mercredi, décembre 22, 2004

المعرفة العربية أمام تحدي الاستقلال والحرية

الاتحاد 22 ديسمبر 2004

لا يقتصر ما يشكو منه التعليم العالي والبحث العلمي على نقص الحرية عند الباحثين والأكاديميين عموما. فهو يعاني من مشاكل عديدة أخرى تشمل المناهج وطرق التعليم ونقص الوسائل ومناهج البحث وتأهيل الملاكات الإدارية والعلمية معا. لكن يظل الافتقار إلى الحريات الأكاديمية وإخضاع التعليم العالي والبحث العلمي لأجندة إعادة إنتاج النظم السياسية الأقلوية والدفاع عنها هو مفتاح فهم هذه المشكلات جميعا وفي مقدمها استمرار تفاقم الفجوة العلمية والتقنية القائمة بين العالم المتقدم والبلاد العربية. هذا ما كان موضوع مؤتمر الحريات الأكاديمية واستقلال الجامعات في البلاد العربية الذي اختتم أعماله في السادس عشر من هذا الشهر في عمان عاصمة المملكة الأردنية. وقد صدر عن هذا المؤتمر إعلان بلفت أنظار المسؤولين والرأي العام معا إلى مخاطر تجاهل حاجات التنمية العلمية والاستمرار في ربط الاصلاحات المنتظرة في هذا المجال بأجندة الدفاع عن نظم سياسية تفقد أكثر فأكثر سيطرتها على الأوضاع والتطورات الداخلية والخارجية.
وقد أكد الإعلان أن تعطيل مبدأ المنافسة في الكفاءة والمهارة والابتكار في مجالات البحث والتحصيل العلميين لصالح تنمية منطق تكوين الولاءات السياسية وتطويع التعليم العالي لأهداف الصراع على السلطة بما يعنيه ذلك من تحويل المنطومة العلمية إلى ساحة إضافية أو موازية لبناء موازين القوة السياسية هو الذي يفسر ما شهده التعليم في البلاد العربية من تدهور في المستوى العلمي ومن انفصال عن الحاجات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية والتقنية. وهو الذي يشرح أيضا المفارقة التي تعيشها اليوم المجتمعات العربية، أعني عدم التناسب الواضح بين الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها في ميدان التعليم في العقود الخمسة الماضية والنتائج الهزيلة التي حصلت عليها في جميع الميادين، بما في ذلك في الميادين الاقتصادية والإدارية. فلم تنجح في تأهيل الملاكات المهنية الكفؤة ولا في تطوير التقنيات والخبرات العلمية الضرورية لرفع مردود العمل وتحسين الانتاجية ولا تزال تعتمد اعتمادا كبيرا في تلبية حاجاتها على الخبرة الأجنبية.

وكما نصت على ذلك العديد من الإعلانات الدولية في العقدين الماضيين تعني الحريات الأكاديمية أولا احترام استقلالية المؤسسات التعليمية والعلمية وعدم إخضاع برنامج عملها أو إدارتها أو تنظيم شؤونها لحاجات الصراع السياسي أو بناء السيطرة السياسية. وهو شرط بناء نسق علمي مستقبل قادر على بلورة مشروع علمي يستجيب لحاجات المجتمعات المتجددة والمتنوعة. وتتضمن هذه الاستقلالية مساواة جميع أفراد المجتمع الحاملين للكفاءات أمام فرص الدخول في سلك المجتمع الأكاديمي كمدرسين أو طلبة أو مديرين والاعتراف بحق جميع أعضاء الهيئة الجامعية من أساتذة وطلبة وإداريين في ممارسة نشاطاتهم من دون أي تمييز أو تدخل خارجي أو تقييد من قبل سلطة الدولة أو أي طرف آخر. كما تتضمن تأكيد حق الهيئة الجامعية في ممارسة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تنص عليها مواثيق حقوق الانسان مثل حرية التفكير والضمير والدين والتعبير والاجتماع والانتماء لجمعيات وكذلك الحق في الامن والتنقل بحرية.
وتعني ثانيا أن تعيين أعضاء الهيئة العلمية وترقيتهم ومعاقبتهم ينبغي أن تخضع لقواعد مهنية وأن تتم من جانب هيئات جامعية منتخبة وأنه لا يحق فصل أي أكاديمي من دون أن يسمح له بالدفاع عن نفسه أمام هذه الهيئات، لا أمام محاكم أمن الدولة أو المحاكم العسكرية كما يحصل غالبا في البلاد العربية.
وتعني ثالثا أن لجميع أعضاء هيئة التعليم الحق في إقامة علاقات تواصل مع زملائهم في الجامعات الأخرى وتطوير تحصيلهم ومهاراتهم العلمية. كما أن لجميع طلبة الجامعات الحق في الحصول على تعليم يتفق وحاجات اندماجهم في الحياة الاجتماعية والعلمية وفي اختيار ميدان دراستهم بحرية والاعتراف الرسمي بمعارفهم وبالخبرات التي اكتسبوها. وعلى جميع الدول والمؤسسات التعليمية أن تحترم حقوق الطلبة الفردية والجمعية وأن تسمح لهم بالتعبير عن آرائهم بحرية في كل المسائل الوطنية والدولية.
وتعني أخيرا أن لجميع أعضاء الهيئة التعليمية الحق في الانتساب إلى جمعيات بما في ذلك الحق في تكوين نقابات أو الانتساب لنقابات قائمة للدفاع عن مصالحهم. وللنقابات الجامعية والتعليمية الحق في المشاركة في صوغ المعايير المهنية أيضا. كما أن على المؤسسات التعليمية العالية أن تضمن مشاركة الطلبة في هيئاتها الإدارية.
بالتأكيد تترتب على الهيئة الأكاديمية مقابل هذه الحقوق التي تتمتع بها التزامات أخلاقية أيضا من أهمها السعي إلى منع أي تلاعب أو استخدام سلبي للعلم أو التقنية لتحقيق أهداف تضر بالحقوق الانسانية، ومنها أيضا العمل على تخفيف الهوة التقنية بين المجتمعات البشرية وإتاحة الفرصة لجميع الهيئات التعليمية في العالم للمشاركة على مستوى واحد في تحصيل المعارف والاستفادة من ثمراتها. وفي سبيل ذلك يتوجب على الهيئات الجامعية أن تسعى إلى تطوير التعاون العلمي الذي ينبغي أن لا يخضع لقيود الحدود الإقليمية والسياسية أو أي عقبة اخرى.
ومن هذه الالتزامات السهر على أن تستجيب النشاطات العلمية والبحثية للحاجات الاجتماعية ولحاجات المجتمع بأكمله لا لطائفة واحدة فيه. وأن تقوم على أساس احترام المعايير المهنية. ولا تعني الاستجابة للحاجات الاجتماعية الرد على طلبات النظام الاقتصادي فحسب وإنما قيام المؤسسات التعليمية العليا بدورها أيضا في المجالات السياسية والمدنية بما يستدعيه ذلك من تعليم احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للشعوب وشجب أعمال القمع السياسي وانتهاكات حقوق الانسان التي تحصل في بلدانها.

وتكفي مقارنة سريعة بين ما يشير إليه مفهوم الاستقلالية الجامعية والحريات الأكاديمية مع ما تعيشه الجامعات العربية حتى ندرك إلى أي حد أصبحت جامعاتنا أدوات لأسر العقل وتلبيد الشعور وفي النهاية للتعليب الجمعي فلم تعد صالحة للتأهيل ولا للابتكار العلميين. ففي معظم البلاد العربية تفرض الأجهزة السياسية الحاكمة وغالبا الأجهزة الأمنية وصايتها العلنية على الحياة الجامعية, وتتعامل مع أعضاء الهيئة العلمية والإدارية في جميع المستويات حسب منطق الولاء والمحسوبية وتخضع البرامج للحسابات السياسية الضيقة. وهي لا تضع القيود على تداول المعارف فحسب ولكنها تقيد حركة الباحثين في داخل البلاد وخارجها وتصادر الرأي وتستخدم الجامعات والمدارس للدعاية الحزبية أو الايديولوجية. وهو ما يفسر إلى حد كبير الفشل الذريع الذي منيت به السياسات التعليمية العالية العربية والذي يبقي العالم العربي في حالة تبعية مستمرة وواسعة للخبرة العلمية والفنية الأجنبية إلى اليوم بالرغم من شمول جامعات البلاد العربية ملايين الطلبة والأساتذة والباحثين.

لكن ما يبدو وكأنه مسألة بديهية وشرط لبناء منظومة علمية منتجة، أعني احترام استقلالية الجامعات وحرياتها الأكاديمية، يؤلف في الواقع تحديا كبيرا يواجه المجتمعات العربية. فمن جهة أولى ليس من المتوقع أن تتخلى النخب الحاكمة عن سيطرتها القوية على مؤسسات التعليم العالي التي تشكل الخزان الأكبر لقوى الحركة الاجتماعية والفكرية في مجتمعاتنا ومصدر الديناميكية السياسية. ومما يساعدها على ذلك أن السلطات العمومية كانت ولا تزال وستبقى الممول الأول لمنظومة التعليم في جميع البلدان. وهي تستطيع من خلال هذا التمويل أن تتحكم بصورة مباشرة بكل ما يتعلق بتنظيم الهيئة الأكاديمية. ومن جهة ثانية تضغط شروط المعيشة الصعبة التي تعاني منها الطبقات الشعبية والوسطى في البلاد الفقيرة على جميع العاملين وتدفع بقسم كبير من أعضاء الهيئة التعليمية إلى المساومة بسهولة على الحقوق التي لم يتمتعوا بها أبدا من قبل ولا يعرفون قيمتها، خاصة عندما تساهم هذه المساومة في إعفائهم من الواجبات المترتبة عليهم. ومن هنا ليس احترام الحريات الأكاديمية مسألة مجردة ولا هدفا سهل المنال في مجتمعات تعاني مؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية من نقائص وتشوهات كبيرة. إن تحرير الجامعات ومؤسسات التعليم العالي من وصاية الأجندة السياسية وضمان احترام الحريات الأكاديمية هما موضوع صراع دائم. ولن يمكن حسم هذا الصراع لصالح توسيع دائرة الحريات الأكاديمية واستقلال منظومة التعليم العالي والبحث العلمي ما لم يحصل تقدم حثيث على جبهتين رئيسيتين. جبهة التحويل الديمقراطي للدولة وللحياة السياسية وجبهة التجديد الثقافي والأخلاقي للمجتمعات، وبشكل خاص للنخب الثقافية والأكاديمية وتحريريها من منطق الخوف والاستسلام والاستزلام.

فليس هناك في اعتقادي أي ضمانة كي لا يتحول التمويل الرسمي للتعليم إلى وسيلة لإخضاعه إلى حاجات السياسة السلطوية إلا خضوع السلطة العمومية نفسها إلى قاعدة التداول الديمقراطي بما يعنيه ذلك ويفترضه من إلغاء إمكانية الاحتكار الدائم للحكم ومن توفير وسائل المراقبة والمحاسبة والتحديد الواضح للمسؤوليات والتغيير السلمي والقانوني للأطر والملاكات الرسمية والخاصة. وبالمثل ليس هناك ضمانة كي لا يساء استخدام الحريات الأكاديمية لتحقيق أهداف غير علمية وغير تربوية بل للحفاظ على هامش الاستقلال الجامعي نفسه إلا بالارتقاء بالوعي الأخلاقي والسياسي لأعضاء الهيئات الأكاديمية من مدرسين وإداريين وقدرتهم على تثمير هذه الحريات وعلى احترام الالتزامات الضمنية التي تنطوي عليها.

jeudi, décembre 16, 2004

الاصلاح السوري لقاء مع الراية القطرية

الراية القطرية
الخميس16/12/2004
دمشق - حيان نيوف
وجهت الراية مجموعة من الأسئلة حول مستقبل الإصلاح إلي البروفسور السوري المعروف برهان غليون ، مدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون الجديدة - باريس 3-، وأستاذ علم اجتماع متخصص بالمجتمعات العربية المعاصرة بنفس الجامعة، وجري الحوار كالتالي:
كباحث وأكاديمي سوري - ولست معارضا - كيف تري مستقبل عملية الإصلاح السياسي في سوريا بلغة بحثية أكاديمية بعيدا عن القنابل الأيديولوجية التي تستخدمها المعارضة السورية؟
- أعتقد أن التوازنات الثقافية والنفسية والسياسية والاقتصادية التي استقرت بعد أربعين عاما من الحكم المطلق والمتواصل من دون انقطاع لا تسمح بحصول تغييرات جدية داخل النظام الذي يبدو مكبلا بقيوده الذاتية. وهذا ما يفسر التعثر الكبير الذي واجهته السياسات الإصلاحية في السنوات الأربع الماضية. وهذه التوازنات التي نجمت عن عقود طويلة من تكييف المجتمعات والمؤسسات معا لا تسري علي الفئات الحاكمة فحسب ولكن علي المجتمع أيضا. فلا يعادل عجز الطبقات المسيطرة عن توليد تيار إصلاحي متسق إلا عجز المجتمعات عن إفراز قوي تغيير قوية قادرة علي هز هذا الجمود القائم وزعزعته. هذا لا يعني أنه لن يكون هناك إصلاح أو تغيير ولكن مصدر هذا التغيير سيكون، كما هو واضح اليوم، في تبدل البيئة الخارجية الإقليمية والدولية التي ستفرض بالضرورة تغييرا في التوازنات الداخلية. وهو ما نعيشه في حقبتنا الراهنة. ومن هنا لا أجد أي معني للحديث عن الاختيار بين تغيير من الداخل وتغيير من الخارج. الواقع أن التغيير من الداخل قد فشل منذ سنوات طويلة في سوريا والعالم العربي معا لأسباب ليس هنا مجال شرحها. إن ما نشهده من تغيير، حتي الجزئي والثانوي منه هو ثمرة تغير السياق الخارجي, ومن المؤكد أنه سيتزايد أيضا مع تطور هذا السياق.
هناك من يعتقد ان الإصلاح السياسي لن ينطلق قبل إصلاح الإعلام حتي يبدأ الحوار عبر إعلام محلي ويبدأ السوريون سماع أخبار بلدهم عبر إعلامهم المحلي - ما رأيك بهذا القول؟
- الإصلاح الإعلامي هو جزء من الإصلاح السياسي. فليس للإصلاح السياسي في الوقت الراهن معني آخر سوي الإقرار بالتعددية الفكرية والسياسية علي طريق تفكيك نظام الحزب الواحد وإعادة السلطة إلي صناديق الاقتراع. وعندما نتحدث عن تعددية وتحول، حتي التدريجي منه، نحو الديمقراطية فنحن نتحدث بالضرورة عن فتح المجال الإعلامي وكسر احتكار الحزب الحاكم والنخب المسيطرة علي المعلومات وعلي أجهزة الإعلام بما فيها أجهزة الإعلام الوطنية أو العامة. فالديكتاتورية لا تتجسد فقط في احتكار السلطة ومنع الآخرين من المشاركة فيها ولا في تجريم العمل السياسي والتنظيمي وإنما أيضا في منع التيارات وقطاعات الرأي العام الأخري من استخدام وسائل الإعلام العامة وقصر هذا الاستخدام علي القائمين علي السلطة أو علي الحزب المسيطر عليها. ولا يمكن لسلطة ترفض الإصلاح السياسي أو تتردد فيه القبول بفتح المجال الإعلامي. ذلك أن احتكار الإعلام والمعلومات وطمس الحقائق وتشويش وعي الأفراد ومنعهم من معرفة الحقائق المتعلقة بحياتهم العامة بل قلب هذه الحقائق بشكل متعمد، كل ذلك يشكل أدوات لا بد منها للحفاظ علي احتكار السلطة ومنع المنافسين من الحصول علي الموارد المادية والمعنوية التي تمكنهم من المنافسة الشرعية وغير الشرعية عليها.
لكن ألا تعتقد ان مجرد السماح لك مثلا بإلقاء محاضرات علنية عن الشأن الداخلي وبسوريا ، وتنوع الحركات الناشئة في سوريا وإصدار البيانات هو دليل علي هامش حرية التعبير الموجود في العهد الجديد؟
- المناخ السياسي والنفسي والفكري داخل المجتمع السوري قد تغير كثيرا وهو في طريقه إلي أن يتغير جذريا. وهذا يفرض نفسه علي المثقفين وعلي المسؤولين أيضا الذين يدركون أن استخدام وسائل القهر نفسها يمكن أن تكون له نتائج سلبية أكثر. ولذلك فهم يميلون اليوم إلي تطبيق سياسات احتواء للمثقفين والناشطين ذات تكاليف سياسية أقل، خاصة بالنسبة لنظام يريد أن يستعيد صدقيته الدولية ويراهن علي الاندماج في الاقتصاد العالمي الليبرالي بعد أن اعترف بإخفاق سياساته التقليدية. لكن مع ذلك ليس من الصحيح أن النظام يسمح لي ولغيري من المثقفين بإلقاء محاضرات علنية. وأنا لم ألق أيا منها في سوريا علي الإطلاق. لقد دعيت من قبل منتديات خاصة وممنوعة يجتمع فيها الناس داخل شقق مغلقة، ونادرا ما تكون في صالونات واسعة كما كان الحال في المحاضرة الأولي التي ألقيتها في منزل رياض سيف والتي تم علي أثرها اعتقال صاحب المنزل وسبعة آخرين من الذين شاركوا في منتدي الحوار الوطني أو كانوا أعضاء في مكتبه والحكم عليهم لسنوات سجن طويلة. وأنت تعرف أنه لا يوجد إلا منتدي واحد مرخص في سوريا هو منتدي الأتاسي، تلقي فيه المحاضرات داخل صالون منزل الأتاسي نفسه. ويتعرض كل من يشارك في اجتماعات أخري إلي تحقيقات وتهديدات دائمة من قبل أجهزة الأمن كما يتعرض المحاضرون إلي إجراءات تنكيلية لا تنتمي لعصرنا أبدا ولا داعي الآن للحديث الموسع فيها. وقصدي أن أقول إن ما يبدو من تساهل جزئي تجاه المثقفين ليس نتيجة الإصلاح السياسي أو الإعلامي ولا ثمرة إرادة الحكم ولكن بسبب تغير السياق الجيوسياسي والمناخ الدولي العام وعجز النظام الذي ولد في ظروف الحرب الباردة الاستثنائية من إعادة إنتاج نفسه بالوسائل والطرق التقليدية نفسها. وهذا التغير هو الذي يفسر أصلا انهيار النظم السوفييتية والشيوعية السابقة، بالرغم من المقاومة الشرسة لحكامها ونخبها البيروقراطية. وما حصل في سوريا من تغير في هذا المجال لا يعتبر شيئا مهما بالمقارنة مع ما حصل في هذه الدول. والمقارنة هنا ضرورية. لأن هذا هو الذي يجعلنا نفهم لماذا يعتقد الرأي العالمي، بل حتي حلفاء سورية، أن الجمود هو السمة البارزة في نظامنا وهو الذي يبعث الشعور العميق بالخيبة ويدفع العديد من الذين دعموا النظام في سنواته الأولي إلي التخلي عنه والانسحاب من المراهنة علي حركته الإصلاحية كما حصل للفرنسيين.
عندما نتحدث عن الأهوال والمشاكل في المنطقة يقال أنها تؤثر علي وضع أي بلد ، وأيضا هل تعتقد أن إطلاق الإصلاح بشكل كبير في بلدان مجاورة يشجع عملية الإصلاح بسورية ويدفعها قدما؟
- بالتأكيد كما أن الخراب الذي يحيق بنا لا بد أن ينعكس علينا. وليس من قبيل الصدفة أن المنطقة العربية برمتها تتعثر في مشاريع الإصلاح.
هناك مطالبة دائمة بالإصلاح والمصالحة.. من بيته من زجاج لا يضرب الآخرين بالحجارة هذا هو المثل الشهير الذي يمكن تطبيقه علي أطراف المعارضة واللجان الحقوقية التي تلونت وتعددت. إذن المعارضة بحاجة إلي إصلاح قبل أن تطالب بالإصلاح - أليس كذلك؟!!
- لا يمكن وضع المعارضة والنظام في هذا المجال علي مستوي واحد. المعارضة جمعية وجمعيات خاصة تمثل مجموعة من المواطنين الذين لا يملكون أدوات السلطة ولا يتحكمون بمصير البلاد. الحكومة ذات مسؤوليات عامة وبيدها موارد الدولة ومصيرها معا. وما هو مطلوب منها قبل أي شيء آخر هو خدمة مصالح البلاد العامة والدفاع عنها في حين أن الجمعيات تدافع بالتعريف عن مصالح الفئات الخاصة التي تعبر عنها أو تمثلها. ثم إن وضع المعارضة ليس مفصولا ولا يمكن فصله عن سياسات الحكم ومؤسساته. والمعارضة السورية تعيش حالة صعبة اليوم وتعاني من التفكك لأنها محاصرة ومحرومة من أي هامش مبادرة أو تواصل مع المجتمع. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تأكل نفسها وأن تدور في حلقة مفرغة. كيف يمكن لمعارضة أن تنشأ وتتطور وتكون سليمة في نظام يحرم حتي النقاش وتداول الرأي حتي في الصالونات الخاصة ويحتكر جميع وسائل الإعلام والاتصال الخاصة والعامة؟ لا قيمة للمعارضة ولا حظ لديها في النمو والتقدم فكريا وسياسيا من دون قاعدة اجتماعية، ولا يمكن أن يكون لها قاعدة اجتماعية من دون تواصل مع الجمهور ولا تواصل من دون وجود الحق في التجمعات والمهرجانات وممارسة النشاطات السياسية والمدنية بصورة حرة أو شبه حرة. ومن دون ذلك ليس هناك أي أمل بنشوء معارضة. والحال أن القوانين الاستثنائية التي جعلت من مجتمع كامل مجتمعا مجردا من حقوقه المدنية والسياسية وخاضعا بشكل كامل لوصاية رسمية من قبل السلطة وقيادتها القطرية لم توجد إلا لتمنع مثل هذا التواصل وتقضي علي أي فرصة أو نافذة أمل لتكون معارضة بالمعني السليم للكلمة. ولو تأملت في ما هو قائم لوجدت أن معارضتنا ليست في حقيقة الأمر معارضة للنظام ولكنها بقايا الحركات السياسية القديمة التي كانت في تنافس مع حزب النظام واستمرت في الوجود بفعل العطالة التاريخية. لم تنشأ بعد معارضة سياسية في النظام ولا يمكن له أن يسمح بمعارضة مهما كان نوعها. ما نشأ ويمكن أن ينشأ في مثل هذا النوع من النظم هو ما كان يطلق عليه السوفييت اسم المنشقين. والحركات الإسلامية المتطرفة التي نشأت هي بالفعل في حضن النظام هي التعبير الأبرز عن هذا الانشقاق. حركات العنف السياسي هي المعارضة الحقيقية الوحيدة التي أنتجها النظام التسلطي العربي في كل مكان ولا يمكن أن ينتج غيرها. باختصار، ضعف المعارضة السياسية الراهنة هي حجة ضد النظام وليس معه.

samedi, décembre 04, 2004

في منهج مواجهة أزمة الشرق الأوسط



يطرح العنف المتفجر في الشرق الأوسط على الدول الصناعية الكبرى، كما لم يحصل في أي حقبة سابقة، قضية التطور في العالم العربي ومستقبل التحولات السياسية والاقتصادية فيه. ولا ينكر أحد من المسؤولين الكبار عن بنية النظام العالمي الراهن أن السبب الرئيسي لهذا العنف المتزايد هو ما ساد في العقود الماضية من سياسات وطنية وإقليمية قادت المنطقة بشكل متسارع إلى أزمة عميقة أصبح من المتعذر على أبنائها لوحدهم تأمين وسائل الخروج منها. ولا يزال غياب الحلول الناجعة لمشاكل الافقار الجماعي والقهر المتزايد وتفاقم النزاعات الداخلية والمحلية يمثل مصدر ضغط هائل على شعوب فقدت أو هي في طريقها لأن تفقد الحد الأدنى من الحياة القانونية والمدنية والسياسية الطبيعية والعادية. وتترافق هذه الضغوط الاستثنائية الوطنية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تشكل الأبعاد الرئيسية للأزمة الراهنة التي يعيشها العالم العربي منذ ثلاثة عقود مع جمود استثنائي للنخب الحاكمة وتصطدم بقوة بتخلف نظمها وانعدام شعور رجالاتها بالمسؤولية. ولا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يعمق الشعور باليأس والاحباط وانعدام الثقة بالنفس ويدفع الشرائح الأكثر شعورا بالتهديد والأكثر حساسية ونفاذ صبر إلى اللجوء إلى الحلول العنيفة التي تأمل أن تهز من خلالها السلطات والنظم والدول المسؤولة أو التي تعتقد أنها في أصل الأوضاع السلبية القائمة وأن تنقل حالة زعزعة الاستقرار إليها.
يشبه وضع العالم العربي المشرقي اليوم الوضع الذي كانت تعيشه منطقة أمريكا اللاتينية بعد الحرب العالمية الثانية· فهناك أيضا جعلت السيطرة الخارجية والافقار المستمر والتفاوت الطبقي المفزع وتكالب النخب الاجتماعية الحاكمة على السلطة، والدعم الدائم لديكتاتورية هذه النخب من قبل الولايات المتحدة ضد إرادة الرأي العام المحلي، أقول جعل كل ذلك، من أمريكا اللاتينية، خلال عقود الخمسبنات والستينات، الموطن الرئيسي للارهاب العالمي الموجه إلى المصالح الامريكية بالذات في أمريكا اللاتينية وفي مناطق العالم الأخرى·
وقد تتلمذ العرب منذ السبعينات على أمريكا اللاتينية هذه وتعلموا منها أساليب الاغتيال والعنف وحرب العصابات وحروب المدن قبل أن يصبحوا معلمين فيها. وترجموا مختلف كتب وأدبيات حرب العصابات وحرب المدن والحركات الثورية الأخرى التي انتشرت فيها انتشار النار في الهشيم· ولم يتوقف نمو العنف والارهاب في أمريكا اللاتينية إلا منذ عقدين أو أكثر قليلا وذلك في موازاة نجاح هذه القارة في تجاوز نزاعاتها الداخلية وتحرير نفسها من التبعية المطلقة للولايات المتحدة، وأخذها بمناهج الحكم الديمقراطي واعتمادها سياسات تنموية جديدة أخرجتها من دائرة الفقر والهامشية وضعف معدلات النمو الاقتصادي أو انعدامها· وقد حصل ذلك نتيجة إدراك مشترك في واشنطن وفي البلدان الأمريكية اللاتينية بأنه قد أصبح من المستحيل الحفاظ على الأمن والسلام مع استمرار الأوضاع على ما هي عليه وأن من مصلحة الطرفين، أعني الإدارة الأمريكية، الدولة المهيمنة الرئيسية على مصائر شعوب أمريكا اللاتينية، والنخب المحلية الحاكمة العمل في اتجاهين متلازمين: أولهما تعزيز فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية عن طريق تكثيف الاستثمار وتوحيد السوق الاقتصادية الاقليمية وثانيهما التوصل إلى تسويات سياسية قابلة للحياة بين النظم القائمة والمعارضات المحلية الثورية أو السلمية عن طريق الالتزام بالتعددية والدمقرطة الحثيثة والفعلية للحياة السياسية.
وكما كان عليه الحال في أمريكا اللاتينية، ليس من الممكن في العالم العربي فصل العوامل الداخلية وسياسات النخب المحلية عن استراتيجيات الدول الكبرى التي كانت ولا تزال وراء ترتيب الأوضاع السياسية والجيوسياسية المشرقية. وليس هناك أي أمل في التغيير في هذه المنطقة من دون التقاء مصالح القوى الخارجية المهيمنة على النظم والنخب الحاكمة المحلية ومصالح الجمهور الواسع الذي يحتاج إلى التغيير ويتطلع إليه بفارغ الصبر. إن الخروج من الأزمة المثلثة التي تضرب العديد من مجتمعات الشرق الأوسط العربية،أعني من حالة الفقر والاستبداد والنزاعات التاريخية المستديمة سيكون مستحيلا إذا ترك الأمر للنخب المحلية الحاكمة التي فقدت أي مفهوم للمعايير القانونية والسياسية للحكم وبالتالي من دون دفع بل من دون مبادرة دولية حكيمة قادرة على فرض الحوار الداخلي على النخب القائمة ومدعومة بإرادة جدية للمساهمة في حل النزاعات الداخلية والاقليمية المستشرية ومساعدة هذه البلدان على الخروج من العزلة السياسية والهامشية الاقتصادية التي تعيش فيها منذ عقود.
يعني هذا أن أي خطة أو مبادرة بناءة تستدعي من أصحابها الالتزام بخطة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية ولضخ دماء وأفكار ورساميل جديدة أيضا في المنطقة تمكنها من امتصاص الفقر وتخفيض نسبة البطالة وفتح آفاق حقيقية للأجيال الشابة معدومة الأمل اليوم· كما تستدعي القيام بجهود فعالة في سبيل التقريب بين وجهات نظر الحكومات والمعارضة السياسية والقوى الاجتماعية وفتح آفاق التعاون والتفاهم فيما بينها على أساس عقد وطني يضمن الحد الأدنى من الحقوق المدنية والسياسية ويلغي التفرد بالسلطة واغتيال الحياة السياسية واستخدام القمع والتعذيب والاعتقال التعسفي، ويؤكد فصل السلطات وسيادة القانون واعتماد الانتخابات الحرة كطريق وحيد لتداول السلطة· كما يستدعي أخيرا التصدي بشجاعة وقوة للنزاعات الاقليمية والداخلية المتفسخة التي سممت الحياة السياسية في المنطقة وتكاد تسمم الحياة الدبلوماسية الدولية ذاتها، وفي مقدمها النزاع العربي الاسرائيلي والفلسطيني الاسرائيلي·
ومن الممكن أن تأتي هذه المبادرة التي لا بد منها في أي مواجهة جدية وناجعة لأزمة الشرق الأوسط في شكل مؤتمر دولي يوضع تحت إشراف الأمم المتحدة تشارك فيه جميع الأطراف الدولية والإقليمية وممثلين عن المجتمعات المدنية وأصحاب الرأي والمسؤولين السياسيين في الحكم والمعارضة يكون إطارا للنقاش والمفاوضات الجماعية حول جميع المسائل العالقة ويهدف إلى ووضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها. وتستمد فكرة هذا المؤتمر مشروعيتها من أن مشاكل الشرق الأوسط مترابطة ولا يمكن مواجهتها بتجزئتها وإنما لا بد من طرحها مجتمعة وعلى مائدة واحدة سواء ما تعلق منها بالاحتلال والتدخلات الخارجية أو بالتحولات السياسية الداخلية أو بمسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالتنمية مرتبطة بالتحولات الديمقراطية والديمقراطية مرتبطة بالسيادة الشعبية والسيادة مرتبطة بالسلام الذي يفترض الاستقلال وتصفية الاحتلال وقيام علاقات اعتراف متبادل وتعاون طبيعية ومثمرة بين جميع الأطراف داخل كل قطر على حدة وفي علاقة الأقطار في ما بينها.
من الواضح أنه ليس لهذه المبادرة أي علاقة بمشاريع الاصلاح الشكلية والفارغة التي لا تكف عن الإعلان عنها النخب الحاكمة المحلية كما أنه لا علاقة لها بتلك المبادرات والمشاريع التي تتردد منذ سنتين على ألسنة مسؤولين أمريكيين وأوروبيين والتي لا تهدف في الواقع إلا إلى التغطية على مشاريع الهيمنة وتقاسم النفوذ الغربية التي كانت ولا تزال الدافع الرئيسي لتهميش المنطقة ودعم نظم العنف والاستبداد فيها. إن المبادرة المطلوبة تستدعي بالعكس التخلي عن استراتيجيات الهيمنة والتسلط والالحاق الأجنبية التي تبرر مشاريع التسلط والاستتباع الداخلية وتغذيها وتفترض التعامل مع المجتمعات والشعوب العربية على أسس جديدة، أسس الشراكة الاقتصادية والسياسية والتعاون من أجل السلام وقطع الطريق على مسار الانحدار والتدهور والسقوط الحثيث نحو البربرية. وكل محاولة للفصل بين مسألة السلام والاستقرار الإقليمي ومسألة الاصلاح السياسي ومسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية تعكس غياب الإرادة الجدية لمواجهة الأزمة الشرق أوسطية ولا بد أن تقود إلى الفشل.
فكما أنه لا يمكن تحرير الشرق الأوسط من إرادة الانتقام والعداء والرفض التي تتملكه تجاه السياسات الغربية من دون إخراجه من أزمته التاريخية ومساعدته على الاندراج في دائر الحضارة العصرية وتمثل قيمها وتقاليدها، لا يمكن أيضا القضاء على العنف الموجه أو الذي يمكن أن يوجه نحو الخارج من دون إلغاء العنف كوسيلة للحكم والممارسة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الذي يقوم عليها النظام الداخلي القائم· ومن الصعب على الانسان المحروم من التنظيم السياسي والنقابي ومن التظاهر ومن الإضراب ومن التعبير عن الرأي في الصحافة والإعلام، أي من استخدام أي وسيلة سلمية وسياسية للدفاع عن نفسه وضمان حقوقه الدنيا، أن يتمثل معنى الحياة القانونية· كما أنه من الصعب على الانسان الذي يعيش في ظل أنظمة تعسفية ولا إنسانية ويتعرض للاحتلالات والاعتداءات والتدخلات الخارجية المستمرة ولم يعرف معنى الشرعية الوطنية أو يشارك في بنائها أو يتمتع بقانونها أن يفهم معنى الشرعية الدولية ويقبل التكيف معها والخضوع لها·