في هذا الحوار يتحدث لنا برهان غليون استاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السربون.في باريزعن اوضاع العالم العربي بعد فشل مشروع الشرق الاوسط الامريكي وعن وضعية البلدان العربية حاليا بعد احتلال العراق.
التقاه في باريس يوسف لهلالي
نوافذ:
ـ الامريكيون رفعوا شعار الاصلاح في سياق سعيهم لبسط نفوذهم الشامل في المنطقة وتأكيد حضورهم فيها وقيادتهم لها.هذا هو مضمون اصلاح الشرق الاوسط الكبيير. لهذا سعى الاوربيون إلى تعطيل هذا المشروع أو الالتفاف عليه وانقاذ مشروعهم الخاص القائم على الشراكة الأورومتوسطية. وهم أميل إلى استقرار الأوضاع وعدم المفامرة بتغييرات أو بإعادة هيكلة للمنطقة تفتح الباب في نظرهم إلى الفوضى وعدم الاستقرار كما تريد الولايات المتحدة. ونحن لا نزال نعيش في هذه المنطقة في إطار نظام شبه استعماري قائم على تقاسم النفوذ بين الاوربيين والامريكيين.
ـ ان الانظمة الاستبدادية ما كان لها ان تستمر كل هذا الوقت بدون الدعم الغربي
ـ أغلب النظم العربية بنيت على اساس التعامل مع الخارج وليس بناءا على دعم داخلي أو قاعدة إجتماعية واسعة وعلى توسيع دائرة المصالح الوطنية. ومن هنا فهي لا تعتمد في استمرارها كثيرا على تأييد الشعب ولا تسعى إلى تعزيز موقعها في وسطه. إنها تعتمد على القوة في الداخل وتحالفاتها الدولية في الخارج ولا شيء آخر.
الاستاذ برهان غليون ما هو رأيك في المشروع الامريكي للشرق الاوسط الكبير؟
أعتقد ان مؤتمر الثمانية الاخير حول هذا المشروع الامريكي من مشروع مباشر الى مجرد اقتراحات وافكار بفعل الضغط الاوربي، والنقاش حول هذا المشروع تحول الى صراع اوربي امريكي حول الاستراتيجية الاصح للتعامل مع الشرق الاوسط.والاوربيون يرون ان أي تغيير سريع وشامل في المنطقة يمكن ان يؤدي الى وضع لايمكن التحكم فيه.فهم لايريدون تغييرا في النظم بل مجرد اصلاحات تدريجية. وقد اضطرت واشنطن إلى تعديل موقفها الأول والتراجع عن مشاريع إعادة الهيكلة الشرق أوسطية بعد أن أخفقت في العراق وأدركت الحاجة إلى التفاهم مع اوربا إذا أرادت أن تستمر في تطبيق مشاريعها الشرق أوسطية، أي في الواقع إلى تعديل وتيره تدخلاتها العكسرية والسياسية.
وحتى الآن/ يمكن القول ان المشروع الامريكي تحول الى تعبير عن النوايا البعيدة أكثر منه إلى مشروع تغيير فوري كما ادعى الأمريكيون نحو الديمقراطية واحترام حقوق الانسان والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ومن الواضح أن فكرة التغيير في الشرق الأوسط لم تخطر على بال الامريكيين إلا بعد الحادي عشر من سبتمبر وبشكل خاص بعد احتلالهم العراق وإدراكهم لمدى الرفض الذي يظهره الرأي العام العربي والعالمي أيضا لخططهم واستراتيجياتهم التدخلية الانفرادية. وفي مواجهة الرأي العام الامريكي الذي أصبح أكثر تشككا في مشروعية الحرب على العراق بعد أن ظهرت نتائجها الكارثية بالنسبة للعراقيين والجنود الأمريكيين أيضا أطلق القادة الأمريكيون فكرة الاصلاح في الشرق الأوسط لإضفاء نوع من الشرعية الأخلاقية والانسانية على مبادرة عسكرية ليس لها ما يبررها خاصة بعد أن أقر خبراء عديدون أن العراق لم يمكن يمتلك أسلحة دمار شامل كما كان يتهمه القادة الامريكيون.
وفي جميع الأحوال لم يكن المشروع الامريكي يهدف الى تغيير النظم القائمة في المنطقة بقدر ما كان يهدف كما عبر عن ذلك العديد من المسؤولين الأمريكيين إلى الضغط على الانظمة السيا سية لإجبارها على تقديم تنازلات اضافية لصالح الامريكيين من جهة ولدفعها إلى القيام ببعض الإصلاحات التي تعطي للشعوب العربية الانطباع بأن الخلاص من الاستبداد ليس ممكنا من دون الأمريكيين أو هو جاء بفضل التدخلات الأمريكية. لكن سياسة الوعود الأمريكية لم تؤت ثمارها فلا الرأي العام العربي اقتنع بحسن نوايا الولايات المتحدة وغير موقفه المعادي لها، ولا الرأي العام الامريكي غير اعتقاده بعدم ضرورة الحرب الأمريكية على العراق. فكما أن الرأي العام العربي لم يكن لينخدع بالوعود الأمريكية الكبيرة في الوقت الذي يعاين فيه يوميا نتائج الدعم الأمريكي غير المشروط لاسرائيل في احتلالها لأراضي الدولة الفلسطينية، لم يقتنع الرأي العام الأمريكي بصدق القيادة الأمريكية وسعيها المنزه عن الهوى لنشر الاصلاح والديمقراطية عن طريق الاحتلال وقصف المدن وقتل المدنيين في المدن العراقية.
هل هذا يعني جهل الامريكيين بخصائص المنطقة مقابل معرفة اوربية كبيرة ودفاعها عن مصالح هذه الشعوب؟
هذا ما يقوله الاوربيون الذي يعرفون المنطقة اكثر وهذه حقيقة. لكنهم ليسوا أكثر انشغالا بالمصالح الوطنية للدول العربية. فهم لم يكفوا أيضا منذ عقود عن دعم النظم الاستبدادية. ولا يزالون يعتقدون بأن الدفاع عن النفوذ الأوروبي وحماية مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية بما في ذلك أمن إسرائيل وسلامتها تستدعي التحكم بالمنطقة عن قرب وعدم السماح للتيارات المعادية للغرب أو المدافعة عن درجة أكبر من الاستقلال والسيادة والسيطرة على الموارد المحلية لتوجيهها نحو التنمية بالوصول إلى السلطة بأي ثمن. وقد برهنوا على ذلك في موقفهم المعروف من حركة القومية العربية في أيام الحركة الناصرية ومن عبد الناصر كما برهنوا عليه من خلال تعزيزهم القدرات الاسرائيلية خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ثم أخيرا من خلال اختيارهم دعم نظم الأقلية الاستبدادية والديكتاتورية في المنطقة حتى اليوم. واعتقد ان الانظمة الاستبدادية ما كان لها ان تستمر كل هذا الوقت بدون الدعم الغربي بما فيها تلك الانظمة التي كانت حليفة للاتحاد السوفياتي والتي استمرت بعد انهيار هذا الاتحاد بفضل الدعم الغربي المالي والعسكري والسياسي والتغطية على انتهاكات حقوق الانسان. وهاهي الدول الغربية جميعا، والاوروبية على رأسها، تشاهد ما يقع في المنطقة من انتهاكات لحرية التعبير ومن محكمات استتنائية واعلان حالات الطوارئ ومن خروقات خطيرة لحقوق الانسان دون اية ردود فعل ديبلوماسية أو سياسية.
لقد رفع الامريكيون شعار الاصلاح في سياق سعيهم لبسط نفوذهم الشامل في المنطقة وتأكيد حضورهم فيها وقيادتهم لها.هذا هو مضمون اصلاح الشرق الاوسط الكبيير. لهذا سعى الاوربيون إلى تعطيل هذا المشروع أو الالتفاف عليه وانقاذ مشروعهم الخاص القائم على الشراكة الأورومتوسطية. وهم أميل إلى استقرار الأوضاع وعدم المفامرة بتغييرات أو بإعادة هيكلة للمنطقة تفتح الباب في نظرهم إلى الفوضى وعدم الاستقرار كما تريد الولايات المتحدة. ونحن لا نزال نعيش في هذه المنطقة في إطار نظام شبه استعماري قائم على تقاسم النفوذ بين الاوربيين والامريكيين.
لكن الموقف الاوربي لم يكن موحدا كما تحدثتم عنه ، بل هناك انقسام بين الاروبيين بين مؤيد ومعارض لهذه السياسة الامريكية؟
عندما اتحدث عن الموقف الاوربي اقصد فرنسا ،المانيا وبلجيكا التي كان لها موقف متميز. وحتى بريطانيا فيما يخص مشروع الاصلاح كانت اقرب الى هذا الموقف. ولم اقصد باقي الدول الاربية الصغيرة غير المؤثرة أو مجموع الدول الاوروبية. فمن الواضح أن أوروبة لم تصبح بعد قوة سياسية واحدة لكن هناك نواة صغيرة من الدول هي التي تحدد موقفا أوروبيا متميزا. والواقع أنه حتى هذه الدول ما كانت لتقف الموقف الذي وقفتها لو لم تر تخبط واشنطن في العراق أيضا. إن أوروبة لا تزال ضعيفة سياسيا بصورة ملفتة للتظر.
المقاومة العراقية ادن هي التي دعمت الموقف الاربي ؟
بالتاكيذ، لعبت دورا كبيرا لصالح الموقف الاوربي. والمؤكد ان المنطقة اصبحت ساحة للحرب الباردة بين الاوربيين والامريكيين وهذا الهامش تستفيد منه الانظمة القائمة وهو ليس لصالح شعوب المنطقة من اجل التغيير والضغط على الانظمة القائمة
.
لكن نلاحظ غياب الشعوب العربية والانظمة من هذا النقاش الدولي حول مصيرها؟
هذه حقيقة عكستها القمة العربية الاخيرة. بل كل القمم. فهذه الانظمة مختلفة لكنها تحاول ان تبين ان هناك اجماعا شكليا.لان الانظمة العربية ليس لها اجندة وطنية واستراتيجية بل لك منها جدول اعمال خاص بالفئات الحاكمة. دول الخليج ليس في ما بينها تعاون حقيقي وهي تعتمد جميعا بالجملة والمفرق على التحالف مع امريكا لحماية نفسها من باقي الدول العربية. اما بلدان المغرب العربي فقد اختارت التفاهم مع الغرب عموما والاندماج اقتصاديا مع اوربا والرهان على استتماراتها بالمنطقة.وكذلك على الانفتاح الواسع على امريكا. فهي تراهن على سياسة اقتصادية جديدة وقطع الحبال مع كل المفاهيم القديمة العربية، الوطنية والاستقلالية. والاجندة الاساسية هي جلب الاستتمارات وتحسين الوضع الاقتصادي. وبالعموم تسود في المنطقة سياسة تغليب المصلحة القطرية والاستفادة من الشراكة الاورمتوسطية وجلب الاستتمارات. من اجل تلبية حاجة الجمهور الى فرص عمل. بالنسبة لبلدان الشرق كمصر وسورية فهي تعيش أزمة عميقة جدا. واجندتها الاساسية هي احتواء اسرائيل وتوسعها المدمر ودرء المخاطر والتهديدات القوية الناجمة عن سياساتها العدوانية في المنطقة. وبعض هذه البلدان الذي لا يزال يعاني من احتلال قسم من أراضيه من قبل إسرائيل مثل سوريا،لبنان وفلسطين، يفتقر للتفاهم والتعاون بالرغم من اشتراكها في مسائل عديدة. لكن لكل منها اولويات مختلفة. ان جميع هذا البلدان محتاجة الى الاستتمارات وكلها مهتمة بقضية الاحتلال. لكن كل بلد يحاول اعطاء الاسبقية لقضاياه الخاصة ولو على حساب باقي البلدان العربية الاخرى. إن أكثر ما يميز البلدان العربية للأسف هو انعدام القدرة على التنسيق في ما بينها وبالتالي غياب أي اجندة عربية مشتركة والقبول بذلك من قبل الجميع والتسليم به كما لو كان ضربا من الحتمية التي لاراد لها. هكذا ياتي كل طرف عربي الى القمة ويعرف انه لن يصل الى نتيجة ولايريد الوصول الى نتيجة رغم الخطابات التي تداع حول التفاهم العربي المفترض. إن كل ما يأمل به من القمة هو أن يخرج من دون أن يدين الآخرون سياساته الانفرادية وتفريطه بالقضايا العربية العامة.
لهذه الاعتبارات يجب حل الجامعة العربية التي لم يعد لها أي دور باستتناء اصدار البيانات؟
هكذا يعتقد قطاع واسع من العرب ، بما فيهم جماعات غيورة على الجامعة العربية والفكرة العربية. فهم لم يعودوا يرون في الجامعة إلا وسيلة للتغطية على السياسات القطرية بل سياسات بعض النخب الحاكمة. ويعتقدون بالتالي أن من الافضل زوالها. لكن لست من أصحاب هذا الرأي بالرغم من صحة مايقولونه عنها. فزوال الجامعة العربية في الظروف الحالية التي يعيشها العالم العربي يستجيب لمخططات واشنطن وتل أبيب التي تريد أن تدفع البلدان العربية إلى قطيعة نهائية مع أفكار وقيم التحرر والاستقلال والتفاهم العربي وتزيل آخر رموز الوحدة بين الشعوب العربية. والواقع أن إلغاء الجامعة العربية كان ولا يزال مطلبا علنيا لأمريكا وإسرائيل التين تريان فيه تكريسا نهائيا للانقسام بين الدول العربية ولقطع كل قنوات التواصل والاتصال في ما بينها وبالتالي تفكيك العالم العربي حتى لا يشكل في المستقبل عامل تهديد لأمن إسرائيل.
بالتأكيد لم يعد من الممكن المراهنة على الجامعة العربية في سبيل خلق تكثل عربي. لكن لا ينبغي لبقاء الجامعة العربية أن يحول دون قيام تكتلات بين دول عربية مختلفة بل وغير عربية أيضا على مستوى ثنائي وتلاثي وعلى مستوى الجهات كما حصل في الثمانينات مع بلدان مجلس التعاون الخليجي،ومجلس التعاون العربي واتحاد بلدان المغرب العربي.
كيف تفسر هذا التناقض الذي يعرفه العالم العربي بين خطاب وحدوي قومي وعاطفي مع وجود ثقافة وثرات ولغة مشتركة وعجز شامل عن بناء سياسات مشتركة في حين توجد تجمعات بلدان اخرى مثل اوربا واسيا رغم اختلاف اللغة والثقافة والمصالح نجحت في ايجاد سياسة مشتركة خاصة في المجال الاقتصادي؟
السبب في تحقيق الاتحادات بين دول اسيا و امريكا واوربا رغم غياب الثقافة واللغة والتاريخ المشترك هو ان هذه البلدان لها انظمة وطنية أي أنظمة يسيرها منطق البحث عن توسيع دائرة المنافع والمصالح العامة لشعوبها وكسب مواقع جديدة في الاقتصاد الدولي. وهي تعرف ان التعاون يؤدي الى تعزيز مصالح الجميع بغض النظر عن قوميتهم.وبالمقابل إن المنطق الذي يسير نظمنا السياسية الاجتماعية ويشرط سلوكها الداخلي والخارجي هو التفكير بمصالح الحاكمين الخاصة سواء أكانوا طبقة ام عشيره أم أسرة أم شخصية حاكمة. وليس لديها أي حافز ما دامت تضمن استمرارها في السلطة بفضل الريع والدعم الخارجي للدفاع عن المصالح العامة أو للاهتمام والانشغال بمصالح عامة الناس.
هل هذا الوضع بهذه البلدان هو بسبب البترول؟
البترول هو أحد هذه العوامل القوية بالتأكيد. فهو مصدر كبير للريع. لكنه ليس وحده. المشكلة ـ أغلب النظم العربية بنيت على اساس التعامل مع الخارج وليس بناءا على دعم داخلي أو قاعدة إجتماعية واسعة وعلى توسيع دائرة المصالح الوطنية. ومن هنا فهي لا تعتمد في استمرارها كثيرا على تأييد الشعب ولا تسعى إلى تعزيز موقعها في وسطه. إنها تعتمد على القوة في الداخل وتحالفاتها الدولية في الخارج ولا شيء آخر. ومحور توفر القوة والتحالفات الخارجية هو وجود الريع سواء أكان ريع النفط أو ريع الموقف أو ريع الموقع. باختصار إن مشروعيتها خارجية. وما يهمها هي صورتها في الخارج.
ومن هنا فان العالم العربي يشهد اكبر تركيز للتروات بيد عائلات محدودة, واليوم تجاوز ودائع العرب الخارجية ألف مليار دولار وهي ودائع مهربة من العالم العربي نحو الخارج.وتخدم الخارج.
لكن هل العالم العربي يعيش اليوم على العقم في النخب وفي حركات المجتمع المدني وليس في استطاعته تجاوز الانظمة المستبدة والتابعة للخارج؟
الان يبدو لنا الامر كذلك في العشر سنوات الاخيرة. لكن في الواقع ان صمت الشعوب العربية يعود الى الهزائم التي تكبدتها في مواجهتها هذه الانظمة المدعومة من الخارج. منذ السبعينات والثمانينات تفجرت انتفاضات الخبز في عدة مناطق عربية، بعدها جاءت الحركات الاسلامية السياسية التي عبرت عن أزمة النظم والمجتمعات معا وحظيت بشعبية كبيرة على أمل أن تتحول إلى قوة تغيير. لكن فشلها ومحاصرتها من قبل النظم المحلية والدول الكبرى معا أدى إلى تجذر حركة الاحتجاج والاعتراض وتحول قسم منها تدريجا نحو وسائل العنف والجريمة. وهو ما نعيشه اليوم حيث يرتد خنجر المجتمعات إلى المجتمعات ذاتها. وقد ساهم هذا التحول في إعادة تجديد العقد الاستعماري إذ أوجد قاعدة جديدة لعودة التفاهم والتحالف بين النظم والنخب العربية الحاكمة المفلسة والدول الكبرى الباحثة عن طرف محلي يرشدها في معركتها الشاملة ضد ما أصبح يعرف بالارهاب الدولي.
لكن المشكلة الحقيقية التي تكمن وراء هذا التطور الخطير في الأوضاع العربية هو عجز النخب الحاكمة عن معالجة مشاكل المجتمعات واستهتارها بمصيرها ومصالحها وفشل المجتمعات نفسها في فرض التغيير والتداول السياسي بسبب تدخل الدول الكبرى وخوفها على مصالحها ومناطق نفوذها ودعمها بالتالي للنخب القائمة من دون شروط حتى الآن.
حاولت .الشعوب العربية تغيير الاوضاع من خلال الثورات الاجتماعية والتمردات الاسلامية لكنها هزمت وتعيش اليوم على وقع الهزيمة. وما نعيشه اليوم من عنف داخلي وخارجي هو ثمرة هذا الفشل المزدوج في الاصلاح والتغيير معا منذ بداية عقد الثمانينات. اليوم نحن تجاوزنا حقبة الاصلاح والتغيير ونعيش عصر الانفجار والعنف الناجمة عن هذا الفشل وانسداد الآفاق، عصر تناقض فضيع بين نخبة لا تفكر إلا في مصالحها ومجتمعات يتيمة أو ميتمة ليس لها أمل في قيادة ولا في تغيير. أما الدولة فقد تحولت بين يدي نخبة لاتخضع في سلوكها لا قاعدة ولا لقانون ومستعدة لإعلان الحرب في اية لحضة تهدد فيها أبسط مصالحها، إلى نوع من العصابة المنظمة تدافع عن مصالحها بأي وسيلة ومن دون أي اعتبار لأية قيم أو مباديء أو مصالح اخرى.
؟؟؟ كيف تفسر التحولات بالعراق اليوم مع تطور وسائل التعبير التي اصبح يعرفها المجتمع من تظاهرات ومقاومة حتى تحت الاحتلال؟
هذا صحيح، مما شك فيه ان ضرب نظام البعث السابق حرر الناس وأصبحت هناك احزاب وتيارات متعددة كسرت احتكار الكلام والنقاش. لقد تحرر المجتمع العراقي بالفعل لكن ليس في اطار من السيادة ولكن في إطار الاحتلال. فقد ضرب الامريكيون النظام السابق لكن من اجل بناء نظام يخدم مصالحهم. العراق بعد صدام يتخبط اليوم في الاحتلال. و اذا لم تتمكن القوى العراقية من الاتفاق على اجندة وطنية من اجل التخلص من الاحتلال، فان العراق يمكنه ان يتحول الى افغنستان جديدة بانتشار العنف المسلح والانقسام بين مختلف تياراته. و
وإذا كان وضع العراق بعد الحرب ييبن كيف يؤدي اختفاء نظام القهر الى عودة الحيوية الى المجتمع فهو يبين أيضا كيف أن القضاء على نظام القهر لا يعني بالضرورة نهاية المحنة ولا يفتح الطريق مباشرة نحو الديمقراطية والسلام الاهلي والإصلاح. هذا يحتاج إلى عمل دؤوب ومستمر ونشيط من قبل جميع القوى والاطراف الوطنية التي تريد الحفاظ على استقلال البلاد ووحدتها.
ولا ينبغي لهذه القوى أن تيأس. ذلك أنه في الوقت الذي يبدو فيه التفاهم والتعاون على أشده بين النظم الاستبدادية العربية والاحتلال، تحت راية الحرب الدولية ضد الارهاب وحولها، تتطور الأزمة بينهما كما لم يحصل في أي مرحلة سابقة. إن ما نعيشه ليس عصر التحالف ولا حتى تجديد التحالف بين الاستعمار والاستبداد وإنما بالعكس زعزعة التفاهم مابين الانظمة العربية والنظام الدولي. ليس ذلك بسبب اقتناع القوى الكبرى بفضائل النظم الديمقراطية والإصلاحية أبدا ولكن لأنها لم تعد مقتنعة بقدرة هذه الانظمة على الاستمرار وضبط الاوضاع. إنها تفكر في إعادة هيكلة المنطقة وفي تجديد الصيغة القديمة وتكليف فئات ونخب مختلفة قادرة على إدارة الأوضاع بشكل أقل همجية وبالتالي على التقليل من حجم التالف وعلى امتصاص غضب الشعوب وتناقضات المجتمع. وليس من المستبعد أن تكون التعددية وما تعنيه من توسيع هامش الحريات الفردية ولا أقول الديمقراطية هي السمة الأبرز للصيغة الجديدة.
لكن أي هامش من الديموقراطية هو لصالح الاحزاب الدينية بعد ان تراجعت القوى القومية او الاشتراكية او الليبرالية. ألا
تعتقدون انه في هذه الظروف لن يتم الضغط على هذه الانظمة لتوسيع قاعدة الحكم؟.
القوى الدينية اليوم هي الاكثر نشاطا ليس في العراق لوحده بل في كل البلدان العربية بدون استثناء. فايدولوجياتها هي الأكثر تعبئة لقوى المعارضة وقوى الاحتجاج والنقمة على النظام بقدر ما فقدت ايدولوجيات الحداثة التي كانت مصدر التعبئة لنظم ما بعد الاستقلال رصيدها وجاذبيتها. لكن لا يعني هذا حتمية انتصار قوى المحافظة الدينية بالضرورة. فأولا نحن لا نتحدث عن ديمقراطية مفتوحة وحرة بالفعل ولكنها ستكون حتما تحت الإشراف المباشر للأجهزة الداخلية والخارجية كما نشاهد ذلك في العديد من البلدان. وثانيا لأن انتصار العقائديات الدينية نابع هو نفسه وبشكل أساسي من تغييب الحياة السياسية والتضييق على المعارضة الديمقراطية. مما دفع نحو المعارضة المتشددة والناشئة خارج النظام. لكن حتى في حالة تبني المسلسل الديموقراطي فلن تكون حظوظ انتصار الاحزاب الدينية كبيرة لانها على خلاف ما يعتقد البعض ليست تيارا واحدا وإنما تيارات منقسمة على نفسها تتردد بين عدة اتجاهات ومشارب حتى داخل الحزب الواحد.وليس لها برنامج واضح، وهي حركات سلب اكثر منها حركات ايجاب. فهي تنجح في المقاومة والمعارضة لكنها تفشل حال حصولها على السلطة كما وقع في افغنستان والسودان. ثم إنه عندما يقرر بلد ما الدخول في الحياة الديموقراطية فان القوى الديموقراطية تسترجع حيويتها وقدرتها على العمل.ومشكل البلدان العربية بعد الاستقلال هي انها اختارت شكلين غير ديموقراطيين الاتجاه الماركسي والاتجاه القومي والدولتي. والتيار الديموقراطي اليوم ينمو بفعل فشل التيارات التي استحودت على الحكم في السابق. في الستقبل اعتقد التيار الديموقراطي الوليد هو الذي سيجمع حوله باقي القوى.
المشروع الامريكي حول الشرق الاوسط لم يعطي أي اعتبار للقضية الفلسطينية رغم اعتبارها قضية اساسية في المنطقة؟
اليوم زاد الوعي عبر العالم بان الصراع العربي الاسرائلي والفلسطيني الاسرائيلي يسمم العلاقات والحياة السياسية والاقتصادية بالمنطقة . وهناك تسليم من قبل الجميع اليوم بأن الخروج من العنف والتوثر واللاستقرار الذي تعرفه المنطقة يستدعي حل هذا الصراع. والجديد هو انه حتى لدى الاسرائليين و لدى شارون هناك اقتناع ان العنف لوحده لايمكنه ان يقدم حلولا رغم استمرار سياسة الاستعمار والايستيطان. والان تعرف المنطقة جولة اخرى من العنف. واليوم يطلب من الفلسطنيين المزيد من التنازلات مثل اقتسام الضفة الغربية وهو شيء لن يقبلوه بعد كل التضحيات التي قدموها.
نحن نعيش أزمة حقيقية على مستوى النزاع العربي الاسرائيلي ونقف أمام طريق مسدود. فسلاح الحسم بالقوة العسكرية الاسرائيلي لم ينفع كما أن انتفاضة الجسد واللحم الفلسطيني الحي ضد المدفع والدبابة لم يؤمن التحرر من الاحتلال. وفي اعتقادي ليس هناك مخرج، مع إخفاق العرب في وضع استراتيجية ناجحة لوضع حد للنزاع، من دون التدخل القوي للدول الكبرى لفرض حل على الاسرائيليين يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني التي كرستها قرارات الامم المتحدة.
إذا لم يحصل ذلك فنحن سائرون نحو حرب مستمرة من حول جدار الفصل العنصري الذي يشيده الاسرائيليون لفرض حياة الغيتو أو العزل على الفلسطنيين. وسوف تظل المنظقة برمتها وليس فلسطين فحسب في حالة أزمة مستفحلة ودائمة تتجه نحو إنتاج حالة كارثية.
كلمة اخيرة حول تقرير التنمية في العالم العربي الذي شاركت في اعداده؟
اهم شيء في هذا التقرير هو انه نجح في اثارة النقاش بالعالم العربي وهذه نقطة ايجابية واساسية. وهذا التقرير ليس نهائيا. هو وثيقة عامة للنقاش قدمها بعض المتخصصين العرب، ولا بد لك بلد من ان يقوم كل باعداد تقرير خاص به. لقد اتهم البعض هذا التقرير بانه ادات لخدمة اطروحات الادارة الامريكية. وهذا ليس صحيحا. لقد كان التقرير قميص عثمان. الواقع أن سبب تدخل الدول الكبرى في الشؤون العربية هو سوء السياسة العربية وإدارة الدول نفسها وليس شيئا آخر.