تتقاطع المقاومة السياسية والدبلوماسية الواضحة التي تبديها أوروبا وفي مقدمها فرنسا أمام مشروع اللسيطرة الأمريكية في الشرق الأوسط بقوة مع المصالح العربية وتثير حماس الجمهور العربي وتأييده، وهو الجمهور الذي يعيش أو يكاد يعيش في حالة يتم بسبب ما يشعر به من الافتقار إلى القيادة والرؤية البعيدة والاستراتيجية معا. لكن وجود هذه المقاومة الأوروبية واستمرارها للمشروع الأمريكي لا ينبغي أن يمنعنا من إدراك واقع أن أوروبة، والمقصود هنا بالتاكيد فرنسا وألمانيا التي سلكت طريقا مشابها للطريق الفرنسية في السنوات الأخيرة تجاه المنطقة العربية، لا تملك، حتى الآن، أي سياسة بعيدة المدى وقائمة على أسس قوية ومتماسكة. وليس لديها أي مشروع للشرق الأوسط يختلف عن المشروع الأمريكي الذي ينادي بإعادة تشكيل المنطقة أو يسعى إلى أن يكون بديلا له. وهذا يعني أن أوروبة لا تملك سياسة عربية أو تتعلق بمستقبل العالم العربي مستقلة فعلا عن السياسة الأمريكية. هي تكتفي في الواقع بتعزيز سياستها التقليدية القائمة على الدفاع عن مصالحها القائمة والتمسك بمواقعها المهددة في وجه الزحف الأمريكي المتواصل. ولا يمكن لمثل هذه الأهداف التي لا تأخذ بالحسبان مصالح العالم العربي ومشاكله أن تكون أساسا لبلورة سياسة متسقة وبعيدة المدى تجاه هذا العالم تتمتع بالحد الأدنى من الثبات والانجاز والتراكم، وقادرة على الوقوف جديا أمام الاستراتيجية الامريكية ولا حتى امام الاستراتيجية الاسرائيلية.
هذا هو الذي يفسر في الواقع الطابع المزدوج والمتقلب لهذه السياسة. فهي في الوقت الذي تدعم فيه القضية الفلسطينية وتتخذ مواقف ايجابية منها في المحافل الدولية تقف مكتوفة الأيدى أمام حركة الاستيطان والاستعمار الزاحف الاسرائيلية ولا تجرؤ أو لا تريد اتخاذ أي إجراء عملي يزعج حكومة الليكود أو يثير حفيظة الإدارة الأمريكية، ولم تقبل في أي لحظة تجميد اتفاقات التعاون العلمي والتقني التي تربطها باسرائيل، ولا اتخاذ أي مبادرة مستقلة عن الإدارة الأمريكية. ولا يختلف الوضع كثيرا عن ذلك في ميدان العلاقات الاقتصادية. فلا يكاد العالم العربي يتلقى شيئا يذكر من الاستثمارات الأوروبية في حين لا يزال نزيف الرساميل العربية الهاربة من البيئة الإقليمية غير المستقرة أو بسبب فساد النخب الحاكمة وانقطاعها عن مجتمعاتها مستمرا، وربما بوتيرة أكبر مما كان عليه في السابق، مخلفا وراءه إقتصادات عربية مفقرة وراكدة معا غير قادرة على التفاعل مع البيئة العالمية. لكن على المستوى السياسي، وبالرغم من الحديث الشائع عن حقوق الانسان والديمقراطية، لم تكن الاستراتيجية الأوروبية مرتبطة في أي حقبة بالدفاع عن النخب القائمة والتمسك بها كما هي اليوم. ففي مواجهة المشروع الأمريكي القائم على الضغط على الأنظمة لإخضاعها وتشغيلها لصالحه لا تجد السياسة الاوروبية وسيلة لاستعادة بعض النفوذ والابقاء على بعض المصالح المهددة سوى بالتمسك المتزايد بهذه النظم ودعمها ضد الضغوط الأمريكية.
ويظهر هذا كله نقاط الضعف الكبيرة التي تعاني منها السياسة الاوروبية في المنطقة سواء ما تعلق منها بتباين وجهات النظر داخل الاتحاد الأوروبي المفتقر للاتساق والانسجام، والمخترق أمريكيا، أو بضعف القوى التي تراهن عليها في الشرق الأوسط لمواجهة السيطرة الانفرادية الأمريكية، وهي قوى نظم مهلهة فقدت إلى حد كبير صدقيتها في الداخل والخارج وأصبح الرأي العام العالمي والمحلي ينظر إليها على أنها تمثل شبكات مصالح مافيوية. وهي ميالة، عدا عن ذلك، إلى التفاهم بشكل أكبر مع الولايات المتحدة التي تؤمن لها وحدنها الحماية حالما تظهر واشنطن تأمينها و قبولها في فلكها وتفتح باب الحوار والتفاهم معها. وهكذا تبدو العصا الغليظة التي تستخدمها واشنطن أكثر قدرة على انتزاع التنازلات وتحقيق المكاسب من سياسة الحوار التي تتبعها أوروبة تجاه هذه النخب الحاكمة والتي لا تغطي في الواقع إلا فقدان أوروبة لوسائل الضغط والتأثير الفعلية.
في هذه الظروف التي لا تسمح لأوروبة أن تحلم ببلورة سياسة شرق أوسطية تتجاوز في أهدافها التمسك بما لا تزال تملكه من مصالح في المنطقة، يشكل الخطاب الدبلوماسي المساير للعرب شاشة تخفي السياسة الخارجية الأمريكية وراءها افتقارها لوسائل بناء سياسة عالمية بديلة فعلا ونزوعها إلى عدم التنازل عن دورها وموقعها في المخيلة العالمية باعتبارها أحد أقطاب السياسة الدولية.
لا يعني هذا أنه لا يوجد صراع ولا تنافس بين أوروبة وواشنطن في الشرق الاوسط ومناطق أخرى من العالم. فهو موجود بالتأكيد. ولا يعني أيضا أن أوروبة ليست صادقة في دفاعها عن نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب بدل النظام الأحادي القائم الذي تستفيد منه أمريكا وحدها. فهذا يصب في مصالحها القومية أيضا. إنه يعني أن الصراع بين فرنسا واوروبة معها من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى ليس صراعا تناحريا ولكنه تنافسي يدور حول المصالح، ويحسم بالتالي بالتسويات، وأن من المستحيل أن يصل إلى صدام فعلي طالما أن مصالح أوروبة في التفاهم مع أمريكا أعظم بكثير من مصالحها في التفاهم مع البلاد العربية بل والنامية جميعا، وأن فرنسا والولايات المتحدة شريكان فعليان في ناد واحد هو نادي الدول الصناعية الكبرى التي تدير العالم لصالحها ومن مصلحتها أن تستمر هذه الإدارة وتبقى في يدها.
باختصار إن الصراع الأوروبي الأمريكي الراهن في المنطقة والعالم ليس من طبيعة استراتيجية أو بعيدة المدى، ولا يشكل المرجعية الأساسية للسياسة الأوروبية والأمريكية ولكنه يحصل في إطار الدفاع البراغماتي عن المصالح القومية وبالتالي مع الحرص على عدم السماح لهذا الصراع بالذهاب بعيدا وتهديد المصالح الاستراتيجية الكبرى التي تربط الطرفين بعضهما ببعض.وكما أن وحدة المصالح لا تلغي التنافس لا يلغي الصراع بين واشنطن ودول التكتل الأخرى غير الراضية عن التفرد الأمريكي، وهو حقيقي وجدي، وحدة المصالح أيضا.
لكن، بالمقابل، لا تمنع هذه الوحدة من أن يعرقل التنافس والصراع بين القوى المتنازعة على تقاسم المنافع الدولية استقرار نظام الأحادية القطيبة الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تكريسه ويخلق مشاكل عديدة للولايات المتحدة. فمن دون ذلك ما كان من الممكن لواشنطن أن تقدم تنازلات تضمن المصالح القومية للدول والامم الكبرى الأخرى.
بيد أن تأثير هذا التنافس والصراع الفعليين بين الكتل الدولية الكبرى يبقى مع ذلك محدودا جدا في نظري على مصائر الدول الفقيرة والنامية وقدرتها على الاستفادة منه في سبيل تعزيز مواقعها والدفاع عن مصالحها العامة على أي مستوى كان. وليس من الصعب تصور ولادة عالم جديد أو نظام عالمي متعدد الأقطاب بديل عن مشروع التفرد الأمريكي من دون أن يغير كثيرا في الموقع الهزيل الذي تحتله الدول الفقيرة في مثل هذا النظام بل لغير صالحها تماما كما فعل نظام الثنائية القطبية المندثر.
إن مثل هذا النظام التعددي لا يصبح ذا قيمة وأثر ايجابي على الدول النامية إلا عندما تنجح هذه الدول في تكوين قطب مستقل نسبيا قادر على التفاوض مع الأقطاب الأخرى ولعب دوره بالفعل كممثل لمصالح شعوبها ومجتمعاتها في إطار النظام الواحد، أي عندما يتحول العالم الفقير إلى قطب في النظام الجديد. ومن دون ذلك صحيح تماما ما يقال من أن الدول الفقيرة هي التي ستدفع ثمن إقامة نظام التعددية القطبية الأمريكية الأوروبية. وبشكل خاص الدول التي ستقف في مواجهة الولايات المتحدة وتعمل كما لو كانت وقودا للنزاع القائم من أجل نظام عالمي جديد ثنائي أو ثلاثي القطبية.
إن شروط بناء سياسة أوروبية عربية يتوقف على قدرة الاتحاد الأوروبي الذي يجهد ليصبح قطب دولي فاعل ومزود بقوة دفاعية خاصة على المساهمة في تمكين العالم العربي من الرد على تحديات ثلاثة رئيسية وخطيرة يواجهها هذا العالم اليوم وهي: تحدي التوسع الاستيطاني الاسرائيلي والاحتلال، وتحدي التحول نحو الديمقراطية ، وتحدي إعادة إطلاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوقفة.
لكن نعود ونقول أيضا إن هذه السياسة الاوروبية المطلوبة والمنشودة لا يمكن أن تتحقق ولن تتحقق قبل أن ينجح العالم العربي هو نفسه في التحول إلى فاعل حقيقي يتمتع بإرادة ووعي ورؤية واضحة لحجمه ومصالحه وأهدافه، أي قبل أن ينجح في أخذ مصيره بيده ويتخلص من القيود الكثيرة التي تكبل إرادة ووعي شعوبه ومجتمعاته. وفي غياب أفق تكوين العالم العربي كفاعل تاريخي جيوسياسي سوف تستمر الدول الكبرى في استخدام العالم العربي وموارده كساحة للنزاع في حركة التنافس الدائبة لحماية مصالحها القومية أو من أجل تعزيز فرص سيطرتها العالمية. ولن يدفعها شيء إلى التفكير في مصير العالم العربي أو إلى مراعاة مصالح شعوبه الوطنية والإقليمية.