mercredi, février 16, 2005

الصراع على لبنان

الاتحاد 16 فبراير 2005

شكل اغتيال الرئيس الحريري في 14 فبراير الجاري ضربة قوية للمعارضة اللبنانية التي فقدت بتغييبه شخصية استثنائية تلتقي عندها خطوط وطنية لبنانية وإقليمية ودولية عديدة تجعل منها القطب السياسي الوحيد القادر على إعادة تركيب لبنان سياسي بديل كان من الممكن أن يسد فراغ ما بعد الحقبة السورية. لقد كان السؤال المطروح قبل أيام يتعلق في ما إذا كان تطبيق قرار مجلس الأمن 1559 وما يتضمنه من انسحاب القوات السورية من لبنان سيكون ثمرة تفاهم سوري لبناني يضمن استمرار الأمن والاستقرار في البلاد أم سيكون بالإكراه ونتيجة الضغوط الخارجية وانصياعا لها. لكن تحول الوضع اليوم فأصبح السؤال يتعلق في ما إذا كان لبنان سيحتفظ باستقراره أم أنه سيتحول من جديد إلى ساحة للمواجهة الإقليمية والدولية.
كان الانسحاب السوري من لبنان عن طريق التفاهم سيفرض على سورية التراجع أو الانكفاء لكن مع الاحتفاظ بمواقع ثابتة وقوية تعزز قدرتها على الاستمرار في مقاومة الضغوط الأجنبية، في حين أن إخراجها بالقوة والإكراه يمثل تحديا كبيرا للنظام القائم فيها ويجعل من الانسحاب منعطفا خطيرا في سلسلة الانهيارات التي تعاني منها المواقع الإقليمية السورية منذ أن بدأت الولايات المتحدة استراتيجيتها الجديدة في الشرق الأوسط في سياق ما أطلقت عليه اسم الحرب على الإرهاب.
وقد أظهر تعيين السيد وليد المعلم في بداية هذا العام مساعدا لوزير الخارجية السورية ثم تكليفه بالملف اللبناني وإرساله في مهمة تفاهم مع أطراف المعارضة اللبنانية الشهر الماضي مدى إدراك القيادة السورية لأهمية هذه المسألة وحساسيتها بالنسبة للوضع السوري. فقد بذلت سورية جهودا استثنائية لتغيير أسلوب عملها الذي يعتمد بشكل مباشر على الإدارة الأمنية لتلتقي مع تطلعات المعارضة اللبنانية على أمل أن يمكنها ذلك من إدارة عملية الانسحاب العسكري من لبنان عبر تفاهم سوري لبناني وليس كتنفيذ للقرار الدولي الذي تتشبث بتطبيقه الولايات المتحدة وفرنسا. لكن مهمة وليد المعلم لم تتكلل بالنجاح ولم تحدث النتائج المتوقعة. وجاءت زيارة كوندوليزا رايس للشرق الأوسط وأوروبة لتعزز الانطباع بأنه لم يعد لدى سورية خيارات أخرى سوى الانسحاب من لبنان تنفيذا للقرار الدولي. وأكملت زيارة المبعوث الدولي لارسن إلى بيروت ودمشق إغلاق الحلقة فدخلت القضية اللبنانية في طريق مسدودة تماما.
لكن في ما وراء المعارضة اللبنانية يوجه اغتيال الحريري ضربة قوية للتحالف الأمريكي الفرنسي الذي تبنى عملية تصفية النفوذ السوري في لبنان والذي يجد نفسه في وضع يفرض عليه المواجهة بطريقة لم يكن يتوقعها وبالتأكيد لم يحسب لها. وسواء أكان منفذو العملية من الجماعات الإسلامية كما تدعي جماعة النصرة والجهاد أم من غيرها، فليس هناك شك في أن ما حصل في بيروت قد خدش الصدقية الاستراتيجية للتحالف الأمريكي الأوروبي الذي أخذ على عاتقه ضمان سيادة لبنان وإخراج القوات الأجنبية منه في الوقت الذي أثبت فيه أنه غير قادر على حماية شخصيات المعارضة اللبنانية وضمان أمنها وحياتها. ولا يمكن أن تشكل المطالبة الفرنسية بتحقيق دولي ولا السعي إلى الخروج بقرار من الأمم المتحدة يدين العملية ويعاقب منفذيها ردا على مستوى التحدي قادرا على تطمين القوى اللبنانية التي تجد نفسها عارية في مواجهة لا تملك وسائل الصمود فيها أو على وضع حد للتهديد الفعلي بتفجير الوضع اللبناني بحيث يصبح تطبيق قرار مجلس الأمن 1559 أمرا ثانويا بالمقارنة مع مخاطر جر البلاد إلى العنف والفوضى الشاملة.
لكن الضربة التي وجهت للمعارضة اللبنانية ومن ورائها للتحالف الأوروبي الأمريكي الساعي إلى استعادة سيادة لبنان أو إعادته إلى منطقة النفوذ الغربية بعد أن بقي لعقود طويلة منطقة نفوذ خاصة لن يقدم خدمة كبيرة لسورية التي ليس لديها بديل عن التفاهم مع الغرب في أي محاولة للإصلاح الداخلي وايجاد حل للتحديات الكبيرة التي تواجهها سواء ما تعلق منها بفتح المفاوضات السياسية لاستعادة الجولان المحتل أو بتحسين شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية أو بتحديث بنياتها ومؤسساتها أو حتى بالحفاظ على أمنها الداخلي والخارجي. وكائنا من كان المنفذ لهذه العملية ستجد دمشق نفسها في موقع الاتهام مهما كانت الحقيقة، أولا بسبب ما تلعبه من دور إستثنائي في ضمان الأمن اللبناني وثانيا لأن اختياراتها السياسية تتعارض بشكل واضح وعلني مع اختيارات المعارضة وهي لا تخفي معارضتها القوية لتطبيق القرار الفرنسي الأمريكي. وسوف تظهر هذه العملية بسرعة على أنها هدية مسمومة.
بالتأكيد لن تفكر لا الولايات المتحدة ولا فرنسا بإرسال قوات إلى لبنان لضمان تطبيق قرار مجلس الأمن بالقوة أو لحماية لبنان من الانحدار نحو الفوضى. وليس لهما أي مصلحة في ذلك بينما لا يزال من غير المعروف في ما إذا كانت واشنطن ستنجح في إطفاء النار التي اشعلتها سياستها الحمقاء في العراق. لكن من الخطأ أيضا الاعتقاد بأن التحالف الاوروبي الأمريكي لا يملك خيارات عديدة أو أنه يفتقر إلى وسائل العمل لمتابعة سياسته في لبنان. ومن الخطأ أيضا الاعتقاد بأن واشنطن لا تستطيع أو أن لا مصلحة لها بلعب ورقة زعزعة الاستقرار وتفجير الوضع اللبناني وربما السوري أيضا إذا شعرت بأنه ليس لها خيار آخر لضمان تحقيق أهدافها والدفاع عن مخططاتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
كل الدلائل تشير إذن إلى أن عملية اغتيال الحريري لن تكون حدثا منفردا ولكن حلقة اولى في الحرب الإقليمية والدولية التي بدأت للسيطرة على لبنان، ومن ورائه على سورية، وذلك منذ التصويت على قرار مجلس الأمن الداعي إلى استعادة سيادة لبنان والذي لم يكن يعني، ليس بالنسبة لسورية فحسب ولكن بالنسبة للعديد من قطاعات الرأي العام العربي والإسلامي أيضا، استعادة السلطة في لبنان من قبل القوى المعادية للوجود السوري وإعادة لبنان نفسه إلى فلك السياسة الغربية وربما تحويله من جديد إلى شوكة في خاصرة النظام السوري بعد أن كان شوكة في خاصرة خصومه. وهو ما يعني أيضا احتمال تحويله إلى نافذة للريح التي ستعصف بالأمن السوري الداخلي وربما الخارجي أيضا. وهذا ما لم تخفه المعارضة اللبنانية أو بعض أطرافها كما لا تخفيه تصريحات الثنائي الفرنسي الأمريكي أيضا.
تبرهن عملية اغتيال الحريري التي استهدفت قطب الرحى في التحالف السياسي اللبناني البديل لما بعد الحقبة السورية أنه لا يزال في الوضع العربي القديم، بتشكيلاته وتياراته ومنظماته المختلفة وأحيانا المتناقضة، وبالرغم من حالة الاهتراء الذي يعاني منها، قوى قادرة على المقاومة وركب المخاطر. وليس السبب في ذلك ما تملكه هذه القوى من الجرأة على رد التحدي ولا التمسك بمباديء أو شعارات وطنية أو دينية أو حتى أخلاقية كما يببدو للوهلة الأولى، بل ولا الاعتقاد بالاستناد على قاعدة شعبية ومن باب أولى بوجود مثل هذه القاعدة، وإنما لإدراك هذه القوى الصحيح لمسألتين: أولا أن مشروع الإصلاح الشرق أوسطي الذي ارتبط به استعادة النفوذ الغربي لا يحظى بالحماس الشعبي إن لم نقل إنه يستفز في العديد من جوانبه، المشاعر والاعتقادات الوطنية العربية وبالتالي فليس له ولا للسياسات المرتبطة به والتحالفات المحلية المعتمدة عليه تغطية معنوية وسياسية فعلية. وثانيا أن ضعف الإرادة والتناقض والتردد وانعدام الحسم هو الذي يسم سياسات التحالف الأوروبي الامريكي في العمق بالرغم من الشكل العنتري الذي يتخذه خطاب الدبلوماسية الغربية التي تبنت وتتبنى مشروع الإصلاح في الشرق الأوسط الكبير أو الصغير. أي باختصار لأن هذه القوى القديمة تعتقد عن حق بأن مشاريع الاصلاح والديمقراطية المطروحة من قبل واشنطن وغيرها ليست جدية ولكنها أوراق ضغط فحسب وأنه لا تزال هناك بالتالي فرصة للتفاهم ولعقد صفقة جديدة بين مشاريع السيطرة المحلية القائمة ومشاريع السيطرة الأجنبية أو بالأحرى لتجديد عقد الايجار المعتمد لحماية النظام الإقليمي شبه الاستعماري القائم.

lundi, février 07, 2005

العنف المولد للعنف

الاتحاد 7 فراير 2005

نجحت الولايات المتحدة ومن خلفها مجموعة الدول الصناعية في إقناع العالم أجمع، بما في ذلك النخب العربية والاسلامية بأن العنف هو الشر الأول الذي تعاني منه البشرية المعاصرة وأن الحرب الشاملة ضد العنف هي الحرب المقدسة الوحيدة التي تجتمع حولها وينبغي أن تتوحد عبرها جميع شعوب المعمورة. ليس من المهم بالنسبة لأنصار الحرب الشاملة ضد الارهاب تعريف العنف وأقل من ذلك البحث في أسبابه وشروط نشوئه وتناميه وتفجره. فتلك أمور بسيطة سهلة الإدراك وواضحة وضوح الشمس. ويكفي كي نتأكد من ذلك أن ننظر في سيرة أسامة بن لادن أو أيمن الظواهري أو الزرقاوي ونقرأ رسائلهم وتوصياتهم. فهم رمز العنف وتجسيده. وفي خطابهم يمكن الكشف أيضا عن منطقه. إنه التعصب الديني وبالأخص التعصب الديني الاسلامي الذي نشأ في حضن ثقافة تقليدية منغلقة بعيدة عن العصر ومعادية لقيم التحرر والانعتاق والعقل.
اجتثات جذورالعنف وتجفيف ينابيعه يمران إذن ببساطة باجتثاث حركات العنف وتجفيف ينابيع العقائد والمعتقدات التي وسمت بالاسلامية أو بالاسلام السياسي. ويمر هذا الاجتثاث والتجفيف عبر إغلاق الحسابات المالية للمنظمات الارهابية وتحريم أي تبرعات لصالح ما يشك أنه منظمات لها علاقة بالاسلام السياسي يمكن أن تستفيد منها وتوسيع دائرة التنسيق الأمني بين أجهزة أمن جميع البلدان وتكوين التحالفات الدولية الضرورية لشن الحرب حيث يكون ذلك ضروريا، كما حصل في أفغانستان وفي العراق وكما يمكن أن يحصل في بلدان أخرى.
ليس من المستغرب والحالة هذه أن تأتي نتائج الحرب العالمية ضد الارهاب لتعكس الافلاس السياسي والانحطاط الأخلاقي معا لمنظريها ومخططيها وممارسيها. فبالرغم من مليارات الدولارات التي أنفقتها الولايات المتحدة ولا تزال تنفقها مع حلفائها من الدول الصناعية للحد من الإرهاب العالمي لم يتقلص حجم التهديدات الناشئة عن الارهاب ولكنه تفاقم كما لم يحصل في أي حقبة سابقة. وهو ما ذكره الرئيس الفرنسي نفسه في تصريح له أواخر شهر ديسمبر الجاري أثار استياء الإدارة الأمريكية. والانحطاط الأخلاقي لأن أنصار الحرب العالمية ضد الارهاب يجدون أنفسهم مضطرين إلى القبول بمعايير سلوك كانوا قد جعلوا من وضع حد لها المبرر الأخلاقي للحرب. وتشعر قطاعات متزايدة من الرأي العام العالمي بأن حرب الارهاب تقود بشكل متزايد نحو القبول بانتهاكات الحقوق الانسانية وتبرير ممارسات لا أخلاقية ولا إنسانية سواء ما تعلق منه بالقتل الجماعي والتمييز العنصري والتلاعب بالقانون كان من الصعب السماح بها من قبل.

يشكل تفكيك شبكات التنظيم العسكري والتمويل المادي لحركات العنف هدفا لا شك في أهميته في أي خطة جدية للقضاء على مصادر العنف والجريمة في العالم. لكن كما بينت السنوات القليلة الماضية بشكل ملموس يمكن لاستراتيجية الاجتثاث الأمني للعنف أن يقود إلى نتائج معاكسة ويخلق بالتالي شروطا أكثر ملاءمة لتفريخ حركات العنف الجديدة وتوسيع دائرة عملها وانتشارها إذا لم تندرج منذ البداية ضمن خطة شاملة للتهدئة الإقليمية والوطنية والاجتماعية، أي لبسط الأمل والأمن وفتح آفاق اجتماعية واقتصادية وسياسية حقيقية أمام جميع شعوب المنطقة وطبقاتها الاجتماعية وقطاعات رأيها العام السياسية والعقائدية. فلن يكون للحرب ضد الارهاب أي نتيجة ايجابية ولن تساهم في استتباب الأمن والسلام الأهلي والإقليمي والعالمي ما لم تتجاوز المفاهيم التقنية التي استبدت بها وما لم تعمل على تغيير التربة التي يعشش فيها العنف وتشكل الحاضنة الحقيقية لكل بذور الارهاب· وهذه التربة ليست شيئا آخر سوى الأزمة الشاملة التي قادت إليها سياسات الهيمنة وتقاسم النفوذ الغربية والنزاعات المتعفنة والسلطات التعسفية والديكتاتوريات المقيتة والبليدة والنظم الأبوية المتخلفة وحالة التقهقر الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة العربية·
وليس من المبالغة القول إن مصير المنطقة التي أصبحت مسرحا لحرب عالمية تقودها الدول الصناعية الكبرى ضد الارهاب، بتأييد أممي أم من دونه، يبدو اليوم، أكثر من أي حقبة سابقة، معلقا على رؤية هذه الدول لواقع المنطقة وتصورها لدورها وموقعها في التحولات العالمية والمكانة التي تريد أن تعطيها لها في الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية. هل ستظل كما كانت في السابق رهينة منطق تأمين الطاقة العالمية المضمونة والرخيصة وتنظيم سوق النفط من جهة ومنطق الفراغ الاستراتيجي الذي يشكل الحزام العازل الذي يحتاج إليه ضمان السلام والتقدم والازدهار في "أرض اسرائيل الكبرى" من جهة ثانية، أم سيكون مصيرها المشاركة، حسب امكاناتها وموقعها، في النشاطات الدولية إلى جانب الدول الأخرى النامية وغير النامية، ويتطلب بالتالي تثمير مواردها البشرية والطبيعية وتأهيلها للاندماج النشيط والمنتج في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية الدولية وتحمل المسؤوليات التي تقع على كاهلها في إطار بناء أي سياسة عالمية.
إذا كان الخيار الأول هو المقصود فلن تكون الحرب العالمية المعلنة والمخاضة اليوم على تراب العالم العربي ضد الارهاب سوى مقدمة نحو محاصرة هذا العالم بصورة أشد وتعزيز تهميشه وفرض الوصاية والحماية عليه وتركه مسرحا سائبا للنزاعات الاقليمية والوطنية التي تفتك بشعوبه وتشل إرادة مجتمعاته، وفي موازاة ذلك وبالارتباط بهذه الأهداف، تدعيم أنظمة القهر والاستبداد والعنف الأعمى التي لا يمكن من دونها ضمان مثل هذا التهميش وتلك السيطرة والوصاية الخارجيتين. أما إذا كان الخيار الثاني هو المقصود، فسيكون من الضروري تبني سياسات عقلانية وبناءة تعزز قدرة العالم العربي على الانتقال، كما حدث في أمريكا اللاتينية منذ الثمانينات من القرن الماضي، من سياسات السيطرة والعزل والتهميش وتمكين النظم الديكتاتورية نحو سياسات قائمة بالعكس على خلق الفرص الجديدة والآمال، أي في النهاية على السعي إلى دمج الشرق الأوسط بعالم عصره، وإخراجه من حالة اليأس التي تقوده إليها سياسات نخب ديكتاتورية محلية ومصالح عالمية قائمة على ضمان الاستقرار الشكلي من دون مراعاة لأي مباديء سياسية أو ثقافية أو اجتماعية ولأي معايير قانونية· وبقدر ما سيدفع الخيار الأول إلى تفاقم أزمة العالم العربي وتعميق إحباطاته سوف يزيد من احتمالات النمو المتجدد لحركات العنف والارهاب التي يصعب السيطرة عليها· وبالعكس، بقدر ما يؤدي الموقف الايجابي إلى إخراج العالم العربي من أزمته التاريخية ويفتح آفاق التحولات الديمقراطية فيه، يعزز من احتمال نمو قيم الحرية والمساواة والعدالة والانسانية ويهمش مجموعات الارهاب ويعزلها ويجعل من نشاطاتها نشاطات غير منتجة وغير قادرة على تأمين أي تعاطف معها، أي يجفف الينابيع التي تستقي منها ويجعلها تذبل وتختفي من تلقاء نفسها·
وللأسف ليس هناك بعد ما يدل على أن سياسات الحصار والهيمنة والتسلط وتقاسم النفوذ قد تراجعت أو هي في طريق التراجع في الشرق الأوسط ولا على أن الأمل يزداد بإمكانية السير في طريق التعاون الايجابي مع العالم الصناعي للخروج من الأزمة. بالعكس، إن جميع الدلائل تشير إلى أن طريق الآلام لا يزال هو الطريق الوحيد المفتوح، مع ما نشهده من تكالب الدول الكبرى على تقاسم مناطق النفوذ والصفقات التجارية وخطب ود النخب الحاكمة الفاسدة وما نعاينه من تفاقم العنصرية في العلاقات الاجتماعية وتنامي الاعتقاد لدى الأوساط الرسمية والشعبية في عموم البلدان الصناعية بأطروحة وجود هوة ثقافية لا يمكن ردمها بين الاسلام والثقافة العصرية وبأن الحرب بين عالم الاسلام وعالم الغرب حتمية، سواء أسميناها حضارية أم همجية.
باختصار، لا يمكن للعالم العربي أن يفلت من كماشة عقيدة الحرب الوقائية التي أصبحت منهجا في التفكير الاستراتيجي الغربي، في أمريكا وغيرها، بالرغم من المظاهر الشكلية واختلاف التفسير، ما لم ينجح العرب في إعادة طرح مسألة العنف على أسس مغايرة لتلك التي لا تزال مطروحة بها اليوم، أي ما لم يتطور الوعي عند الشرقيين والغربيين معا بأن العنف ليس سمة ثقافية ولا حتمية تاريخية ولكنه ثمرة شروط مادية، أي يمكن تحليلها بالعقل وتغييرها أيضا، يمكن لجميع الشعوب والمجتمعات أن تجد نفسها حبيستها وأن تسقط في شرك إرادة القوة الناجمة عنها. وبقدر ما ننجح في ترسيخ الاعتقاد بأن العزل والتهميش والإذلال والقتل ليس الوسيلة الأنجع لدرء العنف، وأن تنمية العالم العربي ودمقرطته هما بالعكس الطريق الوحيدة لإخراج هذا العالم من أزمته التاريخية وتمكينه من تمثل معايير القياس الكونية فنحن نساعد الرأي العام الغربي على تبني مقاربة أكثر عقلانية وندفعه إلى إعادة النظر في السياسات الدولية المدمرة تجاه المنطقة العربية ·