mardi, août 24, 2004

تعليق على كتاب النظام السياسي في الاسلام لرضوان زيادة


الدولة في الفكر الإسلامي الدولة الإسلامية.. حقيقة شرعية أم وهم؟
د. رضوان زيادة
24/08/2004
غلاف كتاب النظام السياسي في الإسلام *
مع صعود مد حركات الإسلام السياسي الموصوفة بـ"الإحيائية" لدى مناصريها و"الأصولية" لدى منتقديها، برز مصطلح أخذ رواجا منقطع النظير، إنه مفهوم "الدولة الإسلامية". لقد بدا هذا المفهوم للإسلاميين وكأنه يحقق لهم طموحا أو أملا افتقدوه منذ عقود ولا سيما مع إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924م على يد أتاتورك. لقد بقي هذا المفهوم أشبه بالنموذج المثال الذي يُحدد بالسلب أكثر من تحديده بإحداثياته الخاصة؛ فالنظام الاقتصادي في الدولة الإسلامية -على سبيل المثال- لا يعتمد النموذج الاشتراكي في توسيع القطاع العام وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، ولا هو كالنموذج الرأسمالي في إطلاق حرية اقتصاد السوق وانفتاح الأسواق على بعضها، إنه لا هذا ولا ذاك، إنه نموذج خاص بالدولة الإسلامية، لكننا ما نزال -إلى الآن- نفتقد أسسه وفلسفته التي يقوم عليها.
الحركات الإسلامية مدعوة لإعادة النظر في مفهوم "الدولة الإسلامية"
ومع دخول حركات الإسلام السياسي في خصام أو في دوامة العنف مع معظم الأنظمة السياسية في العالم العربي، أو في دخولها في إطار التعددية الحزبية القائمة في بعض الأقطار مثل الأردن والمغرب وغيرهما، بدا أن هذه الحركات مدعوة لإعادة النظر في الكثير من مفاهيمها التي بنت عليها خطابها، وأسُّ هذه المفاهيم هو مفهوم "الدولة الإسلامية" الذي حاول الكثير من المفكرين والمثقفين العرب النظر إليه وفق تاريخيته الزمنية وأصوله المرجعية.
لذلك يحاول برهان غليون في حواره مع محمد سليم العوا حول "النظام السياسي في الإسلام" أن يميز بين ما يسمى بالنظام السياسي في الإسلام ومفهوم "الدولة الإسلامية"؛ فالنظام السياسي يشير إلى مجموعة القواعد والمبادئ والأهداف التي تحدد نمط ممارسة السلطة العامة في المجتمع، سلطة الحكم، أي أسلوب استثمار الموارد المادية والمعنوية التي ينطوي عليها حقل سياسي معين. أما مصطلح الدولة الإسلامية فإنه مصطلح مبتدعٌ حيث يعبر عن تأثر الفكر الإسلامي المعاصر الشديد بالفكر القومي الحديث السائد، ذلك أن هذا الفكر هو الذي يُعطي للدولة هذه الأهمية الاستثنائية والخاصة التي تجعل منها المعبود الحقيقي للمجتمع؛ لأنه يُطابق فيها بين هوية هذا المجتمع وقيمه ونظامه وغاياته، وهكذا فلم تكن للدولة في الإسلام الأول قيمة إيجابية، ولم يكن لها في الإسلام التاريخي نفسه القيمة التي نميل إلى إعطائها لها اليوم، والتي جاءت بالضبط من السعي إلى التقليل من أهمية الدين، بل تهميشه وخلق بديل عنه.
ولذلك فالصراع اليوم بين الحركات الإسلامية وأعدائها ليس على تعيين حقيقة الإسلام أو على معرفة جوهر رسالته، وإنما يرتبط نزاعهم النظري بالصراع على السلطة الذي يتمحور حول مسألتين رئيسيتين هما: تداول السلطة وعلاقة الدولة ومؤسساتها بالمجتمع.
فالحركات الإسلامية تجد في الدين مصدرا مقابلا لشرعية فرض التداول على السلطة، وإزاحة النخب الحاكمة عن مواقعها، وبنفس الوقت فإن مرجعية الدين ودوره في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يشكل أيضا مصدر خلاف حقيقيا بين أنصار الحركات الإسلامية والأحزاب السياسية المنافسة لها.
لكن وبالرغم من الأصول الشرعية والفقهية التي تبني الحركات الإسلامية عليها خطابها، فإن ذلك لا يمنع من نشوء حركة إسلامية ديمقراطية بالمعنى العميق للكلمة كما يرى غليون؛ إذ من شأن هذه الحركة أن تعكس هموم قطاع كبير من الرأي العام العربي الحريص على القيم الدينية، والمتمسك بها، وتعمل مع الحركات الاجتماعية والسياسية الأخرى على أسس ديمقراطية في التوصل إلى الحلول المطلوبة، لإقامة نظام مجتمعي يضمن المساواة والعدالة، والحريات الفردية لجميع المواطنين.
وإذا كان الكثير من الباحثين يعتقدون بأن الديمقراطية ينبغي أن تكتفي بمصدر الشرعية الشعبية وتنأى بنفسها عن أي علاقة مع الدين، فإن غليون يرى العكس؛ فمحاولات دمقرطة الفكر السياسي الإسلامي يمكن أن تمنح المساعي القائمة لتعزيز فرص التحول الديمقراطي في البلاد العربية: مشروعية إضافية تُساهم في تدعيمها.
فغليون إذن يرفض مفهوم الدولة الإسلامية لاعتبارين: الأول هو عدم مشروعيتها داخل الإسلام كدين، والثاني: أنها شكل من أشكال الدولة الدينية التي تجاوزها الجميع باتجاه الدولة الديمقراطية التي تكفل قيام الحق والقانون، وترسخ مبدأ المواطنية كأساس للتعامل بين الجميع.
وما يمنع العرب من إنجاز دولتهم الديمقراطية، ليس طبيعة التراث الفكري الديني أو العقلي في الحضارة الإسلامية، وإنما يتعلق الأمر بقوانين عمل الديناميكيات الجيوتاريخية السياسية والاقتصادية، ولا سيما إجهاض الثورة الصناعية ومحركها التراكم الرأسمالي في العالم العربي.
نموذج الدولة الإسلامية ليس فيه نص قرآني صريح لا يحتمل في تأويله الاختلاف، ولا نص سنة صحيح الورود قطعي الدلالة.
أما محمد سليم العوا فإنه يقرُّ بداية بأن نموذج الدولة الإسلامية ليس فيه نص قرآني صريح لا يحتمل في تأويله الاختلاف، ولا نص سنة صحيح الورود قطعي الدلالة؛ ولذلك فإن لعلماء المسلمين أن يجتهدوا في شأن هذه الدولة في كل عصر بما يحقق مصلحتهم في عصرهم، ولا يغلق الباب أمام من يأتي بعدهم ليجتهد كما اجتهدوا.
والدولة لدى العوا مرادفة لكلمة الشريعة، التي أثبتتها نصوص صريحة قطعية الورود والدلالة، وأكثرها ظني فيهما أو في أحدهما، وعليه فيكون الفقه المبني على النوعين معا هو الاجتهاد البشري في فهم النصوص القرآنية والنبوية.
لكن قبول العوا هنا لمصطلح "الدولة الإسلامية"، ثم بناء نصه عليه، عبر اجتهاده في قبول التعددية الحزبية وتشريعه لوضع غير المسلمين في الدولة الإسلامية وغير ذلك يدلنا على أن مصطلح "الدولة الإسلامية" ليس قائما بذاته معينا ومحدد المعالم والقسمات، إذ يمكن -وفقا لذلك- قبول البرلمان، عندها تكون الدولة الإسلامية أشبه بالنظام التداولي، وهكذا يحتفظ العوا بالتسمية لكنه ينفتح باتجاه قبول كل الاجتهادات، بيد أنه من الأفضل له بداية أن مصطلح الدولة الإسلامية ليس تعبديا، وإنما النظام الذي يدعو إليه الإسلام وفق نصوصه المقاصدية يهدف إلى تحقيق المثل أو الغايات العليا وعلى رأسها العمل، ولذلك على المسلمين أن يتوسلوا بأي نظام يحقق هذه المثل، وعندها لن تكون هذه الدولة إسلامية بالمعنى الذي يطلق على الدولة الدينية أو الثيوقراطية، وإنما دولة مدنية تحترم الإسلام في قوانينها وتشريعاتها وتحقق مثله وأهدافه العليا في مبادئها وأطرها العامة.
ويبدو النقد ذاته منطبقا على مفهوم العوا عن التعددية الحزبية؛ إذ يعتبر أنه "لا تثريب اليوم على دولة إسلامية إن هي سمحت بتعدد الأحزاب. وأنها يجوز لها، بل يجب عليها، أن تشترط على هذه الأحزاب الالتزام بقيم الإسلام وأحكامه، ثم تدعها بعد ذلك وما تدعو إليه من برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها".
يبدو عندها مفهوم التعددية ملغيا تماما، ولا يصح إلا على شبيهنا، كما يقول لسان حال العوا، وهذه الحال أشبه بالنظم الشمولية التي تدعي التعددية الحزبية لكنها تربط هذه التعددية بالأحزاب التي تماثلها فكرا وسياسة وعقيدة، وعندها تكون التعددية أشبه بشهادة الزور منها إلى التعددية الحقيقية؛ لذلك يبدو مفهوم التعددية بمثابة المحك الرئيسي الذي يكشف مدى قبول الدولة الإسلامية بالآخر، والاعتراف بالاختلاف المتساوي مع جميع الفرقاء.

mercredi, août 18, 2004

عولمة الديمقراطية أو ديمقراطية العولمة


بعد الضجة الكبيرة التي أثارتها مبادرات الاصلاح الخارجية في سياق البحث عن وسيلة لإضفاء الشرعية على مشروع السيطرة الأجنبية على مقدرات منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية همدت الأمور وصمتت الأصوات جميعا: تلك التي كانت تنادي بالاصلاحات العتيدة في العاصمة الأمريكية وتلك التي كانت تهول في الأمور في أوساط النخب العربية ومحازبيها. وبالرغم من أن هذا التراجع الغربي عن التلاعب بشعارات الاصلاح والديمقراطية حرصا على تعاون الحكومات لم يضعف علاقات التبعية ولا قلل من أثر الهيمنة الأجنبية كما أنه لم يزد فرص الاصلاحات الداخلية إلا أنه أعاد المنطقة إلى السؤالات القديمة ذاتها التي أثارها جمود الأوضاع العربية والتي كنت أعتقد ولا أزال أنه من المستحيل الرد عليها من أفق الخصوصية الإقليمية أو بالأحرى من خارج أفق العالمية. ولعل أهم الدروس التي ينبغي استخلاصها بعد سقوط غبار هذه المعركة الاصلاحية الوهمية هي أن الحقائق العالمية الكبرى لعصر العولمة قد فرضت نفسها على خصوصيات الأوضاع العربية وبينت أن العالم العربي، بالرغم من كل ما يتميز به وضعه من سمات استثنائية مرتبطة بمسائل النفط وإسرائيل وحساسية الموقع الجيوستراتيجي خضع في النهاية للقوانين العمومية لحقبتنا التاريخية.
وكانت العولمة قد طرحت منذ عقود وقبل أن تتفجر الأزمة الكبرى الشرق أوسطية مسائل التحول الديمقراطي ضمن الاشكالية العالمية على النحو التالي: هل تقود العولمة إلى زيادة فرص التحول نحو الديمقراطية في البلاد العربية كما هو الحال في بقية الدول النامية بل والعالم أجمع؟
وقد برزت في الاجابة على هذاالسؤال وجهتا نظر متناقضتان. تقول الأولى إن العولمة بقدر ما تضعف من سيطرة الدولة الوطنية على فضاءاتها الثقافية والإعلامية الخاصة، وبالتالي بقدر ما تقلل من قدرتها على تكوين قاعدة إجتماعية واسعة من الزبائن السياسيين، وتربط مصير التنمية فيها بالسوق العالمية، لا بد أن تدفع إلى زيادة فرص التحولات الديمقراطية وتوسيع دائرة الانخراط فيها من قبل المزيد من بلدان العالم الثالث ومنها البلدان العربية.
أما وجهة النظر الثانية التي يدافع عنها تيار نقد العولمة، وريث الاتجاهات اليسارية الماركسية والنقدية عموما، فقد كانت ترى عكس ذلك تماما، أي أن العولمة تشكل أكبر تهديد للنظام الديمقراطي، ليس في البلاد النامية فقط ولكن في بلدان الديمقراطية الناضجة والراسخة ذاتها، أعني البلدان الصناعية الكبرى نفسها. وأهم الحجج التي قدمت لتفسير ذلك تركزت على ما بدا ولا يزال وكأنه جوهر العولمة والدافع الحقيقي والعميق لها, أي توسع الرأسمالية. فبقدر ما تتقدم عملية التوسع الرأسمالي هذه وما تعنيه من دمج للأسواق وفتح لأسواق جديدة كانت مغلقة أو هامشية أو مهمشة سوف يسيطر منطق الربح الذي هو منطق الرأسمال على حياة المجتمعات ويدفع إلى الخلف جميع المعايير والمؤشرات الأخرى الثقافية والسياسية والاجتماعية. وبقدر ما يسيطر منطق البحث الشامل عن أقصى الأرباح، ويعم جميع بقاع الكرة الأرضية سوف تفقد الدولة والسلطة السياسية التي تمثلها محتواها ومقدرتها على عمل أي شيء، وتتحول برمتهاإلى مسرح يضم حشدا من رحال مسلوبي الإرادة. وفي هذه الحالة لا بد أن تفقد الديمقراطية التي هي المحتوى الحقيقي للدولة الحديثة أو الدولة الأمة شرعيتها. ومن هنا تصور هؤلاء أن العولمة ستكون لا محالة مصيدة الديمقراطية.
ولا يعني فقدان الدولة الحديثة لمحتواها الديمقراطي شيئا آخر هنا سوى تراجع سيطرة المجتمع على السلطة العمومية أو المركزية لصالح أقلية من المضاربين الدوليين ورجال الأعمال والمافيات العالمية والشركات المتعدية الجنسية التي سوف تستخدم نفوذها وأدوات سيطرتها أو ضفطها على السلطة العمومية كي تفرض سياساتها على الحكومات وتهيمن على الأسواق الدولية.
باختصار تفيد نظرية تعارض العولمة مع الديمقراطية بأن الخضوع لمنطق الاقتصاد، أو بالأحرى منطق الربح، لا بد أن يفرغ الديمقراطية من محتواها ويضع السلطة جميعها في أيدي أصحاب الرساميل الذين يقررون وحدهم، في الواقع، ومن منطلق تحصيل أقصى الأرباح، مصير المجتمعات البشرية. وبالعكس، تحتاج الديمقراطية إلى أخلاقية الحرية وإلى دولة قانونية وتوازنات سياسية اجتماعية يضمنها التنظيم الحزبي والنقابي التعددي والمجتمع المدني عموما، كما تحتاج إلى حد أدنى من التضامن والتوزيع العادل للثروة. ولا يمكن تحقيق ذلك في سياق تطور العولمة وما تقود إليه من تهميش متزايد للجمهور الواسع وتعميم للبطالة.

في الواقع ينطلق أصحاب وجهة النظر الأولى التي تراهن على العولمة في سبيل تحقيق المزيد من الاصلاحات الديمقراطية من فرضيتين رئيسيتين أولاهما أن الدول الكبرى الديمقراطية تسعى إلى، أو هي معنية بتحقيق الديمقراطية في البلاد النامية على سبيل تعميم نموذجها الاجتماعي السياسي وتوسيع دائرة انتشار قيم الحرية الفردية التي تؤمن بها. وثانيهما أن رأسمالية السوق نفسها، وهي السائدة منذ الآن في العالم كله، تفترض وتتطلب ما يمكن اعتباره سوقا سياسية مماثلة ومقابلة لها تقوم على قاعدة التنافس بين أفراد النخبة الاجتماعية على الوصول إلى مناصب المسؤولية. وهذا يعني أنه بقدر ما تتجه الأمور في اتجاه الليبرالية الاقتصادية وتتوسع دائرة النفوذ والسيطرة الغربية على المقدرات العالمية، ترتفع حظوظ تحقيق الديمقراطية في البلاد النامية.
والحال ليس هناك تاريخيا ومنطقيا ما يدعم هاتين الفرضيتين. إن الدول الديمقراطية الكبرى تتحدث بالفعل عن تعميم القيم الديمقراطية، وهي تخشى سيطرة النظم الشمولية مثل النظم الفاشية والشيوعية، لكن ليس هناك ما يبرر الاعتقاد بأنها مستعدة لوضع الخيار الديمقراطي في مقدمة أولوياتها في علاقاتها بالدول الأخرى. إن الدول سواء أكانت صغيرة أو كبيرة لا تحدد سياساتها على أساس عمل الخير وتحسين نمط حياة أو طريقة حكم المجتمعات الأخرى، ولكن على أساس مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية. وبعد انهيار النظم الشمولية القوية، لم يعد هناك أي تهديد حقيقي للنظم الديمقراطية القائمة يفرض عليها من وجهة نظر مصالحها الاستراتيجية التعبئة باسم الديمقراطية ضد الخطر المحتمل. إن وجود نظم مستبدة وضعيفة ولا شعبية يمكن الضغط عليها بسهولة وتحقيق مصالح الدول الكبرى عبرها أكثر فائدة لها من وجود ديمقراطيات لا بد أن تعكس طموح شعوب العالم الثالث وجوعها للعدالة العالمية والتنمية والمشاركة في السياسات الدولية. وبالمثل، كل التجارب الحديثة، الناجحة أو شبه الناجحة، التي نشأت في القرن العشرين دلت على أن من الصعب تحقيق تنمية رأسمالية تبعية في البلاد النامية في إطار المنافسة الدولية العالية اليوم من دون اتباع سياسات قمعية هي وحدها التي تسمح بالاحتفاظ بمعدل منخفض للأجور وبطاعة كلية للنظام. فالرأسمالية المحلية المحصورة بين مطرقة السوق العالمية وسندان المجتمعات المنكوبة لا يمكن أن تكون ليبرالية وهي تتطلب حتما الاستبداد السياسي، وهو ما لا تزال صوره بارزة في نموذج التنانين والنمور الآسيوية، وفي الصين وكل الدول التي تسعي إلى تحقيق تراكم رأسمالي سريع في العصر الراهن. إن عصر التوافق بين نظام الحرية الاقتصادية ونظام الحرية السياسية قد ولى منذ زمن طويل. لكن هذا لا يمنع بالتأكيد أن تسعى الدول الكبرى، وهو ما تقوم به بالفعل، إلى فرض الصبغة الديمقراطية والتعددية الشكلية على نظم قمعية في الجوهر، تتحكم بها نخب محدودة مرتبطة بالخارج، وتقوم بتنظيم الأمن والاستقرار فيها أجهزة أمنية تستخدم خبراء من الدول الديمقراطية ذاتها. فهذه الصبغة من المحسنات الضرورية لنظام الهيمنة الدولي القائم، ومن مستلزمات كسب الشرعية.

هذا ما يفسر في الواقع انهيار الآمال التي عقدت في السنوات القليلة الماضية على سياسات العولمة الجديدة في سبيل توسيع دائرة ممارسة الحريات الديمقراطية في العالم، تماما كما انهارت من قبل آمال المراهنة على النظام العالمي الجديد الذي وقفت وراءه الدول الكبرى في سبيل توفير حد أدنى من احترام القانون الدولي والتقليل من استخدام المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين في العلاقات الدولية. فلا عملت الدول الكبرى كما وعدت على تطبيق القانون الدولي ولا تعمقت مسيرة الديمقراطية في البلدان العربية والنامية. إن ما حصل كان العكس من ذلك تماما، فقد ترافق نشوء ما سمي بالنظام العالمي الجديد بانفجار الحروب الداخلية والعرقية في العديد من البلاد الفقيرة، وبازدياد شراسة الدول الصناعية في سعيها لاقتسام الأسواق ومناطق النفوذ والموارد العالمية في مواجهة تصاعد وتيرة المنافسة بينها لتحسين صادراتها على حساب غيرها وتجاوز أزمة البطالة التي تعرفها مجتمعاتها. كما ترافق تطور العولمة مع تفريغ الديمقراطيات الوطنية من محتواها وتعميم نظم فاشية جديدة موجهة بشكل أساسي ضد الشعوب ولصالح حفنة من رجال الأعمال المتلاعبين بالقانون ومن النخب التي تتعيش على فتات موائدهم، سواء أأخفت هذه النظم حقيقتها وراء واجهة تعددية أم احتفظت، كما هو الحال في العديد من البلاد العربية، بصورتها التقليدية الكالحة.

lundi, août 16, 2004

تجويف الدولة الوطنية

يناير 2005
يعمل الاستمرار في إخضاع السوق إلى منطق السيطرة السياسية العسكرية، بقدر ما يولد ارستقراطية مالية جديدة ويكرس سيطرتها الآلية، على تفريغ الدولة الحديثة من مضمونها، أي من مفاهيم الوطن والمؤسسة والمواطنية والقانون والحرية الشخصية. وهو ما يفسر العودة القوية في إطار السلطة القائمة إلى تعبئة العصبيات العشائرية والعائلية وتكريس قانون القرابة والولاء والانتماء الخاص والتمديد له إلى ما لانهاية. فمن خلال اختراق الدولة الحديثة من قبل البنيات والقيم الزبائنية فقط تستطيع الارستقراطية الجديدة أن تحول مؤسسات الدولة العسكرية والسياسية إلى ما يشبه ميليشيات القرون الوسطى التي تضمن لها التفوق والاستمرار. وهكذا تتحول الدولة الحديثة من إطار قانوني وسياسي يضمن للمجتمع المكون من أفراد أحرار ومتساوين تنظيم شؤونهم وتجاوز تناقضاتهم وحلها بالوسائل السلمية، ومن ثم تحقيق وحدتهم وتضامناتهم مع تجنب الحرب والصراع الأهليين، إلى أداة لإخضاع المجتمع بالقوة واستخدام العنف الشرعي لقهره وتركيعه.
هذا ما آلت إليه في الواقع عملية الانتقال من اقتصاد الدولة إلى إقتصاد السوق في ظروف الإبقاء على نظام السيطرة الشمولية المعتمد على تعليق القانون وإلغاء المراقبة والمساءلة الوطنية وتكريس العلاقات الزبونية. وهو الذي يفسر أن الانفتاح الاقتصادي لا يقود هنا إلى نشوء آليات سوق رأسمالية قائمة على درجة أو أخرى من التنافسية والشفافية وحرية الحركة للقوى الاجتماعية وإنما إلى نشوء سوق رأسمالية مقيدة ومحكومة بالتوازنات العشائرية والسياسية والأمنية وبالتالي مفتقرة بالضرورة للشفافية والمنافسة القانونية معا. وهي تسير جنبا إلى جنب مع تحلل عناصر الدولة الحديثة القانونية والموطنية وتنامي القوانين والإجراءات المقيدة للحريات جميعا والقائمة على التمييز والرشوة المنظمة. وبقدر ما يعكس هذا الوضع افتقار رأسمالية العائلة والعشيرة الناشئة في أحشاء بيرقراطية الدولة إلى أي حافز للتغيير السياسي يؤكد راهنية الإبقاء على أنماط الحكم العسكري والأمني وحتمية إعادة إنتاجها. وكما أنه لا أمل لهذه الرأسمالية في الوجود والاستمرار مع تشغيل أليات ووسائل المراقبة والمحاسبة والشفافية والمساءلة القانونية والسياسية، فليس بإمكانها التطور والنماء من دون االاستخدام المعمم للعنف الذي يضمن لها وحده لجم القوى الاجتماعية المنتجة والعاطلة والمهمشة والاستمرار في الاستفادة من الميزات الاستراتيجية نفسها التي استفاد منها جيل آبائها للانتقال من حال البؤس إلى مصاف الطبقة الارستقراطية المكرسة، أي احتكار السياسة والاستخدام المعمم للعنف العملي أو الرمزي المستبطن .
وبعكس ما يراهن عليه الاتحاد الأوروبي الذي يعتقد أن تدعيم القطاع الخاص مهما كان نوعه لا بد أن يفتح باب التعددية السياسية والديمقراطية في المستقبل، وليس من الضروري الاصرار منذ البداية في إطار التعاون مع دول الجنوب التمسك بملفات الديمقراطية وحقوق الانسان، أظهرت التجربة أن الدمج بين السياسات النيوليبرالية الجديدة والسلطة العشائرية الارستقراطية التسلطية لا يقود في أي مرحلة لاحقة إلى الانفتاح السياسي ولا إلى تجديد قواعد عمل النظام والطبقة الحاكمة. فرأسمالية العشيرة مدانة حتما بالاعتماد الدائم على تعبئة العصبية العائلية والعشائرية وتفكيك اللحمة الوطنية وتذريرها. وهي بالضرورة رأسمالية Clanique أرستقراطية ومافيوزية معا تعتمد التلاعب بالقوانين والمداخلات الشخصية. ولذلك فهي غير منتجة وليس في برنامجها ولا مشروعها ولا طاقتها إطلاق عملية التنمية أو خلق فرص عمل جديدة. ولا يكمن السبب فقط في أن تكوين هذه الطبقة الزبونية لا يتم إلا على حساب نشوء الطبقة الوسطى المنتجة ولكن في أن هذا التكوين لا يمكن أن يتحقق من دون أن يقطع الطريق على نشوء طبقة رأسمالية عمومية نشيطة وحية مكونة من رجال الأعمال الأكفاء والمنتجين والمبادرين. والرأسمالية العشيرية ليست في الواقع إلا نوعا من رأسمالية المضاربة التي برزت في سياق عملية الانتقال البسيط للثروة، ومن دون جهد ومن دون منافسة، داخل قائمة العائلات والأسر نفسها التي سيطرت على الدولة واستغلت نفوذها فيها لتحقيق طفرتها التاريخية.
يلقي هذا التحليل بالمقابل بعض الضوء على مسألة استشراء الفساد وغياب أي سياسة جدية لمكافحته أو الحد منه. فالفساد لا يصدر هنا عن انحراف أو نقص فعالية في النظام وإنما هو قانون النظام الحقيقي، أي الأساس لنشوء التراكم الرأسمالي بالنسبة لرأسمالية ارستقراطية مرتبطة بالسيطرة السياسية وتابعة بشكل جوهري لها. لذلك ما كان من الممكن للتحرير الاقتصادي أن يعني هنا تراجع الفساد بقدر ما عنى تفاقمه بموازاة تقدم عملية التحرير بل تحوله هو نفسه إلى قاعدة نمو الاقتصاد الجديد ومحركها. فتحقيق هذا التراكم على أكمل وجه وفي أسرع شكل هو الذي يقود سياسات تحديث النظام القائم وتطويره وليس أي حساب اجتماعي آخر أو مصلحة وطنية عامة. فمحرك نشاط وعمل ارستقراطية الدولة والسوق المبتورة القائمة لا يرتبط لا بالتفكير في مستقبل البلاد ولا يتطور الانتاج ولا بتوسع استثماراتها في الداخل وإنما جمع أكثر ما يمكن من الثروة قبل أن يحين وقت تصديرها على شكل ودائع واستثمارات إلى السوق العالمية. وهي تريد أن تستفيد من كل يوم يمر قبل الانفجار الاجتماعي الذي تنظر إليه كقدر لا بد منه وتعد قوى الأمن لتحقيق الانتصار عليه. إنها تعيش في حرب مستمرة كامنة مع المجتمع. وليس النظام السياسي وتشكيلات السلطة التي طورتها إلا تعبيرا وتجسيدا لإرادة التعايش بشكل دائم، سياسيا وفكريا، مع هذه الحرب.
لكن إذا كان استمرار النظام التسلطي والشمولي شرطا لنشوء الرأسمالية العشيرية وأرستقراطية المال ولأعمال المافيوزية فهو ليس ثمرة لها. إن استمراره لا يمكن تفسيره إلا بوضعه داخل دائرة العلاقات الجيوسياسية والجيوستراتيجية التي حددت شروط تكون الدول وبلورة القوى السياسية وتوازناتها داخل البلاد العربية8.
والمهم أن ندرك أنه، ما لم يتعرض نظام الاحتكار المطلق للسلطة السياسية والاقتصادية والثقافية الذي يمثله الحكم في إطار قوانين الطواريء وحرمان المجتمع من أي حياة مدنية أو سياسية للانهيار من تلقاء نفسه، كما حصل في البلاد الأخرى الشمولية، أو أن يواجه معارضة قوية وقادرة من طرف المجتمع، لن يكون هناك أي أمل بأي تغيير جدي سياسا كان أم إقتصاديا. فليس للطبقة-العشيرة أي مصلحة في أن تعدل في آليات السيطرة الكلية والاحتكار المرتبطة بالنظام الشمولي أو تأهيلها. فهي تقدم لها أفضل الشروط لتحقيق التراكم السريع أو بالاحرى لتمديد مرحلة التراكم البدائي القائم على استخدام القوة المجردة لرفع عوائد ريع الموقع السياسي إلى حدها الأقصى، وإذا أمكن، مراكمة الثروة ورأس المال من دون أي استثمار آخر سوى الرشوة الضرورية لكسب المحاسيب والأعوان قبل الاستثمار في الخارج. فكيما تضمن لنفسها الانطلاق من ضيق الاقتصاد الوطني الصغير نحو رحابة السوق العالمية التي تشكل منذ الآن امتدادا طبيعيا لها ليس عندها خيار آخر سوى تحقيق المعادلة الصعبة: أقصى معدلات التراكم بأسرع وقت وبأدنى تكلفة. وهو ما يقود إلى منطق عمل السخرة ونمطه.

الرأسمالية العائلية وفشل الانفتاح الاقتصادي

الوطن 14 يناير 2005

جاء تصريح المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي مارك براون الذي قال فيه، في حديث نشرته صحيفة "النهار" اللبنانية السبت الماضي، ان العالم العربي هو المنطقة الوحيدة التي يتراجع مستوى حصتها الاقتصادية من الرفاهية العالمية بينما تتقدم مناطق أخرى أو على الأقل تراوح مكانها، ليذكرنا من جديد، إذا كانت هناك حاجة للتذكير، بالمأزق الكبير الذي لا تزال تواجهه عملية التنمية الاقتصادية ومشاريع الاصلاح العتيدة في البلاد العربية. لكن الأهم في تصريح مارك براون هو تأكيده أيضا بأنه لا يمكن فصل هذا التراجع عن طبيعة النظم التسلطية القائمة في العالم العربي وما تعنيه من نقص شديد في المشاركة السياسية. والسؤال الذي يثيره تصريح المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية لا يتعلق بمدى صحة الارتباط بين التنمية الاقتصادية والنظام السياسي أو نقص المشاركة ولكن يتعلق بالأسباب التي دفعت معظم الحكومات العربية إلى تصور عملية الاصلاح الاقتصادي بعيدا عن أي عملية موازية للاصلاح السياسي خلافا لما حصل في المناطق العالمية الأخرى. فليس هناك شك في أن ما ميز تجربة البلاد العربية في الانتقال نحو اقتصاد السوق والاندراج في السياسات النيوليبرالية هو تمسك الحكومات العربية بسياسة الفصل بين الانفتاح الاقتصادي والانفتاح السياسي. كما أنه ليس هناك شك في أن الاحتفاظ بالنظم التسلطية القديمة ما كان له إلا أن يساهم في إفراغ عملية الاصلاح الاقتصادي نفسها من محتواها بما عناه من تكريس سيطرة الحكومات والنخب الفاسدة نفسها ومن الاستمرار في التلاعب بالقانون وغياب المعايير الموضوعية والمحاسبة العمومية وانعدام الشعور بالمسؤولية العامة والافتقار للشفافية.
ينبغي القول بداية أن الفصل بين الانفتاح الاقتصادي والانفتاح السياسي أو التفكير بالاصلاح الاقتصادي بمعزل عن السياسة ليس اختيارا تقنيا أو فنيا. إنه بالدرجة الأولى اختيار سياسي واجتماعي يهدف إلى ضمان تحكم الفئات الحاكمة بعملية الانفتاح وبثمارها معا ومنع فئات أخرى من الاستفادة منها, سواء أكانت فئات رأسمالية، أي مالكة لرأس المال وطامحة إلى المشاركة في الاستثمار، أم شعبية تريد استغلال فرص الانفتاح السياسي لتعزيز نفوذها وتقوية تنظيمها والحفاظ على مصالحها في مواجهة رجال المال والأعمال.
ومن هنا يشكل الاحتفاظ بالنظم التسلطية القائمة في البلاد العربية في إطار تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي أفضل وسيلة لضمان سيطرة العائلات والأسر الحاكمة على موارد الاقتصاد الرأسمالي الجديد أو النامي في إطار الانفتاح على الخارج والاندماج في السوق العالمية. فهي تقدم لهم فرصة التحكم الكلي بعملية الانفتاح ووتيرتها كما تمكنهم من إدارة دفة توزيع المصالح بصورة منهجية. فالنخب الحاكمة ومن يرتبط بها من الأقرباء العائليين والمحاسيب والأزلام هم الذين يستفيدون بالدرجة الأولى من قوانين الانفتاح وما يرتبط بها من عمليات تخصيص ومن صفقات ومعونات وتدفقات خارجية وإعادة تأهيل لبعض القطاعات وتوسيع دائرة الاستثمار فيها. ولعل أكثر ما يقدمه الاحتفاظ بالنظم التسلطية من فوائد لأصحاب الحظوة والحكم في إطار الانفتاح الاقتصادي الجاري هو إخضاع القوانين الجارية لخدمة مصالحهم المباشرة بما يعنيه ذلك من امتيازات في الوصول إلى المعلومات والحصول على الصفقات ومن الاستفادة من مناخ السرية وغياب المنافسة ومن أمكانية تطبيق أسعار احتكارية على السلع والخدمات والأسواق تؤمن الربح السريع أو بالأحرى الهوامش الريعية الكبيرة. ولا يمكن لمثل هذا التحكم شبه الكامل بموارد الاقتصاد أن يحصل من دون الامساك معا وفي الوقت نفسه من قبل العائلات الحاكمة بالسلطتين الاقتصادية والسياسية. فهي تضمن بذلك تحييد جميع الأطراف الاجتماعية الأخرى بمن فيها رجال الأعمال والرأسماليين غير التابعين أو غير المحسوبين على النظام وإخراجهم من دائرة المنافسة الاقتصادية بل القضاء عليهم.
ومن الطبيعي أن يترتب على هذا التطور الاستثنائي نشوء رأسمالية من طبيعة خاصة تستغل علاقات المصاهرة والقرابة والزبونية لضمان توافق السلطتين الاقتصادية والسياسية وتأمين السيطرة البسيطة على آلية تراكم رأس المال. ولا يغير في ذلك ميل الطبقة الجديدة إلى أن تتكون على شكل شبكات مصالح متضاربة ومتنافسة تتنازع للحصول على مناقصات الدولة التي تحدد هي نفسها هامش الريع المرتبط بها، أي تتصارع على تقاسم الثروة العامة واقتسامها لا على مراكمتها عبر تطوير الاستثمار وتوسيع دائرة الانتاج والانفاق لتطوير القاعدة التقنية والعلمية. وبالمقابل، وبالرغم من تراكم الثروات الكبيرة وتوسع الأسواق، تبقى الرأسمالية رأسمالية ضعيفة فاقدة للحيوية والابتكار كما يستمر الافتقار الشديد إلى طبقة رأسمالية ذات تقاليد ووعي وطني ومواطني ورؤية استراتيجية شاملة وطويلة المدى.
في هذا النمط الخصوصي والعائلي من الانتقال نحو اقتصاد السوق العالمية أو المعولمة نجد التفسير والتبرير الوحيد للابقاء على نظام الوصاية الفكرية والمدنية والسياسية التي يجسدها نظام الحزب الواحد أو إلغاء الحياة السياسية ورفض إجراء أي تعديل أو تغيير أو إصلاح على قواعد العمل العمومي القائمة والتقوقع بشكل أكبر على مفهوم السلطة الأحادية والشاملة. وفيه نجد أيضا معنى حرص أصحاب المناصب بمختلف مستوياتهم على البقاء في مناصبهم إلى النهاية مع الأمل والعمل أيضا على توريثها لأبنائهم. وفي هذا النمط الخاص أيضا نجد التفسير المناسب لنشوء رأسمالية من طبيعة مافيوزية تجنح إلى التصرف كأرستقراطية جديدة أو تعيد بناء المجتمع على أسس الأبوية الإقطاعية والفاشية الجديدة. والواقع، كما يشكل الفصل بين السلطة السياسية وأصحاب المصالح الاقتصادية سمة رئيسية من سمات الدولة القانونية الحديثة ومصدر الحراك الطبقي في مجتمعات عصرنا يشكل الاندماج بين السلطتين سمة أساسية من سمات الدولة أو السلطة الإقطاعية القديمة التي كانت تقوم على منع الحراك الاجتماعي وتثبيت السكان والفئات الاجتماعية في مراتب جامدة وتكريس السلطة والثروة معا كحق محسوم وثابت لارستقراطية وراثية محصورة في جزء محدود من العائلات التي نجحت عن طريق تفوقها في تنظيم الميليشيات المسلحة في وضع يدها على السلطة ولا تزال تملك القوة الكافية للاحتفاظ بها.
أما الحجج التي ترددها الارستقراطية المالية الجديدة لتبرير رفض الاصلاح السياسي والانفتاح، وما تدعيه من حرص على جعل الأولوية في خياراتها لتأمين لقمة الخبز وفرص العمل للعاطلين والنمو الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة، وهو ما كذبه ويكذبه واقع الحال كل يوم, فليس سوى ذرائع للتغطية على عملية نقل الثروة والسلطة في دائرة العائلات الحاكمة ذاتها من جيل الآباء إلى جيل الأبناء لا غير ولا علاقة لها بأي خيارات سياسية جدية وعملية. والأمر نفسه ينطبق أيضا على ما يشاع من ذرائع حول خطر الفوضى الكامن وراء الانفتاح السياسي.
يشكل هذا النمط من الانتقال نحو اقتصاد السوق في البلاد العربية وبعض البلدان الأخرى الموجودة في وضعيات مشابهة التربة الخصبة لنشوء رأسمالية خاصة قائمة على المضاربة والاحتكار واستغلال النفوذ وفي سياقها لولادة وازدهار ارستقراطية مالية تعتمد علي نفوذها السياسي وموقعها الاحتكاري لتأمين وجودها واستمرارها أكثر مما تعتمد على كفاءتها الاقتصادية التنافسية. كما يشكل أيضا العقبة الرئيسية أمام ولادة الرأسمالية بالمعنى الموضوعي والتاريخي للكلمة, أي الاستثمار الرأسمالي الذي يعتمد التراكم فيه على تثمين العمل وزيادة الانتاج وتحسين الانتاجية والتقدم التكنولوجي, ويكون بالتالي منبعا للتجديدات والابتكارات التقنية والعلمية والإدارية. لكن أهم ما تحمله صيغة هذا الانتقال نحو اقتصاد السوق من دون انفتاح سياسي هو تأمين استمرار احتكار السلطة السياسية من قبل الفئات العائلية ذاتها بالرغم من تغيير النظام الاقتصادي. فبفضلها تضمن الارستقراطية الجديدة وقاعدتها العشائرية والزبونية أن لا يتحول الانتقال من اقتصاد الدولة إلى إقتصاد السوق إلى مناسبة لبروز طبقة رجال أعمال جديدة رأسمالية بالمعنى الحقيقي للكلمة تنازعها على ما أصبح يبدو لها نوعا من الملكية الشخصية الموروثة أو التي يمكن وراثتها. فهي تقطع الطريق على نشوء طبقة رأسمالية فعلية مستقلة عن السلطة والإدارة وبالتالي وبالضرورة طبقة حاملة لإمكانية ولادة قوة سياسية جديدة تعبر عنها وتفرض إعادة النظر في طبيعة السلطة وقواعد ممارستها وتضع موضع السؤال الاستمرار في احتكارها.
فليس هناك شك، وهذا ما تراهن عليه القوى الخارجية التي تدعم الانتقال نحو اقتصاد السوق، أن نشوء طبقة رأسمالية قائمة على المنافسة الفعلية والسوق الحرة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، أي رأسمالية ذات مضمون سياسي لا يمكن إلا أن تهدد على المدى البعيد، بل المتوسط، نظام سيطرة النخب العائلية الجامدة التي لا يماثلها إلا ما كان عليه الحال في مجتمعات القرون الوسطى. ومن أجل قطع الطريق على مثل هذا الاحتمال تجد هذه النخب نفسها مدفوعة إلى تطبيق سياسات تتعارض مع أي تنمية اقتصادية حقيقية لأنها تهدف إلى منع نشوء رأسمالية موضوعية وتنافسية كما تهدف إلى تفكيك أي حقيقة سياسية وطنية وإحلال صيغ التفاهم العشائري والعائلي محلها. هذا ما يفسر الواقع المؤلم الذي تحدث عنه المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة، واقع أن البلاد العربية وحدها تتراجع في مسيرة التنمية الانسانية بينما تتقدم بلاد أخرى لا تحظى بالقليل من الموارد التي تملكها.

mercredi, août 11, 2004

أزمة تداول السلطة في العالم العربي

الجزيرة نت 7 فبراير 2002

قد يبدو استمرار النخب الحاكمة لعقود طويلة دليلا على الاستقرار الذي تسعى إليه جميع الدول والحكومات من أجل خلق مناخ ملائم للتنمية وجذب الاستثمار. هذا صحيح عندما يتم التجديد للنخبة الحاكمة من خلال مسار طبيعي واستشارة شعبية واضحة. لكن الأمر يختلف عندما يكون الاستمرار في الحكم نتيجة الاستخدام القاسي للقوة أو التلاعب بالرأي العام ومنع التعبير عن المصالح الاجتماعية الحقيقية. ففي هذه الحال لا ينبغي الحديث عن الاستقرار ولكن عن أزمة تداول السلطة أو أزمة التداول على السلطة. وتعبر الأزمة عن إخفاق النظام في القيام بوظائفه، والمقصود هنا وظائف التعبير عن التوازن الفعلي للمصالح الاجتماعية المتعددة، وتتجسد في الاختناق والانسداد وما ينجم عنهما من تفاقم للتوترات والتناقضات واحتدام للصراعات العلنية أو الدفينة تحت سطح الاستقرار الشكلي. وبقدر ما يصبح العنف المقنع أو المعلن الوسيلة الوحيدة للخروج من أزمة لا تسمح الطرق القانونية بالخروج منها يجنح جميع اطراف النظام إلى تطوير التقنيات والساحات الموازية وغير الشفافة للسياسة والتي تعبر عن استمرار السياسة المحرمة سياسيا بوسائل أخرى غير طبيعية وغير سياسية وبالتالي غير عقلانية. ومن هذه التقنيات والساحات الموازية والأسواق السوداء للسياسة النزعات الطائفية والعشائرية واالدينية. فهذه هي الطريق الوحيدة التي تستطيع القوى الاجتماعية من خلالها أن تفرض دورها وتضمن حضورها السياسي واستمرارها في عالم الصراع الدموي من أجل الحفاظ على النفوذ والبقاء.
هكذا يحول الاستمرار في الحكم بالقوة أو استمرار حكم القوة الصراع الاجتماعي من صراع على تداول السلطة والمسؤولية الى حرب مواقع ونفوذ داخل الفضاء الاجتماعي يسعى من خلالها الطرف الحاكم إلى تأكيد حضوره في الميدان ليس عن طريق ما يحققه من انجازات للمجتمع, فهذا ممتنع عليه بسبب انشغاله بالحرب ولكن من خلال انتصاره على الخصم. وبالمثل لا تستطيع المعارضة أو القوى المحرومة أن تعبر عن نفسها وتتجاوز تهميشها إلا من خلال ما يمكن أن تسببه من مشاكل وتحمله من تهديدات للنظام. وهو ما يمكن أن نلحظه أيضا في مستوى العلاقات الدولية أالتي تسيطر عليها اليوم القوة الأمريكية تجاه الأطراف الأخرى المهمشة أو التي تريد تهميشها. فبإثارته المشاكل أمام النظام يطمح الطرف المهمش والمنبوذ الى تأمين مشاركته في الحياة العمومية حتى لو كان ذلك بوسائل غير صحية. وما يفعله الأصوليون تفعله الكثير من القوى الاجتماعية المنبوذة داخل المجتمع وعلى الصعيد الدولي بوسائل أخرى وللسبب ذاته. وهذا ما يقود إلى ما أسميه بحرب المواقع المستمرة في حياتنا السياسية. فلا وجود عموميا ممكنا ولا تأكيد للحضور والنفوذ وبالتالي مشاركة في الحياة العمومية إلا بالمقاومة السلبية والحرب غير العلنية. ولا يستطيع أحد أن يفرض اعترافه في ساحة سياسية مغلقة ومحرمة إلا بقدر ما يظهر قدرته على خرق المحرمات وكسر جدران العزلة والمنع. ولذلك تتحول السياسة أيضا إلى تراشق بالقذائف والشتائم والاتهامات والتخوين المتبادل. ويحل التناحر الدائم بين جميع القوى الواقفة بعضها للبعض الآخر بالمرصاد محل التعاون والتفاهم والحوار والتداول. وهذا ما يفسر ما نشهده في جميع الدول العربية من تنابذ وانعدام ثقة وصراع لا يرحم بين العلماء والأحزاب الحاكمة منها وغير الحاكمة والجيش وقوى الأمن والإدارة وغيرها من مراكز القوى السياسية والاقتصادية والثقافية التي تتكون في هذا النظام في وجه بعضها البعض وتدخل في تنازع وتنافس عدائي يدفع بها الى التفتت الدائم والانقسام. وحرب المواقع هذه هي حرب التحييد المتبادل أيضا. فكل من لا يستطيع التعبير عن نفسه وتأكيد وجوده بوسائل ايجابية أي بالمشاركة في الانجاز يسعى إلى تحقيق هدفه بمنع الآخر من الانجاز وسد السبل أمامه وإضعاف فرص نجاحه. هذا هو قانون أو منطق العمل في نظام احتكار السلطة العمومية وانعدام التداول الحر والسليم بها من قبل أطراف المجتمع المختلفة.لكن حرب التحييد المتبادل لا تمثل رد الفعل الحتمي على انعدام تداول السلطة أو التعويض عنه فحسب وإنما تؤسس أيضا لمنطق اقتسام الغنائم في الدولة وتوزيع الموارد الوطنية على قاعدة ميزان القوة. فالذي يفرض نفسه بأي وسيلة كانت : قرابة عائلية أو قوة عسكرية أو مركز نفوذ داخلي أو خارجي, يؤهل نفسه بالضرورة للمشاركة في الغنيمة وتقاسم الثروة ويطمح عن جدارة في أن يحصل على نصيب من العقود والكمسيونات والمنافع والكرامات يعادل قدرته على تهديد التوازنات الداخلية. ومن هنا يختفي مفهوم الفساد نفسه. فالحصول على المزايا الخاصة لا يبدو في وعي المرتشين ولا مستغلي النفوذ خرقا للقاعدة والعرف والأخلاق ولكنه كتكريس للقانون السائد وللعرف المقبول وللأخلاق "الخصوصية" "الوطنية". وكل من يحصل على مزايا تبدو في الأحوال الطبيعية لا قانونية يعتبر أنه لم يحصل في الواقع إلا على حقه وأنه لو لم يأخذ هو الرشوة لأخذها خصمه ومنافسه. فهو لم يسيء لأحد ولكنه نفع نفسه. والواقع أن سيطرة منطق توزيع الغنائم على حساب منطق التداول على السلطة كأساس للاعتراف بالأهلية بين قوى النخبة المتعددة يعني في الوقت نفسه زوال الشعور بالمصالح العمومية وفناء التفكير من وجهة نظر الارتقاء بشروط حياة المجتمعات كموضوع للسياسة والممارسة العمومية. إن النظام التوزيعي يعطي للجميع الانطباع, وأعني جميع المتنافسين على السلطة والنفوذ, بأنه لا يوجد في الواقع إلا مصالح خصوصية, ومن حق كل فرد أن يدافع عن تعظيم هذه المصالح الخاصة. وبالمقابل يبدو المعارضون الذين يذكرون بالمصلحة العمومية ويطالبون بنشر رؤية أشمل للمسائل السياسية والاقتصادية الوطنية وكأنهم هم الغشاشون والمخادعون الذين يخفون سعيهم لدخول ميدان تقاسم المنافع وراء شعارات أخلاقية ووطنية لا أساس لها من الواقع والحقيقة. فغير المستفيد أوغير الباحث عن تعظيم منافعه الشخصية لا بد أن يكون مزاودا أشرا يسعى إلى زعزعة النظام والاستقرار ويعمل من دون أن يدري وربما بوعي لخدمة الدول الأجنبية. وينبغي للنظام أن يبذل جهدا أكبر في الكشف عن هؤلاء المزاودين وتحييدهم أو كف يدهم مما يبذله لكشف المسيئين للمصالح العامة ومعاقبتهم. فمشكلة هؤلاء معروفة وبسيطة هي الانتفاع الشخصي أما صاحب المباديء فهو يتطلع إلى السلطة ويسعى إلى قسمة جديدة يخرج فيها القائمين ويحل محلهم. هكذا لا يعود الفساد ظاهرة خطيرة ولا شاذة ولا يظهر في عين صانعيه خروجا على المباديء ولكن ممارسة طبيعية وتعبيرا عن الولاء والتوافق مع النظام ورفض المعارضة والمزاودة المبدئية.
فالنخبة الحاكمة لاتشجع على الفساد من خلال الرشوة التي تقدمها للموالين لها فحسب ولكنها تدفع إلى استفحاله أيضا بضربها المستمر لأصحاب المباديء وتحييدهم ومعاقبتهم. فهم بالنسبة إليها الخطر الفعلي لأنهم يظهرون بالضبط معارضة فعلية, حتى لو لم ينطقوا بكلمة واحدة, للأساس الذي يقوم عليه النظام ويبني عليه قاعدته الاجتماعية, أعني قاعدة تقاسم الغنائم والرشوة المنظمة المعممة.
والواقع أن مجتمعات التحييد المتبادل وتقاسم الغنائم هي الوجه المقابل للمجتمعات الفعلية التي لا تقوم ولا تستمر إلا بسبب خلقها شروطا أفضل لتبادل المنافع وزيادة المكاسب القانونية والفكرية والسياسية والحضارية والاقتصادية للجميع. فهي إذن مجتمعات مضادة للاجتماع تماما كما نتحدث عن المادة وضد المادة. ولا يكسب فيها الأفراد شيئا ولكنهم يخسرون جميعا لصالح فئة تقل عددا باستمرار من المسيطرين سيطرة متزايدة أيضا وعائلية أكثر فأكثر على مقدرات البلاد. ففي هذه المجتمعات يحل قانون التخويف المتبادل أي تبادل الأضرار والأذى محل قانون تبادل المنافع كأساس لبقاء الاجتماع والحفاظ على وحدة النظام. ففي الأصل يبعث اللقاء في إطار مجتمع واحد وثقافة ودولة وتاريخ مشترك مشاعر تقارب وتراحم بين الناس ويعمق التعاون والتضامن والتفاهم والثقة بين الأفراد. ويعمل هذا التعاون على تعظيم فرص كل واحد منهم في التقدم وتحسين الأحوال. ومن هنا يعتبر تبادل المنافع هو مبرر وجود المجتمعات وبقائها. فإذا انعدم تبادل المصالح والمنافع أو ضعف لم يعد لوجود المجتمعات واستمرارها بشكل مستقل عن غيرها قيمة وأصبح من المحتم أن تندمج بغيرها من المجتمعات الأخرى التي نجحت بشكل أفضل في الاحتفاظ بقيم النزاهة والصدق والثقة والتعاون والتفاهم والتنظيم, أي بالقيم التي تمكنها من تحقيق التراكم المادي والمعرفي والتقني التي لا بد منها للارتفاع بمستوى حياة أفرادها وضمان استمرارهم يعيشون على مستوى معايير حضارة عصرهم. وهذا هو أساس نشوء الإمبرطوريات التاريخية التي ضمت شعوبا كثيرة مختلفة وقامت على أنقاض دول قومية أو شبة قومية لا تحصى.
ومن الصعب تصور مخرج من هذا النظام أو أي تغيير له من دون تصور نشوء ديناميكية تنافس سياسي جديدة تزعزع استقرار منطق التوزيع القائم للغنائم والمكارم والمكاسب وتفرض آلية جديدة لتداول السلطة السياسية وتوزيعها، من منطق المسؤولية الجماعية وتراكم الثروة والخبرة الوطنية. وهذا هو ما ترمي إليه النضالات الديمقراطية والعمل لتوسيع دائرة الحريات ونقل الصراع من الميدان الاقتصادي إلى الميدان السياسي والفكري. ففي البقاء في المستوى الاقتصادي وحده، سواء أتعلق الأمر باقتصاد السوق أو اقتصاد التخطيط، ليس هناك أي أمل في المس بمنطق نظام تقاسم المغانم وزعزعته.