mercredi, mai 25, 2005

في معنى قيادة حزب واحد للدولة والمجتمع

الاتحاد 25 مايو 05
تشير المعلومات التي تسربها الأوساط البعثية المسؤولة عن الإعداد اللمؤتمر القطري الخامس لحزب البعث إلى رغبة القيادة القطرية في أن تبقي على المادة الثامنة من الدستور التي تؤكد على دور حزب البعث الحاكم كقائد للدولة والمجتمع. وتعتقد القيادة القطرية كما يبدو بأن الاحتفاظ بهذه المادة يشكل ضمانة لعدم خروج الأمور عن السيطرة أو لمنع تعريض النظام القائم للخطر.
والسؤال المطروح بالضبط اليوم هو التالي: هل ينعقد مؤتمر حزب البعث - الحاكم في سورية منذ 43 عاما من دون انقطاع - تحت شعار تعزيز وسائل الحفاظ على النظام أم تحت شعار تغيير النظام وتعديله بما يسمح بامتصاص التوترات العميقة التي تهدده بالتفكك والانهيار ويخلق للسوريين الشروط السياسية والاجتماعية التي تمكنهم من الرد على التحديات الخارجية الخطيرة والمعلنة القريبة؟
فإذا كان الهدف الأول هو جوهر ما سيناقشه المؤتمر يصبح من الخطأ بالفعل التخلي عن هذه المادة التي تحصر القيادة السياسية، من دون تحديد في الزمان والمجال، بحزب البعث وتجعل منه الوصي الرسمي على شؤون المجتمع والدولة السورييين. وفي هذه الحالة سيكون من الضروري والمكمل أيضا لهذه المادة الإبقاء على قوانين الطواريء والأحكام العرفية وسلطة أجهزة الأمن المطلقة وغير الخاضعة لقانون، أي كل ما اعتمد عليه النظام حتى الآن للاستمرار وما كان بإمكانه البقاء حتى اليوم من دونه.
لكن ربما كان من المفيد في هذه المناسبة إن لم نقل من الواجب الوطني والإنساني، تذكير أعضاء القيادة القطرية بما يمكن أن ينجم عن اتخاذ مثل هذا القرار من مخاطر كبيرة ربما لا تقل عن تلك التي نجمت عن قرار التمديد غير الصائب لرئيس الجمهورية اللبنانية.
فأولا لا يحصل تمديد العمل بقاعدة النص بالدستور على قيادة البعث للدولة والمجتمع وما تعنيه من تجديد الحكم بإلغاء الحياة السياسية السورية في مناخ التعبئة القديمة ضد الرجعية والأمبريالية والصهيونية ولكن بالعكس. إنه يحصل في ظرف تراكمت فيه الهزائم والإخفاقات الخارجية والداخلية وفقدت فيه المنظومة البعثية الحاكمة كل ما كانت تملكه من صدقية حتى تطابق اسمها مع الفشل والإفلاس على جميع الأصعدة الوطنية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية والثقافية والإعلامية وصارت رديفا، في ذاكرة سكان البلاد والرأي العام العربي عموما، لإنتاج الفقر والبطالة والامية والتقهر العلمي والتقني وتفجير النزاعات السياسية والطائفية والاجتماعية والقطيعة والعزلة عن البيئة العربية وتصاعد حجم الضغوط والتدخلات الأجنبية واستعداء القوى الدولية المجاني.
وثانيا، مع تراجع أفكار الثورة ومشروعيتها التاريخية، لم يعد ما حصل في سورية في 8 آذار 1963 يظهر كحركة طبيعية في إطار الصراع والتنافس بين القوى السياسية القومية وغير القومية ولكن كمصادرة رسمية وعلنية لإرادة الشعب السوري وسيادته وأن أي حياة سياسية لم تستقم ولن تستقيم قبل إعادة السيادة داخل سورية للشعب الذي انتزعت منه بالقوة العسكرية. وكل ما قيل حول الثورة والاشتراكية وتوزيع الثروة في سياق السعي لإضفاء شرعية تاريخية على هذه المصادرة للإرادة والسيادة الشعبية يكذبه واقع حال أولئك الذين باسم الثورة والوطنية والقومية غيروا أوضاعهم الاجتماعية من النقيض إلى النقيض فأبعدوا الطبقة المالكة القديمة عن مواقعها وصاروا هم الطبقة المالكة الحقيقية.
وثالثا أظهرت التجربة التاريخية الطويلة للسوريين أن إخضاع المجتمع بأكمله لنظام يدمج بين جميع السلطات ويقدمها خالية من أي قيد لفئة أو لحزب واحد يحكمها ويتحكم بها وبمواردها كيف ما يشاء لم يحقق مباديء الثورة البعثية في الوحدة والحرية والاشتراكية ولكنه قاد ببساطة إلى تحويل البلاد إلى مزرعة عبودية بمثل ما عزز لدى الحاكمين الشعور المقابل بالألوهية التي ولدت ولا تزال تولد إلى اليوم سلطة مطلقة تعسفية وقمعية كانت الباب المفتوح على مصراعيه لتعميم الفساد والرشوة الرسمية المنظمة وتدمير الشعور بالمسؤولية وتخريب مؤسسات الدولة والمجتمع المدني معا. وكان كل ذلك من الأسباب الرئيسية للتدهور المقارن والمطلق الذي عرفته البلاد على جميع المستويات التعليمية والإدارية والاقتصادية والتقنية والوطنية.
ورابعا مع تآكل شرعية النظام الثورية وهلاك الفكرة الثورية نفسها التي سند عليها البعث حركته الانقلابية لم يعد النص في الدستور على أن حزب من الاحزاب هو قائد للمجتمع والدولة يعني مجرد تمكين السلطة الجديدة من السيطرة على الموقف ودحر القوى المنافسة لها في المعركة السياسية وإنما تحول إلى إلغاء شرعي للدستور نفسه ومن وراء ذلك إلى وضع الأساس غير القانوني وغير الشرعي لتكوين طبقة حاكمة طفيلية، جاهلة تأهيلا ومنحطة أخلاقا وجانحة سياسيا واجتماعيا معا، ومدفوعة بالضرورة إلى الوقوف ضد المجتمع والعداء له. فالنص على هذه المادة يشكل انتهاكا لروح الدستور الجمهوري لأنه يشرع بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث للتمييز الرسمي السياسي والاجتماعي والاخلاقي بين أبناء الوطن الواحد فيؤهل أصحاب عقيدة ومذهب وحزب للقيادة بالولادة ويحرم الآخرين منها لمجرد عدم انتمائهم إلى الحزب الحاكم. وإذا كان هناك مبدأ قامت عليه المجتمعات والدساتير الحديثة أي الجمهوريات فهو بالضبط مبدأ المساواة في القانون وأمام القانون. ولو أدرك البعثيون المخلصون مدى الإساءة التي يقومون بها بتأييدهم مثل هذا الوضع لبلدهم ومجتمعهم وتمثلوا الحد الأدنى من معاني الوطنية لأعلنوا جميعا انسحابهم من الحزب أو تحقيق المساواة التامة بينهم وبين مواطنيهم على جميع المستويات. والمساواة تعني الفرص المتساوية والحظوظ المتساوية في التنافس أمام جميع المناصب والمسؤوليات. وهو، أي النص على القيادة للحزب الحاكم بالدستور، أساس لتكوين نخبة منحطة أخلاقيا واجتماعيا لأنه ليس للتمييز أمام القانون إلا مضمونا واحدا هو إغراق الموالين والمنتسبين للحزب والسلطة بالامتيازات على حساب مواطنيهم الآخرين. وليست الامتيازات مادية فحسب ولكن معنوية وسياسية واجتماعية. والذي يقبل بالامتيازات على حساب الآخرين ويعتقد أنها أمر طبيعي يستحقه بسبب الولاء أو الانتماء لا بسبب الإنتاج والإبداع والإضافة الايجابية الناجمة عن الكفاءة والمهارة والمؤهلات فهو يقبل بسرقة الآخرين وانتهاك حقوقهم والسير عليها لتحقيق مآربه ومصالحه الخاصة. فهو لا مبدأ عنده ولا مثال. إن ما يهمه هو مراكمة المغانم والمكاسب والمناصب والسيارات والشقق والمكاتب كما هو معروف عن كبار المسؤولين وأبنائهم وزوجاتهم وأحفادهم في كل أنظمة الحكم التمييزية. وهو مصدر للجنوح الأخلاقي وللجريمة لأن النخبة التي تعرف أنها تنعم بالامتيازات التي لا ينعم بها غيرها وتعرف أنها تنعم بها ليس بسبب كفاءتها ومهارتها واستحقاقها القانوني ولكن بسبب ولائها وتبعيتها ورضى المسؤولين عنها تشعر بالسليقة أن محافظتها عليها لا يمكن أن تتحقق إلا بخرق القانون ومحاربة المواطنين الآخرين وإنكار حقوقهم والاستعداء عليهم بذريعة أنهم حاقدون أو معادون للثورة أو النظام أو مهددون للوحدة الوطنية أو متعاملون مع القوى الأجنبية. وباحتكارها الوطنية وهي تخونها كل يوم في سلوكها الاجتماعي والسياسي والثقافي، أي في قبولها التميز والتمييز وتبريرها نظام الامتيازات المفجر للمجتمعات لا تعمل النخبة الحاكمة في مثل هذه النظم إلا على تدمير أسس الوطنية ومشاعر الانتماء الوطني الحقيقي. ولهذا نجد أكثر من نصف السكان لا يفكرون إلا في هجرة أوطانهم والهرب منها بقدر ما يشعرون أنه لاحقوق لهم فيها وأنهم أولاد الجارية وعليهم تقع واجبات خدمة أبناء الست.
وهذا يعني أخيرا أن النص بالدستور على قيادة الحزب الواحد للدولة والمجتمع يعني خراب الدولة والمجتمع والحزب الحاكم معا. وقد حصل ذلك بالفعل في سياق مصادرة الحزب للدولة والدولة للمجتمع والأجهزة للحزب في ظل إنقلاب عسكري لم تدعمه لاثورة شعبية ولا انفجارات اهلية باستثناء تلك التي فجرتها مصادرة إرادة الشعب والاستهتار بحقوقه واستقلاله.
أعتقد أنه آن الأوان، وأملي أن يدرك ذلك أعضاء القيادة في حزب البعث أو على الأقل الإصلاحيين منهم، بأن الآوان قد آن للمصارحة والكلام الصادق. فلا يمكن لدولة ولا لمجتمع أن يقوما من عثارهما بالكذب على النفس والغش. كفى اعتقالات يومية بالجملية وملاحقات وتنكيل ومحاكمة أناس ابرياء، سابقا باسم الحفاظ على الثورة والدفاع عن الاشتراكية، واليوم باسم الاستقرار ودرء المخاطر الخارجية والحفاظ على الوحدة الوطنية التي مزقتها امتيازات النخبة المكرسة بالدستور والتي تحولت بسبب هذا التكريس بالذات إلى نخبة بدائية متخلفة عقليا وسياسيا وإنسانيا معا ومفتقرة للمفاهيم الأساسية بل للمشاعر الضرورية لقيام حياة اجتماعية وسياسية وثقافية على أدنى مستوى كان. لقد أنشأ هذا النظام نخبة مفترسة تعتقد أن كل ما تراه أمامها ملك لها وأن لها كل الحقوق وليس عليها أي واجبات وأن الشعب وجد لخدمتها والتمجيد بحمدها.
لن يمكن تطوير حزب البعث وتحويله من آلة مفترسة كما هو عليه اليوم للدولة والمجتمع إلى منظمة سياسية قادرة على العمل الايجابي والمشاركة في إعادة بناء الحياة السياسية التي خربتها عقود طويلة من الطغيان والسيطرة الهمجية من دون إزالة هذه المادة من الدستور وقطع جذور الفكرة الكامنة وراءها، أعني التمديد الأبدي وبالوسائل الاستثنائية واللاقانونية لسلطة تضع نفسها فوق القانون وتعتبر القانون والدستور أداة من الأدوات الشرعية والمشروعة التي تستخدمها لتكريس نفسها وخدمة مصالحها، أي لسلطة تتنافي مع قيم لوطنية والإنسانية معا.

mercredi, mai 18, 2005

مستقبل الجامعة العربية

بمناسبة مرور ستين عاما على تأسيس جامعة الدول العربية
محاضرة ألقيت في 18 مايو 2005 في منتدى الصحافة الأجنبية في باريس

مناقشة شأن الجامعة العربية، كالعديد من موضوعات الوضع العربي الراهن، يطرح مسألة صعبة على أي متحدث في الوقت الراهن، وبشكل خاص عندما يتعلق الأمر بوسط أجنبي. فترى المرء في حيرة من أمره :هل يعبر عن حقيقة تفكيره مع المغامرة بذرع اليأس أو تسويد الصورة العربية أكثر مما هي سوداء في الخارج أم يقول نصف الحقيقة أو يداور فيها فيخون نفسه وجمهوره معا. لكن سفير الجامعة العربية في باريس أنقذني هذه المرة عندما بدأ حديثه بالاعتراف بإفلاس الجامعة وكنت أريد الحديث بالأحرى عن الإخفاق لا أكثر.

والواقع أن هناك مشاعر متناقضة تتنازع النخب الثقافية والسياسية وقطاعات الرأي العام الأخرى إزاء الجامعة العربية. فبالرغم من خيبة الأمل التي سببتها عقود طويلة من الإخفاق وعدم الانجاز والدوران في حلقة مفرغة هناك خوف كبير لدى الأغلبية الواسعة من الرأي العام العربي من التضحية بالمنظمة التي أصبحت تمثل التعبير الوحيد المتبقي عن وشائج القربى التي تجمع بين الشعوب العربية والملجأ الأخير لمشاعر التضامن والاتحاد التي هزت الجماهير العربية لأكثر من قرن ماض ووجهت خياراتها السياسية. وبالرغم من تزايد الاقتناع اليوم لدى الجمهور العربي الواسع بانعدام فاعليتها واليأس من قابليتها للإصلاح والتجديد إلا أن التمسك بها لا يزال يمثل تعبيرا عن التمسك بحلم العروبة وخياراتها في مواجهة القوى الدولية التي تطمح صراحة إلى تحطيم هذا الحلم وإلحاق الأقطار العربية بالمشاريع الاقليمية الجديدة ذات الطابع الاستعماري أو شبه الاستعماري.
لكن هذه المشاعر المتناقضة لا ينبغي أن تمنعنا من التحليل الموضوعي لعمل هذه المنظمة التي تحتل المكان الأول في ترتيب العلاقات بين الدول العربية وإنجازاتها في العقود الست الماضية. ولا ينبغي أن يكون الهدف من هذا التحليل إظهار نقائص الجامعة العربية أو بالعكس الدفاع عن إنجازاتها وإنما استخلاص الدروس التي تساعد على تحسين أدائها مهما كانت الأسباب التي حدت من فاعليتها ونشاطها ومنعتها من تحقيق الآمال التي وضعتها المجتمعات العربية فيها. ثم إن تاريخ الجامعة العربية ليس خاليا تماما من الإنجازات التي يحق للأمانة العامة أن تركز عليها، سواء ما تعلق منها بالانجازات الاقتصادية مثل إطلاق منطقة التجارة العربية الحرة أو بعض صناديق التنمية العربية أو السياسية مثل المساهمة في حل بعض النزاعات العربية العربية وعلى رأسها النزاع الاهلي اللبناني الذي لاشك في أن اتفاقية الطائف قد ساهمت مساهمة كبيرة في وضع حد نهائي له أو ما تعلق منها بالمشاريع الثقافية والتعليمية التي تختص بها المنظمة العربية للثقافة والعلوم.

يحق بالفعل للمدافعين عنها، ومعظمهم من الناشئين بين الأوساط القومية التقليدية التي انكفأت على الجامعة وحاولت أن تطورها كتعويض عن انحسار الحركة القومية العربية، التشكيك في هدف الدعوات التي تبالغ في النظرة السلبية لها والتساؤل بحق عما إذا كان مصير العالم العربي سيكون أفضل لو لم تقم منظمة الجامعة العربية أو لو تم حلها وتدميرها. كما يحق لهم المراهنة على إصلاحها وتفعيلها وعمل كل ما بوسعهم في سبيل تحويلها إلى منظمة إقليمية تعكس آمال العرب وتطلعاتهم إلى تاكيد هويتهم المشتركة وتأكيد وشائج القربى التاريخية والجغرافية التي تجمعهم والدفاع عن مصالحهم القومية. وتزداد مشروعية هذا الموقف اليوم أكثر من أي وقت آخر في مواجهة ما تتعرض له الأقطار العربية وفكرة التضامن العربي نفسها من تهديدات خارجية يشكل حل الجامعة العربية أو تفريغها من مضمونها كرمز لهوية جامعة أحد موضوعات رهانها الأساسية وهو سياسة رسمية ومعلنه لإدارة الولايات المتحدة الأمريكية الراهنة التي لا ترى فيها مشروع منظمة إقليمية ذات اهداف ايجابية مثلها مثل بقية المنظمات الدولية الموجود بقدر ما تنظر إليها كتحالف سلبي يهدف إلى محاصرة الدولة الاسرائيلية ومنعها من تأكيد استقرارها والانتماء النهائي إلى المنطقة الشرق أوسطية. ومن هنا تسعى واشنطن إلى استبدالها بمنظمة إقليمية لاتكون فيها للعروبة الكلمة الاولى أو لا تكون هويتها مستمدة من وحدة الهوية والمشاعر والتاريخ ولكن من وحدة السوق الاقتصادية وما يمكن أن تقدمه لخدمة اهداف الاستراتيجية الأمريكية العالمية. إن الشرق أوسطية التي تطرح اليوم كبديل عن الجامعة أو الوحدة العربية هي الاستراتيجية الجديدة التي تتبعها الولايات المتحدة على سبيبل إخضاع سياسة الأقطار العربية ومصالحها لمصالح السيطرة العالمية ومتطلباتها وتوظيفها مع مواردها البشرية والاقتصادية في صراعها من أجل إعادة تأهيل نفسها ونظام سيطرتها الاستعماري أو شبه الاستعماري ومن ضمنه تأهيل إسرائيل أيضا أي ضمان توسعها وامنها واستقرارها وتفوقها كجزء من نظام السيطرة الجديد.
ليس هناك أي شك إذن في ان الجامعة العربية مستهدفة من قبل القوى الدولية وبعض القوى المحلية أيضا، كما أن قسما متزايدا من الرأي العام العربي بدأ يميل إلى التخلي عن الجامعة والتضحية بها نتيجة خيبة الأمل الطويلة بإصلاحها. لكن ما هو مستهدف في الواقع ليس الجامعة العربية نفسها وإنما فكرة التضامن والعمل العربي المشترك واحتمال الاندماج العربي الذي يفتح آفاق التنمية المشتركة ومن ورائها تعزيز وترسيخ الهوية العربية كهوية مسيطرة في المنطقة المشرقية التي تريد الدول الغربية أن تبقى منظقة نفوذ وسيطرة خارجية لما تتمتع به من مزايا استراتيجية. فهي تطمح إلى تفريغ المنطقة العربية من أي منظومة جيوستراتيجية خاصة وتسعى إلى تفكيك عرى التضامن في ما بين أقطار العالم العربي في سبيل أن تملأ هي نفسها هذا الفراغ وكي ما يمكنها هي نفسها أن تحتل موقع المنسق بين جميع الدول والأقطار والمنظم لعلاقاتها الإقليمية في ما بينها، أي موقع السيطرة الجيوستراتيجية الإقليمية. وليس الدفاع عن الجامعة العربية كما هي أو مهما كان تركيبها وفعاليتها هو الذي يسمح بإنقاذ الرهان الاستراتيجي العربي المتمثل في أن يبقى العرب أو ان يصبحوا في المستقبل المنسقون للعلاقات في ما بينهم والمنظمون لأمنهم والمحددون لأجندتهم الوطنية والإقليمية. إن إنقاذ حلم العرب في ان يكونوا أسياد في منطقتهم وعلى أرضهم او على الأقل في أن يكونوا طرفا فاعلا ومؤثرا في تقرير مصيرهم والدفاع عن أمنهم وتحديد اهدافهم وخياراتهم المتعلقة بضمان مستقبل أبنائهم لا يتوقف على الدفاع عن الجامعة العربية مهما كانت وكيف ما كانت ولكن في تحويل الجامعة العربية إلى أداة فعالة وفاعلة في تنسيق العمل العربي وتوحيد الأجندة ووسائل العمل السياسية والاقتصادية والاستراتيجية العربية. وهذا التحويل بوصفه وسيلة لإعادة تفعيل الجامعة هو الذي يبرر الانتقاد الذي يحق للعرب أيضا أن يوجهوه لجامعتهم مهما كانت قوة هذا الانتقاد أو صراحته.
وفي هذا المجال، ليس من المبالغة القول إنه إذا كان تاريخ الجامعة العربية لا يخلو من الانجازات إلا أن جصيلة العمل العربي المشترك العام كانت سلبية تماما، بل إن قسما كبيرا من هذه الانجازات كان يمكن أن يحصل مع وجود الجامعة أو من دونه كما هو الحال في جميع مناطق العالم الأخرى. ومقياس هذه الحصيلة هو حجم الإنجازات بالمقارنة مع الإمكانيات والفرص المتاحة. فقد كان من المتوقع لمنظمة إقليمية تضم بلدانا تنتمي إلى ثقافة واحدة وتحركها قوى شعبية عريضة تنادي بالتقارب والوحدة وتعلن انتماءها الواحد من دون أن تبذل الحكومات أي جهد لإقناعها بذلك كما هو الحال في المناطق الأخرى أن تتطور المبادلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والثقافية بشكل واسع بما يدفع نحو اندماج إقليمي قوي يفتح آفاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة وأن تتحقق أهداف التعاون بصورة أسرع بكثير مما تحقق في بقية بلدان العالم التي لا تملك ثقافة مشتركة ولا وشائج قربى تاريخية وحضارية متماثلة. لكن واقع الجامعة العربية يشهد بغير ذلك تماما. فالجامعة العربية التي تعد أقدم منظمة إقليمية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بقيت هي نفسها ولم تتطور تقريبا لا في بنياتها ولا في قواعد عملها ولا في الأهداف التي تسعى إليها منذ نشوئها عام 1945. وقد منيت جميع الإصلاحات التي اقترحتها عليها بعض الدول وسكرتاريتها الخاصة منذ الثمانينات من القرن الماضي حتى الآن بالفشل بالرغم من وجود مشروعات جاهزة منذ عقود لتطوير عملها وتحسين أدائها وتغيير هياكلها. وينطبق الأمر نفسه على نشاطات هذه المنظمة القديمة.
فعلى المستوى الاقتصادي لم تتغير نسبة التجارة البينية منذ إنشائها حتى الآن ولم تزد عن 8 إلى 10 بالمئة بالرغم من تخفيض الرسوم الجمركية بمعدل 60 بالمئة وإنشاء هيئة لدعم المبادلات التجارية بين البلدان العربية. وبالمثل لا يزيد حجم الاستثمارات العربية البينية بعد مرور ستين عاما على تأسيس الجامعة العربية عن 4.5 من حجم استثماراتها الخارجية في العالم. بينما لا تتجاوز الاستثمارات الأجنبية في بلدان الجامعة العربية كلها عن 2% من الاستثمارات العربية في الخارج. ولا يزيد حجم التجارة العربية جميعا عن 3% من حجم التجارة العالمية.
وليست الانجازات بأفضل من ذلك على الصعيد السياسي. فبعكس ما توحي به بيانات الجامعة وأعضائها معا، ربما كانت المنطقة العربية من أكثر المناطق تدويلا في العالم. فالدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هي التي تتدخل لضبط النزاعات التي تولد بين أطرافها المختلفة وعلى تدخلها يتوقف ضبط هذه النزاعات أو حلها وليس على تدخل الجامعة العربية. ولم تفلح الجامعة في أي فترة في التقليل من مصادر هذه النزاعات أو من الحد من اندلاعها. بل يمكن القول أن هذه النزاعات تفاقمت وتضاعفت بموازاة نمو الجامعة العربية وأصبحت اليوم أكثر حدة وانتشارا مما كانت في السنوات الأولى لقيام المنظمة العربية. ومن هذه النزاعات ما ارتبط بأسباب سياسية وايديولوجية كتلك التي طبعت الحقبة الأولى لمرحلة ما بعد الاستقلال عبر الصراع بين القوى التقدمية والقوى المحافظة العربية، ومنها ما ارتبط بالخلافات حول الحدود ومنها ما كان نتيجة الصراع على احتلال مركز القيادة أو الزعامة العربية ومنها ما كان له علاقة بالصراع على اقتسام بعض الموارد الاقتصادية والمنجمية أو تحسين موقع بعض البلدان من الناحية الجيوستراتيجية.
والأمر مشابه لذلك على مستوى العلاقات الثقافية. فبالكاد نجحت المنظمة العربية للعلوم والثقافة في الاحتفاظ بحد أدنى من التنسيق بين الدول العربية في أمور تطوير اللغة ورصد التطور في المصطلحات والمفردات العلمية. لكنها أخفقت إخفاقا مشهودا في بناء أي هيئة للتعاون والتنسيق في مجالات البحث العلمي والتقني وتطوير وتوحيد مناهج التربية والتعليم الأساسية وبناء قواعد مشتركة للمعلومات داخل شبكة الانترنيت أو خارجها وإقامة مؤسسة فاعلة لتأهيل الأطر والمهارات التقنية والعلمية وبناء دار للترجمة العلمية لا غنى عنها لنجاح أي مشروع تنمية علمية وتقنية.
لم يعد هذا الإخفاق سرا على أحد ولا مفاجأة لأحد. وقد طرح أسئلة كثيرة ومستمرة منذ عقود على النخب السياسية والثقافية العربية. وقد اهتمت أمانة الجامعة نفسها لفترة طويلة بهذه المسألة وسعت إلى إشراك العديد من الباحثين في التأمل فيها وتقديم الحلول والمقترحات الكفيلة بمعالجتها. وقدم الباحثون وخبراء الجامعة أنفسهم ولا يزالون يقدمون أفكارا واقتراحات عديدة لتجاوز الوضع المؤسف الذي تعيشه الجامعة وتطويرها بما يؤهلها لمواجهة التحديات المتزايدة التي تواجهها بلدانها. وآخر هذه المشروعات ما طرحه الأمين العام الحالي للجامعة السيد عمرو موسى في مؤتمر القمة الذي عقد عام 2004 . لكن السؤال الجديد أو الجدير بالطرح هو ما هي الأسباب التي أدت إلى إخفاق الجامعة وما هي العوائق التي تحول دون إصلاحها أو التي تؤخر إصلاحها وهل هناك أمل في مثل هذا الإصلاح؟

2 - لماذا لم يمكن إصلاح الجامعة العربية

قلت في مقال سابق أن الجامعة العربية تشكل اليوم موضوع صراع قوي بين أنصارها وأعدائها وأن هذا الصراع يجري في سياق دولي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى إعادة صوغ المنطقة الشرق اوسطية من الناحية الجيوسياسية على أسس جديدة تنحو إلى تهميش فكرة القومية أو الوحدة أو الهوية العربية السائدة لصالح بناء نظام تسيطر عليه علاقات السوق والمبادلات التجارية ويخضع في هياكله الإقليمية إلى حاجات تحقيق السيطرة الامريكية الجيواستراتيجية في الشرق الاوسط والعالم اجمع. وقلت كذلك أن مستقبل الجامعة العربية مرتبط بقدرة العرب على إصلاحها حتى تتحول إلى إطار قانوني ودبلوماسي فاعل وفعال في التقريب بين البلدان العربية وتعزيز تضامنها وتوحيد سياساتها ودمج أسواقها وتكثيف مبادلاتها التجارية. لكن لن يكون مثل هذا الاصلاح ممكنا من دون معرفة المشاكل المطروحة والأسباب التي حالت او التي لا تزال تحول دون نجاح المنظمة العربية الاقليمية.
هناك في نظري ثلاثة عوامل رئيسية تفسر تعثر جامعة الدول العربية وعجزها عن تحقيق الآمال التي علقها العرب عليها والوظائف الجديدة التي يسعون إلى ايكالها لها من دون نتيجة تذكر حتى الآن.
العامل الأول يتعلق بتاريخ نشوئها والسياق الذي تكونت فيه والاهداف التي اوكلت لها بالفعل وحددت إلى حد كبير بنيتها الأساسية التي لا تزال قائمة حتى اليوم والتي أخفقت جميع محاولات تجاوزها. فمنذ خروج البلدان العربية من الحقبة الاستعمارية التقليدية اخذت تتبلور في الحقل السياسي العربي أجندتان أو برنامجان متناقضان تماما ومتنافسان في ما يتعلق بالرؤية الجيوستراتيجية العربية. البرنامج الاول تركز عليه الحركة القومية التي تنظر إلى وجود الدول العربية الناشئة بعد انحسار السلطة الاستعمارية كتكريس لعملية التقسيم اللاشرعية التي قامت بها السلطات المحتلة، ومثالها الساطع التقسيمات التي نشأت حسب اتفاقيات سايكس بيكو الشهيرة التي عكست تقاسم الشرق العربي بين الفرنسيين والبريطانيين كمناطق نفوذ، وتنظر إلى تجاوزها وحلها في دولة قومية عربية واحدة تزيل آثار التقسيم الاستعماري وتعيد توحيد المنطقة العربية. ومن الجانب الآخر أجندة وبرنامج الحكومات والقوى الجديدة الناشئة في إطار الاستقلال التي كانت تنزع بشكل تلقائي إلى تكريس الدول الجديدة المستقلة كحقائق نهائية أو شبه نهائية وتاكيد الهوية المحلية المرتبطة بها.
فمن المعروف أن إحدى القوى المحركة والدافعة الأساسية لحركة الكفاح ضد السيطرة الاستعمارية وضد الهيمنة الخارجية كانت، ولا تزال في الواقع، فكرة الوحدة العربية أو الانتماء لأمة واحدة والرهان على تحقيق هذه الوحدة وتأكيد الهوية المشتركة التي تقف وراءها في سبيل ضمان قدر أكبر من الكرامة والسيادة والاستقلال. وقبل أن تتحول الفكرة العربية إلى حركة شعبية وأهلية مناوئة او بالأحرى نازعة إلى مناوئة النظم والحكومات الجديدة الناشئة لكن مع توقع صعودها، وفي سياق تأمين الحكومات العربية المستقلة أو شبه المستقلة المؤيدة للغرب وضمان استقرارها في المستقبل تبلورت في الأوساط الدبلوماسية الرسمية فكرة إقامة رابطة للدول العربية تستجيب لما عبر عنه أنتوني ايدن وزير خارجية بريطانيا في تصريح له (29 مايو 1941) بآمال العرب في الوحدة وما عاد إلى التذكير به ثانية أمام مجلس العموم البريطاني (24 فبراير 1943). وهكذا انطلقت بمبادرة من رئيس وزراء مصر مصطفى نحاس باشا مسيرة بناء الجامعة التي بدأت بالتوقيع على بروتوكول الاسكندرية عام 1944 كوثيقة أولى للجامعة التي ستتأسس في العام التالي. وقد حسم النقاش على طبيعة الجامعة بين وجهتي نظر ترى إحداهما ضرورة إنشاء اتحاد الدول العربية بينما تميل الثانية إلى إنشاء رابطة أقل طموحا تكتفي بمهام التنسيق في سياسات الدول. وهي الوجهة التي ستتغلب في النهاية والتي ستحدد مصير جامعة الدول واهدافها المحدودة. فبعكس ما يعتقد الرأي العام الحالي لم يكن هدف الرابطة التي تكونت في الخمسينات ايجاد اداة قانونية وسياسية تدفع نحو دمج البلدان العربية وتوحيد سياساتها لتعزيز استقلالها جميعا وزيادة فرص تنميتها الاقتصادية بقدر ما كان الهدف تكريس الوضع الجيوستراتيجي التي خلفته الحقبة الاستعمارية وتأمين استمرار تبعية المنطقة عموما وكل دولة مستقلة شكليا فيها للسياسات الغربية وبشكل خاص للسياسة البريطانية. وهذا واضح من نص برتوكول الاسكندرية الذي يجعل من استقلال وسيادة الدول الهدف الأول لها ولا يتحدث عن دمج او توحيد وإنما عن تنسيق وتعاون وتوثيق للصلات بين الدول. وهو واضح أيضا في قواعد عمل الجامعة التي تؤكد على أن قراراتها تتخذ بالاجماع وليس بالأغلبية كما ان هذه القرارات ليست ملزمة إلا في حالة النزاع بين دول. وفي النهاية يمكن القول إن بنية الجامعة لم تكن تؤهلها للعب دور تفعيل الحياة العربية المشتركة أو الدفع في اتجاه بناء مصالح مشتركة وإنما لتقوم بدور ملتقى عام يسمح للحكومات والزعماء العرب بالتفاهم والتنسيق والمساومة وعقد الصفقات في ما بينهم. أي أن الجامعة العربية في الصيغة التي ولدت فيها لم تؤسس لتحقيق الاتحاد أو الاندماج العربي بقدر ما أسست لمنع قيام مثل هذا الاتحاد ولتكريس التقسيم الذي حصل لضمان مناطق النفوذ الثابتة للأطراف الغربية وتأمين الحكومات التابعة لها ضد مخاطر تطور الحركة الشعبية المعارضة والمعادية للغرب ومخاطر النزاعات المحتملة بين الحكومات العربية الجديدة وما يمكن أن تؤدي إليه من إضعاف الاستقرار.
وليس هناك شك في أن هذا التكوين الأصلي أو البنيوي الذي ميزها منذ تأسيسها يشكل أحد العوامل الأساسية التي تفسر إخفاق الجامعة العربية، او بالأحرى عجزها عن تحقيق ما يتطلع إليه الرأي العام العربي بأغلبيته. وإذا لم يتم التركيز على هذا العامل في الماضي، حتى لدى اولئك الذين انتقدوا الجامعة العربية، فذلك لأن الجامعة قد تعرضت بسرعة للتحدي الفلسطيني الخطير واضطرت إلى أن تتخذ مواقف تتناقض مع اهدافها حتى لو بقيت هذه المواقف إعلامية. وهذا ما عبر عنه توقيع ميثاق الدفاع العربي المشترك عام 1952 وبقاؤه في الوقت نفسه حبرا على ورق. كما أن ديناميكيات الصراع السياسي والإقليمي داخل المنطقة العربية سوف تدفع إلى تهميش هذه الجامعة نفسها مع توجه الأنظار نحو الحركة القومية العربية الشعبية أو الشعبوية الصاعدة التي ستصبح محط آمال العرب في تحقيق الأهداف التي كان من الممكن أن ترتبط بتكوين الجامعة. وفي ظل صعود الناصرية كأقوى تعبير تاريخي عن الحركة القومية الشعبية العربية سوف يخفت مفهوم الجامعة تماما لصالح مفهوم الوحدة العربية الاندماجية. ولن يكون من الصعب على قيادة الحركة القومية في تلك الفترة من استخدام الجامعة نفسها كأداة من أدوات عملها الإقليمي والدولي أو من تحييدها إذا وجدت أن من الصعب عليها الاستفادة منها.
أما العامل الثاني فيتعلق بغياب الإرادة السياسية عند الدول العربية. فإذا كان من المسلم به أن البنية الأساسية للجامعة قد ارتبطت بحقبة النفوذ البريطاني وبحاجات الأنظمة العربية التابعة لتكريس التقسيمات الاستعمارية إلا أن أحدا لم يمنع العرب في ما بعد، خاصة بعد الانهيار الذي تعرض له النظام الإقليمي شبه الاستعماري الذي خلفه البريطانيون في المنطقة على إثر حرب السويس عام 1956 وانتصار الحركة القومية من إعادة النظر في بنية الجامعة وإصلاحها لتستجيب بشكل أفضل لحاجات السياسة والاستراتيجية العربية. وقد أصبحت الحاجة إلى منظمة إقليمية فاعلة حادة بشكل خاص بعد فشل مشروع الوحدة العربية الاندماجية وتراجع الحركة القومية الشعبية واعتراف القيادة الناصرية نفسها بهذا الفشل والابتعاد نهائيا عن فكرة الوحدة العربية القومية. وزاد من هذه الحدة تفاقم مخاطر السياسة الاسرائيلية التوسعية وتهديدها لاستقرار الدول بعد نجاحها منذ 1967 في انتزاع أجزاء إضافية من الأرض العربية واحتلالها وتكريسها لتوسيع الرقعة الاستيطانية اليهودية. وقد عبرت هذه الحاجة الماسة لتفعيل الجامعة عن نفسها عام 1970 من خلال التوقيع على السوق العربية المشتركة ثم عام 1980 من خلال ميثاق العمل العربي. وإذا بقيت هذه الاتفاقيات والمواثيق من دون تنفيذ و لم يحصل إصلاح لبنية الجامعة العربية بالرغم من تراجع الحركة القومية المنافسة وتزايد التهديدات الاسرائيلية وتفاقم المخاطر التي تضعف صدقية الدول العربية فذلك لأن هذه الدول او بالأحرى الحكومات والنظم والقوى التي حكمتها لم تكن تملك الإرادة، جميعها أو أكثرها، لإقرار إصلاحات جدية تخرج الجامعة من حالة الشلل التي ولدت فيها وتحولها من أداة لتكريس التشتت العربي وضمان بقائه إلى أداة لتحقيق التنمية العربية المشتركة وتأمين وسائل الدفاع ضد التحديات الاستراتيجية الخطيرة والمتعددة.
ولغياب هذه الإرادة في نظري سبب أساسي مشترك هو حرص كل نظام على أن يحل المشاكل ويواجه التحديات الواحدة بنفسه وبتعامله الخاص مع الدول الحليفة الخارجية واحيانا على حساب الدول العربية الأخرى وضدها إذا دعت الحاجة، أي حرصه على إرضاء القوى الدولية التي يعتمد عليها في حماية نفسه و إرساء استقراره. وهذا ما يشير إلى مسألتين: غياب مفهوم الدولة والمؤسسات لصالح مفهوم العصبيات وشبكات المصالح والتكتلات الزبونية الحاكمة وما يعنيه ذلك أيضا من ضعف الشعور بالمصالح العمومية والبعيدة. وكذلك انعدام الثقة بين هده الفئات الحاكمة في مختلف البلدان. ولعل تجربة الحركة القومية الشعبوية التي شكلت تهديدا حقيقيا للأنظمة القائمة في مرحلة الستينات قد خلفت عند النخب السياسية العربية الحاكمة عقدة خوف عميقة تجاه كل ما يتعلق بفكرة الوحدة العربية او يشير إليها او يدفع إلى الاقتراب منها مثلما خلفت عقدة الخوف من الحركة الشعبية ودفعت العديد منها إلى التمسك بصيغ مغلقة ومتحجرة للسيطرة السياسية بعيدة كل البعد عن مفاهيم السياسة العصرية. وبالرغم من أن خطر الوحدة على الطريقة الناصرية وبدفع مما سمي في تلك الفترة بالقوى الثورية الانقلابية قد زال تماما، مع تبني تلك القوى نفسها أو ما بقي منها على قيد الحياة استراتيجية العمل من داخل الجامعة العربية واعتمادا عليها للتقريب بين الدول العربية، إلا أن النخب السياسية الرسمية بقيت مترددة في إصلاح الجامعة العربية وبث روح جديدة فيها. وبدلا من أن تستفيد من تراجع الحركة الشعبوية في سبيل وضع مشروعها للتقارب والاندماج موضع التطبيق وتظهر قدرتها على تقديم حلول ولو جزئية للمشاكل الاستراتيجية الخطيرة التي تواجهها الجماعة العربية وفي مقدمها مشكلة التوسع والغطرسة الاسرائيليتين ومشكلة التنمية والتعاون الإقليمي، بقيت أمينة لخياراتها السابقة المعادية لأي شكل من أشكال الوحدة أو الاتحاد واعتبرت أي تفعيل جدي لاتفاقيات العمل العربي المشترك بمثابة تقليص من سيادتها وتهديد لسيطرتها المطلقة ومصدر خطر على استقرار نظامها السياسي. وكانت النتيجة خسارة رهان بناء الدولة سواء أكانت من النمط القومي أو من النمط القطري.

أما العامل الثالث فهو مرتبط بموقف الدول الغربية. فقد نظرت دول اوروبة الغربية التي تحتفظ بمصالح استراتيجية كبرى في المنطقة باستمرار بعين الشك إلى كل مشروع يهدف إلى تجميع القوى في جنوب المتوسط منذ محاولة محمد علي باشا في منتصف القرن التاسع عشر حتى يومنا الحاضر. وكانت ترى في تحقيق أي نوع من التجمع أو الاندماج بداية القضاء على نفوذها ومصالحها. وقد جاء رد فعلها على المحاولة الناصرية معبرا بشكل لا تردد فيه عن هذا الموقف الثابت كما برهن على ذلك العدوان الثلاثي على مصر أو ماسمي بحرب القناة عام 1956. وبعد تبني الولايات المتحدة يصورة مماثلة للدولة الاسرائيلية وبرنامجها التوسعي والأمني أصبح الوقوف ضد مشاريع التقارب العربية والعمل ضدها بوصفها أداة في يد السياسة التحررية المعادية للهيمنة الغربية وللتوسع الاسرائيلي سمة عامة للسياسات والاستراتيجيات الأطلسية عامة في المنطقة. وهكذا تم التخطيط لحرب 1967 كي تكون الضربة القاتلة لحركة القومية العربية الناصرية التي نظرت الدول الغربية إليها كمحاولة من قبل مصر والعرب لبناء إمبرطورية إسلامية جديدة على الحدود الجنوبية لاوروبة وانتزاع ما تبقى لهذه الأخيرة من مواقع ومناطق نفوذ في منطقة من أكثر المناطق حساسية استراتيجية في العالم. ووسم عبد الناصر في تلك الفترة بالنزعة القومية العنصرية ولم يتردد المثقفون والسياسيون الغربيون بتشبيهه بهتلر وتعبئة الرأي العام العالمي والعربي ضد الحركة التي يقودها والاهداف التي كان يسعى إليها. ويأتي مشروع الشرق الأوسط الموسع الجديد كتكملة لسياسة منع العرب من تكوين كتلة موحدة ومستقلة ودفعهم إلى الاندراج في السوق العالمية من منطلق واقعهم الراهن كدول ضعيفة وفقيرة وتابعة يمكن بسهولة التهامها وتوظيفها ضمن الاستراتيجيات الدولية.
لكن هل يعني ذلك أن مشروع التكتل العربي قد فقد مقوماته الموضوعية وأنه لم هناك لا حاجة ولا أمل في إصلاح الجامعة العربية ؟

3- مستقبل التكتل العربي

تتزايد الأسئلة في وسط الرأي العام العربي والعالمي معا حول مصير جامعة الدول العربية في عامها الستين. وبينما يعتقد البعض أن الجامعة العربية انتهت مثلها مثل فكرة الوحدة العربية بل فكرة العروبة والهوية العربية ذاتها مع تقدم مسار العولمة وانفتاح المجتمعات العربية على بقية بلاد وثقافات العالم وانهيار النظم الشمولية التي استخدمت الفكرة العربية أو نشأت في موازاتها وواكبت انتشارها، يعتقد البعض الآخر في العديد من الأوساط الصناعية والتجارية المتوسطة بأن الفرصة قد حانت الآن لإعادة إصلاح الجامعة وان هذا الإصلاح لم يكن في أي فترة على مرمى اليد مثل ما هو عليه اليوم. فهل يمكن إصلاح الجامعة العربية بالفعل بالرغم مما أصابها من ترهل وافتقار للصدقية وهل تهيأت الظروف التي تسمح بهذا الإصلاح، أو بمعنى آخر، هل أصبحت عملية التقارب والاندماج العربية، على أي مستوى ومن أي درجة او نوع كانت، ممكنة تاريخيا، موضوعيا وذاتيا معا؟
الجواب على هذا السؤال الجوهري يتطلب الإجابة الايجابية على الأسئلة التي تتعلق بمصير العوامل الثلاث التي شكلت العقبات الرئيسية امام تقدم العمل العربي المشترك وبالتالي إدانة الجامعة العربية بالجمود والفشل. الأول الذي يمس البيئة الجيوسياسية العامة في المنطقة يمكن صياغته على النحو التالي: هل أثبت النظام الإقليمي شبه الاستعماري القائم على -تكريس التفتيت الجغراسي للمنطقة و- الحفاظ على تبعيتها من خلال انماط معينة من الحكم والنخب الحاكمة و- إقصاء شعوبها عن القرار السياسي فيها وتهميشها، أقول هل أثبت هذا النظام فشله وسقطت ورقته أم أنه لا يزال قائما ولا يزال هناك من يسعى إلى إبقائه والحفاظ عليه؟ والثاني هل بزغت إرادة عربية قوية عند النخب الحاكمة في اتجاه توسيع دائرة التعاون وتطوير ادوات العمل العربي المشترك بهدف تحقيق المنافع الوطنية، وهل تغيرت طبيعة هذه النخب بما يسمح بالتفكير بهذه المصالح وجعلها مقدمة على المصالح الخاصة واستخدام الدولة اداة للسيطرة الفئوية؟ والثالث هل تبدلت مواقف الدول الغربية التي كانت رافضة لفكرة التجمع والتكتل العربي وأصبحت تنظر بعين الرضى عن مثل هذا التجمع لسبب أو آخر، وهل هناك تقارب في مواقفها او اتفاق بينها عليها؟

لاشك أن البيئة الجيوسياسية الشرق أوسطية قد تغيرت في سياق تغير البيئة الدولية العامة. وبعد خروج المنطقة من منطق الحرب الباردة هناك فرص لنشوء ديناميكيات جديدة لإعادة صياغتها. ومن ضمن مشاريع إعادة الصياغة هذه في سياق إعادة بناء النظام الإقليمي شبه الاستعماري، ولكن هذه المرة على حسب حاجات مشروع السيطرة الأمريكية العالمية. ومن بينها أيضا مشروع الشراكة المتوسطية الضعيف لكن القائم. ومنها أخيرا بوادر مشروع إصلاح الجامعة العربية الذي تقوده بعد الدول العربية المتضررة من الاجتياح الخارجي للإقليم وزوال أي هامش مبادرة مستقلة لدوله العربية. فأمام تصاعد التحديات الاسرائيلية والدولية وتسارع وتيرة التحولات الاقتصادية العالمية في سياق العولمة وتزايد مطالبة الدول الكبرى بالانفتاح الاقتصادي والتحرير السياسي بدأت النظم العربية تدرك شيئا فشيئا أهمية التعاون والاتفاق على سياسة مشتركة في ما بينها. واكتشفت وهي تحاول درء المخاطر المتصاعدة المحيقة بها وجود الجامعة العربية وإمكانية استخدامها كأداة للعمل المشترك السياسي والأمني الذي يمكنها من أن تحتفظ بدور لها في تقرير شؤون منطقتها التي بدأت الولايات المتحدة تنظر إليها كمسرح لإعادة صوغ الخريطة الجيوسياسية ومنطلق لنشر الاستراتيجية العالمية الجديدة. وهكذا بدأت فكرة إصلاح الجامعة العربية التي بقيت من دون تغيير يذكر خلال العقود الطويلة الماضية تصعد إلى مقدمة الأجندة السياسية لعدد من الدول العربية الكبرى المهددة بأن تفقد دورها ومكانتها امام التدخلات الخارجية المتنامية وتفرض عليها مستويات من التبعية لا تختلف عن تلك التي فرضت من قبل على الدويلات الصغيرة التي وضعت نفسها منذ بداية التسعينات تحت الحماية الأجنبية من خلال اتفاقات امنية تبدو متساوية لكنها تخفي حقيقة التسليم بمسائل الأمن والاستراتيجية الكبرى للدول الغربية. وقد بدأ الحديث في إصلاح الجامعة العربية منذ التسعينات لكنه لم يتحول إلى مشروع واضح لتعديل هياكل الجامعة العربية وإعادة تحديد أهدافها إلا في السنتين الاخيرتين وبموازاة البحث عن بدائل للحلول الاندماجية التي يطرحها التحالف الغربي على المنطقة ويقصد منها إلى تأهيل إسرائيل إقليميا من جهة وفتح المنطقة على العوالم غير العربية الفارسية والتركية والباكستانية بهدف حل هويتها الخاصة وتذويبها مع المطالب والتطلعات التي ترتبط بها في إطار اقتصادي وسياسي يقطع الطريق نهائيا على احتمال عودة الحركة الوطنية والشعبية العربية المعادية للغرب والمنافحة عن السيادة والاستقلال الناجزين والتنمية المستقلة.
وقد قدمت الامانة العامة للجامعة اعتمادا على عمل الخبراء مشروعا متكاملا للاصلاح يشمل إنشاء برلمان عربي يشكل مصدر بلورة التشريعات الخاصة بها ومحكمة عدل دولية وهيئة متابعة تنفيذ قرارات الجامعة وإصلاح آلية التصويت داخل الجامعة ومشروع تكوين مجلس أمن شبيه بمجلس الأمن الدولي لكن على مستوى المنطقة العربية ومجلس قومي للثقافة العربية ومصرف عربي للتنمية. قد ناقشت قمة القاهرة والجزائر عام 2004 ثم 2005 هذا المشروع وأقرت في جلستها الأخيرة إنشاء البرلمان العربي ووعدت بالموافقة على ملاحق التعديلات الأخرى في جلسات قادمة بعد تدقيقها من قبل الخبراء المعتمدين لديها. وقد بينت الاجتماعات والنقاشات الدائرة حول هذا الموضوع أن غياب الإرادة السياسية الذي كان عاملا رئيسيا في تعويق العمل العربي لإصلاح الجامعة لا يزال قائما بالرغم من وجود قوة دفع جديدة نتيجة خوف بعض الحكومات من ترك الساحة الإقليمية الجيوسياسية فارغة تماما امام الولايات المتحدة وإسرائيل لتعيدا بناء العلاقات الدولية في المنطقة حسب رغبتهما. وهذا بعني أن الأمر لم يحسم بعد. لكن بالمقابل إذا لم تتشكل بعد إرادة عربية جامعة لبناء نظام إقليمي عربي وبالتالي لإصلاح الجامعة العربية حتى تتحول من اداة للتغطية على العمل القطري المستقل والمنافس إلى وسيلة لتنسيق الجهود وتطوير القوى والمصالح المشتركة للشعوب العربية فإن هناك اليوم على الأقل جزءا من التكنوقراطية العربية التي أصبحت مقتنعة تماما بأنه لا توجد أي إمكانية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية من دون توحيد جهود البلدان العربية والتنسيق بين سياساتها.
أما في ما يتعلق بموقف الدول الكبرى التي كانت مناوئة لأي مشروع تكتل عربي يستبعد إسرائيل ويشكل تهديدا لها او يهدد بالقضاء على مناطق النفوذ والمصالح الغربية فالأمر لا يختلف عما حصل داخل مجموعة الدول العربية نفسها. فبعد زوال الوهم الغربي حول القوة العربية والانكشاف الكبير للموقف العربي وللعجز الذي يميزه أصبح الخوف من زعزعة الاستقرار وتفجر الحروب الأهلية والنزاعات الدامية وما يمكن أن تسببه من هجرات بشرية تهدد استقرار الدول الأخرى الصناعية يشكل دافعا أكبر لدى الدول الأوروبية خاصة، لكن حتى في غيرها، للنظر بشكل أقل عداءا لسياسات التقارب والتعاون العربية. لكن سواء أتعلق الأمر بالولايات المتحدة أو بالاتحاد الأوروبي لا ينفصل هذا القبول المبدئي عن شرطين لايزال من الصعب على الدول العربية القبول بهما أو تلبيتهما من دون تحمل أضرار باهظة سياسية وجيوسياسية معا. الأول تحقيق التعاون العربي من دون المس بمصالح إسرائيل واستقرارها في الوقت الذي تتبنى فيه تل أبيب أشد سياستها التوسعية عنفا وعدوانية. والثاني عدم المس بالمصالح الأطلسية وربما بالتفاهم مع الكتلة الأوروبية الأمريكية لا في مواجهتها. ويمكن القول باختصار إن التغير الذي حصل في البيئة الجيوسياسية وفي مواقف الأطراف الدولية معا يفتح من الآفاق بقدر ما يفرض من التحديات وأن إقامة نظام عربي أو إصلاح النظام القائم ليس أمرا معطى ولا مسلم به ولكنه يتوقف على قدرة الدول العربية الراعية لهذا الاصلاح على العمل الجدي والسريع لتحقيق تقدم ملموس في الاندماج العربي وبالتالي على إقناع الدول العربية المترددة بالانخراط في مشروع عربي يواجه منافسات حادة من قبل قوى كبرى. كما يتوقف أيضا على النجاح في الوقت نفسه في احتواء المشاريع الاخرى المنافسة أو على الأقل تحييدها. فليس من الضروري أن يطرح المشروع العربي في مواجهة مع المشاريع الأمريكية والاوروبية إنما المهم أن يكون متميزا عنها وأن يملك ديناميكته الخاصة والمستقلة.
وهذا يعني في نظري أن الأمل في إصلاح الجامعة العربية ومن ورائها في بناء إطار للعمل العربي المشترك وربما لإقامة تكتل عربي فاعل أصبح أكثر من ضروري لمواجهة مشاكل الامن والاستقرار والتنمية في الأقطار العربية جميعا متوقف على التقدم على مسارين متوازيين: مسار التحويل الديمقراطي للنظم العربية بما يسمح لمفهوم المصلحة العامة والسعي لتحسين مستوى حياة السكان ورفاهيتهم والتفكير بمستقبلهم أن يتقدم على منطق السعي النخبوي لتعظيم المنافع الخاصة والثاني مسار التفاهم مع القوى الدولية والتحالف الأطلسي بشكل خاص الذي لا يزال يلعب الدول الأول في تكوين سياسات النخب الحاكمة في معظم الأقطار العربية سواء بسبب ما يستطيع أن يمارسه من ضغوط عليها أو بسبب ما يتمتع به من مواقع استثنائية وحاسمة في اتخاذ القرار "الوطني" في بعضها الآخر.
والمهم ان مستقبل الوحدة العربية من أي شكل كانت متوقف على النجاح في اكتشاف طريق ثالث يقع بين طريق الوحدة الاندماجية التي دافعت عنها وعملت في سبيلها من دون نتيجة تذكر حتى الآن الحركة القومية الشعبية وطريق الوحدة الرمزية أو الشكلية الفارغة من أي مضمون باستثناء التغطية على السياسات القطرية المتنافسة وإضفاء الشرعية عليها التي مارستها الحكومات العربية حتى الآن تحت راية الجامعة العربية ومن ورائها. وليس مهما الشكل الذي سيكتسيه العمل العربي التكتلي القادم، اكان باسم الجامعة العربية المصلحة وعبر إصلاحها او باسم أي تكتل آخر شبيه باتحاد فدرالي او كونفدرالي مادام الهدف هو بناء آليات حقيقية لتثوير قنوات التفاعل والتواصل والتبادل الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية على طريق التوصل إلى بناء كيان عربي مندمج وقوة إقتصادية إقليمية.

mercredi, mai 11, 2005

المعارضة السورية في الامتحان


الاتحاد 11 مايو 2005

في مواجهة الإعلان عن نوايا الإصلاح التي عبر عنها خطاب رئيس البلاد الجديد عام 2000 ، وكرد عليها، أطلقت المعارضة السورية منذ بداية عام 2000 شعار الحوار الوطني. وكان الهدف من هذا الشعار تطمين القوى الحاكمة أو الكثير منها على مواقعها بهدف الوصول إلى مصالحة وطنية تطوي صفحة الماضي الأليم لتبدأ صفحة جديدة على أسس مختلفة. وقد عبرت سياسة اليد الممدودة التي يمثلها هذا الشعار عن ايجابية المعارضة السورية تجاه العهد الجديد واستجابتها لما أظهره من رغبة إصلاحية واستعدادها لتجاوز ما تحملته في الماضي من أجل نقل سورية من دون عنف نحو الحالة الطبيعية. ولم تكن المعارضة مخطئة في ذلك فقد كان هناك العديد من العوامل التي تسمح بمثل هذا الانفتاح وتجعله احتمالا واردا كما تجعل من رفضه خطأ يمكن أن يقود إلى إجهاض احتمال التغيير السلمي ومن وراء ذلك إلى تشجيع خيار العودة إلى العنف الذي لفظه المجتمع السوري منذ فترة طويلة بعد كارثة أحداث 1980. ولم يكن من المستغرب إذن أن تكون فكرة الحوار الوطني، عبر مؤتمر أو من دونه، هي الفكرة التي طغت على كل شعارات القوى السياسية السورية وفكرها خلال السنتين الأوليتين من عمر العهد الجديد.
لكن بعد مرور خمس سنوات اختبرت خلالها المعارضة حقيقة النوايا الرسمية ودفعت فيها بعشرات المعتلقلين إلى السجن اختلفت الأوضاع كثيرا. فلم يعد التمسك بهذا الشعار يعكس في نظر الرأي العام إبراز تصميم المعارضة على تجنيب البلاد مخاطر المواجهة العنيفة التي يمكن أن تقود إلى زعزعة الاستقرار وتعريض البلاد لهزات هي في غنى عنها، وإنما أصبح يشير بشكل أكبر إلى إخفاق هذه المعارضة في تحقيق أي إنجاز وإلى دورانها في حلقة مفرغة وافتقارها لأي استراتيجية عملية لخوض معركة الديمقراطية التي تنادي بها سوى النقيق على النظام واستنفار مشاعره الوطنية.
والواقع ان المعارضة السورية تعاني من الأمراض نفسها التي يعاني منها النظام. فهي مثله لا تزال تعيش في عالم آخر ينتمي هو أيضا إلى مناخ حقبة الحرب الباردة. وقد أخفقت مثله أيضا في فهم مغزى التحولات الكبيرة التي حصلت على الصعيد الجيوسياسي والجيوثقافي كما أخفقت في استيعاب دروسها للانتقال بوسائل التفكير والعمل والممارسة إلى آفاق وأنماط جديدة تتفق ومشاعر الجمهور العربي الراهن ومتطلباته وأساليب عمله وتفكيره. ومن هنا فهي لا تزال تستخدم، مثل النظام الذي تخضع له أيضا، أساليب عمل بالية وتحلم ببناء الأحزاب على الطريقة القديمة وتتخبط بسبب ذلك في مشاكل الانقسام الفكري والتنظيمي. وهذا ما يفسر ما تعيشه من انعدام التفاهم ونقص القدرة على المبادرة والتخبط في الخيارات المتاحة أو عدم الوضوح فيها كما يفسر ما يحيق بها من فشل وما تعاني منه من عزلة مستمرة عن الرأي العام ومن الانفصال عن جمهورها الواسع.
لقد كان من الصعب فعلا على المعارضة أن تنجح في استقطاب الجمهور ونيل ثقته بينما لا تظهر هي نفسها أي قدرة على شق طريق آخر غير العمل مع النظام وعليه في سبيل تحقيق التغيير المنشود. فلا يعني هذا الاصرار على العمل من داخل النظام ومعه سوى اعتراف المعارضة بصورة غير مباشرة بانعدام الخيارات البديلة عندها واستخدامها شعارات الحوار المكرورة للتغطية على هذا الفراغ. ومن الطبيعي أن لا يقود مثل هذا الموقف إلى شيء آخر سوى تعزز شعور الرأي العام، لكن أيضا أنصار النظام، بهامشية المعارضة من جهة وبمركزية السلطة وتفوقها الساحق من الجهة الثانية. لقد حكمت المعارضة على نفسها بأن تظل رهينة العلاقة الثنائية التي تربطها بالنظام وأن لا تستطيع الخروج من الشرنقة التي وضعت نفسها فيها، أي من العزلة العميقة وربما المتزايدة التي تميز علاقتها مع جمهورها الذي ينتظر قيادة حقيقية لبدء مسيرة التحولات الديمقراطية الفعلية. فمما لا شك فيه أن الاستخدام المستمر لهذا الشعار خلال السنين الخمس الماضية من دون أي مردود بل ولا وعد من قبل النظام بقبول هذه الفكرة قد قضى على صدقية المعارضة بقدر ما أظهرها أمام الرأي العام وكأنها تركض وراء سراب دون ماء، في الوقت نفسه الذي جعل من المراهنة على النظام، بالرغم من كل ما أدت إليه سياساته على المستوى الوطني والاقتصادي والاجتماعي والانساني، الأفق الوحيد المفتوح كما لو لم يكن هناك بديل آخر سوى النظام لكن مع التعديل والانفتاح. وبالإجمال، بقدر ما أبرز هذ الموقف عدم نضج المعارضة وطفولية تفكيرها وبين كم هي عاجزة عن بناء استراتيجية تغيير مستقلة عن السلطة وكم هي مفتقرة لمشروع خاص بها يميزها عن مشروع النظام القائم ، ساهم في تعزيز استراتيجية السلطة القائمة على كسب الوقت.

إن مؤتمر الحوار الوطني بالمعنى الذي تطرحه المعارضة منذ خمس سنوات، أي كإطار للتفاهم بين قوى المعارضة والنظام القائم، يمثل في نظري هدية لا تقدر بثمن للحكم القائم. وغطرسة السلطة وحدها هي التي منعت أصحابه إلى الآن من تلقفه. ولو حظيت بقدر أفضل من الذكاء لقفزت عليه بأقصى السرعة في سبيل توريط المعارضة في حوار لا يقود ولا يمكن أن يقود في ظروف السيطرة الشاملة للحزب الحاكم إلى شيء آخر سوى احتواء المعارضة والسعي إلى فرض تسوية ضعيفة عليها تسمح باستخدامها كورقة في المواجهة الخارجية المفروضة عليها. وكان بإمكان مثل هذا الحوار لو جاء نتيجة مبادرة السلطة أن يشكل مناسبة كبيرة لتجديد شرعية النظام القائم وتكريسها مقابل تنازلات سطحية لا تتعدى كثيرا عملية توسيع وتحسين صيغة الجبهة التقدمية للحفاظ في النهاية على الوضع القائم كما هو.

ليس هناك شك في أن حالة المعارضة لا تزال هي النقطة الأضعف في عملية التحول الديمقراطي المطروحة اليوم على جدول العمل السياسي السوري. والمصدر الرئيسي لهذا الضعف لا ينبع من صمت الشارع ولا غياب اهتمام الرأي العام بقضايا السياسة والتغيير، كما يحلو للعديد من أطرافها أن يردد، ولكن من غياب الخط السياسي والاستراتيجية الناجعة والمقنعة في التغيير. فلو أرادت المعارضة أن تتحول بالفعل إلى معارضة وان تستقطب حركة التغيير العميقة المتصاعدة بدل أن تتركها ضحية أوهام الرهان على القوى الخارجية او على تحولات النظام الداخلية، فقد كان ينبغي عليها أن تفكر في طريقة عمل مختلفة تماما عن تلك التي اتبعتها حتى الآن، أعني أن تعمل على بلورة استراتيجية مستقلة ليست مرتهنة كليا كما هو الحال الآن للإرادة الطيبة لطبقة حاكمة لم تتردد في السخرية من فكرة التغيير وتداول السلطة خلال أكثر من أربعين عاما ولم تكف عن تأكيدها على رفض مبدأ الحوار وإصرارها على الانفراد بالسلطة حتى في أكثر الظروف خطرا على مستقبل البلاد. وكان المطلوب حينئذ فتح الحوار بكل أشكاله وصوره مع الجمهور الواسع والتفاهم مع المجتمع والتفاعل مع قضاياه وتعبئته وتنظيمه. ولا يمكن لمثل هذا الحوار الثاني أن ينطلق ويستقيم ما لم تظهر المعارضة، في طبيعة الشعارات التي ترفعها ونوعها، استقلالا حقيقيا وتصميما فعليا وإرادة قوية واستعدادا كبيرا أيضا لتقديم التضحيات من أجل التغيير. وهو ما يتعارض مباشرة مع التثبت على شعار واحد والتذكير، كلما تفاقم الخطر الداخلي أو الخارجي، بضرورة الحوار والمناشدة بالتغيير حرصا على المصالح الوطنية ورغبة في تحسين شروط الحياة الاجتماعية. إن درء المخاطر الخارجية والحيلولة دون مخاطر الانفجارات والانهيارات الداخلية التي قد تستدعي التدخلات الأجنبية يقتضي التخلي عن وهم التغيير بالشعارات والخطابات من أجل الانخراط في العمل الجدي على تكوين أوسع تآلف ممكن من القوى والتيارات والهيئات الشعبية والوطنية المستقلة التي تشكل الأداة الضرورية لأي تغيير، بل لأي إصلاح داخل النظام نفسه. فوجود هذه القوة هو الشرط الضروري أيضا للفرز داخل النظام بين القوى الاصلاحية والقوى المحافظة المعادية لأي إصلاح. فإذا كان للإصلاح من داخل الأنظمة العربية القائمة من معضلة فهي بالضبط غياب التمييز داخلها بين التيارات الإصلاحية والمحافظة بل ضياع الإصلاحيين أنفسهم واختلاط وعيهم وخور إرادتهم تحت ضغط قوى العطالة التاريخية وغياب قوى الضغط المحلية الحقيقية.

dimanche, mai 01, 2005

التغيير الديمقراطي في سورية

موقع الرأي 1 مايو ‏2005‏‏
تفخر هيئة تحرير موقع " الرأي " الذي يشرف عليه الحزب الشيوعي السوري( المكتب السياسي) بدعوتكم للمساهمة معنا في إنجاز محور صحفي بعنوان " التغيير الديمقراطي في سورية ، كما يراه القادة السياسيون وأصحاب الرأي والرؤية " .
تشمل المساهمة عدداً كبيراً من السياسيين المعارضين والمثقفين الدين يساهمون في حركة الإحياء السياسي الديمقراطي والمدني التي تشهدها البلاد منذ سنوات .
نأمل مساهمتكم عبر الإجابة على الأسئلة الموحدة التالية :

1- كيف تقيمون نضوج أسباب التغيير في سورية ؟
2- كيف تنظرون إلى علاقة الداخل والخارج في هذا التغيير ؟
3- كيف ترون جاهزية المعارضة ( شعبياً وسياسياً ) للدخول في هذه العملية ؟ وأين يكمن قصورها إن وجد؟
4- ما الأدوات والوسائل التي ترجحون اعتمادها من أجل التغيير ؟
5- هل يشكل" المؤتمر القطري" القادم برأيكم محط أمل لقرارات جدية بهذا الاتجاه ؟ ولماذا ؟
6- يبدو أن الاستبداد لا يريد أن يرحل ، ما النتائج المترتبة على استمراره أكثر ؟
7- كيف ترون صورة " سورية المستقبل " ؟ وأين موقعها اليوم بين الحلم والواقع ؟

تنشر الآراء تباعاً على موقعنا " الرأي " ، آملين أن تشكل مرجعاً لوجهة نظر المعارضة السورية على اختلاف أشكالها وتعبيراتها وانتماءاتها في التغيير الديمقراطي المنشود .
نرجو أن تصلنا الإجابة خلال أسبوع على بريد الموقع أو باليد . شاكرين سلفاً مساهمتكم الهامة في بلورة رؤية لمستقبل سورية الديمقراطية .
العنوان :
Fax : 6825224
e-mail : arraee@arraee.com

" هيئة التحرير "


1- أسباب التغير
ثلاث أسباب للتفاؤل:

هناك ثلاثة عوامل تعمل لصالح التغيير السياسي والديمقراطي منه بشكل خاص في سورية وعموما في العالم العربي الذي بقي بعيدا عن موجة التحول الديمقراطي الكبيرة التي أعقبت سقوط جدار برلين وانهيار التكتل السوفييتي. العامل الأول هو إفلاس النظم الاستبدادية والشمولية والديكتاتورية عموما في المنطقة العربية كما هو الحال في غيرها من المناطق وظهور النتائج الوخيمة والمدمرة لسياساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية والثقافية معا. وهذا الإفلاس وما يرتبط به من زوال الأوهام التي كانت معلقة عليها، يشكل عامل تدمير مستمر للأسس التي كانت تقوم عليها شرعيتها السياسية أو ما تبقى من هذه الشرعية في الوقت ذاته الذي يدينها بانعدام الصدقية ويجعلها تلجأ للحفاظ على بقائها إلى مختلف أساليب الكذب الفاقع والمراوغة والخداع والازدواجية والاحتيال كما يتجلى ذلك في خطابات وأحاديث مسؤوليها.
والعامل الثاني هو تبدل البيئة الدولية الجيوسياسية والفكرية معا بدءا من زوال مناخ الحرب الباردة الذي ألغى التنافس العدائي بين القوى العظمى وحاجتها في سبيل كسب الدول الزبونة المؤيدة لها إلى التساهل مع الحكومات الصديقة أو الحليفة وانتهاءا بما أحدثه هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 من اهتزاز في ثقة الولايات المتحدة بالنظم العربية الحليفة التي كانت تراهن عليها للحفاظ على مصالحها الحيوية والاستراتيجية في الشرق الأوسط وفي العالم عموما. وبعد الضياع الواضح والتردد في تحديد مصادر الخطر الرئيسية على هذه المصالح يبدو أن الرأي العام الغربي الرسمي قد بدأ يأخذ بالأطروحة التي لم نكف عن الدفاع عنها في السنوات الماضية والتي تقول بإن حكم الاستبداد والطغيان والارهاب الداخلي ليس هو السد الحقيقي ضد تفجر حركات العنف والارهاب الشرق أوسطية وامتداداتها في الدول الغربية بقدر ما هو الحاضنة الحقيقية لهذا العنف والسبب الأول في تفجره ونموه وانتشاره.
وهكذا نشهد اليوم إحلال خطاب الديمقراطية ونشر الحرية عند المسؤولين الأمريكيين والغربيين عموما محل الخطاب الذي ساد لأكثر من سنتين بعد أحداث 11 سبتمبر عن الحرب العالمية الصليبية على الارهاب. ولم يعد يمر يوم من دون أن يجد الرئيس الأمريكي الفرصة كي يردد أمام الصحافة أو الرأي العام تعلقه بمثل الحرية وحربه التي لا هوادة فيها ضد نظم القهر والاستبداد في العالم العربي وعلى امتداد الكرة الأرضية. ومهما كانت صدقية هذا الخطاب وبصرف النظر عن النوايا يشكل الالتزام العلني بالدفاع عن الحرية والديمقراطية في العالم والاعتراف بخطأ السياسات القديمة القائمة على تعزيز النظم الاستبدادية شرخا كبيرا في نظام القهر الذي يتخذ أكثر فأكثر صفة النظام العالمي الواحد أو المتضامن حتى لو تركز في مناطق معينة من العالم. فلم يكن من الممكن لأي نظام استبدادي البقاء حتى اليوم في العالم العربي وغيره لو لم يحظ بالدعم المادي وبالتغطية الواسعة السياسية والاستراتيجية والإعلامية الدولية.
والعامل الثالث هو انبعاث المطالب الاجتماعية وانتعاش المجتمع المدني في العالم العربي بموازاة تقهقر أوضاع النظم السياسية الاستبدادية وتبدل البيئة الدولية وانتشار الوعي بأهمية الديمقراطية وبقيم المواطنية لدى أوساط متزايدة من المثقفين ونشطاء المجتمع السياسي ومن ثم بعث المجتمع المدني بعد فترة طويلة من الضياع والصمت والاستسلام للقدر نتيجة غياب الآفاق والفرص المفتوحة. ولا شك أنه كان ولا يزال لوسائل الاتصال الجديدة التي أدخلتها ثورة المعلوماتية وشبكة الانترنت والإعلام الفضائي دورا كبيرا في هذا الانتشار السريع للقيم والأفكار الجديدة وفي تنامي الشعور بأن المجتمعات العربية جزء لا يتجزأ من عالم واحد وتصاعد وتيرة الطلب على الانخراط في هذا العالم والمشاركة في معايير الحضارة المدنية الصاعدة.
هذه العوامل الثلاثة هي التي تكمن اليوم وراء ما ينبغي تسميته الموجة الرابعة من التحول الديمقراطي والتي يشكل العالم العربي بؤرتها الرئيسية. وليس هناك شك في أن مسألة التحول الديمقراطي والانتقال من نظم واحدية استبدادية مغلقة نحو نظم تعددية تنزع نحو الديمقراطية هي التي ستحتل القسم الأكبر من السنوات الخمس أو العشر القادمة في البلاد العربية. وإذا لم تعد الدول الأطلسية التي تتمتع بنفوذ أساسي في المنطقة الشرق أوسطية إلى سياسة تعزيز النظم الاستبدادية كما كانت عليه سياستها التقليدية في المنطقة ولم تستخدم خطاب الحرية كوسيلة لتعزيز دورها في تقرير مصير البلاد العربية وفي إضفاء الشرعية على تدخلاتها المباشرة أو غير المباشرة في شؤونها الداخلية خاصة في تكريس الاحتلال والاستيطان اليهودي في فلسطين، يمكن لهذا التحول أن يحصل بوتيرة أسرع وأن تنتج عنه أوضاع تسمح بسهولة في إعادة بناء الحياة السياسية العربية على أسس جديدة تساهم في تحقيق حد كبير من الاستقرار وإطلاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية.

2- علاقة الداخل بالخارج:
أكثر عضوية مما نظن

هل صحيح كما قال الرئيس بوش في خطابه في الثالث عشر من أبريل 05 أن سقوط تمثال صدام حسين والنظام العراقي كان بالنسبة للعالم العربي بمثابة سقوط جدار برلين في أوروبة الذي سمح للبلدان الشيوعية وشبه الشيوعية التحرر من النظم الشمولية، وبالتالي هل كان التدخل العسكري الخارجي في العراق كما يؤكد الأمريكيون هو أساس الديناميكية الديمقراطية الجديدة التي تفجرت في العالم العربي بعد طول انتظار؟ من حق الرئيس الأمريكي أن يبحث عن شرعية متأخرة لغزوته العراقية التي أثارت ولا تزال الكثير من الاعتراض والاحتجاج بسبب ما تتعرض له من مصاعب وانكشاف انعدام مبرراتها بعد أن تبين خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل التي كانت إزالتها هي الهدف الرئيسي لها. لكن الحقيقة غير ذلك تماما.
فبالعكس مما يردده الرئيس الأمريكي، لم تعزز الحرب الأمريكية على العراق التوجه العربي نحو الديمقراطية ولكنها أخرته وجمدته لفترة لأنها زرعت الشك في محتوى التحولات الديمقراطية العربية وغاياتها وأوحت للرأي العام المتردد أصلا بسبب الخوف أو عدم الثقة بالنفس أن ما تدعيه النظم الاستبدادية من أن مشروع الديمقراطية هو بالأصل خيار خارجي مرتبط بالهيمنة الأجنبية وبعودة النظم الاستعمارية. وقد أصاب هذا الاختلاط الرأي العام العربي بالشلل بقدر ما قسمه وصدع الوعي الديمقراطي العربي. ولم تستعد الدعوة الديمقراطية التي انطلقت منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين ديناميكيتها إلا بعد أن تأكدت من أن مشروع الاحتلال الأمريكي للعراق قد باء بالفشل وأن مشروع الديمقراطية ليس مشروعا داخليا فحسب كما أظهرت ذلك المشاركة الواسعة في انتخابات فبراير وإنما هو أكثر من ذلك مشروع لا يتناقض بالضرورة مع برنامج الوطنية العراقية والعربية نفسها.
إن الذي دعا الأمريكيين إلى تبني الديمقراطية هو إدراكهم بأن حصان النظم الاستبدادية الذي ربطوا نفوذهم في الشرق الأوسط به خلال نصف قرن قد فقد السباق بل هو في طريقه لأن يلفظ النفس الأخير وأنهم إذا أرادوا الحفاظ على مواقعهم ودورهم ومصالحهم في المنطقة فلا بد لهم من أن ينقلوا البندقية من كتف إلى كتف آخر وأن يستبقوا الأحداث وينتزعوا هم أنفسهم زمام المبادرة في مسألة التحول الديمقراطي. فلن يقدم لهم هذا الموقف فرصة لا تفوت لركب موجة الديمقراطية والتحكم بها فحسب وإنما أكثر من ذلك تبرئة أنفسهم من خطايا الدعم الكامل وغير المشروط الذي قدموه خلال العقود الخمس الماضية لنظم الطغيان والإرهاب المحلية من دون أن يتذكروا لحظة مباديء الحرية والتعددية وتقرير المصير أو أن يشعروا بأي شكل من أشكال التعاطف مع الشعوب العربية أو التأثر بمعاناتها وآلامها.
لكن مهما كان الدافع إليه، يشكل هذا التبدل في الموقف السياسي والفكري الأمريكي إذا صدق واستمر عاملا حاسما في خلق ظروف ما أسميه مرحلة تفكيك النظم الشمولية والانتقال إلى التعددية في العالم العربي. وإذا كانت التعددية مدخلا لا مهرب منه لولوج الديمقراطية إلا أنها ليست متطابقة معها، ومن الممكن وجود تعدديات سياسية خالية من أي قيمة أو ديناميكية ديمقراطية وقائمة على تلاعب القوى الخارجية أو شبكات المصالح ومافيات المال بأصوات الناخبين ومصائرهم معا. لكن من الممكن إذا تغير هذا الموقف الامريكي من التعددية أن نعود بسهولة إلى الوضع الذي سمح لأنظمة الطغيان أن تستمر بمأمن من أي خطر، أي إلى نشوء شروط عقد صفقة جديدة بين النظم الاستبدادية والهيمنة الاستعمارية أو شبه الاستعمارية التي سمحت للعنف الأعمى المسلط على الشعوب أن يستشري بعيدا عن رقابة الرأي العام الدولي. لكن حتى لو حصل ذلك فلن تكون النتائج هذه المرة من النوع ذاته الذي ساد في الماضي ولكن تفجيرا للمجتمعات التي فقدت القدرة على الاحتمال وفتح الباب أمام حقبة طويلة من الاضطرابات وأعمال العنف الداخلية والخارجية.

3- جاهزية المعارضة:
نكتة الحوار والمؤتمر الوطني وضعف فكري وسياسي محير

تشكل المعارضة من دون شك العامل الأضعف في عملية التحول الديمقراطي المطروحة اليوم على جدول العمل السياسي السوري. فبالرغم من التطور الدراماتيكي في الأحداث بعد اغتيال الحريري وبروز موضوع التغيير السياسي في سورية على رأس جدول الأعمال السورية والعربية والدولية لا تظهر المعارضة الكلاسيكية السورية حتى الآن مع الأسف أية جاهزية لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية السياسية. فلا تزال تهوم في عالم الخيال وتحلم بالديمقراطية التي تريد أن تقدم لها على طبق من فضة وتطمح، عن طريق ما تسميه بالمؤتمر الوطني، إلى تفاهم مع القوى الحاكمة حول مسائل فتح النظام أو تغييره بدل أن تفكر ببناء جبهة المعارضة الديمقراطية التي تشكل وحدها أداة ثابتة لتحقيق التحولات الديمقراطية سواء أجاءت هذه التحولات نتيجة تصدع النظام وانقسامه أو نتيجة انهياره وتحلل قواه المختلفة. ولا تزال هذه المعارضة تعاني أيضا من الناحية السياسية من التخبط والانقسام وضعف التنظيم والعزلة الكبيرة عن الجمهور الواسع. وتعاني المعارضة من الأمراض نفسها التي يعاني منها النظام في الواقع، أعني أنها لاتزال مثله تعيش في عالم آخر ينتمي هو أيضا إلى مناخ حقبة الحرب الباردة ولم تستبطن التحولات الكبيرة التي حصلت على الصعيد الجيوسياسي والجيوثقافي وتستوعب دروسها للانتقال بوسائل التفكير والعمل والممارسة إلى آفاق وأنماط جديدة تتفق ومشاعر الجمهور العربي الراهن ومتطلباته وأساليب عمله وتفكيره. ومن هنا فهي لا تزال تستخدم أساليب عمل بالية وتحلم ببناء الأحزاب على الطريقة القديمة وتتخبط بسبب ذلك في مشاكل الانقسام الفكري والتنظيمي. مما يفسر ما تعيشه من انعدام التفاهم ونقص القدرة على المبادرة والتخبط في الخيارات المتاحة أو عدم الوضوح فيها.
ومن الصعب لأي محلل موضوعي أن يفهم تكتيكاتها التي صبت ولا تزل تصب في طاحونة النظام وتساعد على بقائه ووحدته. فلا يعني مطالبتها المتكررة للسلطة بالمشاركة في عقد مؤتمر وطني إلا استمرارها في الرهان على النظام القائم والعمل كما لو كان هو محور عملية التغيير القادمة. ولا يمكن لمثل هذا التكتيك إلا أن يعزز شعور الرأي العام بهامشية المعارضة من جهة وبمركزية النظام من الجهة الثانية وأن يغلق أمام المعارضة جميع آفاق الخروج من العلاقة الثنائية التي تربطها بالنظام ومن الشرنقة التي وضعت نفسها فيها وهو يعزلها بشكل متزايد عن جمهورها العريض الذي ينتظر قيادة حقيقية لبدء مسيرة التحولات الديمقراطية الفعلية. والواقع لا أستطيع أن أفهم ماذا تنتظره المعارضة الداعية منذ سنوات إلى مؤتمر وطني للحوار من نظام لم يظهر لها سوى الاحتقار والازدراء ويرفض منذ سنوات أن يتعامل معها من خارج وسائل القمع المخابراتية؟ وكيف يمكن للمعارضة أن تقنع نفسها بجدية مثل هذا الحوار مع السلطة لترتيب أوضاع البيت الداخلي كما تقول هي في مواجهة المخاطر الخارجية في الوقت الذي لا يرى أصحاب النظام وسيلة للتعامل معها أفضل من تلك التي استخدموها ويستخدمونها لكسر اعتصام آذار أمام القصر العدلي للمطالبة بإلغاء القوانين العرفية وحالة الطواريء المسلطة منذ أكثر من أربعين عاما على رقاب البلاد والعباد.
إن فكرة مؤتمر الحوار الوطني هي أكبر هدية يمكن للمعارضة أن تقدمها للنظام. وغطرسة أصحاب هذا النظام وقادته هي وحدها التي منعتهم من تلقفها وإحراج المعارضة وفرض التسوية من مواقع هامشية عليها. فما الذي يمكن أن يقود إليه مؤتمر حوار وطني يجمع بين السلطة والمعارضة اليوم سوى تكريس شرعية النظام القائم وتوسيع وتحسين صيغة الجبهة التقدمية الحاكمة والاستمرار في عزل المعارضة عن جمهورها الواسع الذي يئس من التلاعب والوعود الكاذبة والتغيير الشكلي في الأشخاص والقوانين للحفاظ في النهاية على الوضع نفسه وعلى السيطرة الأحادية والكلية للفئة الحاكمة والمالكة نفسها. إن شعار مؤتمر الحوار الوطني قد عطل عمل المعارضة خلال السنين الخمس الماضية وأفقدها صدقيتها بقدر ما أظهرها أمام الرأي العام وكأنها تركض وراء سراب دون ماء، في الوقت نفسه الذي أضفى على النظام الشرعية بما تضمنه من الاعتراف به كطرف وطني أو شريك محتمل في مشروع وطني وغسله من جميع ذنوبه وعواقب سياساته التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه. لقد ساعد هذا الشعار في دعم استراتيجية النظام القائمة على كسب الوقت بقدر ما أبرز عدم نضج المعارضة وطفولية تفكيرها وبين كم هي عاجزة عن بناء استراتيجية تغيير مستقلة عن السلطة وكم هي مفتقرة لمشروع خاص بها يميزها عن مشروع النظام القائم. لقد أظهرها وكأن كل همها هو الدخول في النظام والعمل تحت جناحه وجناح أصحابه.

4- احتمالات التغيير
الانقلاب الأبيض أو الانفجار:

إذا لم تطرأ تغيرات سريعة على سلوك المعارضة السورية في الأشهر القادمة فليس من المستبعد أن يتخذ التغيير طابع الثورة من الداخل أو الانقلاب الأبيض الذي تسعى فيه فئة داخل النظام بالتفاهم مع الولايات المتحدة إلى التخلص من الأجنحة المترددة وإعادة توزيع الأوراق بما يسمح لها بإدخال قوى جديدة للحقل السياسي وتوسيع دائرة المشاركة في النظام مع تعديل قواعد عمله وإقرار التعددية الشكلية التي تخدم استمرار المصالح الطفيلية القائمة أو جزءا منها.
والمطلوب من أجل تجنب هذا التحول الانقلابي الشكلي ( بما يعنيه من تعزيز الاتجاه نحو تحولات ديمقراطية حقيقية تعيد إدماج الشعب في العملية السياسية وتدفع إلى إعادة تنظيم الحياة العمومية على مباديء تقديم المصلحة العامة والمحاسبة والمسؤولية) تحرير المعارضة السورية من المفاهيم والممارسات والتجارب التي ارتهنت لها خلال العقود والسنين الماضية والارتقاء بعملها إلى مستوى القوة الفاعلة والقائدة لعملية التحول التي هي بالأساس عملية مجتمعية مفتوحة لمشاركة جميع أبناء المجتمع وليست حكرا على رئاسة الجمهورية أو الحكومة أو النظم السياسية. ويستدعي ذلك من المعارضة العمل السريع على تكوين إئتلاف واسع يضم إلى جانب القوى والتجمعات السياسية المعروفة هيئات المجتمع المدني الناشطة على أرضية التغيير الديمقراطي واحترام حقوق الانسان كما يستدعي إبراز تميز خياراتها السياسية والاجتماعية والثقافية والاستراتيجية أيضا عن خيارات النظام القائم.
وهذا يعني أن على المعارضة التفكير في استراتيجية عمل مغايرة لا تسعى إلى التغيير من خلال التفاوض مع النظام الذي أظهر بما فيه الكفاية رفضه للحوار والتفاوض خلال أكثر من أربعين عاما وإصراره على الانفراد بالسلطة حتى لو سمح لبعض الفئات بالمشاركة في بعض فتاتها، ولكن من خلال الحوار مع الجمهور الشعبي الواسع والتفاهم معه والتفاعل مع قضاياه وتعبئته وتنظيمه. وهذا يتطلب رفع شعارات تظهر استقلال المعارضة عن السلطة وتصميمها على التغيير وايمانها بهذا التغيير وبالقيم التي تدافع عنها واستعداداها لتقديم التضحيات في سبيل تحقيق أهدافها جميعا. وفي هذه الحالة ليس ما تحتاج إليه هو التذكير كلما تفاقم الخطر الداخلي أو الخارجي بضرورة الحوار الوطني الذي يوحي بإرادة المصالحة والتفاهم مع النظام ولكن بالعكس العمل على تكوين جبهة المعارضة الوطنية وترميم الشروخ القائمة في ما بين أطرافها وتذليل الصعوبات الفكرية والسياسية التي تحول دونها. ولا يمكن تحقيق ذلك أيضا من دون تبني شعارات واضحة وصحيحة تلف من حولها عناصر المعارضة الكلاسيكية والجديدة وتقدم للجمهور وللرأي العام السوري الذي أبعد بالترهيب والترغيب عن السياسة أفقا واضحا للعمل من أجل التغيير وايمانا حقيقيا بإمكانية تحقيقه.
وإذا كنا نرفض التغيير من الخارج كما نرفض التغيير عن طريق العنف فالشعار الوحيد الذي ينبغي رفعه والهدف الوحيد الذي ينبغي الوصول إليه هو فرض انتخابات نزيهة وشفافة تنبثق عنها حكومة تمثيلية تكون مهامها إعداد الدستور الجديد وقيادة مرحلة الانتقال نحو حياة ديمقراطية سليمة تشارك فيها جميع الأحزاب والقوى الاجتماعية والسياسية بما في ذلك حزب البعث نفسه على قدم المساواة مع الأحزاب الأخرى.
وكل ما عدا ذلك من شعارات مرفوعة اليوم حول المؤتمر الوطني والحوار الوطني التي تهدف إلى إحراج النظام في مسألة الإصلاح و التغيير سوف تنقلب وهي تنقلب على المعارضة بقدر ما تغذي الوهم بإمكانية الإصلاح من داخل النظام وتعطل التفكير في دفع المجتمع نفسه إلى أخذ مسؤولية التغيير على عاتقه والانخراط في معركة الإصلاح مع المعارضة أو من دونها. فلا يمكن لمثل هذا الشعار في نظري إلا أن يصب في طاحونة النظام. فإذا كانت المعارضة نفسها تراهن عليه وتنتظر مبادرته لإشراكها في جهود الإصلاح فما بالك بالرأي العام المعبد عن السياسة والمفتقر لأي تنظيم؟
إن الإصلاح لا يمكن أن يتحقق إلا مع تغيير النظام، أي مع تغيير قواعد ممارسة السلطة التي اعتمدت، منذ انقلاب آذار 1963، على تطبيق صيغة حكم الحزب الواحد وانفراده بالسلطة وتسيير البلاد والمجتمع معا بأوامر إدارية وعسكرية وأمنية، مهما تعددت الواجهات الشكلية. وهذا يعني أن الاصلاح يبدأ بتحرير الدولة من السيطرة الحزبية الفئوية، وضمان استقلال مؤسساتها تجاه أي حزب أو فئة حاكمين، الآن وفي المستقبل. وإصلاح السلطة وتبديل قواعد عملها في اتجاه تكريس التعددية والديمقراطية يبدأ بانتخابات نزيهة وشفافة تعكس بشكل سليم وفعلي إرادة المجتمع وتنوع مصالحه وتوجهاته واختياراته المختلفة. وخروج حزب البعث المسبق من الحكم ضروري لتحريره من استلاب السلطة وشرط لا غنى عنه لنجاح عملية إعادة تأهيل أعضائه الذين حولتهم السلطة المطلقة والمكرسة بالدستور خلال عقود طويلة من دون إرادتهم إلى أدوات في يد آلة حكم قهري غشيمة وغاشمة بقدر ما سمحت لهم بممارسة سلطة بعيدة عن أي مساءلة أو محاسبة وطنية سياسية أو أخلاقية، وبالتالي لإعداده للمشاركة الايجابية في الدولة الديمقراطية القادمة.
إن الاستمرار في نهج استجداء الحكم للحصول على جلسة حوار يفرض فيها بمزاوداته المعروفة بالوطنية جدول أعمال النظام المتمحور حول البقاء في السلطة بأي ثمن ومهما كانت عواقب السياسات التي يتبعها لحماية مصالح شبكاته المختلفة يعني إلغاء أفق التفكير ببناء حركة التغيير الديمقراطي الواسعة التي ينبغي أن تضم إلى جانب قوى المعارضة الكلاسيكية المنظمة جميع هيئات ومنظمات المجتمع المدني الناشئة وقطاعات الرأي العام المتعددة المطالبة بالتغيير خارج النظام وداخله أيضا. وبالعكس أن النجاح في بناء هذا التفاهم الديمقراطي الواسع هو الطريق الوحيد لفرض التنازلات السياسية والاجتماعية الحقيقية على فئات قليلة تماهت مع الحكم وطابقت دورها مع وظائفه وكرست نفسها مالكة أبدية للدولة والمجتمع.
وبالمثل، كما أن استمرار توجه المعارضة إلى مخاطبة الحكم بدل مخاطبة الرأي العام والمجتمع يجسد ما تعيشه هذه المعارضة من ضياع استراتيجي فإن تجاهلها للعالم الخارجي وتنكرها لضرورة الحوار مع أطرافه المختلفة وتعففها في البحث عن حلفاء لها ولقضيتها من بين القوى العربية الرسمية والشعبية وبين القوى الدولية، في الولايات المتحدة وأوروبة أيضا، يعكس استسلامها وتسليمها بالعجز ويهدد بترك المجال مفتوحا أمام صعود دور القوى الأجنبية في إحداث التغيير وتنامي قوة المنظمات التي ترتبط بها في الداخل والخارج على حساب تبلور وتعاظم وزن القوى الوطنية الداخلية. إن التردد في التوجه بقوة نحو المجتمع الدولي والحوار مع أطرافه وفئاته وقطاعات رأيه العام المتعددة والمختلفة لصالح الاستمرار في الرهان على تغير النظام من الداخل ورفض الانخراط في عملية السياسة الخارجية وتركها حكرا كاملا على النظام وتجاهل أهمية التحالفات مع القوى الصديقة أو المؤيدة للتغيير الديمقراطي وللمطالب الوطنية السورية يضعف الثقة بالمعارضة ولا يطمئن الرأي العام، لا في سورية ولا في العالم العربي ولا في العالم عموما على مستقبل التحولات السورية. إنه يثير الشك بقدرتها على الانجاز ويبعد الجمهور الواسع والقوى الدولية أيضا عن المراهنة عليها من أجل التغيير ويقدم لها الدليل على أن المعارضة السورية لا تزال خائفة من ممارسة المعارضة ولا تزال تحلم بالمشاركة في السلطة من خارج النظام أو من داخله أكثر مما تعنى بتغييره.

5- المؤتمر القطري:
تكريس الوصاية على الدولة والشعب

أكبر إساءة للمعارضة وللشعب السوري أن يفكر النظام باستيلاد الإصلاح من داخل التنظيم ذاته الذي قاد إلى الخراب العام والذي يعترف أصحابه أنفسهم أنه بحاجة إلى إصلاح. وسبب هذه الإساءة أن الحكم وأصحابه لا يزالون يتصرفون كما لو أن حكم الحزب الراهن هو قدر سورية وأنه يختصر بوجوده وأفكاره واختياراته الشعب السوري كله، يحل محله ويتكلم باسمه ويعمل وكيلا عنه. إن ربط الاصلاح القادم بمؤتمر الحزب هو إهانة للمجتمع السوري بقدر ما هو تعبير عن استمرار إرادة تغييبه باسم الاصلاح كما تم تغييبه من قبل باسم الثورة أو باسم النضال ضد الإمبريالية والصهيونية. فما هي قيمة هذا الشعب الذي رهن مصيره كاملا وللأبد بمجموعة من الحاكمين الذين لم يظهروا حتى الآن نجاحا في أي ميدان من ميدان السياسة أو الإدارة ولم ينجحوا بعد عقود من الحديث المكرور في التصحيح والتغيير والاصلاح والتطوير في صوغ أي برنامج أو أجندة أو أي مسودة مشروع يستحق هذا الاسم في إصلاح أي قطاع من القطاعات التي أصابها الخراب بفضل السياسات العشوائيه واللامسؤولة التي استمرت عقودا طويلة.
إن تكليف الحزب الحاكم ببلورة مشروع الإصلاح هو تأكيد لاستمرار نهج التمييز بين المواطنين واغتصاب حقوق الشعب من قبل حزب واحد وتكريس الوصاية الأبوبة على المجتمع.
يعدون الشعب بأن المؤتمر ربما يقر مبدأ إصدار قانون للأحزاب. وعلى الأغلب سيفعل ذلك لأنه ليس لديه اختيارات أخرى لقطع الطريق على الضغوط الخارجية ووضع حد للانتقادات التي توجه إليه كنظام قائم على التسلط والانفراد بالسلطة من قبل الحزب الواحد. لكن أي تعددية يمكن أن تصمد امام ما ينبغي تسميته بالاستعمار الرسمي الشامل للدولة ومؤسساتها من قبل الحزب وأجهزته وممثليه وما ينجم عن ذلك من تفريغ الدولة نفسها من مضمونها واستخدام أدواتها القانونية والأمنية والمادية والإعلامية لخدمة حزب واحد وسلطة برهنت خلال العقود الماضية أنها لا ترى غير مصالحها الخاصة ومصالح أفرادها وشبكات زبائنها ولا تملك أي مفهوم لمعنى المصالح العامة والعليا وليس لديها أي إحساس بوجود جماعة وطنية أو سياسية تستحق السؤال أو الحوار أو المشاورة حتى لا نتحدث عن المشاركة، اللهم إلا عند الحاجة إلى تكريس السلطة المفروضة بالقوة من خلال استفتاءات شكلية يراد لها أن تكون مصدرا لشرعية شعبية. هاهو النظام المصري لا يزال مستمرا في السياسة التسلطية ذاتها منذ عقود تحت سيطرة الحزب الوطني واستبداده وانفراد رئيسه بالسلطة المطلقة بل ونزوعه إلى توريث ابنه بالرغم من وجود قانون التعددية الحزبية ووجود صحافة معارضة نقدية قوية أيضا. إن المؤسسات السياسة ليست في مثل هذه الأنظمة إطار إنتاج السلطة وممارستها على الإطلاق. فهي ليست إلا قشرة رقيقة تغطي على المؤسسات التي تمارس بالفعل السلطة وتديرها وتتحكم بها كما تتحكم بالمجتمع والأفراد والمنظمات التي تتعامل بها عن طريق الضغط والتلاعب والتحييد والترغيب والترهيب، أعني المؤسسات الأمنية المدنية والعسكرية المتحالفة مع مؤسسة الرئاسة ذات الصلاحيات والسلطات الاستثنائية. وهكذا تتحول السياسية إلى مجرد لعبة لتمضية الوقت وإلهاء المثقفين النقديين والتغطية على السلطة المطلقة التي تمارسها الأجهزة التي لا تخضع لأي مراقبة أو مساءلة حقيقية لا في البرلمان المضمون لصالح السلطة القائمة ولا خارجه.
يعدون أيضا بتغيير القادة وتشجيع جيل جديد شاب على الحلول محل الجيل القديم المحافظ. ماذا يحمل مثل هذا التغيير في الواقع العملي؟ لا شيء على الإطلاق بل ربما حمل سلبيات أكثر من الايجابيات. يشهد على ذلك ما حصل خلال السنوات القليلة الماضية من تغييرات شملت العديد من المواقع في الرئاسة والإدارة والإعلام.
ليست حكومة الجمهورية السورية أو لا ينبغي أن تكون رهينة بقرارات فريق خاص أو فئة من قطاعات الرأي السورية بعثية كانت أو غير بعثيه ولا ينبغي أن تربط برنامج عملها بها. فهذا يعني أنها ليست ذات سيادة وأن السيادة هي ملك فئة محددة من الرأي العام. وبناء الإصلاح السوري على قرار حزب سياسي يدمر الأسس السياسية للإصلاح لأنه يرهنه بمصالح فئة خاصة من المجتمع ويسيء إليه. إذا كانت هناك نية حقيقية في الاصلاح فينبغي أن تعلنها الحكومة للشعب وتطرح برنامجها للاصلاح وتفتح حوارا حوله مع جميع أبناء الشعب الذي ستطلب منه المشاركة في تحقيق هذا البرنامج وفي بذل التضحيات لإنجاحه بما فيهم البعثيون.

6- ثمن استمرار النظام القائم
الموت تحت الأنقاض:

ماذا سيحصل إذا رفض نظام الوصاية الحزبية وتغييب الشعب والإخضاع بالقوة وتقييد الحريات والاستهتار بمعنى الحق والقانون أن يرحل؟
الجواب أن ما سيحصل هو ما نعيشه منذ سنوات طويلة قبل ظهور العهد الجديد وبعده، أي التراجع المستمر على جميع الجبهات الاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والمعنوية وربما الانهيار. فلا يستطيع أحد أن ينكر أننا أضعف اليوم في موقفنا تجاه إسرائيل مما كنا عليه منذ عقد أو عقدين ونكاد لا نملك خيارا واحدا لمواجهة احتلال اسرائيل لأراضينا وتكريس استيطانها لها وزرعها بالمستعمرات. ونحن في وضع إقتصادي أسوأ اليوم، بالرغم من جميع القوانين والاصلاحات التي قمنا بها في السنين الماضية، فقد تخلينا عن اقتصادنا المخطط ولكننا لم ننجح في بناء اقتصاد سوق نشيط، واستثماراتنا الخاصة، المحلية منها والأجنبية في تراجع مستمر. ومواردنا تتناقص في حين تتزايد نفقاتنا مع الركود الاقتصادي ومتطلبات الاندماج في السوق العالمية. ولا يزال معدل تزايد السكان عندنا أعلى من معدل نمونا الاقتصادي مما يعني تدهورا مستمرا في مستويات المعيشة وشروطها بالنسبة للأغلبية الساحقة من السكان. وهذا يعني تزايد التوترات ومخاطر انفجار النزاعات في المستقبل القريب. ونحن في وضع اجتماعي أكثر سوءا بما لا يقاس مما كنا عليه في العقد الماضي إذ تبلغ نسبة السكان الذين يعيشون على حافة الفقر 60 بالمئة بينما تبلغ نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر 30 بالمئة في حين يبلغ معدل البطالة حسب إحصاءات المنظمة العربية للعمل 30 بالمئة من القوة العاملة. وهو معدل مؤهل للارتفاع لأن الركود الاقتصادي لا يسمح بامتصاص أكثر من 10 بالمئة من 250 ألف شخص من الداخلين الجدد كل عام إلى سوق العمل. ونحن في وضع أسوأ أيضا من الناحية السياسية. فالنظام الأحادي الذي خضعنا له خلال عقود طويلة ماضية بدأ يتعرض لتحديات وضغوطات داخلية وخارجية زعزعت استقراره ولم يعد قادرا على احتواء قوى وتيارات الاحتجاج المتنامية والتي ستتفجر بسرعة في الأشهر والسنوات القادمة. فبدل أن يستفيد من السنوات الهادئة الماضية من أجل تطوير القنوات التي تسمح باستيعاب مطالب الاحتجاج والرد عليها استعدادا للطوفان القادم فضل، لقصر نظر القائمين عليه، أن يستمر في التشديد على القوى الجديدة و إغلاق جميع المنافذ أمامها بما فيها تلك المنتديات الفكرية البسيطة وراهن على تعزيز الإجراءات الأمنية وتجهيز فرق التدخل السريعة. وروحنا المعنوية الفردية والجماعية أسوأ اليوم من أي فترة ماضية فقد فقدنا الايمان بقدرة نظامنا على مواجهة التحديات والرد على المشكلات المستعصية ولكننا لا نثق بأي قوة داخلية قادرة على التغيير والاصلاح وأصبح أكثرنا ينتظر رحمة ربانية أو يراهن على تدخل القوى الدولية لمساعدتنا على حسم أمورنا. إننا فاقدين للثقة بقادتنا وبأنفسنا معا ويائسين من قدرتنا على التعامل الايجابي مع أي قوى أخرى عربية أم أجنبية.

7- سورية المستقبل
لن نحصد إلا ما زرعناه

سورية المستقبل ليست سرا. أنها مرهونة بعمل السوريين وذكائهم وقدرتهم على التفاهم لفكفكة الفخ الذي نصبناه لأنفسنا في السنين الطويلة الماضية والذي نجد أنفسنا اليوم رهائنه وضحاياه في الوقت نفسه. وهذا الفخ هو الاستسلام والتسليم لقائد ملهم أو لحزب طليعي ثوري بمقاليد أمورنا وتحميله المسؤولية جميعا مكاننا، أي تخلي الحاكم والمحكوم فينا عن واجبه الوطني والمواطني، الاول نتيجة سوء استخدام المسؤولية والثاني نتيجة الاستقالة السياسية والانسحاب من الشأن العام وانطواء كل فرد على مصالحه الخاصة والشخصية حتى لم يبق هناك مكان لا لفكرة وطنية ولا لمسؤولية جماعية. وهذا هو السبب في خراب أهم ما لدينا ولدى أي مجتمع آخر على الأرض أي الوطنية كروح وكمؤسسات وكقوى سياسية وكخيارات استراتيجية. ولا مستقبل لنا ولسورية التي هي نحن إن لم ننجح في معالجة خراب الوطنية هذا وفي إعادة بناء ذاتنا أو وعينا ودولتنا ومؤسساتنا وقوانا السياسية وخياراتنا الاستراتيجية على أسس تسمح لجميع الأفراد بالمشاركة وتعزز شعورهم بالانتماء إلى جماعة واحدة متضامنة ومتعاونة تحكمها مباديء أخلاقية من عدالة ومساواة وحرية ولا تعيش نهبا للأهواء الخاصة وللمصالح الأنانية ولا تخضع لقانون القوة الغاشمة "الطبيعية". فإذا نجحنا في ذلك نتحول إلى طرف يمكنه التفاوض مع أطراف أخرى والتعاون معها من أجل تنمية إنسانية لا يمكن أن تكون اليوم إلا إقليمية. وإذا أخفقنا سنفقد الثقة أكثر بأنفسنا ويفقد الشركاء المحتملون أيضا الثقة بنا وبقدرتنا على العيش حسب معايير الحياة الإنسانية الطبيعية، وسنتحول إلى حقل تجارب ومنافسات بين جميع الأطراف العربية وغير العربية التي تستطيع أن تستفيد من الموقع الذي نعيش عليه لتحسين مواقعها وشروط مفاوضاتها الإقليمية والدولية. إن مستقبلنا رهن بقدرتنا على إعادة بناء ثقتنا نحن أولا بأنفسنا وإعادة بناء ثقة الآخرين بنا كمجتمع إنساني نشيط وفاعل ويستحق أن يكون شريكا موثوقا في حضارة تتجه أكثر فأكثر إلى تكون كونية. وأنا لا أشك لحظة في أنه من وراء الأنقاض التي نرتطم بها اليوم وتنهال على رؤوسنا مع انهيار النظام وبالرغم منها تختمر روح مقاومة لا تنفذ لكل أشكال واحتمالات الانحدار نحو البربرية التي فرضت علينا، وأن سورية حرة وديمقراطية ملك جميع أبناءها ومصدر اعتزازهم سوف تظره بأسرع مما نعتقد من تحت الأنقاض و لن تتأخر كثيرا قبل أن ترى النور.