mardi, mars 28, 2006

غواية الطائفية في سورية والبلاد العربية

الاتحاد 29 مارس 06

بالرغم من المقاومة القوية التي أظهرتها الشعوب العربية لمشعلي الفتن الطائفية في السنوات الأخيرة، في العراق وغيره، إلا أن الضغوط المتزايدة التي تتعرض لها أطراف متعددة، رسمية واهلية، من الخارج والداخل معا، تدفع بشكل متسارع نحو جعل المخرج الطائفي حتمية لا تقاوم في العديد من أقطار العالم العربي. بل إن هناك من بدأ يتحدث بصراحة عن مخاوف انجرار المنطقة برمتها إلى نزاع طائفي لن تكون نتيجته سوى الدمار المعمم. وشيئا فشيئا يكاد الرأي العام العربي يستسلم في بعض الأقطار، بل في أكثرها، لفكرة قبول النزاعات الطائفية كما لو كانت عاهة ولادية مرتبطة ببنية المجتمعات العربية وثقافتها.
والواقع ليس لهذا الانجرار وراء المخرج الطائفي أي علاقة بوجود تعددية دينية أو حتى حساسيات وحزازات قديمة بين الطوائف المتواجدة منذ قرون طويلة على الأرض نفسها. فكما يمكن أن تقود التعددية إلى التعايش المثمر والمثري والمبدع، كما أظهرت ذلك قرون طويلة من الحكم العربي، ليس في اسبانيا وحدها ولكن في بلاد المشرق جميعها، يمكن أن تقود أيضا إلى النزاع وتشريع القتل المأساوي على الهوية. وبعكس ما يعتقد الكثيرون، ليس لهذا النزاع علاقة بطبيعة العقائد ومضمونها واختلافاتها وإنما بالظروف التي تشرط حياة الجماعات وتحدد علاقات واحدتها بالأخرى. فمن الممكن أن تكون العقائد متباينة تماما بين الأطراف ويكون التعايش كبيرا في ما بينها، كما أن من الممكن أن يولد النزاع بين جماعات تنتمي إلى الأصول ذاتها ولها منظومات عقائد وأعراف وتقاليد واحدة، كما تبرهن على ذلك الصراعات التي غالبا ما تندلع داخل القبائل والعشائر والطوائف، بل والعائلات نفسها.
وهكذا، عندما عززت حقبة الاستقلال الانخراط في العالم الحديث وخلقت آمالا كبيرة بالتقدم والارتقاء لدى الجميع، وفي جميع المجالات، ولدت حركة وطنية وقومية واسعة وحدت بين جميع الاطراف ودفعت إلى تجاوز الانقسامات التاريخية الطائفية والأقوامية والاندماج في كل وطني حديث واحد. وبالعكس، يغذي الانسداد والجمود الذين تقود إليهما نظم متحجرة ولا إنسانية، وما ينجم عنهما من حرمان الجميع من فرص التقدم والارتقاء، شعورا عميقا بالاحباط والخوف وانعدام الثقة يشجع الجماعات والأفراد معا على التحلل من قيم التضامن الإنسانية وعلى القبول بجيمع الطرق والوسائل اللاأخلاقية للخروج مما يبدو وكأنه حالة حصار وموت محقق، بأي ثمن وعلى حساب الجماعات والأفراد الآخرين.
ومن هنا يشكل الخيار الطائفي، بالمعنى الديني والأقوامي معا، التعويض المباشر عن غياب الخيار السياسي، أي الجماعي الوطني. وطالما بدت شروط تحقيق هذا الخيار الأخير مفقودة أو مستحيلة التوليف، تنزع الجماعات إلى الحلول الانفرادية لعلها تجد لنفسها مخرجا لا أمل بايجاده مع الغير. فالطائفية هي رديف إعدام السياسة، والقضاء على روح التواصل والألفة، وتمجيد الوصولية والانتهازية والقائمتين على الأنانية، وانهيار مفهوم القانون، بما يعنيه من احترام الحق والعدل أمام استئثار العصبية العمياء التي تقوم على مبدأ نصرة الأخ ظالما أو مظلوما. وهذه الشروط هي ما تشهده العديد من الاوضاع العربية، حيث تشعر جميع الاطراف بأنها في بداية نفق مظلم طويل لا تعرف إذا كانت ستخرج منه أم لا.
وأول من يبدو عليه الضعف أمام إغواء الطائفية هي تلك النخب التي تحكم منذ عقود طويلة من دون مشاركة ولا قيود ولا التزامات واضحة، والتي تواجه اليوم استحقاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية كبيرة من دون أن يكون لديها أي فرصة لتلبيتها او الرد عليها، في الوقت الذي تخضع فيه لضغوط وتحديات خارجية استثنائية تهدد استقرارها وبقاءها نفسه. فهي محاصرة من الداخل والخارج وخائفة من السقوط والانهيار في أي لحظة. ولهذا يزداد الإغراء عند بعض قادتها بالهرب نحو التعبئة الطائفية، كدرع حماية، ووسيلة للعب على تناقضات المجتمعات، واستخدام فئاتها المختلفة وانقساماتها لدفعها إلى تحييد بعضها بعضا. فبقدر ما تسد هي نفسها باب الخيار السياسي، أي، اليوم، الديمقراطي، للخروج من الأزمة الوطنية الشاملة، وتدرك محدودة وسائل القمع التقليدي، تنزع هذه الجماعات المتسلطة إلى أن ترى في التعبئة الطائفية سلاحا مفيدا لخلط الاوراق من جديد، وإجهاض المجتمع من قواه الاحتجاجية النامية، لعلها تتمكن من الالتفاف على الاستحقاق التاريخي والخروج من الطريق المسدود الذي وضعت نفسها فيه.
لكن النخب الحاكمة أو بعضها ليست الطرف الوحيد الذي يمكن أن يجد في إحياء المنطق الطائفي مهربا إلى الأمام من مشاكله السياسية المستعصية على الحل. إن الضغط الذي تتعرض له قطاعات واسعة من المعارضة السياسية والمدنية في سبيل حرمانها من أي أمل في المشاركة في مصير وطنها بل في التعبير عن نفسها والتواصل مع الرأي العام بأي صورة من الصور، مهما كانت سلمية ومدنية، يهدد بأن يدفع بعض قواها الأكثر استعجالا والأقل حكمة إلى التفكير باستخدام الطائفية لفك عزلتها. وربما اعتقد قسم من أولئك الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين ضغوط الحياة اليومية المتزايدة ومراوغات السلطة وقهرها اللاإنساني واللاقانوني، أن بناء عصبية قوية تقف في مواجهة عصبية السلطة هو الطريق الوحيد المتبقية لفرض نفسه على النظام وانتزاع الاعتراف به من دون التعلق بالتدخلات الأجنبية. وحصل مثل هذا في الثمانينات من القرن الماضي وانتهى بكارثة إنسانية في حماة وبكارثة سياسية في سورية بأكملها.
بيد أن المجتمعات نفسها ليست محصنة ضد الاستخدامات الطائفية أيضا. وتدغدغ الطائفية مشاعر العديد من قطاعات الرأي العام التي تعيش في شروط حياة هشة وغير مستقرة وتكاد أن تنهار بين حصار النظم الحاكمة التي تخشى انفجارها فتفرض عليها حكما مطلقا يشلها عن التفكير والحركة، وحصار الرأي العام الدولي الذي يوحد بينها والارهاب ولا يكف عن استفزازها ووضع هوية مجتمعاتها الثقافية والدينية موضع الشك والسؤال. كما تشكل الظروف الصعبة التي تعيشها أغلبية السكان والضغوطات المستمرة التي تتعرض لها، وغياب أفق الحلول الجماعية والسياسية، أي الوطنية، تربة خصبة لنمو المشاعر السلبية عند الأفراد والجماعات، وتوجهها نحو الخيارات التصفوية التي تجعل كل منها تعتقد أنه لا حل لأزماتها المستفحلة والمديدة إلا بالتخلص من الآخر، بتحييده او إقصائه أو القضاء عليه والسطو على حقوقه وموارده. فالحرب الطائفية هي شكل من أشكال حروب التصفية والتطهير العرقية. ونحن مهددون بالانجراف أكثر فاكثر نحو حالة الاحتراب التي تميز المجتمعات الفقيرة والمعزولة والمحاصرة. فندرة الموارد وتصاعد الضغوط وغياب الأمل بالوصول إلى نهاية النفق بالطرق الطبيعية وفي وقت معقول، كل ذلك يشكل مصادر متضافرة قوية لتوليد المنازعات الدموية في كل المجتمعات والأزمان. وبقدر ما يصبح القتال أسلوب الانتاج الرئيسي للثروة والسلطة والجاه تبرز الحاجة إلى بناء العصبية، أي روح الطائفية التي تتغذي من أوهام القربى الدينية أو القبلية أو الثقافية، وتصبح بمثابة اللحمة التي تصهر الأفراد والمجموعات المتميزة في بوتقة واحدة. فلا تقوم الطائفية إلا بعنصرين: بعث الوهم بالمطابقة الكاملة أو التماهي بين أفراد مختلفين بالفعل والأصل رغم انتماءاتهم الدينية او القبلية، بحيث يذوب الفرد بالجماعة ولا يعيش إلا بها، ثم تأكيد الحق في العدوان باسم الدفاع عن الحقوق الجماعية للعصبية الواحدة في مواجهة العصبيات الأخرى. ولذلك مثلما لا تولد العصبية من دون النزاع أو خارج سياقه، لا يمكن للحرب الطائفية أن تندلع وتستمر إلا بقدر ما تنجح في إعادة صهر المجتمع في بوتقة العصبية، أي في إعادة خلقه كعصبيات متماثلة. وما منع هذه الحرب من الانتشار حتى الآن في بلدان كالعراق وسورية بالمقارنة مع لبنان، هو رفض المجتمع بأغلبيته المدنية الانخراط في سياسة العصبية هذه وسعيه إلى استيعاب النزاعات الطائفية من داخل المفاهيم والأطر السياسية. لكن هنا تكمن المشكلة بالضبط. فمع القضاء على مفاهيم السياسة المدنية وأطرها أو تفريغهما من معناهما، وتحت ضغط التدهور المتسارع للأوضاع المعيشية والسياسية والنفسية الراهن، أصبحت هذه المقاومة مهددة بالفعل.
والحال لا تشكل الحرب الطائفية، التي يصعب على أحد اليوم السيطرة عليها إذا اندلعت، مخرجا من أي مأزق قائم، لا مأزق الحكم ولا مازق المعارضة ولا مأزق المجتمع والرأي العام التائه والمتخبط. بالعكس، إنها تعمق ورطة الجميع وكل الأطراف. فهي لن تحرر النخب الحاكمة من مواجهة الاستحقاقات القادمة ولا توفر عليها الاعتراف بحقوق هذه المجتمعات والتزاماتها تجاهها، ومن باب أولى أن تمكنها من استعادة السيطرة عليها. كما أنها لن تعطي للمعارضة أي دفع جديد يساعدها على التغلب على الحصار المضروب من حولها. أما بالنسبة للمجتمع، فهي تقود حتما إلى الدمار العام بقدر ما تهدد وجود الدولة وتبدد موارد البلاد وتعريضها للتهديدات الخارجية. إن المستفيد الوحيد منها هي بالتحديد اسرائيل وشبكات المصالح المافيوزية نفسها التي قادت إلى إفلاس الدولة والسلطة، والتي لا تستطيع أن تنمو وتزدهر وتتحول إلى زعامات تاريخية إلا في مناخ الحروب والأزمات. وأصحابها الذين يحتقرون بالتعريف فكرة وجود التزامات جماعية وقيم تضامن إنسانية وحقوق سياسية وحريات فكرية ويفتقرون إلى أي شعور بالمسؤولية هم المعنيون الوحيدون بتغذيتها وتفجيرها.

في مخاطر إجهاض مشاريعنا الاصلاحية

الجزيرة نت 28 مارس 06

طرحت مسألة الاصلاح في العالم العربي منذ السبعينيات، على اثر اكتشاف العديد من الأوساط العربية حدود فعالية النماذج التنموية التي اتبعت في العقود الماضية. لكن باستثناء البرامج التقليدية المستمدة من توصيات بعض المؤسسات المالية الدولية والأفكار العامة عن الانفتاح الاقتصادي، الذي شكل أول تجربة إصلاحية عربية بعد سنوات طويلة من الانغلاق الاقتصادي والسياسات الحمائية القوية، لم تتبلور حتى وقت قريب أي رؤية شاملة لمعنى الاصلاح وأجندته ومهامه العملية. وبالرغم من أن سياسات الانفتاح لم تفض إلى نتائج ناجعة إلا أنها استمرت كما هي بسبب غياب أي بدائل نظرية أخرى. ولا تزال الأمور تسير من سيء إلى أسوأ مع تراجع متواصل في معظم الأقطار للحالة الاقتصادية والسياسية والمعنوية معا.
بدأت معالم الأزمة العميقة في النماذج القائمة منذ الثمانينيات نتيجة فشل سياسات الانفتاح الاقتصادي الأولى التي بدأت في مطلع السبعينات. وكان من نتيجة هذه الأزمة تفجر ما عرف في ذلك الوقت باسم ثورات الخبز. وقد شملت هذه الانتفاضات جميع الأقطار العربية الفقيرة نسبيا والتي كانت لا تزال تسمح بهامش بسيط من المبادرة الجمعية، من المغرب الأقصى حتى مصر. وذهب ضحية الانفجارات الشعبية هذه آلاف القتلى والجرحى. لكن السلطات نجحت في إعادة الأمن والاستقرار من جديد لقاء تعديلات محدودة في السياسات الاقتصادية، وفي مقدمتها الابقاء على دعم بعض السلع الأساسية وأهمها الخبز، والقليل من التنازلات السياسية الشكلية التي تلخصت في السماح بهامش ضعيف لنشاط بعض مجموعات المعارضة التي بقيت ممنوعة لفترة طويلة سابقة. لكن هذه الاصلاحات على محدوديتها ضمنت للنظم القائمة فترة تزيد عن العقد من الاستقرار النسبي، وما عناه ذلك من الاحتفاظ بأسس النظام الفاسدة من غير تغيير. وكان من نتيجة ذلك أن تفاقمت الأزمة بشكل أكبر وعادت للانفجار بصورة أقوى وأكثر شمولا، منذ بداية التسعينات، كما عبر عن ذلك انتشار حركات المعارضة المدنية، بالإضافة إلى ما سمي في حينه المد الاسلامي وما ارتبط به من ظواهر الاحتجاج التي اتخذت في بعض البلدان صورة التمرد الواسع على السلطة والنظام في سبيل إقامة نظم مغايرة تعتمد مرجعية مختلفة وشرعية إسلامية جديدة.

وقد أيقظت هذه الحروب والثورات الاحتجاجية قطاعات واسعة من الرأي العام العربي. كما أثارت الخوف في الدول الصناعية وعلى مصيرها، وهي التي تعتمد بشكل أساسي على النفط المصدر إليها من منطقة الشرق الأوسط. لكن رد فعل هذه الدول جاء خلال أكثر من عقد من الزمن في الاتجاه المعاكس للاصلاح. فقد دفعها الخوف من انتشار الحركات الاحتجاجية الدينية وسيطرتها على المنطقة إلى التماهي مع النخب العربية الحاكمة والوقوف وراءها في مواجهة حركات الاحتجاج تماما كما دفعها الخوف من الحركات القومية الشعبية التي انتشرت في الخمسينات والستينات إلى الوقوف إلى جانب الحكومات الاستبدادية الأوليغارشية. وهكذا بعد أن شهد عقد التسعينات الحروب الإقليمية المدمرة من فلسطين إلى العراق سوف تملأ فترة العقد العاشر من القرن نفسه الحروب الأهلية المعلنة أو الكامنة.
لكن الخلاف الذي نشأ بين المجموعة العربية والولايات المتحدة الأمريكية منذ 11 ايلول 2001، ثم امتد بعد ذلك حول موضوع احتلال العراق عام 2003، قد ارتبط بحملة جديدة من الضغط في اتجاه الاصلاح قادته واشنطن قبل أن تعلن الدول الاوروبية الانضمام إليها والتكاتف معها في فرض أجندة جديدة على المنطقة العربية. فقد نشأ اعتقاد قوي على إثر تنامي حركات الاحتجاج الاسلامية وانتقال نشاطها إلى الخارج، بأن مواجهة الارهاب والعنف المتزايدين في المنطقة والعالم تستدعي القيام بإصلاحات بنيوية تقلل من الضغوط الاجتماعية وتوسع دائرة مشاركة النخب والطبقات الوسطى المهمشة أو المستبعدة تماما عن الحياة العمومية.
وقد التقت البرامج الاصلاحية الغربية المرتبطة بأجندة الحرب على الارهاب ببرامج إصلاحية محلية نمت وتطورت على أيدى النخب العربية التي جعلها تدهور الموقف العربي الخارجي وتعثر عملية النمو وتراجع شروط الحياة المادية والمعنوية بشكل خطير إلى قرع ناقوس الخطر وتبني برنامج إصلاح وطني عربي منذ بداية الألفية الثالثة، كما عبر عن ذلك برنامج التنمية الإنسانية الذي صدر تحت إشراف عدد كبير من المثقفين العرب في إطار برنامج الأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
لكن، نجاح النخب الحاكمة في محاصرة قوى المجتمع المدني العربية ومنعها من التحول إلى محرك لحركة شعبية قوية حاملة لبرنامج الاصلاح، جعل الأجندة الاصلاحية الجديدة أسيرة أجندة الاستراتيجية الغربية. فقد صادرت قوى التحالف الأطلسي في الواقع قضية الاصلاح ووظفتها لحسابها وجعلت منها أداة للضغط على النظم القائمة لانتزاع اعترافها وموافقتها وتعاونها. ولأنها لا تملك أي استقلالية، بقيت الأجندة الاصلاحية تفتقر لبرامج تنفيذية حقيقية، وكان من الطبيعي أن تتقدم وتتراجع على حسب تقدم وتراجع التعاون التي تبديه هذه العاصمة أو تلك مع أهداف الاستراتيجية الامريكية الجديدة وبالوتيرة التي يحتاج إليها تحقيق هذه الاستراتيجية ونجاحها.
وكان من الطبيعي أن تتسم دعوة الاصلاح الخارجية هذه منذ البداية بتناقضات لا مخرج منها بسبب الاختلاط الواضح بين أجندتين لا يمكن التوفيق بينهما: أجندة الاصلاح الذي يستدعي انخراطا أكبر للمجتمعات في تقرير سياساتها المحلية وأجندة السيطرة العالمية والإقليمية التقليدية التي تقوم على حرمان هذه المجتمعات نفسها من أدوات السيادة الفعلية. فكما يمكن لدعوة الاصلاح أن تأتي إلى السلطة في البلدان العربية بقوى غير مؤيدة للتحالف الغربي وبالتالي مضرة بتأمين مصالحه الاستراتيجية، يمكن أيضا لتطبيق أجندة السيطرة الإقليمية للغرب أن تتعارض بقوة مع التغيير الديمقراطي أو مع أي تغيير يستدعي القبول بمخاطر متعددة، بما في ذلك الإخفاق في السيطرة على الموقف والسير نحو الفوضى أو الاقتتال الداخلي. ولذلك، في مقابل هذه المخاطر، ألحق برنامج الاصلاح بأولويات السيطرة الإقليمية ولم يعد هدفا في ذاته. وصار الضغط باسم الاصلاح الوسيلة التي تستغلها واشنطن لفرض التعاون على الدول العربية وإقناعها بضرورة التنسيق معها في سياستها الإقليمية الجديدة، خاصة في العراق. وقد نجحت عصا الاصلاح بالفعل في دفع العديد من العواصم العربية إلى التكيف مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة والتخلي عن موقف المعارضة للحرب الذي اتخذته خشية من أن يقود إلى انقلاب الرأي العام عليها وتفجير أوضاعها الهشة.
ينبغي الاعتراف بأن مخاطر كبيرة تهدد اليوم دعوة الاصلاح التي انتشرت وتوسعت قاعدة المؤمنين بها في السنوات الخمس الماضية كما لم يحصل في أي حقبة سابقة في حجر المجتمعات العربية. فبالاضافة إلى أن الضغوط الخارجية من أجل الاصلاح قد مالت إلى الركود، لم تنجح المجتمعات المدنية العربية بعد في توليد قوى كافية من حيث الوعي والتنظيم لجعل إرادة الاصلاح حقيقة عملية وهدفا يصعب التراجع عنه. والواقع أنه لم يبق من الاصلاح الذي طالب به الرئيس الامريكي جورج بوش، خاصة السياسي منه، لكن الاقتصادي والقضائي والتشريعي أيضا، سوى ذكرى مريرة، وبعض ما نشر في السنوات الأربع الماضية من وثائق وتصريحات أمريكية وأوروبية حول ضرورات الاصلاح ومخططاته ومبادراته. وبصرف النظر عما بذلته قوى المجتمع المدني العربي من جهود فكرية وسياسية في سبيل الدفع بعجلة الاصلاح نحو الأمام، مستفيدة مما اعتقدت أنه شكل ظرفا خارجيا ملائما، ينبغي استغلاله، لم تحقق دعوة الاصلاح الجديدة أي نتائج واضحة بقدر ما فجرت من حولها صراعا حادا قسم الأوساط الثقافية والسياسية العربية معا ولا يزال يقسمها إلى اليوم. وحل محل العمل على إصلاح الواقع المأساوي للمجتمعات العربية نقاش لا نهاية له حول أولوية الاصلاح الداخلي أو الخارجي، الخصوصي أو العالمي، السياسي أو الاقتصادي، إلى آخر ما هنالك من تعارضات ممكنة ومحتملة.
وكما حصل في العقد الماضي أصبح هذا النقاش وسيلة للتغطية على الحاجة الماسة والمستعجلة للاصلاح، وذريعة لتأجيله إلى أجل غير مسمى. وهو ما يهدد بتمديد الوقت الضائع وفي أثره التقهقر المتواصل في شروط المعيشة الناجم عن استمرار تباطؤ النمو الاقتصادي وتفاقم طواهر الفقر وتزايد معدلات البطالة وتدهور عمل الإدارة ومستويات التعليم وتوتر العلاقات الاجتماعية. ومما يعزز من احتمال انفجارات كبيرة قادمة التقاء هذا التقهقر المستمر في شروط المعيشة المادية والنفسية معا مع الاحباط العام والقلق المرتبط بتواتر الحروب والهزائم في فلسطين والعراق، وما تنشره من دمار مادي ومعنوي يمس منطقة المشرق العربي بشكل خاص، بعد أن انفصلت عنها الكتلة المغربية التي أدركت أن لديها فرصا أكبر في الالتحاق بالقاطرة العالمية والهرب من مصير التهميش الحتمي الذي يتجه نحوه المشرق العربي.
وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، من دون أن تستدرك القوى الداخلية الامر وتخرج بسرعة من حالة المراوحة في المكان، ومن حوار الطرشان السائد بين النظم القائمة والمعارضات السياسية والمدنية، فليس هناك أي شك في أننا سوف نخسر للمرة الثالثة فرصة ذهبية للاصلاح، باسم المفاضلة بين العوامل والضغوط الخارجية والداخلية. ولن تكون نتيجة ذلك سوى استفحال الازمة المجتمعية المتعددة الأشكال وإعداد مسرح الانفجارات القادمة الحافل بالنزاعات والتصفيات المتبادلة التي يقدم عراق ما بعد صدام نموذحا ماثلا عليها. وليس هذا من باب التكهنات، كما قد يعتقد البعض ممن يعيشون بقلوبهم وعقولهم خارج مجتمعاتهم ولا يتحسسون ما تعاني منه. فهذا بالضبط ما حصل في العقود الثلاث الماضية، عندما أدى فشل الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات إلى اندلاع ثورات الخبز وتفجر الانتفاضات الاجتماعية بعد أقل من عقد من الزمن. وهو ما حصل أيضا في التسعينيات مع انتشار العنف وتنامي حركات الاحتجاج الاسلامية وتهديدها لأسس النظم القائمة وتحديها لها، بعد أن نجحت النظم القائمة في الالتفاف ثانية على مطالب الإصلاح التي أعقبت انتفاضات الثمانينيات. ولا أعتقد أن هناك وسيلة لتجنب كارثة محتمة سوى العودة إلى النفس، والقبول بتحمل المسؤولية والتخلي عن المراهنات الوهمية على الإرادة الخارجية. وهذا التحدي مطروح على قوى المعارضة السياسية كما هو مطروح بالقدر نفسه على القوى الحاكمة أو الجزء الذي لا يزال حيا فيها، للعمل على الخروج من الحلقة المفرغة للتنازع على سلطة تتقوض أسسها يوما بعد يوم ومن ورائها أسس الحياة الجمعية ذاتها.

lundi, mars 27, 2006

مقابلة جريدة السفير 27-28 مارس : حول الداخل والخارج والمعارضة


النص الكامل للقاء الصحفي الذي أجراه أبي حسن مع برهان غليون
والذي نشر في السفير مجتزءا في 27-28 آذار الجاري تحت عنوان "الداخل والخارج إشكالية تخدم الحكومات"


*القرار 1559 ثم القرار 1664 , ما الذي ينتظر سوريا (نظاماً ومجتمعاً) بعد ؟وهل ثمة فسحة أمام النظام للمناورة؟

غليون
بالتأكيد كرس القراران وما تبعهما من أحداث في لبنان، وفي مقدمها اغتيال رئيس الوزراء السابق الشهيد رفيق الحريري، خسارة دمشق لسيطرتها على لبنان نهائيا وفرض عليها سحب قواتها العسكرية منه. لا يعني هذا أنها فقدت كل شيء في لبنان ولا أنها لم تعد تملك أي هامش للمبادرة هناك، أو في سورية والمنطقة عموما. فهي لا تزال تتمتع بأدوات عمل كثيرة نتيجة تحالفاتها السابقة ووجودها على الأرض في أكثر من مكان. ولا أعتقد أن نظاما يكرس كل جهوده وموارد البلاد التي يسيطر عليها لأهداف أمنية، بالمعنى الشائع للكلمة، أي لتوفير الحماية للنظام والدفاع عنه بكل الوسائل، العسكرية والسياسية والدعائية، يمكن أن يفقد نهائيا كل وسيلة للضغط أو للتهديد. ثم إن هشاشة الأوضاع العربية والإقليمية، من الناحية الأمنية الاستراتيجية والاجتماعية والسياسية، تقدم للنظام فرصا لا ينبغي الاستهانة بها للإبقاء على مثل هذا الهامش. ولم يعد خافيا على أحد اليوم أن الدول العربية المشرقية الرئيسية خائفة من عواقب انهيار النظام السوري وبذلت ولا تزال تبذل بالفعل جهودا استثنائية في سبيل مساعدته على الخروج من مأزقه، بالرغم من أنها ليست مستعدة أيضا للتعاون الايجابي معه. كما لم يعد خافيا على أحد أن إسرائيل التي تمتعت بجبهة شمالية هادئة طوال أكثر من ثلاثين عاما، بالرغم من احتلالها للجولان وتوسيعها رقعة الاستيطان الاستعماري فيه، لا مصلحة لها بارتكاب مخاطر تغيير النظام القائم على حدودها الشمالية وفتح ثغرات في منظوماتها الدفاعية الراهنة هي في غنى عنها.
وهذا يؤكد أن كل نظام من النظم القائمة في المشرق العربي يشكل ركنا من أركان نظام أمني وجيوسياسي واحد، هو نظام الشرق الأوسط لما بعد الناصرية، وهو النظام الذي قام على أنقاض النظام القومي العربي الذي ارتبط بالمد القومي الشعبي في الستينات، وهدف، منذ ذلك الوقت، إلى قطع الطريق على نشوء أي حركة عربية شعبية معادية للغرب، أو مهددة لمصالحه الاستراتيجية والحيوية: في تعزيز الاستيطان اليهودي في فلسطين وضمان تدفق النفط والحفاظ على التبعية الاستراتيجية للمنطقة بأكملها للدول الصناعية الغربية. وهذا هو الأصل في تطابق السياسات الإقليمية تجاه الشعوب واتفاقها على استبعادها من أي حياة سياسية وتهميش المجتمعات ومصادرة حقوق الأفراد وحرياتهم مما أصبح سمة مميزة لمنطقتنا. وما كان من الممكن لهذا النظام الشرق أوسطي أن يستمر من دون التفاهم الضمني، لكن المحترم بدقة من الجانبين، بين الأوليغارشيات العربية الحاكمة، التي لم يعد هناك ما يمنعها من تحويل البلاد إلى ممالك خاصة، والدول الصناعية الكبرى. وهذا ما يفسر أيضا طبيعة الأهداف التي وضعت لهذا النظام، والذي تعاونت جميع الأطراف المعنية على تحقيقها، من ضمان الاستقرار الإقليمي وعدم التشويش على إسرائيل وتأمين التدفق الطبيعي للنفط وقطع الطريق على أي احتمال في عودة الحركات الشعبية التي انتشرت في الخميسنيات والستينيات وهددت المصالح الغربية والاسرائيلية، بصرف النظر عن عقيدة هذه الحركات ومرجعياتها القومية أو الدينية. وقد كان تحقيق هذه الأهداف الدافع الوحيد للتساهل مع النظم التعسفية العربية والحفاظ عليها خلال العقود الأربعة الماضية. فجيمع هذه الأوليغارشيات شركاء مع الدول الأطلسية الغربية في سياسة واحدة.
لكن القول إن النظام السوري لم يفقد كليا هامش المناورة لا يعني أنه سيجد طريق الخلاص. فهو في طريق مسدود تماما، وإذا نجح في كسب بعض الوقت، فإنه لن ينجح في ايجاد أي حل للمشاكل المعقدة التي وضع فيها البلاد، والتي دخل هو نفسه فيها. ولن يفيده الوقت المكتسب بالمناورة الداخلية والخارجية في التغلب على الصعوبات التي يواجهها، ولكنه سيدفع به أكثر فأكثر إلى الغرق فيها، بقدر ما سيفاقم ضياع الوقت، وما يعنيه من التنامي المستمر في الفساد والتدهور السريع في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، في ظل العجز الواضح عن الاصلاح، من أزمة المجتمع والدولة ويعمق تفسخ النظام.

*معارضة الداخل ترفض التعامل مع الخارج . ما يخطر في البال : أليس ثمة تقاطع بين مصالح الداخل والخارج , كي لايرفض الداخل كل عروض الخارج؟

غليون:
الهدف من هذا التناقض المصطنع بين الداخل والخارج بناء قطيعة نفسية وسياسية كلية بين الشعوب العربية والمجتمعات الأخرى المتقدمة التي تزخر بموارد تضامن كبيرة معنوية ومادية. وترمي الأوساط العربية الحاكمة التي روجت لهذا التناقض إلى تعبئة مشاعر الخوف من الأجنبي والانطواء على النفس والتشكيك بكل ما يأتي من الخارج، واتهام من يختلط بأهله أو يتعامل معهم باللاوطنية حتى يمكن عزل المعارضات الديمقراطية والاستفراد بالشعب وتخليد السيطرة الأحادية عليه.
وفساد هذه الإشكالية ينبع من أنها تضع الخارج كله في سلة واحدة. التيارات الديمقراطية تميز بالمقابل، ومن واجبها أن تميز، بين خارج وخارج. فالخارج لا يعني بالضرورة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أو حكومات الدول الصناعية الغربية. ففي الحكومات ينبغي التمييز بين الحكومات والدول التي تحمل في سياساتها مشاريع استعمارية أو هيمنية وتلك التي لا تحملها وتتعامل مع الشعوب والمجتمعات الأخرى على قاعدة الندية والاحترام المتبادل للسيادة والمصالح المشتركة. وإذا كان من الضروري أن ترفض المعارضة الديمقراطية، في الداخل والخارج على حد سواء، سياسات الحكومات الأولى، وأن تتصدى لمشاريع هيمنتها الإقليمية والدولية معا، فهي مدعوة بالعكس إلى أن تعمق تفاهمها وتوسع دائرة تعاونها مع جميع القوى العالمية التي تدافع عن القيم الانسانية وتؤمن بأهمية بناء عالم جديد قائم على الندية والمساواة بين الشعوب واحترام الآخر.
ثم إن الخارج أو العالم لا يقتصر على الحكومات مهما كانت سياساتها ولكنه يضم أيضا الرأي العام والهيئات والمنظمات الدولية والجمعيات المدنية المدافعة عن حقوق الانسان وحريات المواطن، والتي يشكل وجودها تجسيدا لقيم التضامن الانساني النبيلة. وللعرب دور في إنشائها، ولهم حق في الحصول على دعمها. فمن يرفض مبدأ التضامن الذي تحمله هيئات إنسانية عالمية في مساعدتها للشعوب العربية يعني أنه يرفض مبدأ تضامن الشعوب العربية أيضا مع الشعوب المنكوبة، وبالتالي يدعو إلى خروج مجتمعاتنا عن مباديء الحق والعدل والانسانية.
باختصار، لا يمكن تغييب العالم كله وراء كلمة الخارج، ولا جعله مساويا ومكافئا لحكومة دولة واحدة أو مجموعة دول قليلة، مهما كانت درجة عدوانيته. وحتى في ما يتعلق بالحكومات غير الصديقة، نحن لا نعاديها من حيث هي ممثلة لمجتمع ودولة وإنما نعادي سياساتها وخياراتها الخاطئة، سواء ما تعلق منها ببلداننا أو بالبلدان الاخرى. فليس هناك أي سبب كي نفرض على أنفسنا العزلة والموت والاختناق مع جلادينا فقط لأنهم ينتمون إلى قوميتنا، ولا أن نغذي عند شعوبنا مشاعر اليأس والبؤس والعداء للعالم، اللهم إلا إذا لم يكن لدينا هدف آخر سوى الحفاظ بأي ثمن على سيطرة نظم سياسية أصبحت من مخلفات القرون الوسطى، لا تكتفي بتقييد الحريات فحسب ولكنها ترفض حتى الاعتراف بوجود شعوبها السياسي وتعاملها كما لو كانت أسرى حروب أبدية.
لا يمكن أن يكون هذا موقف القوى الديمقراطية. وهو ليس في مصلحة الشعب الذي ندافع عن قضاياه. إنه موقف النظم الأوليغارشية التي تهدف، من وراء عزل شعوبها وحرمانها من تضامن الرأي العام العالمي، إلى إخضاعها وإدامة سيطرتها عليها، وتحويل البلاد من أوطان إلى مزارع خصوصية، وتحويل الشعوب التي تعيش فيها إلى عبيد لا غاية لهم سوى تمجيد أصنامها البشرية.

لا يمكن للمعارضة إذن أن تضع نفسها في مثل هذا المأزق الذي وصفت، وأن تعتبر كل ما هو أجنبي استعماري وعدواني. وأعتقد أن لديها الحد الأدنى من الفهم والخبرة والذكاء حتى تميز بين ما هو في صالح وطنها وما هو ضد مصالحه، وأن تدرك أن من له مصلحة في جعل الخارج كتلة واحدة صماء معادية لسورية وشعبها، من دون تمييز، أو لا يمكن إلا أن تكون كذلك، هو من لا يريد للشعب السوري الحرية ولا التقدم ولا السيادة ولا الاستقلال، وإنما يسعى إلى تكريس التفاهم التاريخي بين الأوليغارشيات المحلية والخارج الاستعماري على حد سواء.
ولا أعتقد أن هناك شيئا تغير أو ينبغي أن يتغير في مواقفنا الوطنية التاريخية. فمثلما كنا دائما ضد الاستعمار والعدوان والهيمنة الأجنبية والظلم، سواء أجاء من طرف حكومات رسمية أو منظمات أهلية، ينبغي علينا أن نستمر في وقوفنا ضد سياسات القهر والظلم والعدوان، في الخارج والداخل، وضد جميع القوى التي تمارس هذه السياسات. وكما كنا نناشد القوى المحبة للعدل والسلام والحرية والاستقلال، في كل بقاع العالم، التضامن معنا والوقوف إلى جانب قضايانا العادلة، في فلسطين والعراق وغيرهما، فعلينا أن نعمل اليوم أيضا على توسيع دائرة التعاطف الدولي مع هذه القضايا الوطنية والديمقراطية نفسها. ولأننا لا ينبغي ولا يمكن أن نراهن في نزوعنا نحو الحرية على القوى الخارجية التي ساهمت، بسياساتها الخاطئة أو عن عمد، في جعلنا نرسف في أغلال الاستبداد خلال عقود طويلة، فنحن مدعوون إلى التحالف مع القوى الديمقراطية التي تتضامن معنا، وتقف إلى جانبنا في معاركنا ضد الاستعمار والعدوان والعنصرية والظلم. ولا يمكن أن نرفض تضامنهم معنا لأنهم من الأجانب. ولن نغذي الكره لهم ونشكك بنواياهم فقط لأنهم ليسوا من العرب أو لم يولدوا تحت سماء بلادنا.
بالعكس، تستدعي الأخلاق أن نشكر الغريب أكثر على مواقفه الانسانية وتضامنه معنا لأنه بالضبط ليس من أبناء جلتنا. وبالمقابل، ينبغي ألا نتساهل مع أبناء قومنا الذين تعمدوا الإساءة إلينا وضحوا بالمصالح الوطنية لحساب مصالحهم الخاصة، واستخدموا ولا يزالون يستخدمون مواقع المسؤولية التي تقلدوها لتجريدنا من حقوقنا، ولإخراجنا، ونحن داخل بلداننا، من جلنا ومجتمعنا وقومنا، ولتحويلنا إلى غرباء وأجانب في أوطاننا. فنحن لم نكافح ضد الاستعمار والاحتلال ونظم الوصاية والحماية والتبعية والاستغلال من أجل أن نستبدل نخبة استعمارية بيضاء بنخبة استعمارية لها لون بشرتنا ذاتها، مع الاحتفاظ بنظام الاحتلال والوصاية والحماية والتبعية والإذلال ذاته من دون تغيير. لقد ناضل أباءنا، بناة الاستقلال دفاعا، عن قيم الحرية والحق والقانون والعدالة والمساواة الانسانية. وكل من يقف في وجه هذه القيم أو يمنع تحقيقها هو عدو لنا، بصرف النظر عن نسبه وحسبه ولون بشرته أو مسقط رأسه.
لقد حان الوقت كي ندرك إن معركة الحرية لا تتجزأ، وهي معركة عالمية، ولا يمكن ربحها إلا بالتضامن بين جميع دعاة الحرية.

* ماهي الاحتمالات التي يمكن أن يلجأ إليها الأمريكيون والأوربيون إزاء تعاملهم مع النظام السوري؟

غليون:
لماذا تريدني أن أفكر محل الامريكيين وأنشغل بهمومهم. لديهم بالتأكيد خيارات عديدة وهم لا يتركون واحدا منها. ما يهمنا أنا وأنت، أي المواطنين جميعا، أو ما ينبغي أن يشغلنا، هو توسيع خيارات السوريين وقدراتهم على التعامل الفعال مع هذا الوضع الذي ينكر عليهم الوجود السياسي، أكثر من أي شعب يخضع للاحتلال، ويحرمهم حتى من حقهم في التعبير ويصادر حرياتهم وإرادتهم الوطنية ويفرض عليهم وصاية أبوية مطلقة من دون حدود ولا ضوابط أخلاقية أو سياسية.
لا تستفيد المعارضة السورية من المراهنة على القوى الاستعمارية التي كانت ولا تزال الحليف الحقيقي للنظم التعسفية في المنطقة، بالرغم من المنازعات المتفجرة بينها اليوم بسبب الخلاف في السياسات الإقليمية. وليس هناك ما يمنعها من الاتفاق من جديد والتفاهم على حساب الشعوب، كما حصل خلال الحقبة السابقة. فلا تسعى الولايات المتحدة إلى تطويع النظم وتحويلها إلى أداة في يدها إلا لإدراكها بأن افتقارها للشرعية وابتعادها عن القاعدة الشعبية لا يترك لها خيارا آخر، إذا أرادت البقاء والاستمرار، سوى الرهان على الغطاءات الخارجية، العربية والدولية.
لذلك لن تجد عربيا واحدا يأسف لانهيار السياسات المغامرة والاستعمارية التي دفعت بالمنطقة منذ عقود، وبشكل أكبر اليوم، نحو الأزمة الطاحنة التي تعيشها. لا ينبغي أن يفهم من ذلك كما ذكرت عداءا أعمى للدول الغربية وإنما رفضا للسياسات الخاطئة والضارة بمصالحنا الوطنية من أي طرف جاءت، وعلى قدر هذه الإساءة والضرر، حتى لو جاءت من طرف قوى سورية داخلية. ونحن نعتقد أن السياسات الغربية لا تزال خاطئة بالمطلق تجاه المنطقة، حتى لو أن بعضها بدأ يتلمس خطورة التحالف اللامشروع مع النظم التعسفية وممارسة سياسة إطلاق اليد في شعوبها تفعل فيها ما تشاء.
بالمقابل على المعارضة أن تراهن على الرأي العام السوري وتعمل في سبيل توعية هذا الرأي العام وتنظيمه حتى يتمكن من استعادة حرياته وحقوقه ويبني قواه الخاصة التي تسمح له بالدفاع عن هذه الحقوق والحريات. وهذا ما كنا نفعله منذ عقود عندما كنا نطالب الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن تكف عن دعم نظام العنف والعسف وتحترم المباديء التي تعلنها هي نفسها حول احترام حقوق الانسان. والحال أنها هي التي دعمت هذه النظم التعسفية العربية وهي التي غطت ولا تزال تغطي على انتهاكاتها الصارخة لحقوق الانسان، باسم الاستقرار أو التحالف ضد القوى الوطنية العربية، ومكافأة لها على غض النظر عن مشاريع الاستيطان اليهودية والقبول العملي بها. وهذا هو الذي غذى العداء للغرب أيضا في وسط الجمهور العربي ودفع إلى مزيد من التقارب بين النظم التعسفية والاستراتيجيات الغربية.

* كيف يقرأ الدكتور غليون هذا الانتقال التدريجي في سوريا والمتمثل من دولة "الصمود والتصدي" إلى دولة "المواجهة" ثم دولة "الممانعة" وأخيراً دولة "الله حاميها"؟

غليون
قام النظام السياسي الراهن في ظروف انهيار حقيقي في المجتمع السياسي السوري، نخبا ومؤسسات، على أثر الانقسام العميق الذي أحدثته فيه النزاعات التي أعقبت اندلاع الثورة المصرية الوطنية والتأثير الطاغي للزعامة الكارزمية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وفي ما يشبه الغفلة من الزمن، نجح فريق صغير، وقليل الخبرة في تسيير شؤون الدولة والسياسة، في وضع يده على البلاد باستخدام الوسائل العسكرية. وحتى تحافظ النخبة الجديدة على تفوقها السياسي تجاه النخب الاخرى لم يكن امامها طريق آخر سوى تأبيد الظرف الاستثنائي، أي إلغاء الحياة السياسية من الجذور وفرض الأمر الواقع بالقوة. وهذا ما استدعى الإكثار من أجهزة الامن وتعميم نشاطها على كل ميادين الحياة الاجتماعية وحماية أعضائها من أي ملاحقات قانونية، مهما كانت نوعية الجرائم والخروقات التي ترتكبها. بذلك لم يعد هناك خيار آخر سوى التمديد التلقائي والدائم للوضع الاستثنائي القائم. وهو ما لا يزال قائما حتى اليوم.
لكن في غياب أي حياة سياسية، وبالتالي أي نقاش حول السياسات الداخلية الوطنية، السورية، لم يكن امام النظام من وسيلة لإضفاء الشرعية على الوضع اللاشرعي الذي أقامه سوى التمسك بخطاب القومية العربية الشعبي، بعد تفريغه بالكامل من محتواه. فإذا حذفنا من الخطاب القومي العربي الوحدة والحرية والاشتراكية، التي سارت ممارسة النخبة الجديدة الحاكمة بعكس ما تقتضيه تماما، لن يبقى شيء يسمح بالتقرب من القومية العربية سوى شعار الصمود والتصدي للهجمة الأجنبية. وهي في منظور الحكم القائم هجمة مستمرة ودائمة، لا تتغير ولا تتبدل ولا تتراجع أبدا، بالرغم من المقاومة والصمود والتصدي البطولي لجيش البعث وميليشياته الكثيرة. وهي كتنين الأسطورة، متعددة الرؤوس والاذرع والأشكال. فهي صهيونية أحيانا وأمبريالية أحيانا أخرى وحضارية غربية في مرحلة لاحقة، لكنها ذات هدف واحد لا يتبدل : القضاء على النظام في مرحلة أولى لسياسته التقدمية، والآن لسياساته القومية.
لا يهدف برنامج القومية الصمودية هذا إلى قطع الطريق على مناقشة أي برنامج وطني يتعلق بمشاكل المجتمع وأهدافه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ومعرفة ما تحقق منه فحسب، ولكنه، بتركيزه على الصمود والتصدي، يلغي أيضا أي إمكانية لمناقشة ما تحقق من البرنامج القومي العربي نفسه. وبقدر ما يطمس خطاب القومية الشعاراتية قضية المسؤولية السياسية، ويبرر ترك الامور سائبة على هوى المسؤولين ومصالحهم الشخصية في الشؤون الداخلية، فهو يسعى من خلال التعبئة النفسية القوموية إلى صرف النظر عن واقع أن الأراضي العربية المحتلة لا تزال تخضع للاحتلال والاستيطان، وأن موقفنا القومي لا يكف عن التقهقر، وأن مواقعنا تتساقط واحدها بعد الآخر، في فلسطين والعراق وموريتانيا والسودان والخليج وجميع المناطق العربية. لكن ذلك كله لا يهم، ليس المهم ما حققناه وما سوف نحققه أو ينبغي أن نحققه من أهداف قومية، ولكن ما لم ينجح الاستعمار بعد في انتزاعه منا: أعني الاعتراف بفشل سياساتنا ولا عقلانيتها. وهكذا يتحول صمودنا إلى عزاء لنا عن خسارة أهدافنا. ويصبح هو نفسه، من حيث هو عزاء، مصدر شرعية نظم الحكم واستمرارها، كنظم مفروضة، غير خاضعة لأي نوع من المحاسبة والمساءلة السياسية والقانونية والأخلاقية، أي من دون شروط، ومع كامل الحق في وضع اليد، بالمعنى القانوني للكملة، على جميع الموارد الوطنية.
أما شعار الصمود الجديد الذي يقول "سورية الله حاميها" فهو يحاول أن يغطي على واقع أن أحدا لم يعد يعتقد أن النظام ، على ما هو عليه من ترهل عسكري واستنزاف سياسي، قادر بالفعل على رفع شعار الصمود والتصدي. وهو يعكس إذن نوعا من التصدي في درجة الصفر، يعتذر فيه الحاكم سلفا عن عجز النظام عن حماية البلاد بالوسائل المادية المعروفة، ويعترف بأنه لا يملك وسيلة أخرى للاستمرار في المواجهة سوى التسليم للقدر الإلهي. المهم أنه لن يتخلى مهما حصل، حتى لو عنت المواجهة التضحية بأعظم المصالح الوطنية، عن شعار الصمود والممانعة هذا، الذي هو المبرر الوحيد لحرمان شعب بأكمله من حقوقه في المشاركة في تقرير مصيره، بل في مساءلة حكامه عن نتائج سياساتهم المستمرة منذ أربعة عقود من دون نتائج، إن لم نقل بنتائج كارثية. باختصار الصمود في الخارج كمبرر للصمود في الداخل، أي عدم القبول بأي تعديل للممارسة الواحدية للسلطة والقرار الوطني، هو البرنامج الحقيقي والوحيد للنظام، وهو ما يوفر عليه المساءلة في أي برنامج وطني أو قومي يتطلب تقديم نتائج عملية واضحة في ميادين الأمن والاستراتيجية الوطنية وفي الاقتصاد والسياسة والمجتمع والتقنية وغيرها من ميادين الإنجاز التي يتوقف على النجاح فيها استمرار أي نظام.

* سبق وان طالبت بـ (إعادة تأهيل الأنظمة العربية من قبل القوى الغربية) , يرى البعض أنك في مطلبك هذا تعترف بشرعية الأنظمة القائمة وتأمل إصلاحها عن طريق خارج ما . ألا يوجد خيار ثالث؟

غليون:
ما كتبته ليس هذا ولكن، بالعكس، أن الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة لا تريد تغيير النظام وإنما تبحث عن تطويعه وتأهيله، مع بقية الأنظمة العربية، حتى ينسجم في أدائه مع أهدافها الاستراتيجية الجديدة المتركزة على امتصاص احتقان الرأي العام العربي، ومكافحة الإرهاب، وإعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية بحيث تضمن العودة إلى الاستقرار، وتأمين مصالحها الحيوية في استمرار تدفق النفط من دون تهديد، والتوطين النهائي لاسرائيل الموسعة والاستيطانية، وإغلاق منطقة الشرق الأوسط امام المنافسين الآخرين من الدول الكبرى الصاعدة. ومشروع التطويع هذا يعني بالفعل أن الولايات المتحدة واوروبة، أي الكتلة الأطلسية، تعترفان بشرعية الانظمة أو على الأقل بفائدة الاحتفاظ بها طالما ليس هناك بديل أفضل منها يلبي مصالح الدول الصناعية. أما الخيار الثالث فقد كنت من أوائل من طرحه وتحدث عنه عندما كتبت، قبل احتلال العراق عن استحالة الاختيار بين الاستبداد والاستعمار، وضرورة العمل على بلورة طريق آخر يرفضهما معا. ولا يزال موقفي هذا لم يتغير وهو يصادف انتشارا وقبولا أكثر فأكثر.

* من أهداف المعارضة في الداخل تغيير النظام سلمياً . هل لدى المعارضة السورية , وبوضعها الراهن الإمكانات اللازمة كي تحل مكان النظام؟
غليون
ليس المطلوب أن تحل المعارضة، حتى لو كانت أكثر قوة وأعظم شأنا، مكان النظام. الذي سيحل مكانه هو الشعب نفسه. التغيير يعني في نظري إعادة السيادة إلى الشعب الذي انتزعت منه بالقوة وبتخليد السيطرة بالقوة العسكرية والأمنية. ولذلك ليس مهما أن تكون المعارضة الحالية ضعيفة، وسيكون من اللامنطقي أن تكون قوية في ظل نظام يحرم الشعب حتى من حق التعبير البسيط، ويحاصر عناصر المعارضة حتى في منازلهم الخاصة، وينغص عليهم حياتهم ويهدد كل من يخرج عن الخط بترسانة كاملة من العقوبات والإجراءات الاحترازية، بما في ذلك منعهم من التواصل في ما بينهم وحرمانهم من حق التنقل بحرية.
المعارضة القائمة اليوم لن تحكم ولا تريد أن تحكم. الشعب هو الذي سيختار ممثليه في انتخابات ديمقراطية نزيهة تحت إشراف لجنة وطنية نزيهة وبمشاركة منظمات مراقبة دولية. ومن دون ذلك لن يكون هناك تغيير. ذلك أن التغيير المقصود بالنظام هو تغيير قواعد تنصيب أصحاب المسؤولية السياسية والحاكمين لا تغيير أشخاصهم أو تبديل بعضهم ببعض، كما يفعل النظام الحالي عندما يعيد تشكيل الحكومات المتعاقبة. ولا يضير المعارضة أن لا يعني التغيير وصولها إلى الحكم إذا كان هدف إعادة السلطة إلى الشعب وتمكينه من اختيار ممثليه بحرية قد تحقق، حتى لو جاء ذلك على أيدي الحاكمين الحاليين أنفسهم أو بعضهم. لكن هذا للأسف مستبعد.
لكن، بالتأكيد إذا نجحت أحزاب ومنظمات المعارضة في نيل ثقة الشعب وحققت نتائج حاسمة في الانتخابات ستصبح في ذلك الوقت ممثلة للشعب وتحكم باسمه وتحت إشرافه.
الذين ينكرون على المعارضة حقها في العمل من أجل التغيير، بالرغم من ضعفها والحصار المضروب عليها والظروف المأساوية لعملها، يبررون التسليم والاستسلام لقانون القوة. وهم بالضرورة لا يرون المسألة من الزاوية التي تراها فيها المعارضة، أي كواجب للعمل على تغيير ميزان القوة لفتح آفاق التعددية والمشاركة الوطنية الجماعية، وإنما من زاوية ما فرضه النظام من نموذج للحكم قائم على احتكار القوة والسيطرة الأحادية، من دون أي اعتبار لإرادة الشعب ورأيه. من هذا المنظور الرسمي يصبح من الخطل بالفعل التفكير بأن معارضة صغيرة ومحاصرة ومحرومة من أي موارد مادية أو إعلامية يمكن أن تحل محل نظام مدجج بالأسلحة من رأسه حتى أخمص قدميه، يحتكر جميع موارد البلاد العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية والمدنية والثقافية.
لكن الاحتكار الواسع للموارد الذي يشكل مركز قوة النظام يبدو من منظور المعارضة، وهذا ما يدركه النظام اليوم نفسه، أكبر تعبير عن ضعفه السياسي العظيم. تماما كما أن ضعف المعارضة المادي لا يخفي منابع قوتها السياسية العميقة. فبقدر ما يبين رهان النظام الهائل على وسائل القهر والقمع والحصار افتقاره لتأييد الشعب وشكه في وجود مثل هذا التأييد، تبرهن ملاحقاته المستمرة لأعضاء المعارضة ومنعهم من الحديث مع الرأي العام وحرمانهم من أي وسيلة للتواصل والحركة أنهم يحظون بتأييد الشعب ورعايته، وهم بالتالي ممثلوه الحقيقيون.
باختصار، لا ينبغي على المعارضة أن تطمح إلى أن تحل محل النظام بالمعنى نفسه. فنحن لا نريد أن نستبدل نظاما شموليا بنظام شمولي آخر. إنما المطلوب منها أن تسعى، عن طريق عملها المتعدد الأشكال والتراكمي، إلى بعث الحياة السياسية السورية وإدخال أوسع القوى وقطاعات الرأي العام إلى ساحة العمل الوطني. وهؤلاء جميعا، أي الشعب بكامل قواه وتنظيماته وتياراته الفكرية والسياسية، هم الذين سيحلون محل النظام. ولا ينجح النظام في الاستمرار إلا بقدر ما يغيب هؤلاء.

أخيراً كيف تقرأ انشقاق عبد الحليم خدام , والى أي حد يمكن أن يضعف انشقاقه النظام فعلاً لا قولاً؟

غليون
كان الشعب السوري يتمنى أن يقوم الدكتور بشار الأسد هو نفسه بهذا الانشقاق عن النظام منذ خمس سنوات. بل لقد كان يراهن عليه للخروج بالبلاد من حالة القلق والتخبط والشك والفوضى التي أوصلتها إليها بيرقراطية خرقاء تجمع الجهل بتقاليد الإدارة وأساليب الحكم إلى شره السلطة والمال إلى انعدام الحس بالمسؤولية، الأخلاقية والسياسية، وتحكم منذ ما يقارب نصف قرن من دون حسيب ولا رقيب. وأنا متأكد أنه لو خطا هذه الخطوة وتخلى عن النظام المهتريء الذي خلفه له مرض والده في السنوات السابقة على وصوله إلى السلطة، لنال تأييد الشعب الكامل ولأصبح أكثر رئيس جمهورية شعبية وشهرة في تاريخ سورية الحديثة منذ تكوينها، لأنه كان سيوفر على بلده مخاطر وتحديات هي بغنى عنها، ويساعدها على الدخول بثقة وقدم قوية وثابتة في حياة عصرها، بعد تأخر مديد. لكنه أحيط منذ توليه الحكم، إن لم يكن قبله، بحاشية عائلية نهمة، وبموظفين صغار تنقصهم الرؤية والبصيرة والشجاعة، وبدعاة جعلوا من التمسح بالشعارات، والتغني بكل ما يصدر عن أصحاب السلطة والجاه، ورفعه إلى مستوى الكلام المنزل، وسيلتهم المثلى لنيل الحظوة والمحافظة على المصالح والامتيازات والمواقع الاستثنائية.
لقد حرم هؤلاء جميعا الشعب السوري من فرصة تاريخية للتغيير السلمي كما حرموا الرئيس الشاب أيضا من أن يصبح رمز المصالحة الوطنية وعودة حكم القانون إلى البلاد التي عانت طويلا من التعسف والظلم. وكانت وسيلتهم إلى ذلك المديح والإطراء والتكبير والتعظيم. ومما لا شك فيه أن تقديس الزعيم هو أقصر طريق لعزله عن شعبه ورفعه إلى مقام يصبح من المتعذر عليه التواصل مع أقرانه ومواطنيه أو الشعور بمشاعرهم أو القبول بأي فكر نقدي أو مخالف لما جرى عليه الأمر من تقاليد وبرتوكولات.
والواقع أن هذا العزل عن طريق الارتفاع فوق النقاش والنقد، والترفع على المجتمع بكافة فئاته وأفراده، من خبراء ومثقفين وسياسيين وإداريين، وتصوير أي تغيير، مهما كان بسيطا، على أنه حامل لمخاطر مصيرية على النظام، هما الطريق السهلة التي تستخدمها البيرقراطية الحاكمة حتى تحول القيادة السياسية إلى رهينة في يدها، وتحرف نظرها عن سيطرتها الشاملة على مقدرات البلاد، وتحافظ بالتالي على النظام الإقطاعي أو شبه الإقطاعي الذي يطلق يد كل صاحب منصب في موارد المؤسسة التي تخضع لأمره وطاعته. فالنظام هو قبل أي شيء آخر نظامها، وليس من الممكن أن تسمح بتغييره أو تعديله أو التخلي عنه.

في هذا السياق، لا شك أن انشقاق عبد الحليم خدام، نائب رئيس الجمهورية السابق والعضو في القيادتين القطرية والقومية للحزب منذ قيام النظام في السبعينات، شكل صدمة كبيرة لهذه الطبقة البيرقراطية التي اعتادت التضامن المطلق، والتستر المتبادل على تجاوزاتها ومباذلها، وإبراز التفاهم الكامل أمام الرأي العام السوري.
ولا شك أن تقلص حجم الموارد الموزعة أو القابلة للتوزيع، وزيادة الضغط الشعبي ضد الفساد، وتدهور الوضع السياسي والاستراتيجي للنظام، يفاقم من الانقسامات داخل صفوف هذه الطبقة، ويبشر بازدياد احتمالات انسحاب عناصر متزايدة وتخليها عن دعم النظام أو عن التماهي معه. ومهما كان الحال، تشكل الانشقاقات خطوة مهمة في إطار العمل على التفكيك السلمي للنظام، وتقليل تكاليف الانتقال نحو نظام التعددية والحكومة التمثيلية. ولا أستبعد أن يتحول انشقاق خدام إلى ظاهرة حتى لو لم يتم بالطريقة نفسها وبصورة علنية. فبالرغم من الهدوء النسبي المخيم مؤقتا، يدرك الكثيرون اليوم، وفي مقدمتهم الذين استفادوا من الوضع في العقود الماضية، أن الحفاظ على مصالحهم نفسها يتطلب كبح جماح السلطة المنفلتة من عقالها وإضفاء حد أدنى من العقلانية والمعايير السياسية على سلوك نظام يواجه تحديات مصيرية بأساليب أقل ما يقال فيها أنها مشكوك بفعاليتها ونجاعتها.
لكن، في نظري، لن يستطيع هؤلاء المنسحبون من النظام والمتخلون عنه أن يسترجعوا ثقة الرأي العام، وتعاونه من دون الاعتراف بمسؤولياتهم في التجاوزات التي حصلت، وتقديم تفسير لها واعتذار علني عنها. ولن يضعف هذا الاعتراف موقفهم ولكنه يشكل بالعكس برهانا لا بد منه على صدق تحولهم نحو الديمقراطية والتسليم للإرادة الشعبية بعد معاداتهما الطويلة، وربما مكن الكثيرين منهم من استعادة صدقيتهم أيضا.
إنما، ما هو أهم من ذلك، وما أدعو العقلاء في النظام إليه، هو أخذ مسألة الإصلاح بجدية، والدفع في اتجاه تكوين تيار معارضة إصلاحي داخل النظام نفسه، يستقطب البعثيين الشرفاء، الذين يعدون بعشرات الآلاف داخل الحزب والدولة، والذين أدركوا اليوم، مثلهم مثل بقية أبناء وطنهم، أن الاستمرار على طريق احتكار السلطة وتغييب الشعب وحكمه بالقوة وترويعه بإطلاق يد الأجهزة الأمنية، لن يفضي إلا إلى دمار البلاد. وأن المخرج الوحيد من الأزمة الوطنية المتفاقمة هو العمل مع أبناء وطنهم الآخرين المخلصين في سبيل الانتقال بسورية نحو مرحلة جديدة قائمة على مباديء احترام الفرد وحفظ كرامته وتطمينه على نفسه وأهله، والاحتكام للقانون، وتأكيد قاعدة تكافؤ الفرص والمساواة، ونبذ الطائفية المقيتة ومنطق الثأر، ورفض أي شكل من أشكال التمييز، دينيا كان أم سياسيا أم عقائديا أم أقواميا. وبتوحيد جهودهم حول برنامج وطني واضح للإصلاح، يمكن لهؤلاء أن يفتحوا الباب نحو حوار مثمر مع قوى المعارضة الديمقراطية في سبيل الوصول إلى تفاهم سياسي يجنب البلاد والشعب مخاطر التوترات والانقسامات الطائفية والأقوامية، التي تزيدها الأزمة المفتوحة اشتعالا، وتهدد بتحويلها بالفعل إلى نزاعات أهلية تتحكم بالحياة الوطنية ولا يمكن لأحد السيطرة عليها. وعلى هؤلاء المؤمنين فعلا بالاصلاح والتغيير داخل النظام، لكن المترددين أو اليائسين، تقع اليوم مسؤولية كبرى في تأكيد قدرة الشعب السوري على الارتفاع فوق خلافاته والنظر إلى الحاضر من وجهة نظر المستقبل لا بعيون الماضي.

mercredi, mars 22, 2006

بين العداء للخارج ورفض التدخلات الأجنبية

الاتحاد 22 مارس 06

في الصراع الدائر اليوم في معظم بلدان العالم العربي من أجل التغيير، برزت إشكالية العلاقة بين العوامل الداخلية والخارجية كما لم يحصل في أي تجربة تحول ديمقراطي من قبل. والسبب في بروز هذه الإشكالية هو الطبيعة الاستثنائية للتدخل الخارجي الذي تعرضت له بعض بلدان المنطقة، كما حصل في أفغانستان والعراق من جهة، والضعف الذي تعاني منه قوى التغيير الداخلي من جهة أخرى. فبقدر ما يشجع هذا الضعف على التطلع نحو مزيد من الدعم الخارجي لحركة الاصلاح يجعل النخب الحاكمة تدرك بشكل أكبر خطر الضغوط الخارجية، التي يدفعها الخوف من عواقب الانسدادات لطويلة الحاصلة، وما تخلفه من حصر وضغوط داخلية تهدد بالانفجار، إلى العمل لأول مرة لصالح التغيير، بعد أن عملت لعقود طويلة لصالح الاستقرار وتطمين النظم والقوى الحاكمة. وهكذا لم يكن من المستغرب ولا من غير المتوقع أن تعمد النخب العربية الرسمية إلى تركيز النقاش حول الاصلاح والتحول الديمقراطي حول مسألة الضغوط الخارجية، وأن تجعل من وقف هذه الضغوط ومن رفض قوى المعارضة التعامل معها قاعدة لاستراتيجية جديدة للحفاظ على الوضع القائم. فهي تأمل أن تضرب من خلال ذلك عصفوين بحجر واحدة: تحييد الضغوط الأجنبية عن طريق إثارة المشاعر الوطنية والقومية المعادية للتدخلات الأجنبية، وعزل قوى التغيير الداخلي عن حلفاء محتملين لها في مهمتها الصعبة من أجل تعديل موازين القوى والتأثير على مجريات الأحداث في ساحة عملها الوطنية. وبتحررها من الضغوط الخارجية والداخلية تستطيع السلطات القائمة أن تضبط مسيرة التغيير على رزنامتها الخاصة، أي بما يضمن لها إعادة تسويق نفسها في النظام العالمي الجديد والاندماج في السوق العالمية، من دون أن تضطر إلى تقديم تنازلات للمجتمعات. وهو ما يعني في الواقع ضمان قدرتها على الانتقال من نظام الاقتصاد المغلق إلى نظام السوق الجديدة، مع الاحتفاظ بالاحتكار الكامل لعوامل السلطة والثروة والمعرفة معا، وبالتالي لموقعها الاجتماعي المتميز والمتفوق، الذي حولها بالفعل إلى طبقة أرستقراطية.
ومن الواضح أن النخب الحاكمة قد نجحت إلى حد كبير، من خلال استغلال تمسك الرأي العام العربي الشديد بمباديء الاستقلال والسيادة ورفض الارتهان لمصالح أجنبية، في تحويل التدخلات والضغوط الخارجية إلى قميص عثمان، والاستفادة من التلويح به لتبرير الهرب من عملية التغيير والاصلاح. وهكذا جعلت منه أداة لابتزاز سياسي دائم يهدف إلى عزل قوى المعارضة الديمقراطية عن الخارج وحرمانها من إمكانات التضامن العالمية حتى يسهل عليها حصارها وانقيادها. واستخدمت المطابقة بين التدخلات الأجنبية وكل ما له علاقة بالخارج، وسيلة لإحداث قطيعة نفسية وسياسية كلية بين الشعوب العربية والمجتمعات الأخرى، ومنطلقا لتعبئة مشاعر عصبيوية بدائية ترفض أي تعاون خارجي، باسم خصوصية ثقافية تجمع بين التجريد المطلق والعبثية السياسية.
يشكل الخلط بين ما هو خارجي، مهما كان، وما هو أجنبي معاد وعدو، ووضعهما في سلة واحدة، خطأ فكريا وسياسيا كبيرا، على المدى المنظور والبعيد معا. فبتغذيته مشاعر الخوف واليأس والانطواء على النفس، وتشجيعه على التشكيك بكل ما يأتي من الخارج، واتهام من يختلط به أو يتعامل معه بالانتماء للأجنبي والانحراف عن الفكرة الوطنية، يهدد هذا الخلط قدرة المجتمعات العربية على التعامل مع العالم والنجاح في الدفاع عن مصالحها فيه. ولا يمكن لأي دولة ولا أي وطنية أن تعيش في هذا العالم مع الاحتفاظ بمثل هذا التعميم الفاسد ومن دون التميز بوضوح بين خارج وخارج. فإذا كان هذا الخارج مليء بالفعل بالقوى التي تتبع سياسات استعمارية، فهو غني أيضا بقطاعات واسعة من الرأي العام والهيئات والمنظمات الدولية التي تؤمن بقيم التضامن والحرية والعدالة والمساواة، وتدافع عن مباديء التعايش السلمي والتبادل المثري. وإلى جانب المنظمات والتحالفات العدوانية التي تطبق المعايير المزدوجة، هناك العديد من الهيئات والمنظمات المدنية التي تعنى بقضايا الشعوب الضعيفة والمضطهدة وتدافع عن حقوق الانسان وقيمها الأصيلة، التي يشكل ضربها أو التنكر لها خسارة إنسانية كبيرة. ولا نستطيع أن نطلب من العالم أن يقف إلى جانب قضايانا العادلة إذا كنا نرفض بالأصل هذه المباديء. وإذا لم يكن بوسعنا استيعاب مفهوم الحق في التضامن عندما يتعلق الأمر بدعم قضايانا فسيكون من الصعب علينا أن نمارس مثل هذا الحق إزاء الشعوب الأخرى المنكوبة التي تحتاج إلى مساعدتنا. وستكون النتيجة خروجنا نحن أنفسنا عن معايير الإنسانية التي نشكو من هدرها من قبل أعدائنا، وبالتالي خروج مجتمعاتنا عن مباديء الحق والعدل والانسانية.
وبالمثل، إذا لم يكن العالم أو الخارج مكونا من حكومات فحسب وإنما هو غني بالقوى والهيئات ذات الأهداف الإنسانية، فليس جميع الحكومات في العالم ذات نوايا عدوانية، لا تفكر إلا في حرمان الدول الضعيفة من السيادة ونزع الاستقلال عنها ونهب ثرواتها الباطنية. فإلى جانب الحكومات والدول التي تحمل في سياساتها مشاريع استعمارية أو هيمنية هناك حكومات ودول تسعى إلى تحقيق مصالح مشروعة وطبيعية وتنحو في تعاملها مع غيرها نحو الالتزام بقواعد قانونية تقوم على الاحترام المتبادل للسيادة والمصالح المشتركة. وإذا كان من الضروري أن نرفض التعامل مع الحكومات الأولى، ونتصدى بكل ما أوتينا من قوة لمشاريع هيمنتها الإقليمية والدولية معا، فمن واجبنا بالمقابل أن نعمق تفاهمنا ونوسع دائرة تعاوننا مع جميع القوى العالمية التي تدافع عن القيم الانسانية التي نشارك فيها، والتي تؤمن بأهمية بناء عالم جديد قائم على الندية والمساواة بين الشعوب واحترام الآخر. وليس علينا أي حرج في أن نستفيد من تضامن تلك القوى، على مختلف أشكاله، وأن نشكل معها أيضا منظمات ومؤسسات لفرض القيم المشتركة والدفاع عنها على الساحة الإقليمية والدولية. وربما وجدنا في الخارج، أي في العالم، شركاء من الأطراف والقوى التي تدافع معنا، ضد مشاريع الهيمنة الاستعمارية التي تتعرض لها بلادنا، أكثر بكثير مما نستطيع أن نراهن عليه من قوى داخل بلداننا العربية نفسها، بل داخل أقطارنا، التي أفقرت سياسات التخريب والتفتيت والعزل والإضطهاد التي تمارس عليها علاقاتها الانسانية وتكاد تودي بما تبقى لها من قيم المدنية الحقيقية.
لا ينبغي أن نسمح للصراعات السياسية الداخلية أن تقودنا إلى حالة من الاحباط القومي التاريخي يهدد حاضر مجتمعاتنا ومستقبلها. فمن دون نظرة ايجابية للعالم نفقد نحن العرب، ذاتنا، كل معاني الانسانية، ونخرج كليا من دائرة السياسة والحياة الدولية، ونحكم على أنفسنا بالعيش في عزلة كلية، وفي ضائقة سياسية وفي حالة كفاف أخلاقية. ونهدد بأن نتحول، ونحول المجتمعات الأخرى التي نتعامل معها، في ذهننا أولا، ثم في الواقع فيما بعد، إلى وحوش تبحث عن فريستها في عالم أصبح كالغابة، لا روابط إنسانية فيه ولا قيم ولا مباديء ولا غايات ولا قواعد تجمع بين أطرافه.

mercredi, mars 01, 2006

وفاء الجولان

الاتحاد1 مارس 2006

" كنا دوما حذرين في طرح مواقفنا وآرائنا تجاه ما يجري في الوطن، من تغييب للحريات والديمقراطية والفساد وتغييب المواطن والمواطنية. لكننا أدركنا، وتحديدا بعد أن استشهد أحد رفاقنا، هايل أبو زيد، بعد قضاء عشرين عاما في الأسر، أدركنا عمق الصلة والارتباط بين فقداننا لحريتنا داخل الأسر وفقدان المواطن لحريته في الشام وعالمنا العربي عموما. نحن نرى اليوم هذه الأوطان سجونا ليست أقل من سجننا، فإذا كان سجننا المادي، والاحتلال في الجولان قسم العزل في هذا السجن الكبير، فإن أوطاننا العربية هي سجون تقتل كل إمكانية تحررنا من هذا العزل عن الوطن الأم. لقد أدركنا بأن أكبر توازن استراتيجي يمكن أن نحققه كدول عربية هو منح المواطن حريته وحقه في ممارسة الديمقراطية".
لم تأت هذه العبارات من فم أي زعيم معارضة يطمح إلى استلام السلطة أو يدافع عن حقه في تحمل مسؤوليته تجاه وطنه، ولا من قلم أي مثقف حريص على فهم أسباب عجز البلاد العربية عن مواجهة الاحتلالات الأجنبية، وإنما على لسان أحد شباب المقاومة العربية في الجولان السوري المحتل الذي لم يتجاوز العشرين من عمره إلا قليلا، في رسالة مهربة من السجن بعثها لي أحد زملائه الذين عانوا مثله سنوات السجن الطويلة. الأسير وئام محمود عماشة الذي كتب هذه الرسالة يقبع في سجون الاحتلال الاسرائيلي منذ سنوات، يشكو فيها من العزلة التي يعيشها شعب الجولان عن وطنه الأم، وتلك التي يعاني منها الأسرى السوريون الذين قضى بعضهم أكثر من عشرين عاما في السجن، متروكين لمصيرهم، من دون أي اهتمام يذكر، لا من قبل سلطات بلادهم ولا حتى من قبل الرأي العام. أو هكذا هم يشعرون على أية حال. دخل وئام السجن لأول مرة في السادسة عشر من عمره، وقبل أن ينهي السنوات الخمس من محكوميته عام 1999، أدين بعشرين سنة جديدة العام الماضي.
بهذه العبارات حسم وئام، من دون أن يدري ربما، نقاشا نظريا لا يزال دائرا منذ سنوات عديدة في العالم العربي يجعل فيه البعض من الدفاع عن الأوطان واستقلالها ذريعة للتساهل في احترام حقوق الأفراد ومصالحهم، وتأبيد العمل بقوانين الاستثناء والاحكام العرفية، بينما يحول البعض الآخر الدفاع عن هذه الحريات والحقوق إلى غاية تتجاوز مسائل الاستقلال والسيادة لأنها تشكل مصدر شرعيتهما أصلا. فقد اكتشف، في مأساة الجولان المحتل منذ 39 عاما من دون أي أفق واضح للخلاص، مأساة الوطن الأم نفسه، ومن وراء ذلك الترابط الذي لا ينفصم بين الوطنية، بما تعنيه من حرص على الاستقلال والسيادة والدفاع عن الأرض، والوطنية من حيث هي احترام حقوق المواطنين والدفاع عن حرياتهم الفردية وحقهم في المشاركة الديمقراطية. ومن الملفت أن يكتب وئام أن إدراكه لهذه العلاقة قد حصل مباشرة، كما ذكر في رسالته، بعد وفاة الشهيد هايل أبو زيد، الذي كان رمزا للكفاح البطولي لنخبة شباب الجولان، والتعبير الأنقى عن روح التضحية ونكران الذات التي ميزتهم منذ بداية الاحتلال، وبشكل خاص بعد إعلان إسرائيل قرار ضمه إليها عام 1982.
كيف يمكن لإنسان أن لا يرى هذه العلاقة البديهية، التي اكتشفها وئام بالتجربة المرة، بين حرية الوطن والحريات السياسية، وأن لا يدرك أن النظم التي تستهين بحقوق مواطنيها وحرياتهم وكرامتهم ليس لديها أي حافز للدفاع عنهم، ولا أي مبرر كي تضحي من اجلهم أو تبذل جهودا لإخراجهم من سجونهم. وكيف لها أن تشعر بما يشعر به الأسير من مهانة ومذلة واحتقار وانتقاص من الكرامة والإنسانية فتسرع إلى فك أسره في الوقت الذي تعتقد أنها لا تستطيع أن تستمر ولا مستقبل ممكنا لها من دون تحويل سجونها العديدة إلى أداة تأديب يومي ومدرسة لتصنيع العبودية.
سقط الجولان في الأسر، بسبب الخطأ في الحسابات الاستراتيجية والسياسية والمزاودات التي قادت إليها المنافسة على الزعامة بين النخب العربية. لكن إذا كان سقوطه هذا قد نجم عن أخطاء فادحة في الاعداد والتخطيط والتدريب والتقدير والقيادة، فإن العجز عن تحريره، بالطرق العسكرية أو السياسية أو بكلاهما، خلال العقود الطويلة الماضية، كان ولا يزال ثمرة الابتعاد المتزايد عن الالتزامات والحسابات الوطنية، والاستسلام لهوى السلطة ومنافعها وأوهامها. واستمر تحت الاحتلال لأن الدفاع عن المصالح الخاصة وتوسيع دائرتها، على حساب المصالح العليا والجماعية، قد تحولا إلى محور السياسة "الوطنية"، أو بالأحرى لأنهما حلا محلها، وأرجآ مسألة استرجاع الجولان إلى احتمالات تحولات مستقبلية خارجة عن أي سيطرة وطنية. وأكثر فأكثر تغيب صورة الجولان عن الوعي الفردي والجمعي أمام ضغط المشاكل الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية اليومية، وتخبو مع انفراط عقد الوطنية الذي يواكب تغييب المجتمع وردعه عن الاهتمام بشؤونه العمومية. هكذا لم يسقط موضوع استرجاع الأراضي المحتلة من أجندة السلطة الرسمية وعقيدتها فحسب، ولكنه سقط أيضا من أجندة الرأي العام نفسه، بقدر ما أحيل هذا الرأي إلى آراء شخصية وأفرغ من محتواه العمومي لصالح استراتيجيات الحفاظ على البقاء الفردية والعائلية والعشائرية، المتباينة والمتناقضة والمتضاربة. فلم يعد التحرير اليوم بندا حقيقيا في جدول أعمال أي برنامج رسمي أو معارض، بل ولا حتى بندا في الأجندة السياسية. فالجولان قضية مؤجلة اليوم بالنسبة للجميع، بانتظار أن تحل المسائل الأخرى التي تحتل ساحة الوعي والصراع السياسي الداخلي والإقليمي. وهي تبدو مؤجلة أكثر اليوم بقدر ما يشعر النظام أنه دخل في معركة تقرير مصيره والحفاظ على بقائه، وبقدر ما تشعر المعارضة أيضا أن كسب الرأي العام لصالحها ضد النظام القائم يتوقف على حسم معركة التغيير السياسي وإقامة نظام ديمقراطي يمثل جميع الفئات والتيارات ويعيد بناء العقد الوطني المنحل.
هذا هو الوضع الذي أحبط أسرى الجولان كما أحبط شعبه الذي ينتظر منذ عقود عودته إلى وطنه الأم ومشاركته في الحياة الوطنية. وهذا هو الوضع الذي دفع بأسرى الجولان إلى الانتقال مع بقية أبناء وطنهم إلى موقف المعارضة، واعتبار الوصول إلى ضمان الحريات والحقوق الأساسية لكل فرد هو الطريق الحتمية نحو تحرير الجولان وضمان الحقوق الوطنية لسكانه. ومن دون ذلك، كما يعتقد أهل الجولان، لن تخرج قضية الجولان المحتل من حالة الإهمال والتجاهل ولن تعود لتشكل أولوية في قائمة جدول أعمال الحكومات المتعاقبة. وإذا كان أهل الجولان قد رموا بأنفسهم في المعركة من أجل الديمقراطية فلأنهم أدركوا، مثلهم مثل باقي مواطنيهم، أن مصير الجولان لن يحسم لصالح عودته إلى الوطن الأم ما لم يحسم النزاع السياسي والاجتماعي الداخلي، الذي ارتهنت له السياسة السورية منذ أحداث 1980 الكارثية، لصالح حكم ديمقراطي يمثل المجتمع السوري بأكمله ويلغي احتكار السلطة ويعيد تأسيس الوطنية السورية وأحياء روح المواطنية المتكافئة، على قواعد العدل والحرية والمساواة في الحقوق والواجبات والكرامة الإنسانية.