الإتحاد الإماراتية 26/4/2006
عُقد في الرابع والعشرين من الشهر الجاري في الدوحة المؤتمر الأول للعلماء العرب المغتربين الذي يهدف، حسب إعلان منظميه إلى جمع النخبة من العلماء العرب في العالم للمساهمة في منتدى لتبادل الأفكار وتطوير الخطط التي تساعد على ربط العلماء العرب وأبحاثهم باحتياجات المجتمعات العربية وبالمصادر المتاحة في المنطقة وتنمية وسائل البحث العلمي في إطار تعزيز عملية التنمية الإقليمية. وينطوي مشروع المنتدى المقترح على فكرة صحيحة وصائبة مفادها أن تطوير البحث العلمي في العالم العربي لا ينفصل عن معالجة مسألة اغتراب العلماء ونزيف العقول المستمر منذ عقود, وأن عودة هؤلاء العلماء أو الاستفادة من أبحاثهم، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، تشكل مهمة رئيسية من مهام أي برنامج تنمية عربية جدي. لكن مشكلة اغتراب هؤلاء العلماء ليست في الواقع إلا الوجه الآخر لاغتراب العلماء العرب في بلدانهم نفسها. وسيكون من الصعب الاستفادة من المغتربين منهم ما دامت الظروف التي دفعتهم إلى الهجرة أو البقاء في المغتربات والعمل فيها لم تتغير في بلدانهم الأصلية. فمن الصعب أن تتحول البيئة الطاردة للعلم والعلماء إلى بيئة جاذبة لهما بمجرد بناء شبكة بحثية أو حتى مدينة علماء. ولتكوين هذه البيئة أسباب مختلفة وليس سبباً واحداً. فالواقع أن العالم العربي يعيش، على مستوى الإدارة الاجتماعية والسياسية ونظم الحكم والإنتاج والمعرفة العلمية معاً، أزمة عميقة لا تزال مستمرة منذ عقود طويلة. وتنعكس نتائج هذه الأزمة بشكل كبير على حقل التعليم والبحث العلمي وإنتاج المعرفة ومصير العلماء، كما تنعكس على النشاطات والأطر الاجتماعية الأخرى. لكن ليس هناك شك في أن العلماء هم، من بين العديد من الأطر العسكرية والإدارية والسياسية والاقتصادية، الضحية الرئيسية لها. والسبب أن اهتمام الدول انصب في السنين الماضية على قضايا ضمان أمن النظم السياسية واستمرار مراكمة الثروة والسلطة، مما قلَّل من فرص التفكير في بناء بيئة علمية حقيقية وتوفير شروط البحث والإنتاج العلميين. كما قلَّل من حجم الاستثمارات التي تعد الأضعف في العالم أجمع في هذا المجال بحيث لا تتجاوز 2 في الألف من الناتج القومي أي خمس أضعاف أقل من المتوسط العالمي. وبالإضافة إلى ذلك لا يشجع الاقتصاد العربي على الاستثمار في العلم والتقنية. فبنية الاقتصادات المحلية المشوهة والتقليدية تجعل الطلب على المعرفة العلمية والاختصاص محدوداً إلى درجة كبيرة. كما يدفع الطابع الريعي الذي يميزها إلى الاستمرار في سياسات استيراد الخبرة من الخارج مع بقية السلع المادية. وهو ما يضيِّق من فرص نشوء منظومة للبحث والإنتاج العلميين، ويكره العلماء والمختصين على هجر اختصاصاتهم والتخلي عن طموحاتهم العلمية إذا أرادوا البقاء في أوطانهم، أو النزوح إلى الخارج للعمل في مؤسسات أجنبية. لكن غياب الاهتمام بالبحث والإنتاج العلميين، وبالتالي بالعلماء، وقلة الطلب الاقتصادي عليهما، ليسا السببين الوحيدين لمحنة البحث العلمي وأصحابه. فلا ينبغي نسيان أسلوب التعامل الذي تطور في البلدان العربية في العقود الماضية مع العلماء الذين أصبحوا مستهدفين من قبل القوى السياسية والدولية المتنازعة على السلطة، إما من أجل توظيفهم من قبل البعض للحصول على شرعية فرعية، لما يتمتعون به من صدقية عند الرأي العام، أو بسبب الضغط عليهم وربما الانتقام منهم عندما يظهرون موقفاً مستقلاً، وبشكل أكبر عندما يعبرون عن آراء سياسية لا تتفق مع آراء النظم، أو قطاعات الرأي العام. ولعل المثال الأكبر على هذا ما يتعرض له علماء العراق اليوم من عمليات تصفية وقتل على يد فرق الموت المجهولة الهوية التي ربما كانت تعمل لصالح قوى أجنبية معادية للعراق وللعرب أيضاً. ومنذ أقل من شهر وجهت اللجنة العراقية لحماية أساتذة الجامعات العراقية نداءً من باريس إلى المنظمات الإنسانية والهيئات والجامعات العربية لتنظيم حملة عربية ودولية للحفاظ على حياة العلميين والأكاديميين العراقيين الذين يتعرضون منذ قرابة ثلاث سنوات لتصفيات جسدية منظمة. وربما تجاوز عدد العلماء الذين لقوا حتفهم حتى الآن المائتين من العلميين وأساتذة الجامعات. لكن لا ينبغي أن يقلل هذا المثال من دور العوامل السياسية الأخرى، في تشجيع العلماء العرب على النزوح إلى الخارج. ويكفي أن نشير في هذا المجال إلى ما يعاني منه العديد من الأكاديميين، كما بيَّن ذلك مؤتمر الحريات الأكاديمية في عمان 2004، من الحرمان من الحريات وأحياناً من الاعتقال الطويل، كما هو حال عميد كلية الاقتصاد السابق عارف دليلة المحكوم بعشر سنوات سجن، أو الباحث علي العبد الله، الذي اختفى هو وولدان له فجأة في دمشق، بسبب التعبير عن آرائهم وتبني مواقف سياسية لا تتفق واختيارات السلطة القائمة. باختصار، يضطر الكثير من العلماء العرب، بسبب غياب شروط البحث والإنتاج العلميين، أو لأسباب سياسية، إلى الرحيل إلى الخارج والاستقرار في البلاد الصناعية. وربما تجاوزت نسبة العلماء العرب المضطرين لسبب أو آخر لهجر أوطانهم نصف العدد الإجمالي. وكان تقرير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية للمنطقة العربية قد ذكر أن 25 في المئة من المبعوثين للدراسة في الخارج لا يعودون إلى بلادهم أصلاً. مما يشكل نزيفاً حقيقياً للمنظومة العلمية العربية يجعلها في نظر المختصين غير قابلة للوجود أصلاً. فعلى سبيل المثال هجر الجزائر عشرات آلاف الخبراء والأساتذة والعلماء بعد الحرب الأهلية التي أعقبت أول انتخابات تشريعية في أوائل العقد التاسع من القرن العشرين. وتعتقد بعض أوساط اليونسكو أن أكثر من 2500 أستاذ وعالم عراقي قد هاجر إلى الخارج بعد الاحتلال الأميركي الراهن للعراق. من هنا الأهمية الاستثنائية لرعاية مؤتمرات تعنى بالمغتربين من علماء وصناعيين ومواطنين عاديين أيضاً. فهي، لا تساهم في التذكير بأهمية هذه المجموعة العربية المهاجرة فحسب ولكنها تشجع هؤلاء الذين اضطروا، لسبب أو آخر، إلى الهجرة من أوطانهم والاستقرار في الخارج، على التفكير في بلدانهم الأصلية والبحث عن الوسائل والسبل التي تتيح لهذه البلدان أن تستفيد من نجاحاتهم في الخارج. لكن البقاء على هذا المستوى ليس كافياً لإنجاح العملية. إذ لن يمكن استعادة الطاقات العربية الكبيرة المهاجرة من دون عمل جدي على إصلاح الأوضاع العربية وتغيير البيئة التي لا تزال تدفع بمئات آلاف العرب، بما في ذلك من خيرة العلماء والباحثين والخبرات الشابة الجديدة، إلى الخروج من أوطانهم. وهو ما يتطلب تحويل الإصلاح إلى برنامج حقيقي أو إلى محور سياسات عربية جدية، لا تركه شعاراً للاستهلاك السياسي، كما لا يزال الحال حتى الآن. وربما كان شرط النجاح في مؤتمر العلماء العرب المغتربين هو الاستفادة منهم في سبيل اكتشاف الطرق التي تمكنهم من المشاركة في إطلاق مسيرة الإصلاح الموعود وبلورة دورهم المحتمل والضروري في دفعه وتعزيزه.