mercredi, octobre 20, 2004

مراجعة مفاهيم الحكم والإدارة: من الممانعة إلى الانخراط في العالم

الاتحاد 20 اكتوبر 2004
لعل ما يميز الحقبة التي نعيش فيها والتي نطلق عليها اسم حقبة العولمة أو التواصل المتنامي بين الفضاءات السياسية والثقافية والجيوستراتيجية هو أنه لم يعد هناك أمل لأي دولة في الحفاظ على وجودها ولا لأي شعب للاحتفاظ باستقلال قراره الوطني من خلال الدفاع التقليدي الجامد عن السيادة الوطنية والانغلاق على الداخل ورفض التفاعلات الدولية. إن الاحتفاظ بالحد الأدنى من الإرادة الحرة والاستقلال يستدعي اليوم، بالعكس مما كان عليه الأمر في الماضي، الانتقال من مفهوم السيادة إلى مفهوم الشراكة. فبقدر ما ينجح شعب من الشعوب في التحول إلى شريك في تقرير المصير العالمي يحظى أيضاً بهامش من المبادرة والحرية التي تتيح له تكوين قرار وطني بل رأي عام داخلي ولحمة وطنية جامعة. وفي قلب هذه السياسة التي تؤسس لمفهوم الشراكة العالمية يوجد مفهوم المسؤولية. فعلى درجة المسؤولية التي تظهرها النخب الحاكمة وعلى القدرة التي تبديها في جعل مصالح شعوبها في اتساق وتطابق مع مصالح المجموعة الدولية عموماً والشعوب المحيطة بها بشكل خاص يتوقف حظها في الحصول على موقع مرموق في هذه الشراكة. ومن الواضح أن هذا الشعور بالمسؤولية يقف على طرفي نقيض من روح التهرب من المواجهة والتبرؤ ورمي المسؤولية على الآخرين والاحتماء وراء مفهوم الضحية الذي عبر عنه سلوك النخب العربية وكشفت عنه الأزمة التي فجرتها أحداث 11 سبتمبر 2001. وللمسؤولية السياسية في هذا السياق الذي نتحدث من خلاله ثلاثة أبعاد أو وجوه لم يعد من الممكن فصل واحدها عن الآخر. البعد الأول هو مسؤولية النخب أو الطبقات السياسية تجاه المسائل التي تتعلق بتسيير البلاد التي تحكمها وحسن إدارتها لمواردها واستثمارها لها. فلم يعد الحكم داخل أي بلد مسألة خاصة بالنخب الحاكمة ولكنه أصبح هو نفسه مسألة من مسائل الإدارة الدولية بقدر ما أصبحت للسياسات الفاسدة في أي بلد نتائج أو عواقب مباشرة على سياسات ومصير المجتمعات والبلدان الأخرى القريبة والبعيدة معاً. ومن هنا فإن النخب التي تظهر مقدرة ضعيفة على إدارة موارد البلاد التي تحكمها وتتعرض باستمرار لتحديات داخلية لا تنجح في معالجتها بغير العنف وإسالة الدماء وتبقي الباب مفتوحاً بشكل دائم أمام اضطرابات وقلاقل حاملة لمخاطر كبيرة لها ولجيرانها وللمجتمعات الأخرى، تفقد الصدقية العالمية وتصبح هي نفسها هدفا لضغوط واستراتيجيات إقصاء خارجية تقودها تلك الدول التي تعتقد أنها الأكثر تعرضاً للاساءة أو لمخاطر سياساتها اللاعقلانية وضيقة الأفق. وهذا ما يجعل وسوف يجعل من التدخل في شؤون الدول أمراً طبيعياً ووارداً أكثر من أية فترة سابقة في نظري ومتزايداً باستمرار. وهو ما سوف يدفع الرأي العام الدولي أيضاً إلى القبول بشكل أكبر بمثل هذه التدخلات، وربما إلى تقنينها بصورة أدق في مرحلة قادمة في دائرة الأمم المتحدة لإضفاء شرعية دولية مباشرة وواضحة عليها. هذا ما بينه التأييد الواسع الذي حظي به مشروع تغيير النظام البعثي في العراق عن طريق التدخل العسكري المباشر للدول الكبرى، وما برهنت عليه بشكل أكبر مبادرة الشرق الأوسط الأميركية التي وافق عليها بعد تعديلها بما يضمن مصالحه الاتحاد الأوروبي كما دعمتها جميع الدول الصناعية في مجموعة الثمانية الكبار، وهو ما أكد عليه كذلك القرار 1559 الذي اعترض على تمديد ولاية رئيس الجمهورية اللبنانية إميل لحود بالرغم من حرص أصحاب التمديد على احترام القواعد الدستورية واحتجاجهم بتمسكهم بالوصاية السورية. وكل ذلك يجعل من المؤكد أن عمليات التدخل من قبل الدول الكبرى، سواء أجاءت تحت غطاء قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة أو من دونهما، تسير في اتجاه التنامي السريع والثابت في المستقبل وتجد أكثر فأكثر ما يسمح بتبريرها بل ربما بالمطالبة بها في منطقة العالم الفقير الذي لا تبدي فيه النخب الحاكمة قدرة كبيرة على معالجة التوترات ومواجهة التحديات الحقيقية سواء ما تعلق منها بتحديات التنمية الإنسانية أو بإيجاد الحلول السياسية والتوافقية للصراعات والنزاعات الاجتماعية والدينية والإثنية قبل السقوط الأليم نحو مزيد من الاضطرابات والحروب والمجاعات وجميع أشكال التقهقر والانحطاط المأساوية التي تقود إليها سياسات النخب الرديئة والمفتقرة للكفاءة والشعور بالمسؤولية. ولا شك عندي أن الزيادة المستمرة في طلبات التدخل الخارجي وممارسته من قبل الدول الكبرى أو مجلس الأمن أو حتى قوى دولية متوسطة سوف يشكل بؤرة نزاع دولي متصاعد. ولابد أن يشكل منذ الآن في نظري نافذة للتفكير الجدي بقضايا جديدة ومتجددة بالنسبة للمجموعة الدولية وفي مقدمها مسألة بناء إدارة سياسية عالمية بالمعنى الحقيقي للكلمة تشارك فيها الشعوب جميعاً وتتفاوض في ما بينها، في ما وراء حدود الدول التي تنزع إلى أن تخضع أكثر فأكثر في أجندتها الداخلية إلى النخب الحاكمة التي تتحكم بها وتستخدمها لخدمة مصالحها الفئوية وحدها.والبعد الثاني للمسؤولية السياسية المنتظرة من الحكومات الوطنية اليوم كي تحظى بالصدقية العالمية يتعلق بطبيعة السياسات والممارسات الإقليمية التي تظهرها النخب الحاكمة. وتنبع أهمية هذا البعد من أبعاد المسؤولية والتركيز عليه من حقيقة أنه لم يعد هناك أمل لدولة بتحقيق أهدافها الإنسانية داخل أراضيها، أي من تنمية الموارد المادية والمعنوية وتحسين شروط حياة الأفراد والجماعات، من خلال الاعتماد على مواردها الخاصة وحدها واستغلالها حتى لو حصل ذلك بأفضل السبل والوسائل. بل لم يعد يكفي لبلد أن يراهن على امتلاك موارد كبيرة، مادية وبشرية، حتى يضمن تقدمه ونموه. وربما أصبحت هذه الموارد، في بيئة مضطربة وغير مستقرة، سبباً في احتلاله أو خرابه وتفككه تحت سلطة نخب فاشية أو مافيوزية، كما برهن على ذلك بأقوى وجه مثال العراق الحديث والمعاصر. إن الإدارة الوطنية السليمة لأي بلد لم تعد تنفصل أو لم يعد من الممكن فصلها في السياق المعولم الذي نعيش فيه عن الإدارة الإقليمية السليمة. وبقدر ما يكون للدولة من مشاركة إيجابية في بناء إطار فعال وناجع للتعاون الإقليمي وبالتالي بقدر ما تساهم، من خلال سياساتها الإقليمية البناءة، في تحسبن فرص التنمية عند المجتمعات المحيطة بها وليس فقط داخل حدودها، تحظى بقدر أكبر من الصدقية وتزداد فرص حصولها على الشرعية العالمية. وهذا يعني أن من مصلحة النخب الحاكمة اليوم التفكير والعمل من أفق التفاهمات عبر الوطنية بدل التنافس والصراع لنيل حصة الأسد على حساب الشعوب الأخرى. ذلك أن وزن الدول وإشعاعها سيزدادان في المستقبل كما ستزداد شرعية النظم والنخب الحاكمة في أي بلد ومنطقة بقدر ما تظهر هذه الدول والنخب التي تحكمها قدرة على اقتراح مشاريع تعاون إيجابي والقيام بمبادرات بناءة لتجنب النزاعات الإقليمية ولتوسيع دائرة التفاهم والأمن والسلام الإقليميين. وبالعكس فإن الأنانية القومية أو الوطنية التي سادت في العقود الماضية وكانت معيار نجاح النخب في الصراع الدامي من أجل القيادة والسيادة وتسريع وتائر التقدم على حساب المجتمعات الأخرى سوف تظهر أكثر فأكثر كتعبير عن انعدام الشعور بالمسؤولية لدى النخب وعدم القدرة على تحمل تبعات الحكم ومهامه في منطقة من المناطق. وليس هناك منطقة شهدت مثل هذه الأنانية والتقوقع حول المصالح الوطنية الضيقة ورفض الانفتاح والتعاون والتكامل الإقليمي مثل ما شهدته المنطقة العربية التي بقيت خلال نصف القرن الماضي ساحة مفتوحة بالمطلق للتنافس على الزعامة والنراع على المناطق الحدودية والصراع على الموارد وتغليب المصالح الوطنية على المصالح الجماعية. أما البعد الثالث للمسؤولية السياسية التي نتحدث عنها في السياق الذي ذكرت فهو يشير إلى المقدرة التي تملكها قيادة سياسية أو نخبة حاكمة على الارتفاع فوق المصالح القومية الضيقة من أجل ضمان الاتساق والانسجام العالميين وتعزيز فرص وشروط الأمن والسلام الدوليين. وتفترض هذه المساهمة نشاطاً دبلوماسياً فعالا وحضوراً دولياً مستمراً كما تفترض مشاركة جدية وبذل جهد وتضحيات فعلية من أجل تحقيق القيم والأهداف العالمية المشتركة، وقبل ذلك المساهمة في بلورة هذه القيم والمبادئ التي لا يقوم من دونها مجتمع دولي موحد ومتفاعل ولا متحد إنساني سياسي متعاون ومتواصل. فليس لمجتمع اليوم، داخل المنظومة الدولية، وزن سياسي ولا معنوي إلا بقدر الجهود التي يبذلها للمساهمة في حل المشكلات الدولية. وهذا يتناقض بشكل قاطع مع سياسات الهيمنة الدولية والانفراد بالقرار العالمي كما يتناقض مع عقلية الاتكال والتبعية التي تميل إليها بعض الدول وما يرافقها من اعتماد منطق التسول على الولايات المتحدة وأوروبا للحصول على الدعم اللازم أو للحفاظ على الأمن والاستقرار أو للدفاع عن المصالح القومية والوطنية.

vendredi, octobre 15, 2004

إزمة النظم الشمولية

ندوة مشروع دراسات الديمقراطية
أكسفورد أغسطس 2004

طبعا أنا لا أتصور ان هناك أفقا واسعا للتحول الديمقراطي في المملكة العربية السعودية لكن سؤالي يتعلق بالآلية التي ترى أن من الممكن من خلالها دفع الوضع السعودي بل النظام السعودي إلى التغيير عبر تحولات سياسية بطيئة. الصورة التي في ذهني تفيد بان النظام السعودي يقوم بشكل رئيسي على ثلاث ركائز أساسية. الأبوية السائدة من حيث هي نظام من العلاقات التي تربط العائلة السعودية المالكة بالمناطق والأحياء وشيوخ العشائر، ومن حيث هي منظومة قيم سياسية مدنية تنظم علاقات الأفراد والجماعات فيما بينها بصرف النظر عن العشيرة السعودية. والركيزة الثانية هي الاقتصاد الريعي الذي يأتي هنا ليدعم نظام العلاقات الأبوية ويحوله إلى قاعدة لنظام حكم عن طريق ما أتاحه من إمكانيات مادية وسياسية كبيرة لبناء العلاقات الزبائنية بالتوزيع والرشوة والالحاق وكذلك من الموارد الضرورية لخلق طبقة ارستقراطية وطبقة وسطى أيضا مرتبطتين به. والركيزة الثالثة هي التحالف السعودي الأمريكي الذي ضمن للنظام التفاهم المستمر والتعاون مع المنظومة الصناعية وعلى رأسها الدولة العظمى الأمريكية والحصول على التغطية السياسية الفكرية الإعلامية والاستراتيجية التي يحتاج إليها من أجل معالجة التناقضات الداخلية وكبح جماح أي معارضة محتملة قبل أن تنمو وتزدهر. ولا شك أن هذا التفاهم ليس منفصلا أيضا عن وجود الاقتصاد الريعي بحيث يحق لنا القول إن ريع النفط الكبير قد ساهم مساهمة رئيسية في تعزيز إمكانيات استقرار واستمرار النظام الداخلية والخارجية.
لكن بالرغم من ذلك لاحظنا في السنتين السابقتين على الأقل ان النظام بدا وكأنه بدأ يشك في نفسه وقدرته على البقاء كما هو، وأخذ يقوم بالفعل بما يشير إلى الشروع في عملية تعديل بطيء في بنيته الخارجية أو السطحية. لقد تكلم السعوديون عن انتخابات بلدية وقاموا بتنظيم مؤتمر وطني وأظهروا رغبتهم في كبح جماح بعض التيارات الوهابية المتشددة حتى قبل 11 سبتمبر 20001. لكن في السنة الماضية يبدو لي وكأن هناك تراجعا غير معلن عن كل هذه الإجراءات التغييرية البسيطة واستعادة من قبل النظام للمبادرة، كما حصل في بعض البلدان الأخرى. سؤالي هو: هل ما حصل من تراجع ناجم عن أن الطبقة الوسطى، وهي الطبقة التي اعتمد النظام على ولائها حتى الآن، لكنها هي أيضا صاحبة المطالب بالتغيير نظرا لأنها الطبقة المتعلمة والمتأثرة أكثر بقيم السياسة الحديثة والطبقة التي أصبح لها موقع في النظام وتستطيع بالتالي التأثير، هل ما حصل ناجم عن أن هذه الطبقة شعرت أمام تطور حركات التطرف الديني وتوسع دائرة العمليات الارهابية داخل المملكة أن من الأفضل لها في الوقت الراهن التمسك بالنظام وعدم زعزعة استقراره لصالح بديل إسلامي متشدد أم هو ناجم عن أن الضغوط الأمريكية الكبيرة في اتجاه الاصلاح قد خفت أو عن الإثنين معا؟ ثم ألم يحصل داخل النظام أو في وسط الفئة الحاكمة السعودية أي خلخلة أو أي انقسام في الآراء؟ ليس المقصود بالضرورة انقسام العائلة المالكة ولكن تبيان في ما إذا كانت الأزمة التي فجرتها أحداث 11 سبتمبر قد دفعت إلى نشوء تيارات ووجهات نظر متباينة حول أساليب العمل المطلوبة للاحتفاظ بالسيطرة داخل المملكة ولإعادة إنتاج النظام. الواقع أنني لم أتبين في الحديث العوامل التي تفسر بالضبط كيف نجح النظام السعودي في ان يستعيد التوازن ويعطل كل عناصر الخلخلة التي أدخلتها الأزمة المتفجرة خلال السنتين الماضيتين سواء بسبب تطور مطالب الطبقة الوسطى السياسية أو بسبب الضغط الخارجي أو بسبب انفلات جزء من القاعدة الاسلامية.
6

-12 برهان غليون

أنا أريد في الحقيقة أن أقول، بسرعة، أن الأنظمة العربية سواء كانت تنتمي إلى نمط الاستبداد الأبوي أو إلى الفاشية الحديثة فهي تعيش جميعا في أزمة حقيقية. المشكلة التي تستحق التأمل والتفكير هي لماذا لا تترجم هذه الأزمة في بلداننا بنشوء حركة ديمقراطية قوية أو في تطور التيارات الديمقراطية التي لا تزال معزولة وضعيفة بالمطلق؟ لماذا تقود الأزمة بالعكس مما كنا ننتظر إلى مسار مختلف تماما هو مسار إعادة هيكلة الأنظمة الاستبدادية نفسها بالتفاهم مع الدول الأجنبية، وبالاستجابة إلى الشروط والطلبات التي تقدمها هذه الدول؟ باختصار لماذا تفشل الضغوط التي تمارسها المجتمعات على الأنظمة في انتزاع أي تنازلات في اتجاه فرض المزيد من الحريات واحترام القانون وضبط الإدارة وإصلاحها في الوقت الذي تثمر فيه الضغوط الخارجية استسلامات متتالية تعبر عنها الأنظمة بالتجاوب السريع مع مطالب الدول الكبرى بل وانخراطها في استراتيجياتها من دون شروط مسبقة؟
الجواب هو أنه كي يمكن للضغوط الداخلية أن تثمر تنازلات في ميدان الحقوق والحريات والاعتراف باستقلالية المجتمع وبجزء من سيادته ينبغي أن تتمتع القوى الاجتماعية والسياسية الضاغطة بالحد الأدنى من الوزن والصدقية الشعبية، أي ينبغي أن تكون لديها القدرة أيضا، مثل القوى الخارجية، على زعزعة استقرار أو التهديد بزعزعة استقرار النظام. في هذه الحالة وحدها تشعر الطبقة الحاكمة أن لها مصلحة في فتح مفاوضات مع القوى الداخلية تماما كما تطالب حالما ترفع الدول الكبرى عصاها بفتح مفاوضات معها وتدعو لحوار سلمي ولتجنب اللجوء إلى القوة. وهي ستظل ترفض مبدأ الحوار في الداخل وتصر على مبدأ استخدام القوة المجسد بإطلاق يد أجهزة الأمن من دون التزام بقانون ولا بدستور طالما شعرت بأن قوى المعارضة لا تستطيع أن تهز استقرار نظامها ولا تهدد سلطتها. وهذا يعني أنه كي يحصل حوار جدي بين المعارضة والحركة الديمقراطية من جهة والأنظمة القائمة من جهة أخرى وبالتالي كي يزيد أمل المجتمع في تحقيق تنازلات تدريجية تشكل أساس الانتقال السلمي نحو وضع أكثر ديمقراطية، لا بد أن تنجح القوى الديمقراطية مسبقا في تعبئة الرأي العام وتكوين قوة تدخل حقيقية في الحياة السياسية والاجتماعية. أما في الظروف الراهنة ونظرا لضعف القوى المعارضة الموجودة فمن السهل على الأنظمة تجنب التفاوض والحوار الداخلي لأن ذلك لا يكلفها كثيرا على المدى القصير على الأقل, وهي تربح أكثر من التفاوض مع الولايات المتحدة والدول الكبرى على مصالح المجتمعات من ربحها عبر التفاوض مع هذه المجتمعات لتقي نفسها من الضغوط الأمريكية. كما أن الولايات المتحدة والدول الكبرى تدرك أيضا أن التفاوض مع حكومات أقلية لا شعبية تضمن لها مصالح لا يمكن أن تحلم بها في التفاوض مع حكومات حقيقة تمثيلية.
من هنا أنتقل إلى المشكلة الرئيسية. فالسؤال في نظري لا يتعلق بما إذا كانت هذه الأنظمة مستبدة أم لا ولا بما إذا كانت ستبقى أو ستزول. فهي ستزول لا محالة في يوم ما لأنها ليست مخلدة. إنما السؤال الحقيقي هو : لماذا لم تنجح المجتمعات العربية حتى الآن في أن تفرز من داخلها قوى على درجة من الوعي والتماسك والانتشار تمكنها من حمل المشروع الديمقراطي الذي نتحدث عنه وفرضه بالوسائل السلمية أو غير السلمية. بمعنى آخر ما الذي يفسر افتقار المجتمعات إلى القوى الاجتماعية الفاعلة التي يمكن المراهنة عليها من أجل دفع الأنظمة إلى مسار إعادة الهيكلة في اتجاه ديمقراطي ومكنها بالعكس من الاطمئنان إلى أن بإمكانها التوجه من دون أن تخشى شيئا نحو إعادة الهيكلة في اتجاه تجديد العقد الاستعماري الجديد أو الوصاية الأجنبية والتفاهم بين النخب المحلية والنظام العالمي؟ ومن الواضح، وأنا هنا أختلف مع أولئك الذين يعتقدون أن الأنظمة جامدة لا تتحرك, أن هذا النوع من الهيكلة هو الذي نشهد انتشار نموذجه اليوم من مشرق العالم العربي إلى مغربه. وهنا هو الذي يدفعني إلى الاعتقاد بأن ما نعيشه اليوم في البلاد العربية ليس مرحلة انتقال نحو الديمقراطية والتغيير الديمقراطي التدريجي والبطيء ولكن بالعكس مرحلة انتقال نحو نمط جديد من النظم الديكتاتورية المافيوزية التي تجمع بين التبعية والأحكام اللاقانونية، بين اقتصاد السوق المشوه وسلطة الأجهزة الأمنية التعسفية، بين الانفلات الاقتصادي واستباحة حقوق الجماعات معا، وهي مرحلة الربط المتزايد بين الأجندة المحلية التي لم يعد فيها من الوطنية شيء والأجندة الدولية.
هذا ما يدفعني إلى لفت الانتباه والتركيز على ما أعتقد أنه المسألة الحاسمة في أي تحول ديمقراطي عربي في المستقبل المنظور، وهو موضوع بناء الحركة الديمقراطية. وفي هذه الحالة ينبغي السعي إلى الإجابة العقلانية على السؤال : كيف يمكن ان تتحول الحركة الديمقراطية التي لا تزال تقتصر على بعض النخب المثقفة إلى حركة جماهيرية تشارك فيها وتنخرط في صفوفها قوى اجتماعية فعلية وذات وزن مثل الطبقات الوسطى التي مازالت بعيدة كثيرا عن السياسة، أو حتى بعض القطاعات الشعبية المتنورة وبعض قوى الرأسمالية الوطنية؟ هذا هو التحدي الحقيقي للعاملين في السياسة العربية على مدى السنوات القليلة القادمة.
طبعا نحن هنا في ندوة علمية وليس هذا مجال نقاشنا. لكن أعتقد أن هذا التحدي يواجه وسوف يواجه بشكل أكبر جميع الأحزاب السياسية العربية سواء أكانت علمانية أم إسلامية. وأنا أعتقد أن الأحزاب الاسلامية نفسها أصبحت معزولة عن الجمهور العريض أو بالأحرى عن الكتل الاجتماعية الكبيرة. صحيح أن لديها منتمين أكثر وصحيح أن الجمهور العربي أصبح بشكل عام أكثر التزاما بالقيم الدينية، لكن لا يعني هذا أنه مؤيد لبرامج الأحزاب الاسلامية السياسية كما لا يعني أن هذه الأحزاب لا تزال تتمتع بشعبية كبيرة كما كان الأمر في الماضي. لقد نجحت الأنظمة في اعتقادي في العقدين الماضيين في تحطيم هياكل الحركات الاسلامية وكسر شبكات القوة والتواصل التي كانت تستند إليها داخل العديد من الأوساط الاجتماعية كما نجحت في عزل الحركات العلمانية وابعاد الجمهور عنها بالتهديد والترغيب معا. وهي تجد نفسها اليوم عن حق طليقة اليدين وغير خاضعة لأي ضغط داخلي قوي في مفاوضاتها مع الدول الكبرى من أجل ما تسميه هي نفسها صفقة جديدة، وهو لا يعني إلا إعادة بناء العقد الاستعماري على أسس أكثر خنوعا من العقد الذي وقعته بعد الاستقلالات السطحية والفارغة.
وفي النتيجة أعتقد أن الأهم اليوم من أجل ضمان فرص التحول الديمقراطي في المستقبل، وبالتحول الديمقراطي نحن نعني دائما إعادة السلطة والسيادة المصادرتين من قبل النخب الحاكمة إلى الشعب، هو مراجعة القوى السياسية الديمقراطية التي لم تتبلور تماما إلى الآن ولم تبلور أي برنامج واضح ومقنع، لنفسها، أي لحساباتها وتكتيكاتها واستراتيجياتها، كي تستطيع استعادة جزء من المبادرة السياسية والتحول إلى فاعل حقيقي في الحياة العامة للمجتمعات العربية.
لا شك أن النخب العربية الجديدة النقدية قد نجحت في أن تجعل من الديمقراطية عقيدة سائدة ليس هناك ما يمكن أن ينافسها اليوم لا داخل السلطة ولا في وسط الجمهور. وحتى القوى الاسلامية الجماهيرية مضطرة اليوم إلى إعادة فرز نفسها على أساس الموقف من الديمقراطية إذا لم تشأ أن تضيع رهاناتها جميعا. لكن التحول الديمقراطي ليس مسألة فكرية. إنه مسألة عملية بالدرجة الأول، أي هو فعل مرتبط بصحة الاستراتيجيات والتكتيكات التي يتبعها الفاعلون المؤمنون بالديمقراطية وبحجم التضحيات التي هم مستعدون لتقديمها في سبيل تحقيق أهدافهم. وأعتقد أن مسألة الفعل هذه من المسائل الرئيسية التي ينبغي علينا أن نركز عليها ونوجه إليها الأضواء في المستقبل القريب: أعني مسألة كيف نبني الحركة الديمقراطية والعمل الديمقراطي من حيث هو فعل وممارسة سياسيين وما هو دليل هذا العمل وليس من حيث هو رؤية نظرية ومنظومة قيم فحسب.

dimanche, octobre 03, 2004

من هنا يبدأ الإصلاح

الجزيرة نت

يثير الإخفاق التاريخي الجديد للعالم العربي في مواجهة حرب التطهير العرقية الإسرائيلية في فلسطين تساؤلات عميقة لدى النخبة المثقفة والرأي العام عموما. ويكاد الاتجاه الغالب ينحو نحو اتهام الذات والتشكيك الجماعي بقدرة الشعوب العربية كشعوب على تجاوز نقائصها, وتحقيق منجزات إيجابية تنسجم مع متطلبات مواجهة التحديات العالمية والإقليمية الجديدة. ويقود هذا النزوع لاتهام الذات الذي يعكس فقدان الثقة وانهيار الإيمان بالنفس إلى تفسيرات مغرقة في الذاتية المحضة, تعمل هي نفسها على زيادة التخبط الفكري والسياسي وإعادة إنتاج بنيات وهياكل الحكم ذاتها والتي كانت ولا تزال مسؤولة عن الخراب والدمار السياسي والمعنوي للعالم العربي.
وبدلا من تطوير نقد ذاتي موضوعي يفسر النتائج بعللها المنطقية ويحدد المسؤوليات بصورة دقيقة وعينية, يميل الرأي العام العربي -المثقف والشعبي- تارة إلى تحميل الثقافة والتاريخ والتخلف وغياب العقلانية العربية المسؤولية الرئيسية عن إخفاق السياسات القومية, وتارة إلى الإرادة العدوانية الأجنبية, وتارة أخرى إلى العولمة التي تبدو في نظر العديد ممن يتحدث فيها بالشارع العربي كما لو كانت فاعلا قائما بذاته أو غولا جديدا, يستعصي على التعريف ويعمل في العلن والسر على تقويض أساسات الأمم والشعوب جميعا ليجعلها لقمة سائغة في فم الأسد الأميركي الكاسر.
”الإدارة العقلانية للموارد والتنظيم الصالح للأفراد والسياسة العقلانية للمجتمعات تساعد على تنمية الثروة العامة وتفجير ينابيع الإلهام والعطاء والبذل التي تزيد من فرص التقدم والارتقاء. وبالعكس تعمل الإدارة الفاسدة على هدر الموارد وقتل المواهب وتهريب الكفاءات الحقيقية ومن ثم تدمير فرص التقدم والنمو”وتستغل بعض التيارات العربية الحاكمة هذا الضياع الفكري الذي تغذيه بيئة ثقافية قائمة على الحرمان من النقاش الوطني العلني وطمس العيوب والمشاكل الخطيرة ومحاربة الفكر النقدي والعقلاني واحتكار الأدوات الإعلامية جميعا من قبل مفكري السلطة أو دعاتها, للتغطية على مسؤولياتها الخاصة وتعميم الشعور المتزايد اليوم في مواجهة الغرب بأن العالم العربي جميعا -بما فيه من حكومات وجمهور وطبقات ومثقفين- هو ضحية السياسات الدولية. وبذلك تأمل الكثير من النظم التي تعرضت إلى أعنف حملة تجريح في السنتين الماضيتين في أن تجنب نفسها المساءلة الموضوعية.
والحال أنه لا ينبغي لنا أن نكف عن تكرار أن النتائج الضعيفة -إن لم نقل السلبية- للمجتمعات العربية في العقود الأخيرة والتي أدت إلى التدهور الخطير في الموقف الإستراتيجي للعالم العربي ليست منفصلة عن طبيعة النظم التي عرفتها. فمصير الشعوب معلق مهما كانت ثقافتها الأصلية أو طبيعة التحديات الخارجية, بأساليب إدارتها وتنظيمها وقيادتها السياسية. والإدارة العقلانية للموارد والتنظيم الصالح للأفراد والسياسة العقلانية للمجتمعات تساعد على تنمية الثروة العامة وتفجير ينابيع الإلهام والعطاء والبذل التي تزيد من فرص التقدم والارتقاء. وبالعكس تعمل الإدارة الفاسدة والتنظيم الرديء وسياسة كرش المجتمعات كما يكرش قطيع الماعز أو الماشية على هدر الموارد وقتل المواهب, وكذلك تهريب الكفاءات الحقيقية وتعظيم حجم ونفوذ الفئة الوصولية ومن ثم تدمير فرص التقدم والنمو.
ولم تصل المجتمعات المتقدمة إلى ما وصلت إليه إلا بفضل مؤسساتها وقوانينها وقواعد عملها وأساليب ممارسة السلطة السياسية والاجتماعية الديمقراطية فيها, لا بسبب العصا الغليظة التي كان يستخدمها قادتها لسوقها كالقطعان ولا بفضل الجزرة أو الرشوة التي كانوا يقدمونها على سبيل الإغراء لكسب تأييد أصحاب النفوس الضعيفة أو لإضعاف نفوس الناس جميعا.
”لم تصل المجتمعات المتقدمة إلى ما وصلت إليه إلا بفضل مؤسساتها وقوانينها وقواعد عملها وأساليب ممارسة السلطة السياسية والاجتماعية الديمقراطية فيها ”لا بد لنا أن ندرك في الحقيقة أن ما نعيشه اليوم من أوضاع هو من إنتاج مؤسساتنا وفي مقدمها نموذج الحكم وممارسة السلطة, وأن هذه المؤسسات هي نفسها ثمرة اختيارات سياسية سواء أكان ذلك في الاقتصاد أو المجتمع أو التعليم والتربية أو في التكوين والتأهيل الفكري والديني، وأن أصل هذه الاختيارات السلبية أو على الأقل غير الموفقة هو المصالح الخاصة التي ارتبطت بطبقة لم تقم سلطتها لا على مؤهلات سياسية ولا خبرة تقنية ولا مواهب استثنائية ولا قيم أخلاقية, ولكن على تحكمها العرضي بالقوة واقتناصها فرص اهتزاز توازن المجتمعات العربية في حقبة انتقالية وتزايد الضغوط والاعتداءات الخارجية. ومن غير الممكن المحافظة على هذه المصالح غير المرتبطة بأي دور منتج وغير المبررة أخلاقيا إلا بتجميد أي شكل من أشكال المنافسة الاجتماعية النزيهة والشرعية, وتحييد بل خنق كل عناصر القوة الأخلاقية والإنتاجية الإيجابية في المجتمعات العربية.
ويزداد اليوم نزوع النظم العربية للجمود والانكفاء على شعارات الاستمرار والاستقرار والعبث بالقوانين والقيم الأخلاقية والقواعد الاجتماعية, بقدر ما تنكشف أزمة الشرعية ويتجلى انعدام الصدقية. والواقع أنه لا مهرب للنخب الحاكمة في تبرير النتائج الهزيلة التي حصلنا عليها في العقود الماضية في جميع الميادين من الاختيار بين فرضيتين:
إما أن نظام الحكم والإدارة الذي أقامته كان صالحا ولا يزال لكن المجتمع على درجة من القصور الولادي لا ينفع معه أي إصلاح, ولن تنفع فيه أي جهود إصلاحية. وهذا يعني أن علينا أن نسلم بأن مجتمعنا أو إنساننا -بعكس جميع البشر الآخرين- منقوص الإنسانية, وأنه يعاني من عاهات أخفق نظام الحكم والإدارة بعد نصف قرن من الاستقلال ومن الحكم المطلق والسيطرة الشاملة على القرار والموارد معا في إيجاد علاج لها, بل في فهم أسبابها. وفي هذه الحالة ينبغي استبدال المجتمع بغيره ليتوافق مع النظام.
أو أن نظام الحكم والإدارة أي سياسات النظم واختياراتها الثقافية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية لم تكن مناسبة, وما كان بإمكانها إذن أن تساعد المجتمع على الترقي والتقدم وتجاوز نقائصه الذاتية. وفي هذه الحالة ينبغي التفكير في نظام أصلح والعمل عليه. ولا يمكن رفض كلتا الفرضيتين, لأن ذلك يعني إلغاء التفكير العقلي بالشؤون الاجتماعية والتهرب من المسؤولية, أو الاستهانة بالوعي السياسي عند الحاكمين والمحكومين أو معاملتهم كقاصرين عقليا والتخلي عن مبدأ المحاسبة الجماعية والوطنية. وهذا يقود لا محالة إلى الأخذ بمبدأ عبثية السياسة ولا مسؤوليتها, وإغلاق كل أفق التفكير في الماضي والمستقبل معا.
والقصد التذكير بأن تاريخ المجتمعات تصنعه المجتمعات نفسها، والمسؤول في كل مرة عن هذا الصنع هو النخب التي تتولى مناصب المسؤولية وتتحكم بتوزيع الموارد والاستثمارات المادية والمعنوية وتتخذ القرارات السياسية والإدارية وتتابع تنفيذها. وعندما نتحدث عن مسؤولية فنحن نتحدث عن نشاط واختيارات واعية وسياسات مطبقة من قبل بشر لديهم وعي وإرادة ورؤية، ولا نتحدث عن مسؤولية عندما يتعلق الأمر ببنيات قبلية أو نقص في الموارد أو كوارث طبيعية.
في المجتمع العربي نقائص من دون شك, لكن على قياداته السياسية والفكرية والاقتصادية والإدارية تقع مسؤولية تطوير السياسات وإيجاد المناهج والأساليب والوسائل التي تساعده على إصلاح هذه النقائص وتجاوزها. وعندما لا يحصل ذلك فالمسؤولية تقع بالضرورة على القيادات, لا على طبيعة الأرض والتربة أو التحديات الخارجية أو لون شعر البشر أو جلدهم أو حظوظهم العاثرة.
بالتأكيد لا تعمل السياسة في إطار مجتمع مثالي لا عندنا ولا عند غيرنا، فالمجتمعات لا تولد كاملة ومكملة, فلديها جميعا تناقضاتها ونقائصها ومشاكلها الداخلية والإكراهات الخارجية الكثيرة. ولذلك فهي بحاجة دائما للتحسين والتطوير والتغيير والتجديد, وذلك من خلال تجديد رؤاها ومؤسساتها ووسائل تنظيمها الإدارية والقانونية.
”إن النخب الحاكمة ليست هي المسؤولة حصرا عن كل ما حصل, فهي في تكوينها وتأهيلها وسلوكها ثمرة هذا المجتمع ومكثف نقائصه وقيمه السلبية من أنانية وفردية وعصبوية ومحسوبية وتنكر للذات وغياب الرؤية الجمعية وروح المسؤولية ”فتأكيدنا على المسؤولية الأساسية التي تقع على عاتق النخب الاجتماعية والسياسية لا ينبغي أن يمنعنا من تأكيد مسؤولية المجتمع كإرادة جمعية, وذلك بالقدر الذي يمكن فيه الحديث عن وعي اجتماعي أو سلوك اجتماعي مختار. فليس هناك شك في أن المجتمع لم يتصرف أو ينجح أن يتصرف عندنا كقوة منظمة وفاعلة قادرة على أن توقف النخب التي صادرت إرادته عند حدها ليمنع تدهور الموقف. وبهذا المعنى يمكن أن نقول إن النخب الحاكمة ليست هي المسؤولة حصرا عن كل ما حصل, وإنها ليست هي ذاتها في تكوينها وتأهيلها وسلوكها سوى ثمرة هذا المجتمع ومكثف نقائصه وقيمه السلبية من أنانية وفردية وعصبوية ومحسوبية وتنكر للذات وغياب الرؤية الجمعية وروح المسؤولية, أقصد مجتمع ما بعد الاستقلال الذي تكون منذ خمسين سنة بطبقاته المختلفة وأحزابه المتعددة.
فالتيار القوموي الذي سير هذا المجتمع الاستقلالي وألهمه لا يختلف عن العديد من تيارات الفكر العالمي الشيوعي الذي لم يأخذ بعين الاعتبار مسائل الثقافة والفكر ومسائل التربية والبناء الأخلاقي بما ينبغي من الاعتبار, وعن العديد من تيارات الفكر الليبرالي المنفعي الضيق الأفق والمتمسك بالتبعية والاقتداء, وكذلك عن تيارات الفكر الأصولي المتطرفة التي لا تريد النظر في إصلاح الواقع التاريخي والحضاري القائم, ولكنها تبحث عن واقع حضاري وتاريخي بديل ينفي ما هو موجود ولا تهتم إلا بإنكاره وتشويه صورته. كل هؤلاء يشاركون في هذه المسؤولية.
”إن الأساس العميق للمحنة التي نعرفها هو نقائص لا شك فيها في تكوين مجتمعاتنا المدنية ”لكننا في هذه الحالة ننتقل من مستوى المسؤولية السياسية إلى مستوى المسؤولية الاجتماعية الفكرية والثقافية، فلا شك أن هناك علاقة مباشرة بين الفكر السائد بشتى صوره الشمولية والتبعية والارتدادية التي تعاني من فصام حقيقي مع الواقع الحي والتاريخي من جهة, ونظام الحكم المطلق والإدارة البيروقراطية الآلية من جهة ثانية. فكل منهما يحتاج الى الآخر حتى يعيد إنتاج نفسه ويستمر. ونستطيع قول الشيء نفسه عن أثر البنيات الثقافية العشائرية والعائلية وأنماط التدين التقليدية.
لكن السلطة بما تملكه من هيمنة على التفاعلات الاجتماعية, هي التي تشكل الضامن أو الكفيل الشرعي أو غير الشرعي لإعادة التوازنات الفكرية والمادية القائمة. ومن دون تغيير قواعد ممارسة السلطة داخل الدولة والإدارة والجمعية الأهلية والمصنع ومؤسسة الإنتاج وداخل الأسرة نفسها وداخل الفرد تجاه نفسه وما يتميز به من خنوع للأوهام والهلوسات والرغائب الأكثر تناقضا, ليس هناك أي أمل في أي تغيير جدي وبالتالي في المستقبل.
فلا يمكن لنظام التلقين وعبادة الشخصية, والهوس بالشعارات الجوفاء والمعاقبة على التعبير عن الرأي, والمراقبة على الضمير وفرض معتقدات إكراهية تجبر الأفراد على الغش والكذب واتباع سلوك مزدوج ولا أخلاقي, وغياب معنى التحكم بالنفس, أن يقود إلى شيء آخر سوى حكم القوة والعنف والعسف والاستبداد. ومن وراء ذلك، وخلف المظاهر الشكلية للاستقرار والاستمرار لا ينبغي أن نتوقع شيئا سوى تفاقم الفوضى والاضطراب وتواصل الخراب.
”إن نقائص المجتمع وضعف تكوين الأفراد وتساهلهم أمام الإغراءات والخروقات وخوفهم وكرههم للتضحية لا تخفف من مسؤولية نظام الحكم والإدارة في شيء، فمهمة القيادة السياسية ومبرر وجودها تنحصر في مساعدة المجتمعات على التخلص من عيوبها وتحقيق التقدم ماديا وإنسانيا”
باختصار فإن الأساس العميق للمحنة التي نعرفها هو نقائص لا شك فيها في تكوين مجتمعاتنا المدنية, لكن لا يمكن للنقائص الطبيعية أن تبرر أو تفسر الإخفاق. إن نقائص المجتمع وضعف تكوين الأفراد وتساهلهم أمام الإغراءات والخروقات وخوفهم وكرههم للتضحية لا تخفف من مسؤولية نظام الحكم والإدارة في شيء.
فمهمة القيادة السياسية ومبرر وجودها هو مساعدة المجتمعات على التخلص من عيوبها وتحقيق التقدم ماديا وإنسانيا. ولم تتطور أنماط التنظيم والإدارة والحكم في العالم إلا بسبب وجود نخب كان همها بناء مؤسسات تساعد مجتمعاتها على تحسين شروط عملها وعيشها, ومضاعفة فعاليتها ومردود نشاطها وتعظيم رقيها الفكري والأخلاقي ومن ثم دورها في الحضارة. فإذا افتقرت هذه القيادة للقيم والمؤهلات وانعدم لديها أي التزام أو جهد وغرقت في الفساد, لم يعد هناك أمل ولا رجاء للمجتمعات. ولعلنا نضع هنا إصبعنا بالضبط على مكمن العطب في الوضع العربي ومنطلق العمل الجدي والإصلاح.

هل الإصلاح ممكن في البلاد العربية؟


الحزيرة نت 3 أكتوبر 2004

عدت لتوي من زيارة البلاد العربية مثقلا باليأس والانكسار. فمن الواضح أن الإصلاح الذي نتحدث عنه منذ سنوات طويلة لم يحصل ولن يحصل، وأن الأمل بدأ يتآكل كما لم يحدث من قبل في أي مكان لدى الجمهور العريض الذي بدأ يفقد الشعور بأي انتماء وطني أو إنساني، وأن السياسة كما تتجلى في نظم العرب القائمة تبدو كالعارضة على القبر التي تدين الميت بالموت الأبدي ولا تترك له مجالا للأمل أو الانبعاث.
هل هي القيادات الضعيفة؟ هل هي البيرقراطية العقيمة والمعقمة للعقل والذكاء؟ هل هو الحرس القديم الذي يبسط نفوذه في كل الميادين ولا يسمح للجديد بالولادة والنماء؟ هل هو الجهل بمصائر الشعوب أم هو الأنانية والشره والاستهتار؟
يتبارى أنصار الحكومات العربية بالتذكير بعدد المراسيم والقوانين والإجراءات التي اتخذت من قبل الطواقم القائمة لإنعاش الاقتصاد وجذب الاستثمارات ومحاربة الفساد والإهمال. وعلى هذه الحجج ترد المعارضات بحجج أقوى، فتذكر أن القوانين والمراسيم والإجراءات لا تجد طريقها إلى التنفيذ، وعندما تنفذ لا تغير من الوضع شيئا.
فالاقتصادات لا تزال فقيرة ومتهالكة ولا تكاد الاستثمارات المنتظرة والمتحققة تعادل شيئا بالمقارنة مع الرساميل الهاربة والمهاجرة. أما الفساد فكأنه يتغذى هو نفسه من لهيب معارك محاربته، وينمو عليها فلا يبقي أثرا لأخلاقيات مدنية أو سياسية.
”أول مبادئ الإصلاح هو إحلال معيار الكفاءة محل معيار الولاء، سواء أكان ولاء القرابة العائلية والعشائرية أو الزبائنية والمحسوبية أو ولاء شبكات المصالح الخاصة المتغلغلة في الدولة ”لكن يزداد الاعتقاد لدي كما هو الحال لدى غالبية الجمهور العربي المكوي بنار التدهور المستمر في شروط المعيشة وممارسة الحقوق والحريات التي تشكل علامة الاندماج في العصر الحديث والحضارة، بأنه حتى لو نجحت الحكومات في تنفيذ جميع القوانين والقرارات التي تصوت عليها أو تتخذها, وحتى لو شملت هذه القوانين والقرارات جميع ميادين النشاط الوطني، فلن تعطي نتيجة تذكر. وحتى لو كانت هذه القوانين والقرارات في الاتجاه الصحيح -وهو ليس من الأمور المعطاة، ذلك أن الحكومات قد تخطئ ومن حقها أن تخطئ- فإن الإصلاح سيظل بعيدا عنا.
تسيير الشؤون العامة يحتاج إلى صوغ قوانين واتخاذ قرارات، كما يحتاج إلى تطوير وتحديث الوسائل والأساليب المتبعة في الإدارة والتسيير الاقتصادي معا. لكنه يحتاج قبل هذا وذاك إلى نخب جديدة تدرك حاجات الشعوب وتتواصل معها وتحترمها وتتأثر بما تعاني منه، وتعرف أن المسؤولية والقيادة السياسية تعني المسؤولية والالتزام بالعمل على تحسين شروط حياة المجتمعات وضمان مستقبلها، لا استغلال المنصب السياسي لخدمة مصالحها الخاصة وضمان مستقبل أبنائها والمقربين منها.
ومن هنا وفي ما وراء كل المشاريع وبصرف النظر عنها، يتجلى الإصلاح في نظري في ثلاثة مبادئ رئيسية هي التي تشكل مصدر القوة التي يبثها في الشعوب والمجتمعات. وهي مبادئ لا تتعلق بشكل خاص بالاقتصاد أو بالسياسة ولا تتماهى مع تحديث الإدارة أو إحياء المجتمع المدني، ولكنها تتعلق بروح النظام العام وأسلوب عمله التي تنتشر أو ينبغي أن تنتشر في جميع المواقع والميادين، قبل أن تتحكم بكل نشاط اجتماعي وتحدد السلوك العام لجميع الأفراد في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والمؤسسات على حد سواء.
فإذا ما انتشرت مبادئ الإصلاح في هذا النظام العام لا يهم بعد ذلك أكان الإصلاح الاقتصادي هو الأسبق أو الإصلاح السياسي، ولا إن شمل الإصلاح السياسي -وما يعنيه من تكريس التعددية والمشاركة الفعلية في القرارات السياسية- جميع الأفراد دفعة واحدة أم كان تدريجيا وبطيئا.
أول هذه المبادئ التي تخلق الحركة الإصلاحية الدافعة هو إحلال معيار الكفاءة محل معيار الولاء، سواء أكان ولاء القرابة العائلية والعشائرية أو الزبائنية والمحسوبية أو ولاء شبكات المصالح الخاصة المتغلغلة في الدولة أو ولاء الانتماءات الحزبية الضيقة والحاكمة.
وقاعدة الولاء هي السائدة اليوم في مجتمعاتنا العربية جميعا في ميادين النشاط العام بأجمعه, الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والإداري وفي المؤسسات والجمعيات السياسية والمدنية والأهلية. فما دام الموالي هو المطلوب والمنشود فالكفاءة محاربة وهاربة لا محالة ولا شيء يمكن أن يتجدد فعليا في أي نظام أو نشاط.
وسيظل النظام يشكو انعدام الكفاءات والأطر والاختصاصات، فهو بتسويده منطق الولاء لا يدفع إلى هرب الأطر الصالحة فحسب، ولكنه يعيد إنتاج وتكوين الأطر السيئة وبصورة سيئة أيضا وعلى نطاق واسع، وهي الأطر التي تستبدل العمل والجهد الجدي بالتزلف والتملق والممالأة والالتحاق. ففي هذا التزلف وتلك الممالأة وذاك الالتحاق يكمن مصدر صعودها وازدهارها، وهو الذي يعطي لها مكانتها وقيمتها.
وفي جميع البلاد العربية التي زرت لم تتخذ السلطة -ولا تريد أن تتخذ- أي مبادرات أو تقوم بأي جهود لتغيير الاتجاه وزيادة دور الكفاءة والمهارة والموهبة في ملء مناصب المسؤولية السياسية والإدارية. وإذا فعلت ذلك فبالقطارة وعلى سبيل ذر الرماد في العيون والدعاية.
ولذلك ورغم كل ما حصل حتى الآن ومن جميع الضغوط والتحديات، لا تزال العملة الفاسدة في الدولة والمجتمع على حد سواء تطرد في البلاد العربية العملة السليمة، ولا يزال قانون الولاء والموالاة هو السائد عربيا رغم الخطابات المتكررة عن فتح المجال أمام أصحاب المواهب والكفاءات وعدم قصر مناصب المسؤولية على أنصار النظام وأشياعه وتابعيه.
بل إن الملاحظة والتقصي يفيدان بأن المناصب الجديدة أو تلك التي تشغر بسبب الوفاة أو التقاعد أو الإقالة لا تكاد تعلن حتى يتم احتلالها من قبل موالي النظام أو أتباعه وأتباع أتباعه المقربين. فبدل أن تتراجع الظاهرة تتفاقم يوما عن يوم ويتزايد تكالب أنصار النظام على المناصب بصرف النظر عن أي معيار آخر غير التبعية والمحسوبية. ليس لهذا التوجه بالضرورة علاقة مباشرة بنوايا كبار المسؤولين في الدولة، لكنه متعلق بسلوك كل بيرقراطي حزبي يحتل منصبا متوسطا أو عاليا.
”ليس هناك إصلاح ممكن في أي مجال مع استمرار الضبط الأمني اللاقانوني واللاسياسي للمجتمع، فهو لا يقطع الطريق على كل مبادرة مستقلة عند الأفراد وإنما يقتل أي إرادة أو حتى رغبة في التقدم أو العمل ”فما يهمه هو تأمين قواعده أمام احتمال ازدياد مراقبة السلطة العليا لنشاطه، لذلك فهو يسد الثغرات الممكنة بتعيين الموالين والمقربين، والنتيجة أنه لا يؤدي الإعلان عن التغيير والإصلاح ومكافحة المحسوبية إلى التخفيف من آفة سيطرة الحزب الحاكم وأنصاره و"أزلام" النظام على المراكز والمناصب، وإنما إلى استشراء إرادة التضامن والتعاون والتكاتف بين جميع المستفيدين من قانون الولاء ومنطقه حتى تحولت المحسوبية إلى عملية استعمار زاحف للدولة وجميع الأنشطة الوطنية.
والمبدأ الثاني للإصلاح هو إحلال سلطة القانون محل سلطة أجهزة الأمن في تنظيم الحقل العمومي والحياة السياسية والمدنية. ومن الواضح لكل مراقب خارجي أن ضبط الفضاءات العامة والتحكم بالسكان يتنازعه في البلاد العربية اتجاهان رئيسيان: تطبيق قانون استثنائي أو ما يشبهه مع تعديلات تتيح كل أشكال التدخل المباشر وغير المباشر في حياة الناس وتضييق نطاق حرياتهم من جهة، وحرية التدخل المطلق وغير الخاضع لأي مراقبة أو محاسبة لأجهزة الأمن في حياة السكان -بصرف النظر عن أي قانون- حتى الجائر منه، من جهة ثانية.
فنظام الضبط العام يتردد بين نموذج معتدل يقوم على استخدام وسائل الدكتاتورية واحتكار السياسة والتعبير، وبين نموذج أقسى قائم على استباحة الفضاء العام من قبل قوات أمن تحولت إلى مليشيات تتصرف من دون قانون أو مرجعية أخرى غير إرادة المعلم ورغبته التي تتحول إلى قانون فوق القانون وقبله.
وهذا هو المضمون الحقيقي والعميق لما يطلقون عليه اليوم اسم الخطوط الحمراء التي يحددها المسؤول لعمل الناشطين الاجتماعيين من خارج القانون والتي تتحول هي نفسها إلى قانون يحكم القانون. ولا يعني الضبط الأمني للمجتمع شيئا آخر سوى التشريع لأجهزة الأمن لاستدعاء أي شخص في أي وقت ولأي سبب من دون تهمة أو مذكرة قضائية لتخويفه أو تهديده أو سجنه أو إخفائه من دون أن يكون في مقدرة الشخص وأي شخص أن يتردد أو يتلكأ أو يتأخر أو يرفض أو يعترض على ذلك.
إطلاق يد الأمن بحرية لإحضار الناس وتأديبهم أو تأنيبهم هو الوسيلة الرئيسية للإذلال والترهيب والتقزيم الذي يخلق شروط الإذعان، بل لا يترك للفرد خيارا آخر سوى الانسحاق والاستسلام أو التمرد والعصيان.
ليس هناك إصلاح ممكن في أي مجال مع استمرار الضبط الأمني اللاقانوني واللاسياسي للمجتمع، فهو لا يقطع الطريق على كل مبادرة مستقلة عند الأفراد وإنما يقتل أي إرادة فيهم أو حتى رغبة في التقدم أو العمل أو الإنجاز، ولا يقوم إلا على التحييد والشل والإسكات.
إن ما يرمي إليه الضبط الأمني للمجتمع هو إخماد روح النشاط كله عند الفرد لإخماد روحه السياسية وضميره الحر وشعوره بالكرامة، أي كل ما يجعل منه إنسانا مبادرا وفاعلا ومتطلعا للتراكم والإبداع، أي في الواقع قتل المجتمعات في سبيل ضمان الاستقرار والاستمرار للنظام.
وكل ما يتجاوز بشكل أو بآخر إرادة الحاكم أو كل ما يبدو أنه مخالفة للطاعة يترجم في منطق الأمن على أنه تهديد قائم ومؤكد للنظام، ويستحق رد فعل شاملا وحاسما يتجاوز دائما أصحابه المباشرين ليشمل دائرة واسعة من الأقارب أو الأصدقاء أو حتى الجيران.
والحال أنه بقدر ما يشكل الولاء الوسيلة الوحيدة لبناء قاعدة زبائنية عشائرية أو بيرقراطية لنظام يفتقر إلى طبقة اجتماعية منتجة فعلية -أي ذات مشروع اجتماعي وعمومي- يشكل الأمن بمنطق الضبط الميكانيكي الذي يمثله اللحمة الحقيقية للزبائنية المكونة من شرائح مشتتة ومتنافرة والروح الموحدة الخاصة لهذا النمط الاجتماعي السياسي الذي لا روح له.
ومن دون أجهزة الأمن الموحدة والمنظمة والشالة لأي إرادة وطنية أو عمومية أو اجتماعية، يظهر النظام على حقيقته كلفيف من أصحاب المصالح المتعادية والمتصارعة والمتنازعة كالذئاب على فريسة مشتركة واحدة. الأمن هو الحزب الحقيقي الواحد والدائم للنظم العربية لا ما تعلنه الدساتير أو القوائم الانتخابية من أسماء. وسيطرة الأمن التي تعني تفريغ المجتمع من أي إرادة وأي تنظيم مستقل وشله عن أي عمل ومنعه من أي حركة خاصة، هو اليوم العصب الحقيقي للدولة المفرغة من إرادة مجتمعاتها ومصدر استمرارها واستقرارها الوحيد.
المبدأ الثالث هو مبدأ المسؤولية الذي يعني الإحساس بالواجب والعمل بما يقتضيه هذا الواجب في ما يتعلق بالشؤون العمومية ومناصب المسؤولية. وربما كان المبدأ السائد اليوم عند المسؤولين العرب هو النقيض له تماما، أعني مبدأ التمتع واستباحة الموارد العمومية كما لو كانت ملكية شخصية.
”عندما تعني السلطة اللامسؤولية والتحلل من الالتزامات السياسية والأخلاقية يصبح الخروج منها أو الافتقار إليها رديفا للانحدار في سلم الإنسانية وبالتالي للخضوع والتجريد من الحقوق الأساسية”فلا يرتبط المنصب هنا بواجبات ولكن بتأمين فوائد ومنافع وامتيازات وحقوق. وليس للسلطة علاقة بالمسؤولية، بل إن العكس هو الصحيح. فالسلطة تعني التسيّد، ولا يشعر صاحبها بالتسيد إلا إذا وضع نفسه فوق القانون وجعل من موقعه ومنصبه درعا يقيه أي شكل من أشكال المحاسبة والمساءلة والالتزام. فالفوقية والارتفاع فوق القانون الذي يساوي بين الأفراد هو أساس التميز ومصدر الشعور بالأسبقية والامتياز، أي بالسلطة والسلطان.
والسلطان بالمعنى الشائع هو الذي يعيش في أقصى حالات الحرية والبذخ مع أدنى ما يمكن من الالتزامات والواجبات، بل إن مفهومه يتناقض مع الواجبات التي لا تقع إلا على الفقراء والمحكومين والمستضعفين. وعندما تعني السلطة اللامسؤولية والتحلل من الالتزامات السياسية والأخلاقية، يصبح الخروج منها أو الافتقار إليها رديفا للانحدار في سلم الإنسانية، وبالتالي للخضوع والتجريد من الحقوق الأساسية.
وبقدر ما يدفع هذا الوضع إلى تشبث المسؤولين جميعا وعلى كافة المستويات بمناصبهم وعمل المستحيل للبقاء فيها واستثمارها بصرف النظر عن مصلحة النظام ككل، يدفعهم أيضا -ما استمروا يتمتعون بفضائلها وامتيازاتها- إلى فرض الإذعان والانصياع على من هو تحت مسؤوليتهم وتكبيله برداء الذل والمهانة والسخرة اليومية.
والنتيجة هي ما نعرفه اليوم من انهيار أسس الحياة العمومية السياسية والمدنية واحتلال التنازع والتناحر والتنافس على السلطة محل العمل والاجتهاد المادي والفكري لإنتاج الثروة ومراكمة الإبداعات والابتكارات الحضارية. ويكون التأخر والتقهقر في شروط حياة المجتمعات موازيا ومواكبا لنشوء طبقة أرستقراطية تفرض نفسها بالقوة وتعيش على ريع المكانة والمنصب والأسبقية الاجتماعية.