الاتحاد الاشتراكي المغربية 13 يونيو 06
الاستبداد العربي اليوم استبداد بأدوات الحداثة من جيش ودولة وأجهزة أمنية
برهان غليون ليس اسما مضافا، أو يمكن أن تبحث له عن تشابه سابق، إنه اسم أساسي في الحقل الفكري وفضاء البحث ، لا يتردد في أن يعبر عن قناعاته الجريئة، وفي الغالب تصبح بمثابة مرجع. حدث ذلك عند نشر كتاب بيان من أجل الديموقراطية، ثم تكرر مع اغتيال العقل، ومازال كل مؤلف له يخلق تاريخه الخاص وقارئه. برهان غليون الذي غادر الفضاء العربي السوري منذ ثلاثين سنة ليستقر بفرنسا، من أجل البحث والتفكير العلمييين ، يستحضر دوما مرجعيته السوسيولوجية وأفقه الانساني عندما يتحدث عن قضايا العرب والعصر.
في مكناس، حيث التقيناه عندما شارك في ندوة محمد الباهي حول الحداثة وانعتاق الإنسان حذر من الاستعمالات الايديولوجية للحداثة ، كما نبه الى ما هو ثابت في تبنيها وما هو متحول.
- منذ عقود صدر لكم بيان من أجل الديموقراطية، وكتاب اغتيال العقل، وكان وقتها مفهوم الديموقراطية هو المفهوم المركزي. اليوم تحتل الحداثة مركزية الحوار، هل نحن بصدد إبدالات معينة تخفي مفهوما لتبرز مفهوما أكبر؟
غليون:
اعتقد أن العمل الرئيسي الذي يتصدر مهامنا اليوم، على المستوى السياسي، هو توسيع جبهة التحالف من أجل إنجاح حكومات ديمقراطية، تستطيع ان تعيد تشكيل الوضع الاجتماعي والسياسي، بشكل يفتح الباب نحو إطلاق موجة الحداثة في العالم العربي. إدن، في نظري لم تتغير الاولويات. لكن هناك في المقابل، كما يبدو لي، نزوع عند بعض التيارات اليسارية للهرب من مواجهة المشاكل الحقيقية التي يعاني منها هذا اليسار كما تعاني منها الحركات الديمقراطية والحركات العلمانية، نحو الحداثة باعتبارها مفهوما اسطوريا. هذا ليس هروب نحو الحداثة، وإنما من مواجهة العقبات التي تواجه التحول العربي في اتجاه الديمقراطية وتحسين الاوضاع القائمة، أي من مواجهة أزمة الحداثة، نحو تحويل الحداثة إلى اسطورة جديدة، الى إيديولوجية تصادر على الواقع وتغطي العجز أكثر من ما تتيح رؤية المستقبل وآليات العمل للخروج من الازمة.
- ومع ذلك فالمجتمعات العربية تمر في مأزق كبير وفي ممر ضيق. وهناك في الوقت ذاته تقابل بين الديمقراطية والحداثة: الديمقراطية هي مطلب سياسي تدافع عنه اليوم النخبة، لكنه يتجاوز ها ..
غليون:
لا أعتقد أن الحداثة شيء نموذجي وإيجابي بالمطلق يمكن أن نضعه في مقابل التقاليد والتراث ونقول: هاهي ذي الجنة. ولا أعتقد أن هناك تطابقا باستمرار بين جميع المسارات المتعلقة بالحداثة، ولا بين انواع الحداثة المتواجدة بأنحاء العالم. كما أعتقد ان الحداثة يمكن ان تكون أيضا وحشية. النازية كانت أيضا حداثة ولم تأت من خارج الحداثة ولو أنها مثلت ثغرة من ثغراتها وهبوطا مدويا فيها. والاستبداد العربي اليوم لا يأتي من خارج الحداثة، هو استبداد حديث، ولا علاقة له باستبداد السلاطين والملوك القدماء. وهو لا يستقيم من دون ادوات الحداثة ومن دون الدولة البيروقراطية والجيش و اجهزة الامن. أي من دون نمط الدولة الحديثة. فالحداثة ليست بالضرورة كلها ايجابية. ولا يقتصر إنتاجها بالضرورة على الإيجابيات. نحن مثلا مجتمعات حديثة في العالم العربي. لكننا مجتمعات حديثة تعيش حداثتها في مأزق. فبدل ان تتقدم في الاتجاه الايجابي، تتقدم في الإتجاه السلبي. نستخدم من الحداثة السيء منها، لذلك يمكن القول أننا لم نعرف حقيقة طعم الحداثة بخيرها وشرها، عرفنا شرها أكثر من خيرها. والقصد أن الشر الذي تعيشه مجتمعاتنا اليوم لا ينبغي أن نرجعه للتراث لنبيض صفحة الحداثة وتجعل منها شيئا مثاليا. ما تعيشه مجتمعاتنا من عنف وتخبط واقتتال هو ثمرة حداثة مشوهة ومعدومة الاتساق، و ليس ثمرة التراث أو تقاليد الماضي. نحن عرفنا الحداثة في عدة صور كلها سلبية. هذا ما يستحق النقاش. عرفناها أولا في صورة الاستعمار. فقد دخلت الحداثة في البلدان العربية من الخارج وبشكل أساسي عن طريق الاستعمار ، هذا واقع لا يمكن ان نتجاهله. وهذا ما أعطى للحداثة سمة معينة. ثم عرفناها ثانيا من خلال الدولة البيروقراطية والنخب المنفصلة عن الجماهير والمتغربة. فجاءت في إطار العنف والإكراه والتسلط، وليس في سياق تحرر الفرد وانعتاقه. أنا لا أتحدث عن خطء تاريخي ولا أدين ما حصل، لكن لأصف التاريخ. هذا هو تاريخ الحداثة عندنا وسياقها الرئيسي. واليوم ترتبط الحداث بسياسات نخب استبدادية تخاف من الجمهور وتعمل كل ما بوسعها لتعزله وتخضعه. وهي تنادي بالمستنير العادل أو بالمستبد المستنير. وترتعب من أي انفتاح على الشعب، حتى لا تفقد سيادتها، ومواقعها التي تعتقد أنها مهددة من قبل جمهور جاهل، لم تبذل أي جهد لتحسين أوضاعه ومساعدته على الخروج من ظروفه المؤلمة.
هذا يعني أن المشكل الحقيقي لا يكمن في التراث، بصرف النظر عن قيمة تراثنا، وإنما في نمط الحداثة التي نعيشها في البلدان العربية أو الذي تطور فيها. هل نظل نستمر في وضع الحداثة في مقابل التراث لتبرير الأوضاع التي نعيش فيها، كما لو أن مجرد اختيار الحداثة وترك التراث سيحل هذه المشكلات، وبالتالي نستمر في إغماض أعيننا عن عيوب الحداثة وأعطابها، ونرمي المسؤولية في ما نحن فيه من مصائب على التراث، ونعطي للحداثة صورة وردية ترفعها عن أي نقد، أي في الواقع نلغي التفكير بواقع حداثتنا نفسها ونهرب من المشاكل التي تواجهها وتواجهنا، ام ننظر في الواقع كما هو ونسعى إلى فهمه وإيجاد الحلول له؟ أعتقد أن ما ينبغي أن نفكر فيه منذ الآن هو كيف نجعل من هذه الحداثة العوراء والمشوهة، التي هي شئنا أم أبينا اليوم حداثتنا، وثمرة تاريخ لم نختره ولا سيطرنا عليه، حداثة حقيقية، ايجابية، إنسانية، مثمرة، تعكس القيم الكبرى للحداثة، أعني قيم الحرية والعقل وأخلاق الذات أو الفرد الذي يتحول إلى ذات واعية وعاقلة ومسؤولة، أخلاق التسامح، اخلاق احترام الآخر، حتى وان كان هذا الآخر مختلفا عنا جذريا، على الاقل نحترم الانسان فيه، بصرف النظر عن افكاره. حتى الذين يتحدثون باسم الحداثة ليسوا بالضرورة حديثين في سلوكهم، متمثلين لقيم الحداثة. ويمكن للأشخاص الحديثين ان يمارسوا السياسات المغرقة في المحافظة والتقاليد. ونحن نشاهد مثل هذه الممارسة تجاه المرأة، تجاه المخالفين في الرأي، اتجاه الفقراء والفلاحين، تجاه المعارضة في العديد من البلاد العربية. وهناك أناس يحملون شهادات جامعية عالية ويعتقدون أنفسهم على غاية الحداثة، لكنهم يعاملون الشعب باحتقار, وينظرون إليه نظرتهم لعدو. باختصار، الحداثة ليست فكرة مثالية، وليست كل تماذجها متطابقة، ولا تنتج دائما أشياء ايجابية. ينبغي العمل على الحداثة، والاشتغال عليها حتى تصبح حداثة إنسانية. الاوربيون لم يصلوا الى ماهم عليه اليوم من أخلاقيات وتضامن وعدالة و مؤسسات عاملة ناجحة لأنهم آمنوا بالحداثة أو قالوا في يوم من الايام ان الانسان مهم وينبغي ان نحترمه. هذا غير صحيح. الأمر أعقد من ذلك بكثير. فقد أمضوا خمسة قرون يتصارعون ويتقاتلون ليحولوا الحداثة إلى حداثة إنسانية وليمنعوا استخدام أدواتها لتدعيم قيم استبدادية وهمجية. وقد قتل الملايين في الحرب الأولى والثانية. ولم ينته الأمر بعد، فلا يزال هناك قلتى كثيرون يقعون في الخارج باسم الحداثة وبأدواتها، في العراق مثلا أو فلسطين أو في أفغانستان. ولم يصلوا إلى الحداثة التي يعيشونها اليوم إلا بكفاح طويل من أجل تثبيت قيم الحرية والعدالة والمساواة. لقد تعبوا كثيرا حتى استطاعوا أن يعيدوا بناء مجتمعاتهم على الاسس التي نعرفها اليوم. منذ عشرين أو ربما ثلاثين سنة كانت هناك مدن صفيح لا تزال قائمة في فرنسا. نحن نتصور ان العالم يخلق فجأة لانه قرر أن يكون حديثا او اختار الحداثة مذهبا. هكذا بقدرة قادر وبايمانه بالحداثة اصبح عادلا وعظيما وحرا. هم ايضا سبق ان عانوا من الفقر والجوع والنازية والاستبداد. وقتل البعض، وسحق ناس، واعتقل اخرون. لقد وصلوا إلى ما وصلوا إليه، أي إلى الحداثة الراهنة، نموذج حداثتهم، لانهم لم يقضوا وقتهم في النقاش في ما إذا كانوا في الحداثة أو التراث، أو لأنهم وضعوا الحداثة في مواجهة التراث، ولكنهم لأنهم وضعوا الحرية في مواجهة الاستبداد والعدالة في مواجهة الظلم والمساواة في مواجهة التمييز. أي لأنهم لم يغرقوا في ما أسميه السفسطة الايديولوجية والفكرية التي نعيشها. لقد قالوا ان هذا النظام يجب اصلاحه. وقد تصارعوا حول ذلك، وناضلوا في سبيل التغيير، وهكذا قل عدد الفقراء وأزيلت مدن الصفيح ونقص الظلم، واصبح هناك قانون يضبط اكثر سلوك الافراد، خاصة المسؤولين، يمنع الرشوة والفساد. منذ عشرين سنة لم يكن الموظف الفرنسي مثلا يعتبر أنه اقترف ذنبا كبيرا عندما يستغل نفوذه لاحتلال شقة حكومية بأسعار زهيدة وأحيانا من دون ثمن. اليوم يعتبر الموظف الذي يحصل على ميزة بسبب مركزه الوظيفي ونفوذه يعتبر مجرما ويحاكم على ذلك. هذا يعني ان مفاهيم المجتمع تتطور.
ليس هناك إذن شيء اسمه الحداثة، كنموذج جاهز وثابت ونموذجي، يكفي أن ناخذ به حتى نصبح حديثين. مشكلتنا نحن، في العالم العربي. اننا ننظر الى الحداثة كما لو انها شيء مثالي ونموذجي. ولذلك عندما نرى ما هو مخالف لذلك في واقعنا نقول: نحن لسنا في الحداثة، نحن مازلنا في التقاليد والتراث، وهما سبب مآسينا. والحال أننا نعيش في قلب الحداثة، لكننا لا نريد ان نعترف بأعطابها وبالتالي لا نسعى إلى إصلاح عيوبها التي تتخبط فيها، مثلما فعل الآخرون، حتى صلح حالهم.
- في كتاباتكم السابقة اعتبرتم أن نفس الفئات التي حملت المشروع القومي، ثم المشروع التقدمي الماركسي تحمل اليوم المشروع الاسلاموي، ألا يطرح هذا سؤال الفئة الاجتماعية التي عليها أن تحمل مشروع التحديث، ألا نعيش ارتباكا في الحامل الاجتماعي للحداثة؟
غليون:
لا لأن المطالب في جميع الحالات مطالب حديثة. لقد قلت بأن نفس الجمهور الذي كان يتبع الحركات القومية واليسارية، أو الجزء الكبير منه، يتبع اليوم الحركات الاسلامية، هذا يعني ان الجمهور يتبع القوة المعارضة للنظام، أي التي لها مصالح متضاربة مع المنظومة القائمة. وهو كالقوة الجارفة. فليس الوعي والاختيار النظري هو الذي يتحكم بحركة الجمهور الذي يمثل الكتلة الكبيرة المتضررة. الهدف هو الذي يدفعه. لذلك فعندما يجد نافذة مفتوحة، يمشي وراء القوة التي تتصدر المعارضة وتواجه النظام، سواء أكان ذلك باسم الديموقراطية. او باسم العدالة الاجتماعية الماركسية، او بأي اسم. في الوقت الذي كانت فيه الحركات القومية أو اليسارية هي التي تمثل هذه القوة التي تفتح النافذة كان الكل يمشي وراءها, فلم يكن الناس يعرفون ماركس ولينين، و لا الخلافات التي كانت بين لينين وتروتسكي طبعا. كانوا يرون قوة معارضة للنظام، مرتبطة بمنظومة عالمية كبرى، تعطي املا بتعديل الامور، فيمشون وراءها. وبالعكس عندما وصلت هذه الحركة إلى طريق مسدود، خاصة بعد انهيار التجربة السوفياتية، اختار الجمهور الواسع، كما هو الحال اليوم، التيارات الاسلامية التي بدت وكأنها أكثر قوة نقدية للنظام. ليس بالضرورة من حيث هي معارضة منظمة، لكن من حيث نقدية في جوهر تفكيرها، وجوهر سلوكها. وهنا تقدم تجربة الجزائر مثالا واضحا. فقد انتقلت كتلة كبيرة من الجمهور، خلال فترة قصيرة جدا، من معكسر إلى آخر، لتضع نفسها تحت قيادة اسلامية، لم تكن هي نفسها قد تبلورت بعد، كما تدل على ذلك أفكار علي بلحاج وعباسي مدني وغيرهما. لقد تكونت الحركة خلال أقل من سنتين، واصبح عندها الملايين. وهذه الكتلة نفسها انكفأت بسرعة كبيرة لانها لم تكن تسير وراء عقيدة واضحة، بل كانت تسير وراء مشروع تغيير. انت تقترح صراعا مع سلطة، أنا أرفضها، فأنا أسير إذن معك. الآن، أعتقد بأن الموجة انحسرت، بمعنى دخلت في طريق مسدود. فخلال السنوات الماضية فشلت بعض النظم التي قامت على مباديء الدعوة الإسلاموية كما حصل في السودان وأفغانستان، وكما يحصل اليوم في العراق. فالتوجهات الاسلاموية السياسية تدخل العراق في حرب أهلية. كما نجحت الدول في بعض البلدان في أن تكسر شوكة الحركات الاسلامية. هناك شعور بالمأزق أيضا عند الحركات الاسلامية. وهذا ما تراهن عليه الحركات الديمقراطية، وحركات المجتمع المدني التي ليست لها قاعدة اجتماعية إطلاقا بعد، قاعدتها هي الخائبين، أو الذين سيخيب ظنهم في قدرة الحركات الاسلامية على إنجاز التغيير. وهؤلاء سينتقلون إلى استراتيجية جديدة للتغيير، هو التغيير بالطرق السلمية و بالحوار. الان، هناك طريق مسدود. وهذا أصل الضياع. لماذا لم نتقدم كثيرا في خط الديمقراطية والنشاط المدني؟ لأن الحركة الديمقراطية لا تعتمد على العنف ولا تراهن على الصدام، وإنما تختار الطريق السلمي للتغيير. وهذا يفترض الحوار لأن لا يتحقق من دون حد أدنى من إمكانية التفاوض. إن منطقه هو منطق المفاوضة مع السلطة. والحال أن السلطة العربية ترفض أي حوار وأي مفاوضة. لاتقبل إلا بالعنف، لذلك أنا لا أستبعد أن يعود العنف بعد عشر سنوات بطريقة مختلفة، تحت مظلة إسلامية أو غير اسلامية، مثل ما ظهر في عدد من البلدان في آسيا وأمريكا اللاتينية، أي بقيادات إجرامية، تجمع بين الجريمة وبين السياسة، عصابات تتمرد. هناك بحر من النقمة الاجتماعية، لأن هناك ظروفا تدفع إلى عدم الرضى عن الوضع. عندما تضع في طريق الطوفان سدا، يحاول كسره. فإذا لم يتمكن من ذلك ينحرف لشق طريق آخر. قد تكسب أنت بعض الوقت. لكن في لحظة من اللحظات، لا بد أن ينتصر الطوفان، إذا لم نستفد من الوقت لحل المشاكل شيئا فشيئا. إذا لم نفعل ذلك سيكون هناك طوفان قوي يكسر كل السدود التي وضعناها.
- نعيش اذن نزعة ماضوية، قد تعطي للحداثة مفهوما نهضويا..
غليون
بعكس المظاهر، ليس لدى المجتمعات العربية مطالب ماضوية على الإطلاق. المجتمعات العربية لديها طموحات حديثة جدا: تريد المساواة، تريد القانون، تريد العدالة، هذه كلها مطالب حديثة. لو كانت المجتمعات العربية ماضوية لقالت : إن الناس طبقات، والله خلقهم درجات، والسيد سيد والخادم خادم. لا. المجتمعات تتحرك بدافع من القيم الحديثة لأنها تمثلتها. لماذا فلان ولست أنا. لا أحد يقبل بالتمييز ولا بعدم المساواة. هذا على مستوى الشعور والخطاب. لكن على مستوى الممارسة الأمر أشد من ذلك. لماذا يكافح الناس لتغيير النظام اليوم؟ لأنه ببساطة ليس هناك عدالة. ماذا يقول الاسلاميون وغير الاسلاميين - الاسلاميون هم أيضا بشر، وهم يعبرون عما يشعر به جزء كبير من المجتمع - ، ماذا يطلب المجتمع؟ أيقول: العودة إلى حكم السيف، وقطع اليد، كما حصل في السودان. هناك بعض النخب الجديدة المنحطة التي تصر على التوجه في هذا الاتجاه، لكن المطالب العميقة للمجتمعات هي مطالب حديثة: المساواة، العدالة، الحرية، الحياة الكريمة، وغيرها.
لكن النقطة المهمة الثانية في هذا السؤال تتعلق بدور الغرب. أنا أعتقد أن للغرب مسؤولية جوهرية في المأزق الذي نعيشه. ليس لأنه استعمرنا،الخ. كما يقال عادة. كل هذا أصبح من الماضي. بل لأنه رفض السماح لنا بالتقدم على طريق الحداثة بعد ذلك وحتى الآن. في الثمانينات كان من الواضح أن مشروع التحديث قد وصل إلى طريق مسدود، في كل العالم الثالث، وليس فقط في العالم العربي. ونعني بذلك مشروع البناء السياسي والاقتصادي والتصنيع الذي تبنته حركات التحرر الوطني والبلدان المتحررة حديثا من الاستعمار. وهو يتعلق بالحداثة المادية، التي هي قاعدة الحداثة. إذ ما معنى الحداثة إذا كنت اسمع عن العمل وأنا لا أستطيع أن أجد عملا؟ وما معنى العدالة إن كنت تقول لي أن هناك قانونا ودولة، لكن ابن المسؤول يدوس على رأسي بحذائه ولا أحد يعاقبه. هذه ليست حداثة، نحن نعيش في نظم لا تحترم الانسان، وبالتالي فهي نظم حديثة لكنها تخون الحداثة وتغتال قيمها الانسانية الرئيسية. ومسؤولية الغرب انه سمح بانهيار مشروع إعادة البناء الاقتصادي للشعوب النامية. ومن وراء ذلك مشروع التقدم نحو الديمقراطية أيضا، حتى لو لم تكن ديمقراطية بالمعنى السياسي المباشر، ولكن بمعنى اعمق هو نقل المجتمعات من البنيات القديمة إلى البنيات الحديثة وتحرير الفلاحين والطبقات الشعبية من العلاقات الأبوية. كان نقل المجتمعات نحو الحداثة مرتبطا بنجاح هذه المشاريع. ونتذكر كيف ثار في سنة 1974 نقاش عالمي واسع، انتقل إلى الامم المتحدة، حول اسعار المواد الاولية، والتبادل غير المتكافئ. وطالب مسؤولوا العالم الثالث بإعادة النظر في أسعار المواد الأولوية التي كانت تعتمد عليها الاقتصادات النامية، لانقاذ مشروع التنمية من انهيار محقق. لكن الغرب رفض ان يقدم اي مساعدة للنخب التحديثية الديمقراطية، وأحبط مشروع إعادة النظر في التجارة الدولية. والغرب هو الذي قتل، بعمله هذا، الفكر الليبرالي والفكر العلماني. أما بالنسبة للعالم العربي فقد كانت مسؤوليته أكبر من ذلك. فقد تخلى عن مشروع الحداثة، وقام بجهود كبيرة لتحطيم أي مشروع محلي يخلق شروطا أفضل للحداثة وللتقدم التاريخي، أعني مشروع التكتل العربي الذي كان هدف الحركة القومية العربية. فحول القومية العربية كلام عام وايديولوجي كثير، لكن جوهر مشروعها، لم يكن شيئا آخر سوى التكتل العربي، وإقامة سوق عربية مشتركة واسعة، تسمح بتطور الصناعة والتكنولوجيا والعلوم. حركة التقدم هذه كسرها الغرب أيضا بحجة ان عبد الناصر كان هتلر الثاني، وكان يهدد الغرب. اضافة الى موقف الغرب في مسألة فلسطين التي استنزفت جهود الامة العربية من المحيط إلى الخليج وحرفتها عن أهدافها وطريقها الرئيسي. فكيف يمكن لشعب من 300 مليون نسمة أن يحترم نفسه وهو غير قادر على التضامن مع الشعب الفلسطني والوقوف أمام خمسة ملايين اسرائيلي مدعمين ومدججين بالسلاح، بما في ذلك الاسلحة النووية بسبب الدعم اللامشروط من الغرب. أساء الغرب لتجربة التحديث في العالم العربي اساءات متعددة، ولا يزال مستمرا في الاساءة عبر حرب العراق، والسيطرة على الخليج، باسم الدفاع عن إمدادات النفط، وتبني السياسات الاكثر تطرفا في اسرائيل. وآخر ما عمله الغرب التبني الكاذب لمشروع الديمقراطية في العالم العربي. فحتى في هذا الموضوع لم يسمحوا لنا أن نبقى مستقلين وأن يكون مشروع الديمقراطية مطلب محلي وجزء من مشروع النخبة الجديدة والمتجددة في العالم العربي. لقد صادروه لخدمة أهدافهم، وأظهروه كما لو كان مشروعا خارجيا ومرتبطا بالمصالح الخارجية، قبل أن يتخلوا عنه. وعندما أتحدث عن الغرب هنا، فأنا أعني به النظام والمنظومة السياسية، أي الاختيارات الاستراتيجية، و ليس المجتمعات والأفراد. لأن هؤلاء ليسوا متماهين مع سياسات الغرب. ومنهم من يظهرون من التضامن مع القضايا العربية اكثر مما يظهره الناس في العالم العربي نفسه. فالتظاهرات التي نظمت في العشرين سنة الأخيرة لدعم القضايا العربية، من قضية فلسطين إلى قضايا شجب الاحتلال في العراق وغيره والتصدي لانتهاكات حقوق الانسان من قبل الولايات المتحدة في العراق، نظمتها الحركات الديمقراطية في المجتمعات الغربية، وكانت اكثر أهمية بكثير مما شهدته المجتمعات العربية. المجتمعات العربية في اطار الحداثة التي سميتها الرثة، ليس لديها حتى القدرة على ان تعبر عن رأيها في الجرائم التي تحصل في البلدان العربية، ولو كانت جرائم المسؤول عنها دول أجنبية. باختصار، الغرب مسؤول مسؤولية أساسية عن انهيار التجربة التحديثية في العالم العربي، اضافة الى أنه دعم دعما مباشرا وإراديا وواعيا النظم الاستبدادية لفترة طويلة ولايزال يدعمها.
- لكن هل يمكن القول أن مشروع التحديث ليس أمامه أفق؟
غليون:
عندما تعطى الشعوب أملا، كما فعل الاتحاد الاروبي مع تركيا - ليس فقط بوعدها الدخول في الاتحاد، بل باستثمار المليارات من الدولارات التي تخلق فرص العمل، وتطور الصناعة، وتعطي للانسان شعورا بأن للحداثة فوائد وفيها ايجابيات، وليست كلها قتل وضرب وسجن، كما هو الحال في البلدان العربية - عندما يتم ذلك، يحدث التحول. في هذه الحالة، حتى الاسلامين تحولوا من الداخل، واصبحوا مقتنعين بالعمل مع الغرب الحديث، وادركوا أن الحداثة منظومة دولية، وواقع تاريخي. وهكذا فهموا أنه ليس أمامنا اختيار، فإما أن نفاوض حتى ندخل الحداثة الحقيقية المنتجة والمبدعة لقيم أخلاقية وإنسانية ومادية أيضا، أو أصف على قارعة الطريق واقبل بحداثة هامشية. فنحن لسنا مخيرين بين القبول بالحداثة أو الاحتفاظ بالتراث. لم يعد احد قادر على الحياة في التراث ولا العودة إليه، مهما حصل. إن ما هو مطروح علينا، إذا لم ننجح بانتزاع شروط حداثة منتجة ومبدعة وبناءة وحيوية، هو البقاء في نموذج حداثة رثة، فقيرة، ضعيفة بدون قيم ولا روح.
- هل العلمانية شرط اساسي لكي تتحقق الحداثة الديمقراطية في العالم العربي؟ في الوقت الذي يقبل الاتراك الاسلاميون التغيير ويرفضه امثالهم في الحركات الأخرى..
غليون:
نرجع اولا الى الاسلاميين في تركيا. ليس صحيحا ان الاتراك تغيروا و الحركات الإسلامية غير التركية لم تتغير. لا استطيع ان اقول ان العرب لا يتغيرون والاتراك تغيروا. العرب يتغيرون ان فتح لهم الافق. الاتراك فاوضوا عندما قبل النظام العسكري الذي كان قائما التفاوض. لا أحد يعطي شيئا لأحد مجانا في السياسة. وقبل النظام العسكري التركي التفاوض لأنه كان يملك دولة وامة حقيقيتين، وكان يدرك أنه لا يمكن أن يقف في وجه الموجة الاسلامية من دون أن يكسر مشروع الدولة هذه. لذلك فكر بالتفاوض ولم يتخذ قرار الحرب بأي ثمن. سعى إلى الحفاظ على جوهر مشروعه. واستجاب الاسلاميون للرغبة ذاتها، لأنه كان لديهم أيضا كممثلين لجزء كبير من الشعب التركي أن لديهم ما يخسرونه أيضا بالدخول في حرب. ففضلوا هم أيضا التفاوض على المواجهة. وما كان من الممكن أن يحدث هذا في البلدان العربية حيث يسود المزاج الفردي، وحيث يكون الحكام مستعدين دائما لتكسير الدولة وتحطيم المجتمع لأنهم لا يملكون لا مفهوم الدولة ولا مفهوم الوطنية. لقد اختار الاسلاميون التفاوض، وكان شرط دخولهم للحكم هو قبولهم بالقوانين العلمانية، أي احترام ميدأ ان الدولة تتعامل مع المواطنين كأفراد مواطنين دون النظر الى ديانتهم او ايمانهم وعدم ايمانهم. اختار الاسلاميون عدم التدخل في ديانة الافراد باعتبار ان ذلك يتعلق بالعلاقة بين الفرد وربه. وهذا ما جعلهم ينجحون ويصلون الى تسوية تمكنهم من الحكم. وهم سينجحون أيضا في الانتخابات القادمة. لقد قدموا تنازلات في المفاوضات لأن الاخرين ايضا قبلوا بالتنازل وكانت النتيجة في صالح الجميع والدولة والامة التركية. اعتقد ان المشكلة في بلداننا العربية هي انه عدم وجود مبدأ مفاوضات اطلاقا، لعدم وجود السياسة ومفهومها أصلا. فالمفاوضات تعني السياسة ، والسياسة تعني الاعتراف بالاخر، بوجوده وبمصالحه. يقول مبدأ السياسة : انت قوة موجودة وانا اختلف معك في هذه النقطة، لنتفاوض حولها، وإذا قبلت بها،أنا مستعد للتعامل معك. وهذا ما حصل في تركيا. فهل هناك نظام عربي يقبل التفاوض؟.
- في الجزائر كان برنامج جبهة الإنقاذ الاسلامية ينص على أن جميع التشريعات يجب أن تستمد من القرآن والسنة، بمعنى أن هناك ارتباطا وطيدا بالدين، ولا مجال نهائيا للفصل بين الدين والدولة. وهذا بطبيعة الحال، يعني لا حق في ممارسة السياسة بالنسبة للمواطن، لأن السياسة محددة كهدف وممارسة. وأيضا حركة الإخوان المسلمين في مصر؟.
غليون:
الإخوان المسلمون في مصر وسوريا منذ الخمسينات يلعبون لعبة التعددية والديمقراطية. وكان لهم نواب في البرلمان. وهم لم يخونوا اللعبة الديمقراطية. إذا أردنا قول الحقيقة، بعض الإخوان المسلمين في سوريا ومصر حملوا السلاح في الثمانينات. لأن الأوضاع كانت مسدودة كليا. وهذا ليس تبريرا لأحد. هم أخطأوا ودفعوا الثمن. لكن الخط العام للإخوان المسلمين بالعالم العربي ليس خطا جهاديا، ولا تكفيريا، بل خط سياسي. كانوا قد بدأوا بتقاليد سياسية. اليوم، الإخوان المسلمون في مصر وسوريا يلعبون لعبة تعددية، ولم يفعلوا مثل جبهة الإنقاذ الجزائرية التي كانت ثمرة عدم نضج. والجزائر هي البلد الوحيد الذي لم تكن عنده تقاليد أخوانية قوية. الإخوان المسلمون الجزائريون هم حماس، حركة السلم الاجتماعي،. هؤلاء هم الإخوان المسلمون، وقد تعاملوا مع النظام أكثر مما تعاملوا مع الحركات المتطرفة التي كانت تختلف معهم. جبهة الانقاذ الاسلامية حركة شعبوية خرجت من أعماق تقاليد الثورة الجزائرية، بمعنى أنها رد فعل أشخاص من الجبهة الوطنية التي قادت الثورة الجزائرية، ومن المؤمنين بها، مثل عباسي مدني، شعروا بالخيانة من قبل النخبة البيروقراطية التي استخدمت كل موارد البلاد لخدمة مصالحها الشخصية. كانت هناك نقمة حقيقية، طوفان اندفع ضد النظام القائم.
- بصفتكم مراقب للأوضاع بالعالم العربي بصفة عامة، كيف ترون الأوضاع بالمغرب؟
غليون:
أعتقد أن الشيء المتميز في المغرب، إلى حد الآن، هو نجاحه في تفادي الانفجار الذي عاشته معظم البلدان العربية. لا أعتقد أن الوضع مثالي. ولكن المغرب نجح لأنه أدخل مبدأ المفاوضات، و اعترف بوجود الآخر، و بوجود المعارضة، بما فيها الحركات الاسلامية. النظم الأخرى تبنت منذ البداية فكرة القضاء على المعارضة الاسلامية والعلمانية حتى لا تضطر إلى التفاوض معها وتستمر في الانفراد بالحكم. لكن ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة كارثة حقيقية، كما هو الحال في سورية والعراق التي أغلق فيه الباب كليا، مما أدى إلى الانفجار. أعتقد أنه لايزال هناك طعم، بالمعنى النباتي للكلمة، للسياسة في المغرب. هناك أيضا فكرة المصالحة التي تعبر عن أن عنصر السياسة موجود عند النظام، عنصر الأخذ والعطاء، وعنصر المفاوضة، مهما كان محدودا. وهذا ما يمكن أن يراهن عليه المغرب، بالمقارنة مع الأنظمة الأخرى المغلقة تماما. ففي مصر مثلا لا توجد هناك مفاوضات مع أحد، بما في ذلك مع التجمع التقدمي العلماني : ممنوع التعبير، ممنوع التظاهر، ممنوع الاجتماعات. والوضع نفسه قائم في سورية: موجة الاعتقالات الأخيرة طالب مثقفين كلهم علمانيين، لا يوجد بينهم أي اسلامي. ولم ي يعتقلوا حتى لأنهم طالبوا بالديمقراطية بل لأنهم وقعوا بيانا مع المثقفين اللبنانيين يطالب بإقامة علاقات متوازنة بين سوريا ولبنان. كيف نريد لهذه المجتمعات أن تقبل بهذا الوضع، عندما يطلب من الناس الإذعان بدل الحوار والمفاوضات السياسية؟
-
هل هناك أفق للوصول إلى الدولة الوطنية الديمقراطية؟.
غليون:
نحن هبطنا كثيرا ما تحت الدولة الوطنية والدولة الديمقراطية في العالم العربي. أعني في معظم الأحيان لم يعد هناك لا دولة ولا وطنية ولا ديمقراطية طبعا. لكن مع ذلك من الصعب توحيد حالة جميع البلدان، بالرغم من اننا نعيش جميعا أزمة عميقة. فالأمر يختلف من بلد إلى بلد. فمثلا، في بلد مثل المغرب ليس الأفق مسدودا. بدل الحديث عن دولة وطنية ديمقراطية أفضل شخصيا الآن الحديث عن دولة أكثر عدالة، أكثر احتراما للقانون، أكثر احساسا بمشاكل الناس. دولة يدرك قادتها ونخبها أن السياسة ليست مناسبة أو وسيلة لتحقيق المصالح الخاصة، ولا مناورة من أجل الحفاظ على المصالح الخاصة لفئة معينة سيطرت على مواقع رئيسية في الدولة، بل هي خدمة عمومية. إذا أدخلنا هذا المفهوم، الذي هو أقل بكثير من مفهوم الدولة الوطنية والديمقراطية، نكون قد تقدمنا كثيرا .
- اي سيناريوهات للعالم العربي مستقبلا؟
غليون:
قد ندخل خلال العقد القادم في العديد من البلدان العربية حربا أهلية ونصبح في وضع يشبه وضع الصومال، أو ربما قد نصبح مثل أفغانستان، نقتل بعضنا البعض. لكن أعود لأقول أننا لا يمكن أن نعمم المسار نفسه على كل البلدان. فهناك بلدان مثل بلدان الخليج لها مسار مختلف كليا. الخليج يعيش في ثراء مادي استثنائي ويتمتع بحماية أمريكية . وتتنافس دول الخليج اليوم في ما بينها لبناء أكبر عدد من ناطحات السحاب في السنوات الأربع القادمة. وهم يعيشون في عالم ليس له علاقة مع عالمنا. بالمقابل هناك بلدان عربية لن يكون لها شاغل سوى البحث عن وسائل لإيجاد فرص عمل للمواطنين ومواجهة نتائج الافقار وتدهور البيئة وتضاؤل الموارد المحلية. من جهة أخرى، أشعر أن بلدان المغرب العربي، على العموم، تتمتع بشروط أفضل تسمح للتحول والتقدم السياسي، إذا وجد هناك وسيط خارجي، أي قوة ضغط خارجية، ليست عسكرية ولا سياسية، وإنما قوة ضغط معنوية، تدفع النخب الحاكمة الى أن تعترف بالمعارضات وتقبل بها وتفتح معها حوارات جدية. في تونس أيضا الوضع مسدود، ليس لأن المجتمع غير قابل للتحول، وليس لأن فيها إسلاميين، وليس لأن البلد متخلف اقتصاديا، بل لأن النخبة الحاكمة لا تريد أن تشارك أحدا على الإطلاق. تريد احتكار كل شيء. وهذا وضع خاص وواضح. في مصر ، الوضع ذاته تقريبا. الحزب الحاكم والرئيس الحاكم يريدان ان يكرسا الحكم للابن والعائلة والحزب. هذه الانسدادات هي التحدي الرئيسي الذي ينبغي مواجهته في السنوات القليلة القادمة من قبل المجتمعات. والسؤال هو : كيف سننجح في كسر هذه الانسدادات لفتح أفق المفاوضات بين الاطراف الداخلية؟ إذا لم ننجح في ذلك لن تكون هناك ثورات، أي مشاريع تغيير منظمة وواعية، وإنما ستكون هناك انفجارات دموية من دون أي مشروع سوى الاحتجاج والتمرد والرفض. وسنضيع الوقت أكثر مما سنربح أي شيء آخر. التحدي الذي تواجهه النخب، في الحكم والمعارضة والمجتمع المدني هو هذا: النجاح في فتح المفاوضات الداخلية أو الانحدار نحو الكارثة. في مقال سبق أن كتبته، دعوت إلى خلق مجلس للوساطة الدولية في حل الانسدادات الداخلية، واقترحت أن يتكون من شخصيات لها وزن معنوي كبير جدا مثل مانديلا وآخرين، هو نوع من لجنة حكماء عالمية، او لجنة مصالحة وإنصاف دولية وأهلية، تقدم مساعيها لمساعدة النخب الوطنية، في الحكم والمعارضة، على فتح مفاوضات أصبحت أكثر من ضرورية وعاجلة لتجنب الأسوأ، وفتح مسارب ومتنفسات للطوفان الجارف القادم. لقد أصبحت الحاجة ماسة في نظري لتفعيل هذا النوع من الضغط المعنوي الذي ربما كان أكثر فاعلية من الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية التي تدعي الدول الصناعية ممارستها أحيانا لوقف انتهاكات حقوق الانسان، والتي لم تعط نتائج تذكر. لكن المهم إطلاق ديناميكية فتح النظم على المعارضات والشعب أيضا. ذلك أن النظم مغلقة أساسا امام الشعب، وفتح المفاوضات مع المعارضة ينبغي أن يكون المدخل لفتح الطريق أمام مشاركة شعبية أكبر ، بل استعادة الشعب حقوقه السياسية وأحيانا المدنية المسلوبة.