vendredi, novembre 21, 2003

حدود الرهان على التنافس الأوروبي الأمريكي في الشرق الأوسط


تتقاطع المقاومة السياسية والدبلوماسية الواضحة التي تبديها أوروبا وفي مقدمها فرنسا أمام مشروع اللسيطرة الأمريكية في الشرق الأوسط بقوة مع المصالح العربية وتثير حماس الجمهور العربي وتأييده، وهو الجمهور الذي يعيش أو يكاد يعيش في حالة يتم بسبب ما يشعر به من الافتقار إلى القيادة والرؤية البعيدة والاستراتيجية معا. لكن وجود هذه المقاومة الأوروبية واستمرارها للمشروع الأمريكي لا ينبغي أن يمنعنا من إدراك واقع أن أوروبة، والمقصود هنا بالتاكيد فرنسا وألمانيا التي سلكت طريقا مشابها للطريق الفرنسية في السنوات الأخيرة تجاه المنطقة العربية، لا تملك، حتى الآن، أي سياسة بعيدة المدى وقائمة على أسس قوية ومتماسكة. وليس لديها أي مشروع للشرق الأوسط يختلف عن المشروع الأمريكي الذي ينادي بإعادة تشكيل المنطقة أو يسعى إلى أن يكون بديلا له. وهذا يعني أن أوروبة لا تملك سياسة عربية أو تتعلق بمستقبل العالم العربي مستقلة فعلا عن السياسة الأمريكية. هي تكتفي في الواقع بتعزيز سياستها التقليدية القائمة على الدفاع عن مصالحها القائمة والتمسك بمواقعها المهددة في وجه الزحف الأمريكي المتواصل. ولا يمكن لمثل هذه الأهداف التي لا تأخذ بالحسبان مصالح العالم العربي ومشاكله أن تكون أساسا لبلورة سياسة متسقة وبعيدة المدى تجاه هذا العالم تتمتع بالحد الأدنى من الثبات والانجاز والتراكم، وقادرة على الوقوف جديا أمام الاستراتيجية الامريكية ولا حتى امام الاستراتيجية الاسرائيلية.
هذا هو الذي يفسر في الواقع الطابع المزدوج والمتقلب لهذه السياسة. فهي في الوقت الذي تدعم فيه القضية الفلسطينية وتتخذ مواقف ايجابية منها في المحافل الدولية تقف مكتوفة الأيدى أمام حركة الاستيطان والاستعمار الزاحف الاسرائيلية ولا تجرؤ أو لا تريد اتخاذ أي إجراء عملي يزعج حكومة الليكود أو يثير حفيظة الإدارة الأمريكية، ولم تقبل في أي لحظة تجميد اتفاقات التعاون العلمي والتقني التي تربطها باسرائيل، ولا اتخاذ أي مبادرة مستقلة عن الإدارة الأمريكية. ولا يختلف الوضع كثيرا عن ذلك في ميدان العلاقات الاقتصادية. فلا يكاد العالم العربي يتلقى شيئا يذكر من الاستثمارات الأوروبية في حين لا يزال نزيف الرساميل العربية الهاربة من البيئة الإقليمية غير المستقرة أو بسبب فساد النخب الحاكمة وانقطاعها عن مجتمعاتها مستمرا، وربما بوتيرة أكبر مما كان عليه في السابق، مخلفا وراءه إقتصادات عربية مفقرة وراكدة معا غير قادرة على التفاعل مع البيئة العالمية. لكن على المستوى السياسي، وبالرغم من الحديث الشائع عن حقوق الانسان والديمقراطية، لم تكن الاستراتيجية الأوروبية مرتبطة في أي حقبة بالدفاع عن النخب القائمة والتمسك بها كما هي اليوم. ففي مواجهة المشروع الأمريكي القائم على الضغط على الأنظمة لإخضاعها وتشغيلها لصالحه لا تجد السياسة الاوروبية وسيلة لاستعادة بعض النفوذ والابقاء على بعض المصالح المهددة سوى بالتمسك المتزايد بهذه النظم ودعمها ضد الضغوط الأمريكية.
ويظهر هذا كله نقاط الضعف الكبيرة التي تعاني منها السياسة الاوروبية في المنطقة سواء ما تعلق منها بتباين وجهات النظر داخل الاتحاد الأوروبي المفتقر للاتساق والانسجام، والمخترق أمريكيا، أو بضعف القوى التي تراهن عليها في الشرق الأوسط لمواجهة السيطرة الانفرادية الأمريكية، وهي قوى نظم مهلهة فقدت إلى حد كبير صدقيتها في الداخل والخارج وأصبح الرأي العام العالمي والمحلي ينظر إليها على أنها تمثل شبكات مصالح مافيوية. وهي ميالة، عدا عن ذلك، إلى التفاهم بشكل أكبر مع الولايات المتحدة التي تؤمن لها وحدنها الحماية حالما تظهر واشنطن تأمينها و قبولها في فلكها وتفتح باب الحوار والتفاهم معها. وهكذا تبدو العصا الغليظة التي تستخدمها واشنطن أكثر قدرة على انتزاع التنازلات وتحقيق المكاسب من سياسة الحوار التي تتبعها أوروبة تجاه هذه النخب الحاكمة والتي لا تغطي في الواقع إلا فقدان أوروبة لوسائل الضغط والتأثير الفعلية.
في هذه الظروف التي لا تسمح لأوروبة أن تحلم ببلورة سياسة شرق أوسطية تتجاوز في أهدافها التمسك بما لا تزال تملكه من مصالح في المنطقة، يشكل الخطاب الدبلوماسي المساير للعرب شاشة تخفي السياسة الخارجية الأمريكية وراءها افتقارها لوسائل بناء سياسة عالمية بديلة فعلا ونزوعها إلى عدم التنازل عن دورها وموقعها في المخيلة العالمية باعتبارها أحد أقطاب السياسة الدولية.
لا يعني هذا أنه لا يوجد صراع ولا تنافس بين أوروبة وواشنطن في الشرق الاوسط ومناطق أخرى من العالم. فهو موجود بالتأكيد. ولا يعني أيضا أن أوروبة ليست صادقة في دفاعها عن نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب بدل النظام الأحادي القائم الذي تستفيد منه أمريكا وحدها. فهذا يصب في مصالحها القومية أيضا. إنه يعني أن الصراع بين فرنسا واوروبة معها من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى ليس صراعا تناحريا ولكنه تنافسي يدور حول المصالح، ويحسم بالتالي بالتسويات، وأن من المستحيل أن يصل إلى صدام فعلي طالما أن مصالح أوروبة في التفاهم مع أمريكا أعظم بكثير من مصالحها في التفاهم مع البلاد العربية بل والنامية جميعا، وأن فرنسا والولايات المتحدة شريكان فعليان في ناد واحد هو نادي الدول الصناعية الكبرى التي تدير العالم لصالحها ومن مصلحتها أن تستمر هذه الإدارة وتبقى في يدها.
باختصار إن الصراع الأوروبي الأمريكي الراهن في المنطقة والعالم ليس من طبيعة استراتيجية أو بعيدة المدى، ولا يشكل المرجعية الأساسية للسياسة الأوروبية والأمريكية ولكنه يحصل في إطار الدفاع البراغماتي عن المصالح القومية وبالتالي مع الحرص على عدم السماح لهذا الصراع بالذهاب بعيدا وتهديد المصالح الاستراتيجية الكبرى التي تربط الطرفين بعضهما ببعض.وكما أن وحدة المصالح لا تلغي التنافس لا يلغي الصراع بين واشنطن ودول التكتل الأخرى غير الراضية عن التفرد الأمريكي، وهو حقيقي وجدي، وحدة المصالح أيضا.
لكن، بالمقابل، لا تمنع هذه الوحدة من أن يعرقل التنافس والصراع بين القوى المتنازعة على تقاسم المنافع الدولية استقرار نظام الأحادية القطيبة الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تكريسه ويخلق مشاكل عديدة للولايات المتحدة. فمن دون ذلك ما كان من الممكن لواشنطن أن تقدم تنازلات تضمن المصالح القومية للدول والامم الكبرى الأخرى.
بيد أن تأثير هذا التنافس والصراع الفعليين بين الكتل الدولية الكبرى يبقى مع ذلك محدودا جدا في نظري على مصائر الدول الفقيرة والنامية وقدرتها على الاستفادة منه في سبيل تعزيز مواقعها والدفاع عن مصالحها العامة على أي مستوى كان. وليس من الصعب تصور ولادة عالم جديد أو نظام عالمي متعدد الأقطاب بديل عن مشروع التفرد الأمريكي من دون أن يغير كثيرا في الموقع الهزيل الذي تحتله الدول الفقيرة في مثل هذا النظام بل لغير صالحها تماما كما فعل نظام الثنائية القطبية المندثر.
إن مثل هذا النظام التعددي لا يصبح ذا قيمة وأثر ايجابي على الدول النامية إلا عندما تنجح هذه الدول في تكوين قطب مستقل نسبيا قادر على التفاوض مع الأقطاب الأخرى ولعب دوره بالفعل كممثل لمصالح شعوبها ومجتمعاتها في إطار النظام الواحد، أي عندما يتحول العالم الفقير إلى قطب في النظام الجديد. ومن دون ذلك صحيح تماما ما يقال من أن الدول الفقيرة هي التي ستدفع ثمن إقامة نظام التعددية القطبية الأمريكية الأوروبية. وبشكل خاص الدول التي ستقف في مواجهة الولايات المتحدة وتعمل كما لو كانت وقودا للنزاع القائم من أجل نظام عالمي جديد ثنائي أو ثلاثي القطبية.
إن شروط بناء سياسة أوروبية عربية يتوقف على قدرة الاتحاد الأوروبي الذي يجهد ليصبح قطب دولي فاعل ومزود بقوة دفاعية خاصة على المساهمة في تمكين العالم العربي من الرد على تحديات ثلاثة رئيسية وخطيرة يواجهها هذا العالم اليوم وهي: تحدي التوسع الاستيطاني الاسرائيلي والاحتلال، وتحدي التحول نحو الديمقراطية ، وتحدي إعادة إطلاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوقفة.
لكن نعود ونقول أيضا إن هذه السياسة الاوروبية المطلوبة والمنشودة لا يمكن أن تتحقق ولن تتحقق قبل أن ينجح العالم العربي هو نفسه في التحول إلى فاعل حقيقي يتمتع بإرادة ووعي ورؤية واضحة لحجمه ومصالحه وأهدافه، أي قبل أن ينجح في أخذ مصيره بيده ويتخلص من القيود الكثيرة التي تكبل إرادة ووعي شعوبه ومجتمعاته. وفي غياب أفق تكوين العالم العربي كفاعل تاريخي جيوسياسي سوف تستمر الدول الكبرى في استخدام العالم العربي وموارده كساحة للنزاع في حركة التنافس الدائبة لحماية مصالحها القومية أو من أجل تعزيز فرص سيطرتها العالمية. ولن يدفعها شيء إلى التفكير في مصير العالم العربي أو إلى مراعاة مصالح شعوبه الوطنية والإقليمية.

mercredi, novembre 19, 2003

العرب وتحدي المعرفة

لجزيرة نت 19 نوفمبر 2003

جعل تقرير التنمية الانسانية الثاني للمنطقة العربية الذي صدر في الشهر الماضي عن الأمم المتحدة من مسألة المعرفة محور اهتمامه في سعيه لفهم أسباب تعثر التنمية في البلاد العربية. وقد أشار التقرير في معرض تحليله للأوضاع المعرفية إلى عوامل عديدة ربما كان أهمها طبيعة النظم السياسية التي تشكل اليوم في نظري نقطة الضعف الرئيسية في حياة المجتمعات العربية على جميع الأصعدة. وبالرغم من أن هذه النظم ليست مستقلة تماما عن البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في هذه المجتمعات إلا أنها هي المدخل الوحيد لفهمها ومفتاح معالجتها معا.

وكما يشير التقرير بحق إليه، يشكل عدم الاستقرار واحتدام الصراع والتنافس على المناصب النابع من الافتقار لقاعدة ثابتة ومقبولة للتداول السلمي على السلطة بين النخب المتنازعة، أي غياب الديمقراطية، عائقا أساسيا أمام نمو المعرفة وتوطنها النهائي وترسخها في التربة العربية. فمن النتائج الرئيسية لهذا الوضع السياسي، غير المستقر والذي يعيش فيه الحاكم والمحكوم في هوس الانشقاقات والتقلبات والتحولات بل والانقلابات المفاجئة وغير المتوقعة، تحويل مسألة الأمن إلى البند الرئيسي وأحيانا الوحيد في جدول أعمال النخب الحاكمة. وهذا ما يقود بشكل حتمي إلى اضطرار السلطات القائمة على غير أساس شرعي وثابت إلى تكريس القسم الاكبر من الاستثمارات في قطاعات ضمان أمن النظام. وغالبا ما تكون الضحية الرئيسية لتقليص الإنفاق الحكومي في الميادين الأخرى لصالح تنمية وسائل الأمن هي ميادين النشاطات التي لا تعطي فائدة ومردودا مباشرين وسريعين. فلا شك أن رشوة الزبائن والمقربين تبدو ذات نجاعة أكبر في منظور هذا الوضع السياسي القائم على مبدأ التنازع على البقاء لا على مبدأ تنمية المنافع المتبادلة لجميع السكان، من أي استثمارات علمية أو ثقافية.

ومن الطبيعي أن تكون قطاعات الثقافة والمعرفة والبحث العلمي هي القطاعات التي تتعرض قبل غيرها إلى الإهمال سواء من حيث الاهتمام السياسي أو من حيث تخصيص الاستثمارات المادية. وهذا ما يفسر، أكثر من العوامل الاقتصادية نفسها، ضعف الاستثمار في البحث وتخبط السياسات التعليمية وضآلة الاستثمارات الثقافية وأحيانا انعدامها. ويكفي لإدراك نتائج هذا الوضع مقارنة حصة المخصصات للبحث العلمي في البلاد العربية مع مثيلاتها في العالم الصناعي - بل حتى في البلدان النامية نفسها من الناتج المحلي. إذ لا يتجاوز نصيب البحث العلمي والتقني في البلاد العربية سوى 2 بالألف من الناتج المحلي مقابل ما يزيد عن 2 بالمئة بالنسبة لمعظم الدول الصناعية ( تتراوح النسبة بين 2.5%- 5.00%). وبالإضافة إلى ذلك، يأتي 89% من الإنفاق على البحث والتطوير في البلدان العربية من مصادر حكومية، ولا تخصص القطاعات الإنتاجية والخدمية سوى 3% فقط من هذه المصادر، بينما تزيد هذه النسبة في الدول المتقدمة عن 50%. التقرير الثاني للأمم المتحدة عن التنمية الانسانية في المنطقة العربية 2002.

لكن أثر الوضع السياسي القائم على الإكراه ورفض الاحتكام للإرادة الشعبية، والخائف بالتالي من أي مبادرة مجتمعية أو ثقافية أو فكرية مستقلة، لا يتوقف عند تقليص ميزانية البحث العلمي والتقني في العالم العربي ولكنه يتجاوز ذلك إلى الإدارة العلمية والتربوية نفسها. فمما لا شك فيه أن الضعف الشديد الذي يميز مؤسسات التعليم والبحث العلمي العربي القائمة ويقلل عوائدها هو سيطرة الاستراتيجيات السياسية على هذه المؤسسات وحرمانها من الأطر الصالحة الكفؤة والمناسبة من جهة، ومن الاستقلالية التي لا غنى عنها لأي رجل علم وبحث ومعرفة ولأي تجديد وإبداع معرفي من جهة ثانية. فمن دون ذلك تتحول المؤسسات المعرفية إلى أجهزة وأدوات إضافية لتعزيز سيطرة النخب الحاكمة وتوسيع قاعدتها الاجتماعية التي تستند إليها ولا يبقى لها، كما هو الحال في العديد من البلاد العربية، أي علاقة بميدان المعرفة، سواء أكان تعليما أو بحثا أو تجديدا تقنيا.

ومن هنا يشكل إخضاع مؤسسات البحث العلمي للاستراتيجيات السياسية وللصراع على السلطة وتقديم مقاييس الولاء والزبائنية في إدارة هذه المؤسسات على مقاييس الكفاءة والمعرفة، وتقييد الحريات الفكرية والسياسية للباحثين، وفي وسط الرأي العام معا، وما يقود إليه من تكبيل للعقول الحية وإخماد لجذوة المعرفة وقتل لحوافز الإبداع، يشكل كل ذلك عاملا رئيسيا في تفسير تخلف المنظومة العلمية التقنية وضعفها الإداري والمعرفي وعجزها عن الانتاج والابداع.

ولا يمكن لهذا الوضع أن لا ينعكس على الوضعية القانونية التي تؤثر بدورها على الممارسة المعرفية. فرفض الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بالإضافة إلى ضعف استقلال القضاء، يحرم العالم العربي من بناء نظام مقبول وضروري من الضمانات القانونية التي تحمي الفرد وتشجعه على المبادرة وتضمن له الأمن الشخصي وحرية التصرف بملكيته، سواء أكانت فكرية أو مادية. ولا يمكن لهذا المزيج المدمر من تأبيد قوانين الطواريء وقبول مبدأ التعسف السياسي وفي الكثير من الأحيان فساد القضاء وغياب نصوص قانونية لحماية الملكية الفكرية، إلا أن يدفع الأفراد إلى البحث عن مستقبلهم خارج أوطانهم ويثبط همم المبدعين ويقتل اندفاعهم إلى العمل وبذل الجهد في سبيل تطوير مواهبهم واستغلال الفرص المتاحة لهم وهي أصلا قليلة في المجتمعات النامية الفقيرة.

كما لا يمكن لهذا الوضع السياسي الذي يتسم بتكريس النخب القائمة وترسيخ أقدامها في السلطة وسيطرتها على الموارد العامة من دون رقيب ولا حسيب أن لا يؤثر بشكل عميق على توزيع الثروة وتركيزها لصالح فئة قليلة وحرمان الأغلبية الاجتماعية منها. إن التوزيع غير العادل للدخول والتمييز الذي تمارسه النظم السياسية الإكراهية بين فئات السكان بحسب الانتماء أو الولاء أو الموقع الاجتماعي يحولان بشكل واضح بين أغلبية السكان وشروط اكتساب المعرفة وتنميتها.

وفي البلاد العربية بشكل خاص يؤدي التلاقي بين نظام سياسي تسلطي من جهة ونظام اجتماعي قائم على التمييز العلني وشبه الرسمي بين المواطنين على أساس الولاء السياسي أو الجنس أو الدين أو المنطقة أو العشيرة إلى تركيز الثروة في أيدي فئات طفيلية بيرقراطية أو مافيوية منفصلة عن صيرورات الانتاج والاستثمار والتجديد التقني الرئيسية وبعيدة كليا عن التفكير في المصالح العامة والانشغال بهموم التنمية الانسانية. فلا يحرم الفقر الغالبية العظمى من الجمهور من القدرة على النفاذ إلى المعرفة والثقافة فحسب ولكن التدهور المستمر في قيمة مرتبات وأجور العاملين في حقول المعرفة من تعليم وعلم وبحث وتجديد يدفع قسما كبيرا من المعلمين والأساتذة إلى التخلي عن مسؤولياتهم وعدم الوفاء بالتزاماتهم مفضلين استخدام المؤسسات العلمية والتعليمية في سبيل تكوين زبائن لهم وإجبار طلبة العلم على دفع دروس خصوصية كشرط لنجاحهم في الامتحان. مما يشكل بداية فوضوية لعملية تخصيص التعليم والدراسة. بل إن ضعف المرتبات قد جعل بعض المدرسين في بعض الجامعات العربية يقايضون نجاح الطلبة في مادتهم الخاصة بمبالغ معلومة من المال. كما أدى ضعف المرتبات التي يتقاضاها رجال العلم والتعليم إلى تنمية استعدادات عميقة لدى الأطر المكونة العلمية والتقنية إلى الهجرة والبحث في بلاد أخرى عن وسيلة للعيش الكريم. ويكاد العالم العربي يشكل اليوم الخزان الأكبر لأصحاب الكفاءات والمهارات المرشحين للهجرة الدولية بالمقارنة مع جميع المجتمعات الاخرى الكبيرة.

ولا ينجم عن ذلك فقر في الأطر العلمية والتقنية مستمر بالرغم من النفقات المتزايدة في التعليم فحسب، ولا قصور في إنتاج المعارف الضرورية للتسيير الاقتصادي والإداري ولكن، أكثر من ذلك، تراجع إن لم نقل انعدام الطلب الاجتماعي نفسه على المعرفة. فالمعلمون والأساتذة والمدرسون والباحثون والمبدعون على اختلاف أنواعهم لا يملكون بمرتباتهم الضئيلة القدرة على اقتناء منتجات المعرفة ووسائل اكتسابها أو الاستقاء منها، سواء أكان ذلك على شكل شراء السلع المعرفية كالكتب والموسوعات والمؤلفات العلمية، أو على شكل مشاركة في الندوات والمؤتمرات العلمية، أو على شكل اشتراكات في دوريات علمية ومعرفية مختلفة. بل إن معظم العاملين في الحقول المعرفية يضطرون في البلاد العربية إلى القيام بأعمال لا تتعلق باختصاصاتهم الأصلية في سبيل تأمين الحد الأدنى من متطلبات حياتهم اليومية.

وتعمل الإدارة البيرقراطية المرتبطة بالحكم المطلق وانعدام المساءلة والمحاسبة السياسيين والتي سيطرت على الإدارة الاقتصادية العربية لعقود طويلة ولا تزال، في البلدان التي كانت تتبع اقتصاد التخطيط وتلك التي كانت تنتمي للاقتصاد الحر، على إضعاف الطلب الاقتصادي على المعرفة والتجديد العلمي والتقني بقدر ما تدعم اقتصاد المضاربة الذي يستفيد من الصلات الخاصة التي تقوم بين الإدارة ورجال الأعمال لفرض منطق الاحتكار. وحتى عندما توجد قوانين تسمح ببعض المنافسة، كما هو الحال اليوم بعد تطبيق مشاريع التعديل الهيكلي والاصلاح الاقتصادي والانفتاح، فإن فساد النظم المجتمعية والسياسية الذي يتجلى في التفاهم العميق بين النخب السياسية ونخب رجال المال والأعمال يقود إلى تكوين شبكات مصالح قوية تتقاسم المنافع والمصالح في ما بينها على الطريقة المافيوزية. وفي غياب المنافسة النزيهة بين الشركات المنتجة لا يبقى هناك سبب لتنمية الطلب على الخبرة والتقانة، إذ تبقى العلاقات العامة والزبائنية بين رجال الأعمال ورجال السلطة أكثر فائدة من تحقيق أي تقدم في الانتاجية أو في الإدارة الاقتصادية.

ومما يضاعف من أثر هذه الإدارة البيرقراطية على التنمية المعرفية وفرة الموارد الريعية وارتفاع نصيبها في الناتج القومي وفي تغذية ميزانيات الدول معا نتيجة الاعتماد المتزايد على تصدير المواد الأولية واستغلال الثروات الطبيعية. فهي تشجع على استسهال استيراد الخبرة والتقنيات الجاهزة بدل العمل على إنتاجها. كما تشجع على تفضيل الخبرة والتقنيات الأجنبية الجاهزة على التقنيات المحلية التي تحتاج إلى الرعاية والاستثمار الأولى.
هذا هو الثمن الكبير الذي تدفعه المجتمعات العربية نتيجة التمسك بنظم إكراهية وبيرقراطية معا. وإلى هذه النظم يرجع نشوء ما يسميه التقرير بالفجوة المعرفية المتوسعة التي يعرفها العالم العربي بالمقارنة مع التقدم العلمي والتقني في العالم أجمع. وهي فجوة تتجلى في نقص الانتاج العلمي والتقني وتخلف بنيات الانتاج الصناعي والاقتصادي عموما وتدهور إنتاجية العمل وتراجع العائد العام من الاستثمارات. وإليها يرجع أيضا غياب البحث العلمي الناجع وفساد نظم التكوين والتأهيل العلمي والتقني، وفي موازاة ذلك ضياع مفهوم الاتقان نفسه والعمل حسب أصول واضحة أو تغييبه داخل المؤسسات والدوائر الاقتصادية والإدارية، والقبول بمفهوم غير مهني وغير احترافي قائم على مبدأ: مشيها اليوم وغدا نرى، في تسيير الأمور والحفاظ على الأوضاع القائمة. ولا يعني ذلك كله في الواقع سوى قتل روح المبادرة والتجديد والإبداع والتحسيين عند جميع العاملين وداخل المجتمع بأسره.

ويبين نصيب الصادرات عالية التقنية من مجمل الصادرات العربية الموقع الأدنى الذي تحتله منطقة " الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، بين مناطق العالم، بما في ذلك مجمل البلدان منخفضة الدخل، في كلا نسبة الصادرات المصنعة (مؤشر على مدى غلبة المواد الأولية في الناتج الاقتصادي) ونسبة صادرات التقانة العالية (مؤشر على مدى كثافة المعرفة في الناتج الاقتصادي).

كما تؤكد المؤشرات الخاصة بعدد براءات الاختراع المسجلة من قبل البلدان العربية ونسبة إنتاج الكتب في العالم العربي درجة التخلف العلمي والتقني للعالم العربي بالمقارنة مع بقية بلاد العالم وموقعه الهامشي في الثورة العلمية والتقنية الراهنة سواء من حيث الانتاج والمشاركة في السوق الواسعة التي تخلقها والتي تشكل أهم سوق متطورة ونشيطة اليوم في الاقتصاد العالمي أو من حيث المشاركة العلمية والفكرية والابداعية. فلا تزيد البراءات المسجلة في أهم وأكبر دولة عربية، مصر، عن 77 براءة خلال الفترة 1980 – 2000 في حين تبلغ في كورية 16328للفترة ذاتها. ولا يتجاوز إنتاج الكتب في البلاد العربية 1,1 من الانتاج العالمي في حين يعد العالم العربي 5 بالمئة من سكان العالم. مع العلم أن نسبة كبيرة من هذا الانتاج مكرسة للكتب الدينية والتراثية.

بيد أن الأثر السلبي الأكبر لفجوة المعرفة لا يظهر للأسف في ضعف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فحسب وإنما يظهر بشكل أكبر وأخطر في عحز البلاد العربية عن إنتاج وسائل دفاعاتها وحمايتها في وجه الاعتداءات والضغوط الخارجية ويحول دون إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة في أخطر مواجهة يتقرر فيها مصير المنطقة، أعني المواجهة العربية الاسرائيلية.

lundi, novembre 17, 2003

ثقافة التخلف


أشار تقرير التنمية الانسانية الثاني للمنطقة العربية الذي صدر في الشهر الماضي عن الأمم المتحدة إلى مسألة أساسية مرتبطة بالتنمية المعرفية بوصفها محورا أساسيا من محاور التنمية العربية العامة. ومما لا شك فيه أن استيعاب المعرفة وإنتاجها وتداولها يشكل اليوم وسوف يشكل في المستقبل بشكل أكبر محور التنافس بين المجتمعات وأساس نجاحها في الرد على حاجات أعضائها وبالتالي في استقطاب ولائهم، وذلك بقدر ما أصبحت المعرفة في أيامنا هذه العامل الأول في تقدم المجتمعات والارتقاء بشروط حياتها المادية والمعنوية. وهذا الاستيعاب وما يتبعه من إنتاج وتداول مكثف للمعرفة هو الوظيفة الرئيسية للثقافة في مجتمعاتنا المعاصرة. والثقافة التي تخفق في تحقيقه تجد نفسها شيئا فشيئا مستبعدة من المنافسة التاريخية وتحكم على نفسها بالزوال كثقافة حية وفاعلة حتى لا يبقى منها سوى ذكرى ثقافة أو ثقافة الحنين والذكريات. ولا شك أن المجتمعات العربية المعاصرة تعاني من نقص فادح أحيانا في اكتساب المعرفة وإنتاجها وتداولها، خاصة المعرفة الابداعية العلمية منها, وهي تعتمد في تأمين حاجاتها الأساسية منها على النقل أو الاستعارة أو الاسيتراد من الخارج.
ويرجع السبب في النقص المعرفي إلى عوامل عديدة اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية يقع في مقدمتهاغياب سياسات تنمية معرفية متسقة وناجعة، وفي بعض الحالات غياب أي سياسات علمية على الإطلاق في العديد من البلاد العربية. ويدخل فيها أيضا ضعف الاهتمام بالتعليم والتكوين والتأهيل الأساسي والمستمر وغياب أهداف واضحة ومحددة للتربية في جميع مراحل التعليم وانفصاله عن عالم الإقتصاد والمجتمع. فبالرغم من الاستثمارات الكبيرة والاستثنائية التي وضعتها في هذا القطاع، لا تزال الدول العربية تعتمد بشدة، منذ أكثر من قرن، في تكوين الاطر العلمية والفنية والتقنية المتقدمة على ايفاد البعثات إلى الدول الأجنبية لتلقي العلم، كما لا تزال تعتمد في إعداد البرامج التعليمية على المناهج المصاغة لمجتمعات أخرى. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يكون من الصعب نشوء أي علم عربي أو بالأحرى أي تقاليد علمية راسخة، أو أن تثمر الجهود الكثيفة عن تكون قطب مستقل للتطور العلمي والتقني يملك ديناميات نموه الداخلية. فكما يظل العلماء والتقنيون منقطعين واحدهم عن الآخر وغير قادرين على التواصل والتعاون بسبب تباين مناهج تكوينهم واختلاف لغات اختصاصهم ومرجعياتهم وموارد بحوثهم تظل ابداعاتهم مرتبطة باستمرار بتبعيتهم لمصادر تكوينهم وإلهامهم. وبقدر ما يمنع هذا التباين في مناهج تلقي العلم والتبعية المتواصلة والمباشرة لمناهله الأجنبية من التواصل والنمو العمودي للمعرفة يمنع من نشوء بيئة علمية محلية مستقلة أو ذات حد أدنى من الاستقلالية قادرة على صهر المعارف والخبرات المتباينة المستمدة من مصادر وثقافات أخرى وتحويلها إلى معرفة محلية وتكييفها مع حاجات المجتمع المحلي. فالأطر العلمية من فنيين علماء ومفكرين ومبدعين تبقى مشتتة ومتباعدة تعيش كل فئة منها في مناخ المجتمع الذي استمدت منه معرفتها, ولا تنجح في ايجاد ما يجمع بينها. وهي تظل أيضا بسبب هذا الارتباط بالذات غريبة عن مجتمعها وغير قادرة على التأقلم مع حاجاته والرد على طلباته كما تبقى المعرفة التي تملكها مشتتة وغريبة في معظم الوقت عن المجتمع الذي تعيش فيه. وبقدر ما تفتقر لمرجعية واحدة محلية، تظل الأوساط العلمية مرتبطة بمرجعيات خارجية تجعلها غير قادرة على التفاعل مع بعضها البعض ومع بيئتها الجديدة بصورة إبداعية.
ومن العوامل الثقافية الأخرى التي تؤثر على نمو المعرفة في الأقطار العربية ضعف التأهيل والتكوين اللغوي بالعربية واللغات الأجنبية معا وتخبط السياسات اللغوية. فالدول العربية لا تزال تفتقر حتى اليوم إلى سياسة جدية للتعامل مع اللغة العربية سواء من حيث تحديد وظائفها أو من حيث العمل على تحديثها وتطوير وسائلها واستعداداتها لملاحقة تطور اللغات العلمية والتقنية والاستجابة لحركة الابداع العلمي المستمر، أو في ما يتعلق بتبسيط أساليب تعليمها وتدريسها للأطفال والطلبة بحيث يمكن لهم استيعابها بالسرعة والكفاءة الكافيتين لتتحول إلى أداة تعبير قوية ولغة معرفة وثقافة عليا معا. وبالرغم من العمليات الواسعة التي تمت لتعريب التعليم في جميع المستويات بما فيها المستوى الجامعي في معظم البلاد العربية، لا تزال اللغة العربية تفتقر إلى مرصد للمصطلحات العلمية وآلية لتدقيق المصطلحات وتعميم استخدامها من قبل المستعملين لها كما لا يزال العالم العربي يفتقر لأي بنية مشتركة أكاديمية تسمح برعاية شؤون اللغة والتنسيق بين مناهج تطويرها وتعليمها. وبالمثل لم تنجح البلاد العربية حتى الآن في الاتفاق على سياسة لغوية ثابتة في التعامل العلمي والإداري معا. ولا تزال أكثرها تتردد بين التعريب الشامل والاستخدام المكثف للغات الأجنبية. وقد غيرت بعض الدول خياراتها أكثر من مرة منذ الاستقلال. ومن الصعب العثور على تقرير علمي واحد حول الوضع اللغوي في البلدان العربية. وقد أدى غياب المعالجة العلمية الموضوعية لمسألة اللغة إلى الهبوط المباشر للمناقشة العامة في هذا الموضوع إلى مستوى الجدل الايديولوجي الذي يجعل من مسألة اللغة جزءا من استراتيجيات الصراع على السلطة ويفصلها كليا عن وظائفها الرئيسية الحقيقية المتعلقة بالتواصل العمومي وبالنجاعة في اكتساب المعارف المختلفة وتعميمها.
ونلاحظ التخبط نفسه في سياسة تعليم اللغات الأجنبية واستخدامها. فهي تعاني من تقلب الاختيارات ومن النقص في الامكانيات ووسائل التعليم والتحسين التي تجعل منها لغات قوية قادرة بالفعل على القيام بوظيفتها الأساسية وهي تمكين المختصين والباحثين والمفكرين من النفاذ إلى أدق المعارف والعلوم والمعلومات التي لا يمكنهم النفاذ إليها بلغتهم الأم.
إن غياب سياسات ثقافية وعلمية متسقة وافتقار العملية التعليمية لأهداف واضحة وركاكة ثقافة النخبة العليا، أي ثقافة السلطة والإدراة والقيادة، وتخبط السياسات اللغوية وعدم نجاعتها وسيطرة مناخ الاستهلاك الثقافي الرمزي والتعويضي على الانتاج الثقافي والمشاركة الثقافية والعلمية في النشاطات والفعاليات العالمية، وبحث النخب الحاكمة عن المشروعية في نوع من التعبئة الايديولوجية الوطنية والقومية الرخيصة والشكلية تعوض عن الافتقار للشرعية السياسية، كل ذلك يشكل ثقافة خاصة قائمة بذاتها هي ما نسميه ثقافة التخلف. وهذه الثقافة هي أحد العوامل الرئيسية في إعاقة نمو المعرفة وتكوين وتراكم رأس مال معرفي وازن، بقدر ما تقود إلى بناء نظم ثقافية غير متسقة وغير ناجعة. فلا يمكن لمثل هذه الثقافة أن تشجع على التعلم والتجدد والبحث والمعرفة والتفكير والتأمل في القضايا المطروحة سواء أكانت علمية أم دينية أم اجتماعية أم سياسية ولكنها تنمي ملكات التسليم بالأمر الواقع والاستسلام للقضاء والقدر أو التعويض عن البحث العلمي بالاستثمار المبالغ فيه في الوعي الايديولوجي الذي شمل جميع ميادين النشاط الفكري وفي مقدمها ميدان الاعتقادات الدينية، محولة الدين والايمان إلى أداة للصراعات السياسية.
الاتحاد الظبيانية

vendredi, novembre 14, 2003

أهداف السياسة الفرنسية في الشرق أوسطية


قلت في مقال سابق أن فرنسا نجحت، بفضل سياساتها المتوازنة في قضايا النزاعات التي تمزق الشرق الأوسط، سواء ما تعلق منها بالنزاع العربي الاسرائيلي أو بالنزاع العراقي، في أن تنتزع لنفسها موقعا مؤثرا في أوساط الرأي العام العربي المتلهف إلى حليف يشد أزره في حرب المواجهة العلنية والشاملة التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع إسرائيل ولصالحها أيضا إلى حد كبير على المنطقة بأسر ها. بيد أن هذا التقدير الكبير للسياسة الفرنسية الخارجية الشرق أوسطية والدولية معا لا يمنع أوساط الرأي العام العربي الرسمية منها والشعبية من التساؤل عن مدى تماسك هذه السياسة وصدقيتها. وقسم لا يستهان به من هذه الأوساط لا يميل إلى التشكيك بأهداف هذه السياسة فحسب ولكنه يعتقد أيضا بأن فرنسا لا تملك وسائل تحقيقها ولا الاستمرار في التمسك بها.
لكن الشعبية التي تحظى بها ليست بالضرورة المعيار الحاسم لصلاح السياسات الخارجية ولا لنجاعتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بدولة كبيرة كفرنسا، ومن وجهة نظر المصالح القومية الفرنسية. كما أن من الصعب محاكمة أي سياسة خارجية انطلاقا من نجاحاتها الوقتية أو على المدى القصير فحسب. ولو تجاوزنا هذين العاملين، أعني الشعبية والنظرة قصيرة المدى، وتأملنا في السياسة الفرنسية الشرق أوسطية على مدى العقود الثلاث أو الأربع الماضية لوجدنا أن ما يميزها هو الخسارة المستمرة و التراجع الدائم في المشرق العربي والشرق الأوسط عموما أمام الزحف الامريكي المتواصل بالرغم من العقبات والصعوبات والمعارضات المحلية والخارجية لهذا الزحف. ونتيجة هذا التراجع تتجلى اليوم في انحسار النفوذ الفرنسي الاستراتيجي والاقتصادي والثقافي لصالح النفوذ الأمريكي وخسارة باريس مواقع أساسية ربما كان العراق هو أهمها على الإطلاق. وبالمثل من الصعب أيضا القول، من وجهة نظر المصالح العربية، أن هذه السياسة التي تبدو اليوم في توافق مع المشاعر العربية قد نجحت في التحول إلى عامل مؤثر فعلا في المنطقة وأن المشاكل الإقليمية العالقة والتي يعاني منها العرب وفي مقدمهم الشعب الفلسطيني قد وجدت بفضلها بعض التقدم أو التغيير.
ليس هناك شك في أن المسؤول عن هذا التراجع في المواقع الفرنسية الاستراتيجية في المنطقة ليس العهد القائم وربما ليس عهدا بذاته، ولا اليسار أو اليمين الفرنسيين. وهو ليس بالضرورة ثمرة أخطاء متراكمة ارتكبتها الدبلوماسية الفرنسية بقدر ما هو النتيجة الطبيعية لخيارات سياسية أساسية طبعت استراتيجية فرنسا في الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية وبعد الخروج من حقبة الاستعمار الطويلة. وقد دفعت باريس في العقدين الماضيين ولا تزال تدفع في نظري ثمن هذه الخيارات التي كانت مسؤولة عن وصول الأوضاع الشرق أوسطية اليوم إلى ما هي عليه أو على الأقل التي ساهمت مساهمة كبيرة في وصولها إلى هذه الأوضاع.
أول هذه الخيارات التي يستحق التذكير به هو تبني السياسة الفرنسية لإسرائيل منذ ولادتها عام 1948 ودعمها، حتى عام 1967، بالسلاح والمال في مواجهة الدول العربية وتقديم العون العلمي والتقني الحاسم لها الذي حولها إلى الدولة الوحيدة التي تملك في المنطقة أسلحة الدمار الشامل الذرية. أما الخيار الثاني فهو وقوفها بشكل واضح، دولة ومثقفين ورأيا عاما، ضد مشاريع التعاون والاندماج العربية التي اتخذت في وقتها صورة الصراع تحت راية الفكرة أو الوحدة القومية العربية، ومشاركتها في إظهار هذه الحركة للرأي العام العالمي على أنها استعادة للفكرة الامبرطورية الاسلامية العتيقة ووصم قيادتها بالعنصرية والفاشية على حد سواء. لكن حتى في ما بعد ذلك، لم تظهر السياسات الفرنسية التي كانت تسير جنبا إلى جنب مع السياسة الأمريكية في المنطقة أي تعاطف مهما كان صغيرا مع حركات التحول الديمقراطي والاجتماعي العربية وبقيت أمينة لتحالفها مع تلك النظم الديكتاتورية نفسها التي تتخذ الولايات المتحدة اليوم من نقد ممارساتها الاستبدادية ذريعة لإضفاء الشرعية على مشروع سيطرتها المادية المباشرة على المشرق العربي واحتكار موارده الاستراتيجية والنفطية.
وهكذا، عندما قررت الإدارة الأمريكية اليمينية تنفيذ خططها في المنطقة وتكنيس المصالح الأوروبية والعالمية الأخرى لم تجد أمامها أي عقبة تذكر. فالعالم العربي الذي بقي ممزقا إلى اثنين وعشرين دولة واحدتها أضعف من الأخرى لم يكن يزن شيئا من الناحية الاستراتيجية وغير قادر على تشكيل جبهة حقيقية للحفاظ على حد أدنى من الاستقلالية والوحدة الداخلية. أما إسرائيل التي احتفت بها الدول الأوروبية بوصفها معقلا للديمقراطية وواحة لها في الشرق الأوسط فهي التي تمثل اليوم الحليف الرئيسي والمطلق للولايات المتحدة وعونها الأول في بسط النفوذ الأمريكي فيها في الوقت الذي لاتكف سياساتها الاستيطانية فيه عن تقويض أسس التقدم المادي والسياسي معا للمنطقة برمتها.
وبالرغم من المظاهر الخادعة لم يشهد الوقت الحاضر تغيرا كبيرا على المضمون العميق لهذه السياسة. ولا تزال السياسة الفرنسية الشرق أوسطية لم تتحرر بعد من العوائق النظرية والعملية التي منعتها من التعاون الفعلي مع العالم العربي وتكوين تحالف متوسطي قادر على تعزيز استقلال المنطقة ككل وتجنيبها التحول إلى ساحة مواجهة بين القوى الكبرى. وسواء تعلق الأمر بالموقف من الاستيطان الاسرائيلي أو بالتعاون والاندماج العربي لا يبدو أن للدبلوماسية الفرنسية خيارات أخرى متميزة خارج دائرة التعبير عن مشاعر التضامن والتأييد الأدبية والسياسية الدورية.
هناك بالتأكيد عقبات موضوعية عديدة تحول بين فرنسا وبلورة سياسة عربية حقيقية. أولها ارتباط فرنسا بالاتحاد الأوروبي واضطرارها إلى الأخذ بسياسات أوروبية مشتركة ليست هي الوحيدة صاحبة القرار فيها. ولا تتضمن السياسات الأوروبية أي رؤية طويلة المدى أو أي مشروع للتعامل مع البلاد العربية يختلف عما كان قائما في الماضي. فباستثناء الاتفاقيات الانفرادية التي وقعتها أوربة مع معظم البلدان العربية في إطار الشراكة المتوسطية والتي لا تقدم أي حل لأي مشكلة من المشاكل الإقليمية الجوهرية، من النزاع العربي الاسرائيلي إلى مسألة التنمية إلى المسألة الديمقراطية، ليس للسياسات الأوروبية هدف آخر سوى الدفاع عن مصالح أوربة الخاصة المتبقية في مواجهة المدحلة الأمريكية العسكرية والسياسية والثقافية والحفاظ على البقاء في عالم يهرب من تحت سيطرتها. ومن هذه العقبات أيضا ضعف قوى التغيير العربية المحلية التي يمكن المراهنة عليها لنسج علاقات جديدة او بلورة رؤية أخرى لعالم ما بعد الحرب العراقية الأمريكية بسبب تكلس الأنظمة القائمة وعجزها عن التغير والتغيير. ومنها كذلك الخلل الهائل في التوازن الجيوستراتيجي الدولي نتيجة غياب أي قطب فاعل يضم بلدان الجنوب التي تشكل ثلاثة أرباع البشرية وهي ذات المصلحة الرئيسية في أعادة بناء النظام العالمي على أسس جديدة تضمن التعددية واحترام المباديء القانونية. وهو ما يظهر من خلال التفكك الذي تعاني منه حركة عدم الانحياز والكتلة الدولية التي تمثلها.
ومن هنا، وأمام هذا الاختلال العميق في القوة وفي غياب قطب عربي حقيقي قادر على التفاعل مع فرنسا وأوروبا كشريك فعلي لا كتابع ومتسول عليهما، ما كان بإمكان السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط أن ترسم لنفسها أهدافا أخرى سوى التمسك بمواقعها القائمة والدفاع عنها بعيدا عن أي محاولة جريئة لربطها بما يمكن أن يشكل مصالح عربية وما يستدعي دفع المنطقة والنظم السياسية إلى تبني إعادة بناء نفسها على أسس جديدة كما تدعو إلى ذلك الولايات المتحدة في إطار سعيها إلى ربط سيطرتها الإقليمية بمشروع تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية ليبرالية. وفي إطار الحفاظ على مواقعها ونفوذها تحاول باريس أن تدعم الموقف الدبلوماسي العربي وتحد من انهياره أمام التحالف الاستراتيجي الاسرائيلي الأمريكي كما تسعى إلى موازنة الضغوط الأمريكية الاسرائيلية التي تخضع لها الدول العربية والتي تهدف إلى تطويعها وتركيعها، والتمسك، بالرغم من كل الصعوبات والعقبات، بالإبقاء على جذوة عملية التسوية السياسية العربية الاسرائيلية حية.

vendredi, novembre 07, 2003

هل تملك فرنسا سياسة عالمية بديلة؟

بفضل موقفها المتميز من عدد كبير من المسائل التي تتعلق بالشرق الأوسط، ونسبيا بأسلوب تنظيم الشؤون الدولية، نجحت السياسة الفرنسية في أن تغير بالعمق من الصورة السلبية التي كانت تحتلها فرنسا في المخيلة العربية بسبب الحروب الاستعمارية وحرب الجزائر بشكل خاص وأن تستبدلها بصورة مناقضة لها تماما. فبسبب مثابرتها على التمسك بحل عادل للقضية الفلسطينية يضمن للفلسطينيين قيام دولة مستقلة وقابلة للحياة، وفي ما وراء ذلك، مبادراتها الاستراتيجية الخاصة بايجاد حلول سلمية للمشاكل التي تعاني منها المنطقة الشرق أوسطية، وفي مقدمها مشكلة النزاع العربي الاسرائيلي. وقد تأكد هذا الموقف مع المقاربة الفرنسية للمسألة العراقية بعد حرب 1991 التي شاركت فيها مع قوات التحالف الأمريكية البريطانية. فبعكس الولايات المتحدة سعت أظهرت فرنسا تفهما أعمق لمشكلة عراق ما بعد الحرب الكويتية ولم تكن تعارض تخفيف الحصار الذي فرض على البلاد. لكنها وقفت بشكل واضح ضد الحرب التي شنتها القوات الأمريكية البريطانية للقضاء على النظام البعثي في العراق في أبريل 2003 ورفضت المشاركة في إضفاء الشرعية الدولية عليها ولا تزال تبذل جهودا دبلوماسية واضحة من أجل تقصير أجل الاحتلال وتسليم السلطة إلى حكومة عراقية متتخبة. ومما ييساعد على ترسيخ الصورة الجديدة لفرنسا الدور الرائد الذي لعبته الدبلوماسية الفرنسية ولا تزال تلعبه في تكوين استقطاب دولي قادر على عرقلة خطط الولايات المتحدة لتثبيت نظام سيطرتها الأحادية على العالم وسعيها المستمر للتأكيد على ضرورة السير بالنظام العالمي نحو صيغة تضمن التعددية القطبية وتعزيز دور منظمة الأمم المتحدة ومكانتها في حل النزاعات الدولية
ويالرغم من أن الجهود الفرنسية لم تتكلل بالنجاح في ايجاد الحل السياسي الذي تدعو له على أي جبهة من جبهات النزاع الأقليمي والدولي الراهنة إلا أن أحدا لا يستطيع أن ينكر اليوم أن باريس قد ساهمت، أكثر من أي قوة كبرى أخرى مثل الصين وروسيا واليابان وألمانيان في إعطاء مصداقية لفكرة و إمكانية نشوء نظام عالمي جديد قائم على التعددية في مكان السياسة الأحادية الامريكية السائدة اليوم. وهذا ما يدفع المحللين السياسيين إلى الاعتقاد بأن هناك عودة ما إلى السياسة الديغولية التي ارتبطت بالتأكيد على روح الاستقلال تجاه الولايات المتحدة والدفاع عن المصالح الفرنسية عبر بلورة سياسة عالمية بديلة أو مقابلة للسياسة الامريكية.
لكن في العالم العربي، كما هو الحال في العالم أجمع، يتنازع الرأي العام تجاه هذه السياسة الفرنسية والدور الذي تلعبه موقفان متناقضين تماما في تقييمهما للجهد الفرنسي في إطار خلق قطب تعددي يواجه إرادة التفرد بالقرار الدولي من قبل الولايات المتحدة. فمقابل قطاعات الرأي العام التي تراهن على أن تنجح فرنسا والقطب الأوروبي الذي تقوده في التعويض عن انهيار الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى موازية وموازنة للولايات المتحدة، ويرى في السياسة الفرنسية بارقة الأمل الوحيدة في عالم اليوم الظالم، هناك قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والعالمي التي تعتقد أن الموقف الفرنسي لا يعدو أن يكون سياسة استعراضية تدفع إليها مشاعر العظمة الفرنسية وحب الظهور والخوف من التحول إلى قوة ثانوية لا حساب لها في موازين القوة الدولية. والسبب في ذلك أن فرنسا تفتقر للوسائل التي تسمح لها بتطبيق سياسة عالمية سواء أكانت وسائل عسكرية أو مالية أو حتى تكنولوجية. وبالتالي لا يمكن لهذه السياسة أن تنطوي على آفاق فعلية. وفي هذه لحالة لا تكون سياسة فرنسا المناوئة للانفرادية الأمريكية سوى نوعا من الدون كيشوتية السياسية التي لا تضر ولا تنفع
لكن هناك قطاعات أخرى من الرأي العام العالمي التي تذهب إلى أبعد من ذلك في استنتاجاتها وتعتقد أن السياسة الفرنسية ليست بعيدة عن أن تشكل بديلا للسياسة الأمريكية فحسب ولكنها ليست في العمق سوى سياسة وطنية ضيقة. فكل ما تقوم به الدبلوماسية الفرنسية هو وضع أكثر ما يمكن من الأوراق في يدها كي تحسن من موقعها في المفاوضات التي تجريها مع واشنطن، وأنها لا تملك أي سياسة أو بالأحرى أجندة حقيقية في ما يتعلق بللدول العربية والنامية التي تظهر الدفاع عنها في المحافل الدولية وإنما تستعملها في سبيل زيادة حصتها من الكعكة العالمية التي تسعى إلى اقتسامها مع واشنطن والدول الصناعية الأخرى. وهذا يعني أنها تستخدم هذه الدول النامية كأوراق ضغط، ولا يهمها مصيرها وما يحصل لها في ما بعد عندما تتعرض للهجمات الأمريكية، كما أنها لا تتردد في التخلى عنها عندما تحصل على المنفعة الخاصة بها. ولا يخفي هؤلاء أن مثل هذه السياسة لا يمكن أن تنتهي إلا بتوريط الدول الصغيرة في صراع مصيري مع الولايات المتحدة في الوقت الذي تستطيع فيه فرنسا في أي لحظة، وبسبب علاقاتها الاستراتيجية الوثيقة مع واشنطن بالرغم من تنافسها معها، أن تحمي نفسها وتضمن مصالحها الحقيقية. ويقدم هؤلاء أمثلة عديدة على هذا الانعطاف المفاجيء في سياسة المباديء الفرنسية مثل مشاركة باريس في قوات التحالف الدولي للحرب ضد العراق عام 1991 بعد أن أظهرت تفضيلها لحل سلمي للنزاع وتصويتها في ما بعد، بالرغم من التردد والتمنع الأولي، على القرارات الدولية التي سمحت بفرض الحصار على العراق ثم بتكريس احتلاله بعد عام 2003 من قبل القوات الأمريكية.
وفي ما وراء هذه التحليلات المتباينة لسياسة فرنسا الدولية، لا يكف العرب، مسؤولين ومثقفين ورجال أعمال، عن التساؤل في كل مرة تحصل فيها مواجهة عربية أمريكية أو عربية إسرائيلية تتخذ فيها باريس موقفا متميزا عن التحالف الاسرائيلي الأمريكي في الشرق الأوسط في ما إذا كانت فرنسا تخوض مواجهة حقيقية مع الولايات المتحدة أم أنها تسعى فقط إلى عرقلة مشاريع واشنطن في المنطقة في سبيل فرض نفسها كشريك عليها لا أكثر، وهي بالتالي مستعدة للتراجع عن مواقفها في أي لحظة والاصطفاف، في نهاية المطاف، ورغم العنعنات، على خط واشنطن في كل ما يتعلق بالمسائل الأساسية والحاسمة في الشرق الأوسط والعالم معا. فما هي بالفعل حقيقة السياسة الفرنسية الشرق أوسطية والدولية؟ هل تخوض فرنسا مواجهة مع الولايات المتحدة لتقريب أجل بناء عالم متعدد الأقطاب وقائم على احترام القانون وإيجاد تسويات عادلة للنزاعات العالمية والإقليمية أم أنها تستخدم الصعوبات التي تواجهها أو يمكن أن تواجهها الولايات المتحدة في سبيل فرض نفسها واحترام مصالحها على واشنطن والاحتفاظ بدور وموقع متميزين في السياسة الدولية؟ وهل يكون الباعث على السياسة الفرنسية الجديدة استياء باريس، مثلها مثل عواصم العالم أجمع، من سلوك الولايات المتحدة الانفرادي الذي يستفز جميع شركائها التي تتجاهلهم ولا تسأل عنهم أم هو انبعاث حقيقي للديغولية وبالتالي أكثر عمقا وتجذرا؟ وما هي الأسس التي يستند إليها هذا الانبعاث وهل هو حقيقي أم مظهري لا هدف له سوى التغطية على التسليم العملي العميق بالقيادة الأمريكية العالمية والاستفادة من الصورة الايجابية التي تقدمها المقاربة الفرنسية للشؤون الدولية في سبيل الحفاظ على المصالح والمواقع التي لا تزال باريس تسيطر عليها في مناطق العالم المختلفة؟ ومن الواضح أن الاجابة عن هذه الأسئلة شرط لا غنى عنه لمعرفة إلى أي حد يمكن المراهنة من قبل الدول النامية والعربية بشكل خاص على السياسة الفرنسية الخارجية في سبيل تقليص دائرة النفوذ الأمريكية التوسعية أو على الأقل موازنة الضغوط العنيفة التي تمارسها الولايات المتحدة على هذه الدول في سعيها إلى بسط سيطرتها العالمية الشاملة.

أهداف السياسة الفرنسية في الشرق أوسطية

برهان غليون

قلت في مقال سابق أن فرنسا نجحت، بفضل سياساتها المتوازنة في قضايا النزاعات التي تمزق الشرق الأوسط، سواء ما تعلق منها بالنزاع العربي الاسرائيلي أو بالنزاع العراقي، في أن تنتزع لنفسها موقعا مؤثرا في أوساط الرأي العام العربي المتلهف إلى حليف يشد أزره في حرب المواجهة العلنية والشاملة التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع إسرائيل ولصالحها أيضا إلى حد كبير على المنطقة بأسر ها. بيد أن هذا التقدير الكبير للسياسة الفرنسية الخارجية الشرق أوسطية والدولية معا لا يمنع أوساط الرأي العام العربي الرسمية منها والشعبية من التساؤل عن مدى تماسك هذه السياسة وصدقيتها. وقسم لا يستهان به من هذه الأوساط لا يميل إلى التشكيك بأهداف هذه السياسة فحسب ولكنه يعتقد أيضا بأن فرنسا لا تملك وسائل تحقيقها ولا الاستمرار في التمسك بها.
لكن الشعبية التي تحظى بها ليست بالضرورة المعيار الحاسم لصلاح السياسات الخارجية ولا لنجاعتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بدولة كبيرة كفرنسا، ومن وجهة نظر المصالح القومية الفرنسية. كما أن من الصعب محاكمة أي سياسة خارجية انطلاقا من نجاحاتها الوقتية أو على المدى القصير فحسب. ولو تجاوزنا هذين العاملين، أعني الشعبية والنظرة قصيرة المدى، وتأملنا في السياسة الفرنسية الشرق أوسطية على مدى العقود الثلاث أو الأربع الماضية لوجدنا أن ما يميزها هو الخسارة المستمرة و التراجع الدائم في المشرق العربي والشرق الأوسط عموما أمام الزحف الامريكي المتواصل بالرغم من العقبات والصعوبات والمعارضات المحلية والخارجية لهذا الزحف. ونتيجة هذا التراجع تتجلى اليوم في انحسار النفوذ الفرنسي الاستراتيجي والاقتصادي والثقافي لصالح النفوذ الأمريكي وخسارة باريس مواقع أساسية ربما كان العراق هو أهمها على الإطلاق. وبالمثل من الصعب أيضا القول، من وجهة نظر المصالح العربية، أن هذه السياسة التي تبدو اليوم في توافق مع المشاعر العربية قد نجحت في التحول إلى عامل مؤثر فعلا في المنطقة وأن المشاكل الإقليمية العالقة والتي يعاني منها العرب وفي مقدمهم الشعب الفلسطيني قد وجدت بفضلها بعض التقدم أو التغيير.
ليس هناك شك في أن المسؤول عن هذا التراجع في المواقع الفرنسية الاستراتيجية في المنطقة ليس العهد القائم وربما ليس عهدا بذاته، ولا اليسار أو اليمين الفرنسيين. وهو ليس بالضرورة ثمرة أخطاء متراكمة ارتكبتها الدبلوماسية الفرنسية بقدر ما هو النتيجة الطبيعية لخيارات سياسية أساسية طبعت استراتيجية فرنسا في الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية وبعد الخروج من حقبة الاستعمار الطويلة. وقد دفعت باريس في العقدين الماضيين ولا تزال تدفع في نظري ثمن هذه الخيارات التي كانت مسؤولة عن وصول الأوضاع الشرق أوسطية اليوم إلى ما هي عليه أو على الأقل التي ساهمت مساهمة كبيرة في وصولها إلى هذه الأوضاع.
أول هذه الخيارات التي يستحق التذكير به هو تبني السياسة الفرنسية لإسرائيل منذ ولادتها عام 1948 ودعمها، حتى عام 1967، بالسلاح والمال في مواجهة الدول العربية وتقديم العون العلمي والتقني الحاسم لها الذي حولها إلى الدولة الوحيدة التي تملك في المنطقة أسلحة الدمار الشامل الذرية. أما الخيار الثاني فهو وقوفها بشكل واضح، دولة ومثقفين ورأيا عاما، ضد مشاريع التعاون والاندماج العربية التي اتخذت في وقتها صورة الصراع تحت راية الفكرة أو الوحدة القومية العربية، ومشاركتها في إظهار هذه الحركة للرأي العام العالمي على أنها استعادة للفكرة الامبرطورية الاسلامية العتيقة ووصم قيادتها بالعنصرية والفاشية على حد سواء. لكن حتى في ما بعد ذلك، لم تظهر السياسات الفرنسية التي كانت تسير جنبا إلى جنب مع السياسة الأمريكية في المنطقة أي تعاطف مهما كان صغيرا مع حركات التحول الديمقراطي والاجتماعي العربية وبقيت أمينة لتحالفها مع تلك النظم الديكتاتورية نفسها التي تتخذ الولايات المتحدة اليوم من نقد ممارساتها الاستبدادية ذريعة لإضفاء الشرعية على مشروع سيطرتها المادية المباشرة على المشرق العربي واحتكار موارده الاستراتيجية والنفطية.
وهكذا، عندما قررت الإدارة الأمريكية اليمينية تنفيذ خططها في المنطقة وتكنيس المصالح الأوروبية والعالمية الأخرى لم تجد أمامها أي عقبة تذكر. فالعالم العربي الذي بقي ممزقا إلى اثنين وعشرين دولة واحدتها أضعف من الأخرى لم يكن يزن شيئا من الناحية الاستراتيجية وغير قادر على تشكيل جبهة حقيقية للحفاظ على حد أدنى من الاستقلالية والوحدة الداخلية. أما إسرائيل التي احتفت بها الدول الأوروبية بوصفها معقلا للديمقراطية وواحة لها في الشرق الأوسط فهي التي تمثل اليوم الحليف الرئيسي والمطلق للولايات المتحدة وعونها الأول في بسط النفوذ الأمريكي فيها في الوقت الذي لاتكف سياساتها الاستيطانية فيه عن تقويض أسس التقدم المادي والسياسي معا للمنطقة برمتها.
وبالرغم من المظاهر الخادعة لم يشهد الوقت الحاضر تغيرا كبيرا على المضمون العميق لهذه السياسة. ولا تزال السياسة الفرنسية الشرق أوسطية لم تتحرر بعد من العوائق النظرية والعملية التي منعتها من التعاون الفعلي مع العالم العربي وتكوين تحالف متوسطي قادر على تعزيز استقلال المنطقة ككل وتجنيبها التحول إلى ساحة مواجهة بين القوى الكبرى. وسواء تعلق الأمر بالموقف من الاستيطان الاسرائيلي أو بالتعاون والاندماج العربي لا يبدو أن للدبلوماسية الفرنسية خيارات أخرى متميزة خارج دائرة التعبير عن مشاعر التضامن والتأييد الأدبية والسياسية الدورية.
هناك بالتأكيد عقبات موضوعية عديدة تحول بين فرنسا وبلورة سياسة عربية حقيقية. أولها ارتباط فرنسا بالاتحاد الأوروبي واضطرارها إلى الأخذ بسياسات أوروبية مشتركة ليست هي الوحيدة صاحبة القرار فيها. ولا تتضمن السياسات الأوروبية أي رؤية طويلة المدى أو أي مشروع للتعامل مع البلاد العربية يختلف عما كان قائما في الماضي. فباستثناء الاتفاقيات الانفرادية التي وقعتها أوربة مع معظم البلدان العربية في إطار الشراكة المتوسطية والتي لا تقدم أي حل لأي مشكلة من المشاكل الإقليمية الجوهرية، من النزاع العربي الاسرائيلي إلى مسألة التنمية إلى المسألة الديمقراطية، ليس للسياسات الأوروبية هدف آخر سوى الدفاع عن مصالح أوربة الخاصة المتبقية في مواجهة المدحلة الأمريكية العسكرية والسياسية والثقافية والحفاظ على البقاء في عالم يهرب من تحت سيطرتها. ومن هذه العقبات أيضا ضعف قوى التغيير العربية المحلية التي يمكن المراهنة عليها لنسج علاقات جديدة او بلورة رؤية أخرى لعالم ما بعد الحرب العراقية الأمريكية بسبب تكلس الأنظمة القائمة وعجزها عن التغير والتغيير. ومنها كذلك الخلل الهائل في التوازن الجيوستراتيجي الدولي نتيجة غياب أي قطب فاعل يضم بلدان الجنوب التي تشكل ثلاثة أرباع البشرية وهي ذات المصلحة الرئيسية في أعادة بناء النظام العالمي على أسس جديدة تضمن التعددية واحترام المباديء القانونية. وهو ما يظهر من خلال التفكك الذي تعاني منه حركة عدم الانحياز والكتلة الدولية التي تمثلها.
ومن هنا، وأمام هذا الاختلال العميق في القوة وفي غياب قطب عربي حقيقي قادر على التفاعل مع فرنسا وأوروبا كشريك فعلي لا كتابع ومتسول عليهما، ما كان بإمكان السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط أن ترسم لنفسها أهدافا أخرى سوى التمسك بمواقعها القائمة والدفاع عنها بعيدا عن أي محاولة جريئة لربطها بما يمكن أن يشكل مصالح عربية وما يستدعي دفع المنطقة والنظم السياسية إلى تبني إعادة بناء نفسها على أسس جديدة كما تدعو إلى ذلك الولايات المتحدة في إطار سعيها إلى ربط سيطرتها الإقليمية بمشروع تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية ليبرالية. وفي إطار الحفاظ على مواقعها ونفوذها تحاول باريس أن تدعم الموقف الدبلوماسي العربي وتحد من انهياره أمام التحالف الاستراتيجي الاسرائيلي الأمريكي كما تسعى إلى موازنة الضغوط الأمريكية الاسرائيلية التي تخضع لها الدول العربية والتي تهدف إلى تطويعها وتركيعها، والتمسك، بالرغم من كل الصعوبات والعقبات، بالإبقاء على جذوة عملية التسوية السياسية العربية الاسرائيلية حية.