي أصبح الدفاع عنه مستحيلا بعد أن زالت منابع القوة والشروط التي ضمنت تراكمها في السابق، والأهداف التي كانت تضفي عليها المشروعية ولم يعد من الممكن استرجاعها[14].
لقد كان لوفاة حافظ الأسد الذي كان يمسك وحده بأسرار عمل النظام الذي بناه في هذه المرحلة بالذات أثر كبير على إضاعة السياسة السورية بوصلتها وتهورها في خيارات سياسية غير قادرة على السيطرة على نتائجها. فلم يكن ورثته على القدر نفسه من معرفة الحقيقة الاستراتيجية لسورية. وبدل أن يتابعوا ما بدأه عندما شارك في الحرب ضد العراق ووقع مع أنقرة على اتفاقية أضنة، فاتحا باب التخلي التدريجي عما يسمى بالدور الإقليمي، أي عن سياسة القوة، للتأقلم مع الواقع الجيوسياسي الجديد، سعوا، بالعكس، إلى الانطلاق من هذا الدور المتهاوي لتكوين امبرطورية سورية في لبنان وفي فترة عابرة في العراق أيضا. ولعل حاجة الرئيس الشاب إلى تأكيد قوته ونفوذه في عالم السياسة السورية الذي جاء من خارجه جعلت الانسحاب من السياسة التوسعية القديمة يبدو في نظره وكأنه تصفية للمكاسب الاستراتيجية السورية وبالتالي علامة ضعف. كما أن الأجهزة الأمنية والعسكرية التي حررتها وفاة الأسد الأب من عقدة الخضوع والارتهان للسياسة العليا وعززت لديها الشعور بأنها المؤتمنة الوحيدة على النظام وتراثه قد وجدت في الدفاع عن السياسة التوسعية مصدر شرعية وحيدة لاستمرارها في فرض وصايتها التقليدية على المجتمع، وفي ماوراء ذلك في الحفاظ على امتيازاتها ومكاسبها الاستثنائية في سورية ولبنان معا.
ومن سوء طالع العهد الجديد أن محاولة تجديد قوة النظام السوري قد جاءت في الفترة نفسها التي بدأت تبرز فيها نزعات الهيمنة الامبرطورية الأمريكية في العالم واختيارها المنطقة المشرقية للرد على أحداث 11 سبتمبر 2001 وحسم مسألة السيطرة الأمبرطورية العالمية وتأكيدها. وهو ما عني أن الولايات المتحدة لم تكن تكتفي منذ ذلك الوقت، من الدول العربية، بتقديم يد العون في تحقيق مهمات خاصة، كما حصل في حرب العراق، ولكنها أصبحت تريد منها التجاوب الكامل في إعادة ترتيب وضع المنطقة، بما في ذلك إنهاء النزاع العربي الاسرائيلي لصالح تل أبيب.
كان الحفاظ على إرث حافظ الأسد وضمان الأمن والاستقرار لنظامه وتجنب المواجهات الداخلية والخارجية الحبلى بالمخاطر يستدعيان العمل، بالعكس مما حصل تماما، على خطين متوازيين.
الأول تحقيق الانسحاب السريع لسورية من المعارك الخارجية التي ارتبطت باستراتيجية مواجهة دولية وإقليمية انتهى عصرها ووصلت إلى طريق مسدود، وفي مقدمة ذلك الانسحاب الطوعي من لبنان، والكف عن الضغط على السلطة الفلسطينية والتلاعب ببعض القوى المتطرفة الاسلامية وغير الاسلامية لأغراض السياسة الخارجية والتركيز، بالعكس من ذلك كله، على إعادة بناء العلاقات السورية الإقليمية على أسس جديدة ايجابية قائمة على قاعدة توازن المصالح والندية والاحترام المتبادل. وكان اتفاق أضنة الذي وقعته دمشق مع تركيا في نهاية التسعينات يشكل برهانا قاطعا على ما يمكن لسورية أن تقطفه من عوائد كبيرة نتيجة تغيير أسلوبها السياسي، مع العلم أنها لم تقبل بتغيير سياستها في هذه الحالة إلا تحت الضغط والتهديد العلني بالحرب والاجتياح.
والثاني خط التفكيك المنظم والطوعي لنظام الحزب الواحد والحكم المطلق - الذي تحول في سورية إلى قدر لا راد له، بينما صار استمراره مصدر مهانة يومية لشعب كامل - وفتح الحقل السياسي في سبيل إعادة بناء علاقات السلطة مع الشعب وملء الفراغ السياسي والفكري والأخلاقي الهائل الذي تركته عقود طويلة من السيطرة الآلية إن لم نقل الوحشية على المجتمع وحلت فيه جميع العرى المادية والمعنوية.
بيد أن ما حصل كان معاكسا تماما لما كان منتظرا لسوء الحظ. فبدل إسراع العهد الجديد بمراجعة استراتيجية سورية الوطنية والإقليمية والدولية وإعادة صوغ خياراتها وأهدافها في اتجاه مزيد من التحرر من أعبائها الخارجية ومتعلقات المعارك والحروب السابقة السلبية في اتجاه التركيز على إعادة بناء الداخل وتعزيزه تبنت السلطة الخيار المباين تماما واعتقدت أن أفضل وسيلة لقطع الطريق على المخاطر المنظورة وغير المنظورة القادمة هي التكور على النفس والعمل على تجديد شباب أسس السيطرة الشاملة الداخلية والإقليمية، أي العودة إلى سياسات التحكم الأمني الدقيق بحركة الأحداث اليومية داخل سورية والتثبت على سياسة تعزيز المواقع السورية الخارجية بالمزيد من القوة والإكراه. وهذا ما ورط سورية في عملية التمديد للرئيس اللبناني لحود ضد إرادة الأغلبية اللبنانية، بما في ذلك الحلفاء الرئيسيين لسورية، ثم في عملية اغتيال الرئيسي رفيق الحريري والخروج المهين للقوات السورية وانحسار النفوذ السوري في لينان، وما تبعهما من تشكيل لجنة التحقيق الدولية. وهو ما حول هذه السياسة القديمة الجديدة، بسرعة، من العراق إلى فلسطين ثم إلى لبنان، إلى فخ وقع فيه النظام السوري بكامل عدته فأصبح ينتظر قرار الدول الأجنبية بشأنه بعد أن كان يقرر أو يعتقد أن بإمكانه أن يقرر في مصير المجتمعات والقوى ومناطق النفوذ الإقليمية.
ولعل التخبط الأمريكي في العراق لم يساعد القيادة السورية الجديدة التي استلمها فريق من الشبان الصغار الذين يفتقرون إلى الخبرة السياسية وليس لديهم معرفة بخبايا الاستراتيجية السورية التقليدية الهشة القائمة على الحسابات الدقيقة واللعب على الحبال، على تلمس الطريق الصحيح. فقد شجعها إخفاق إدارة بريمر في ضبط الوضع الأمني وتصاعد وتيرة المقاومة للاحتلال على الاعتقاد بأنها قادرة على تحقيق انتصارات سهلة تمكنها من استعادة زمام المبادرة الإقليمية وبالتالي إنقاذ سياستها القديمة القائمة على قوة النفوذ والمبادرة الإقليميين. ولا شك أن المصالح الخاصة التي ارتبطت بالانفتاح على العراق في السنتين اللتين سبقتا الحرب قد زادت من رغبة الفريق السوري الحاكم في استغلال تعثر السياسة الأمريكية الشرق أوسطية والعودة إلى السياسات الإقليمية النشطة التقليدية. وربما حلم بعض أفراد الفريق بأن يقطف الثمرة التي ستخفق الولايات المتحدة في قطفها، أعني تقاسم النفوذ في العراق. ولم تدر أنها بذلك الموقف وضعت نفسها في موقع المنافسة مع واشنطن والصراع ضدها[15].
وكما أظهر النظام السوري عجزا كبيرا عن امتصاص ضربة خروجه من لبنان واحتوائها والتخلص من عقدتها، أظهر عجزا مماثلا عن الخروج من الصيغ القديمة التي عاش عليها خلال عقود طويلة، وإعادة بناء نفسه على أسس جديدة أكثر قدرة على استيعاب التغيرات العميقة التي حصلت في البيئة الدولية والإقليمية، والتي تحصل كل يوم في البيئة الوطنية ذاتها، مع تفاقم التوترات الاجتماعية والسياسية الناجمة عن المشاكل المؤجلة، وتنامي قوى المعارضة والانفكاك السياسي والفكري المتزايد عن النظام. وليست الأخطاء الاستراتيجية والسياسية العديدة التي ارتكبها في السنوات الماضية إلا التعبير عن الطريق المسدود الذي يجد نفسه فيه.
هكذا تبدو المخاطر كبيرة بالفعل وعديدة. ولن يكون الانتقال نحو نظام ديمقراطي لا في سورية ولا في لبنان مفروشا بالورود. فلا يستطيع أحد أن يحسم في الأسلوب الذي سيتم به تفكيك النظام أو انهياره، بأي وسائل، ومن قبل من ولصالح من. فليس هناك من يستطيع أن يقرر بالضبط أو يتنبأ بقرار اللاعبين العديدين المعلنين والمحتملين الذين سيثير شهيتهم ضعف النظام وتفكك أوصاله. وبالمثل لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما سيحصل في المستقبل، هل ستعرف سورية وضعا شبيها بما حصل في العراق أو كما حصل في لبنان. فالأمر يتوقف على عوامل عديدة في مقدمها حركة الرأي العام السوري الذي لا يمكن لأحد توقع رد فعله على الأحداث القادمة وعلى طبيعة هذه الأحداث التي ستحسم في أمر النظام. كما لا نعرف بعد بالضبط ما ذا سيكون عليه التوافق الأمريكي الأوروبي بشأن المصير السوري. وعلى الأغلب سيكون المخرج السوري بعيدا عن المثالين العراقي واللبناني معا، أي تصدعا للنظام يفرز قوى انقلابية ذاتية تواكبها تحركات شعبية قوية تفتح طريق التغيير بإنهاء حكم حزب البعث الاسمي والاعتراف بالتعددية السياسية مع السعي في الوقت نفسه إلى الحد من فعاليتها وإعادة السيطرة شبه الأحادية على الوضع.
أما في ما يتعلق بطبيعة العلاقات التي ستنشأ أو يمكن أن تنشأ بين سورية ولبنان في المستقبل فالأمر مرهون بطبيعة النظم التي ستستقر فيهما. ولن تقوم علاقات ثابتة ومستقرة وايجابية تساهم في تصفية ذيول الحقبة القاسية السابقة وبناء علاقات مثمرة تخدم مصالح الشعبين إلا مع ترسخ نظم ديمقراطية حقيقية تعكس إرادة الشعبين وتضمن الوسائل المؤسسية السليمة لتضامنهما وتعاونهما. وهذا يتطلب أيضا العمل من قبل الديمقراطيين اللبنانيين والسوريين على نشر ثقافة ديمقراطية فعلا تستبعد العنصرية والتكبيل بالتهم التاريخية كما تستبعد النزعات الوطنية الشوفيينية المضرة بأصحابها قبل أعدائها.
لكن حتى يمكن التقدم إلى هذا الطور سيتوجب على السوريين واللبنانيين معا خوض معارك طويلة وصعبة، ليس في مواجهة نظم الاستبداد وسيطرة أجهزة الأمن ومساوئها فحسب، ولكن أكثر من ذلك ضد الجهل والتحيز والتعصب والخوف والتشوه في الوعي عند الرأي العام والفرد الذي تعلم رفض المسؤولية والاستقالة الأخلاقية والسياسية، واستمرأ الأنانية والتعلق الشديد بالمصالح الفردية والعائلية، على حساب الجماعة الوطنية في سورية ولبنان معا. وهي معركة قاسية وطويلة، معركة الثقافة والسياسة العربيتين في الوقت نفسه.



[1] أعلنت حالة الطوارئ بتاريخ 8/3/1963 وتابع النظام العمل بموجبها حتى اليوم من دون انقطاع. فهو لم يحكم ولو يوما واحدا خارج إطار الأحكام الاستثنائية والعرفية منذ 43 عاما متوالية. و لم يكن تأبيد قوانين الطواريء والأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية في الواقع إلا وسيلة لتفعيل مبدأ القوة والعنف في السياسة الداخلية كما هو الحال في السياسة الخارجية. فوجود القانون، مهما كان، يشكل مرجعا ضد العنف ويحد لا محالة من استخدامه كمرجع أول أو وحيد لتوزيع القوة والثروة والمواقع. وبتجريده المجتمع من القانون، فتح النظام أمام نفسه المجال كاملا لممارسة العنف والاعتماد عليه لقلب جميع الاوضاع لصالحه.
[2] دخل الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 بطلب من المعسكر "المسيحي المحافظ" ضد التقدميين أو ما كان يسمى بالمعسكر الاسلامي التقدمي والفلسلطيني، قبل أن ينقلب عليهم ويصبح الحليف الرئيسي لمنظمات إسلامية مثل الأحباش وحزب الله وحركة أمل. وتتهم الدول الغربية دمشق بدعمها لمنظمات اسلامية تعمل في العراق ضد الوضع الذي قام على أثر الاحتلال الامريكي عام 2003 وكذلك للمنظمات الاسلامية الفلسطينية كحماس والجهاد الاسلامي ولبعض القوى الاسلامية الأخرى في الأردن والعالم العربي عموما.
[3] كان النظام السوري أكثر نظام عربي اصطدم بمنظمة التحرير الفلسطينية وعاداها وطرد رئيسها ياسر عرفات من دمشق وبقي يشن عليه حربا لا هوادة فيها حتى تحقق عزله سياسيا قبل وفاته أو اغتياله من قبل آرييل شارون. وقد تبنى النظام البعثي مواقف جميع المنظمات الصغيرة المتطرفة التي كانت تقف ضد عرفات واستخدمها للضغط عليه.
[4] بعد حرب سنة 1973 بدأ الخليج العربي يقدم مساعدات مالية متزايدة لإعادة إعمار سورية والتسلح العسكري. وتجاوزت هذه المساعدات التي ساهمت مساهمة كبيرة في بناء البنية التحتية السورية المليار دولا بعد دخول الجيش السوري في إطار قوات الردع العربية إلى لبنان. وبسبب هبوط أسعار النفط بشدة وتبني دمشق موقفا مؤيدا لايران في حرب الخليج (1980) انخفضت المساعدات السنوية التي تقدمها الدول العربية إلى (800) مليون دولار. لكن ايران سعت أيضا إلى تعويض سورية بتقديم مساعدات مالية ونفطية مختلفة. ويقدر مجموع ما تلقته سورية من بلدان الخليج العربي في عقدي الثمانينيات والتسعينيات ما يقارب 17 مليار دولار.
[5] منذ وقت مبكر اختص الرئيس حافظ الأسد نفسه بالسياسة الخارجية وجعل من الدولة السورية مركز قيادة لشبكة كثيفة من الحركات والقوى والتحالفات الخارجية المسيرة من دمشق والخاضعة مباشرة للرئيس وإشرافه المباشر، وبالمقابل ترك لأجهزة الأمن والميليشيات العسكرية التي رأسها أخوه رفعت الأسد وظائف الاهتمام بالشؤون الداخلية، بكل ما تتضمنه من معالجة لمشاكل الإدارة المدنية والسياسات الاقتصادية والمسائل الاجتماعية والقضائية والثقافية والعلمية.
[6] تميز هذا النموذج كما هو قائم إلى اليوم بسبطرة نظام الولاء المضبوط من قبل الأجهزة الأمنية وقاد إلى تشكيل شبكات المصالح المتضامنة والمكونة لمراكز قوى خاصة في جميع مستويات الوظيفة العمومية. وهو ما عمل على تعميم الفساد والخراب في الإدارة المدنية والقضاء والتعليم والقطاع العام الاقتصادي.
[7] حول بناء النظام وتكوين الجبهة التقدمية والازدواجية السياسية، أنظر مقالتنا بالفرنسية "نهاية الثورة البعثية" بالفرنسية، مجلة كونفلونس، عدد44، باريس 2003
[8] ساعدت المنح والمعونات المالية الخارجية التي بدأت تتلقاها سورية منذ السبعينات، ثم العوائد النفطية السورية نفسها، بالفعل على تطوير اقتصاد توزيعي، لا يختلف كثيرا عن اقتصاد النظم الموجودة في الخليج حول آبار النفط.
[9] لا شك أن المواجهة المأساوية بين قوى التمرد الاسلامية والنظام في الثمانينات قد شكلت نقطة حاسمة أيضا في سقوط النظام في منطق القلعة المحاصرة. فقد دفعت السلطة القائمة إلى تبني موقف الحصار الشامل للمجتمع وشله عن الحركة وإعطاء أجهزة الأمن صلاحيات قانونية تجعلها فوق القانون وغير خاضعة له، أي تحولها في نظري إلى ميليشيات خاصة في خدمة الفريق الحاكم. وأقول ميليشيات لأن الذي يميز المؤسسة الرسمية هو خضوعها للقانون، أي بمعنى آخر للمساءلة والمحاسبة. فإذا انعدم ذلك لم يعد هناك فرق بين القوى المسلحة المدعومة من الدولة للفاع عن مصالح خاصة وبين الميلشيات الخاصة المستقلة عنها. وقد عززت السلطة هذا الاتجاه بإصدارها مرسوما ينص على أن عناصر الأمن ليست مسؤولة عن الجرائم التي ترتكب خلال الخدمة أمام القضاء قد جاء ليضمن حصانة استثنائية وقانونية أيضا لأجهزة القمع. – هذا هو مضمون المادة 16 من قانون إحداث إدارة أمن الدولة الصادر بالمرسوم التشريعي رقم /14/ تاريخ 15/1/1969 والتي تنص على أنه ( لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكولة إليهم أو معرض قيامهم بها، إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير ) وما جاء في نص مشابه للمادة السابقة في المادة /74/ من قانون التنظيمات الداخلية لإدارة امن الدولة الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 594 تاريخ 12/5/196. أنظر التقرير الثاني لجمعية حقوق الانسان السورية، 2004
[10] بالرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاما على أحداث حماة، لم تقم السلطة بأي تحقيق في الأمر ولا يزال الآلاف من المواطنين يتخبطون في مشاكل اجتماعية وإنسانية لا نهاية لها بسبب رفض الحكومة الإعلان عن قوائم الوفيات والمفقودين. بمعنى آخر لا تزال مأساة حماة مستمرة عبر المشاكل غير المحلولة لأبناء وأسر ضحايا هذه المجازر الجماعية.
[11] أنظر كتابنا الأخير، العرب وعالم مابعد 11 سبتمبر، دار الفكر، دمشق 2005
[12] لم يستطع ايديولوجيو النظام تقديم أي تبرير أو دفاع عن موقف الحكم في هذه المشاركة سوى ضرورة التعامل مع الواقع الجديد، مع الإشارة إلى أن القوات السورية المشاركة لن تساهم في خوض معركة اقتحام التراب العراقي وسوف ترابط في الأراضي السعودية. لكن المهم لم يكن دخول القوات العسكرية ولكن ما تمثله من تغطية سياسية للحرب الأمريكية ضد العراق.
[13] نص اتفاق أضنة الذي وقع بين سورية وتركيا في 19/10/1998 ، بعد تهديد هذه الأخيرة باجتياح سورية للرد على دعم دمشق لحزب العمال الكردستاني بقيادة أوجلان، على ابعاد عناصر حزب العمال الكردستاني من الأراضي السورية والتي تسيطر عليها في لبنان, ومنعهم من عبور الحدود من سوريا إلى تركيا, وتبادل ممثلين أمنيين, واقامة خط ساخن بين البلدين. وقد أسفر هذا الاتفاق عن تعاون أمني اقتصادي ملموس بين البلدين تمثل في اجتماع لجنة أمنية مشتركة لأول مرة منذ 12 عاما, وزيادة حجم التبادل التجاري من 540 مليون دولار إلى مليار دولار, وتوقيع اتفاقيات لمنع الإزدواج الضريبي وتسهيل النقل والمواصلات وفتح الطريق للمستثمرين وحماية الاستثمارات المشتركة, وتوقيع اتفاقية تجارة حرة.
[14] أنظر مقالنا "نظام الفرص الضائعة" الاتحاد، 28 سبتمبر 2005 وكذلك:
http://critique-sociale.blogspot.com/2005_09_01_critique-sociale_archive.html
[15] ليس هناك شك أن أخطاء القيادة الأمريكية في العراق والخوف المتزايد من انتقال عدوى التدخلات العسكرية إلى دمشق، وهو ما كان لا يخفيه وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، بالإضافة إلى خشية العديد من دول المنطقة العربية من أن يؤدي انتصار واشنطن السهل في بغداد إلى تعزيز الضغوط عليها في سبيل الاصلاح، كل ذلك قد شجع الحكم السوري على المغامرة في اتباع سياسة معادية بشكل صريح للوجود العسكري الأمريكي في العراق. بل إن التفاؤل قد وصل في هذا المجال إلى درجة الاعتقاد بأن من الممكن استغلال المأزق الأمريكي من أجل تحويل العراق إلى لبنان إضافي واستعادة حقبة التوسع الريعي المجيدة في السبعينات.