جرت العادة في الكثير من البحوث العربية والأجنبية على تحميل الثقافة العربية، التي تبدو كثقافة ثابتة دينية ولا تاريخية، المسؤولية الرئيسية في ما أصاب ويصيب المجتمعات العربية من تراجع وتقهقر في ميادين التنمية البشرية المادية والتقنية والعلمية. ولهذا تحولت دراسة التراث والتأمل فيه ولا تزال منذ عقود إلى موضوع ثابت للبحث العربي بعد أن كان هذا التراث موضوع الاستشراق الغربي بامتياز. فهذه الثقافة-التراث وما حملته واتسمت به منذ نشأتها الأولى في عصر الجاهلية أو عصر التدوين أو الحقبة العثمانية المتأخرة من عادات وتقاليد ومناهج تفكير هي التي تفسر، في نظرهم، اختيارات العرب في العصر الحديث وتوجهاتهم وأنماط سلوكهم وأسلوب عملهم وبالتالي إنجازاتهم، سواء ما كان منها ايجابيا أو سلبيا. ويوازي ارتداد الباحثين إلى التراث للكشف عن أسباب الأزمات العديدة التي تعيشها المجتمعات العربية إنكفاء عامة المجتمع في العقود القليلة الماضية على هذا التراث نفسه لمواجهة هذه الأزمات أيضا وايجاد الحلول المفقودة لها. وكما يعكس هذا التوجه عند الباحثين الرغبة في التغطية على عجز الفكر العربي الحديث النظري والعلمي منه بشكل خاص عن مواجهة التحديات التاريخية الفعلية التي طرحت على المجتمعات العربية في العصر الراهن وتجنب النقاش في مناهج عمله، يعكس أيضا عند عامة الناس الرغبة في الهرب من الواقع الأسود القائم والاحتماء وراء شعارات وطقوس لا تغني عن نقد الواقع وفهمه والعمل لتغييره. وفي الحالتين يشكل هذا التركيز المستمر على التراث وسيلة للهرب الجماعي من المسؤولية، أعني مسؤولية مواجهة الفكر والعلم لنفسهما ومراجعة أخطائهما وكذلك مسؤولية المجتمع في مواجهة مشاكله والصراع مع القوى المادية والفكرية التي تعيق تقدمه في حلها والخلاص منها.
بالتاكيد، لا ينبغي تجاهل الأثر الكبير الذي تمارسه نظم الاعتقاد والتفكير والسلوك الموروثة على حياة المجتمعات واختياراتها. لكن لا ينبغي بالمقابل أن نعتقد أن هذه النظم المؤثرة هي نظم ثابتة وناجزة يرثها الأحفاد عن الأجداد وليس لهم خيار سوى الخضوع لاستبدادها. فبالرغم من مظاهر الثبات الشكلية تتمتع الثقافة بقدرة هائلة على التحول الداخلي وتحوير معاني الأشياء والتلاعب بالرموز تجعل من المستحيل فهم شيء مما يجري إذا توقفنا عند المظاهر الشكلية. فالعرب الذين كانوا يحجون إلى البيت الحرام قبل الاسلام حيث يجمعون آلهتهم الوثنية ليسوا هم العرب الذين جعلوا من الكعبة نفسها بعد تطهيرها من الأوثان قبلتهم الدينية. بالتأكيد هناك معنى لهذه الاستمرارية في أشكال العبادة الدينية عند العرب وغيرهم من الشعوب. بيد أن من يعتقد أن من الممكن فهم الثقافة الاسلامية الجديدة من خلال اقتفاء آثار طقوس العرب القديمة فيها يخطيء كثيرا في فهم تحولات الثقافة الداخلية ومعنى التشكيلات الرمزية التي تقوم عليها الثقافة ومنطقها. وبالعكس تساعدنا النظرة الاجتماعية للثقافة أو اجتماعيات الثقافة على الذهاب إلى ما وراء المظاهر المستمرة لنكشف عن الانقطاعات الكبيرة والصغيرة التي تكرس داخل الثقافة نفسها تطور اشكال الوعي والممارسة داخل المجتمعات نفسها وتجسد في الوقت نفسه تحولاتها وتبدل اعتقاداتها وسلوكها، وبمعنى آخر تاريخيتها. وفي هذه النظرة الاجتماعية يجد الباحث نفسه أمام ديناميات تاريخية تتجاوز أطر الدولة والسياسة وتشمل عمليات التفاعل القوية بين الداخل والخارج وبين الماضي والحاضر تظهر له عدم جدوى التثبت على الموروث والخصوصي والمختلف فحسب. وسوف يكتشف بسرعة أن الإعاقة أو التراجع في ديناميات اكتساب المعرفة أو استبطان قيم الحداثة المتنامية لا ينجم بالضرورة عن وجود تراث ديني أو أسطوري أو عرفي لا يزول ولا يتحول داخل الثقافة وإنما، بالعكس من ذلك تماما، عن التحولات الثقافية والتجديدات التي أدخلت على الثقافة بما في ذلك على التراث عبر عمليات التأويل والتفسير والتحوير والتوليف والصهر والمخادعة.
والواقع أنه لا توجد في أي مجتمع من المجتمعات ثقافة علمية أو عقلية بالمعنى الشامل للكلمة. وكل ثقافة حية تجمع بالضرورة بين النظم العقلية والميتولوجية والاعتقادات الايديولوجية. ولا يؤثر هذا الجمع على تطور النظم العلمية والتقنية ولا يحد منه. وبالمثل ينبغي التمييز بين الثقافة الشعبية التي محورها التواصل بين البشر وبناء الثقة وتكوين مناخ الألفة والتعارف المتبادل أو الهوية، والثقافة العليا التي ترد على مطالب ذات طبيعة بنائية أو ايجابية تضيف شيئا ولا تقتصر على خلق التواصل والتفاعل كالعلوم والايديولوجيات والفلسفات العقلية. إن الأسباب التي تحول دون جعل الثقافة العربية مركزا لاكتساب المعرفة الجديدة وإنتاجها الإبداعي وتداولها لاتكمن في الثقافة العربية من حيث هي تراث ولا من حيث هي أنساق إعتقادات أو تقاليد أو أنماط سلوك وتفكير شعبية سائدة وإنما في النظام الثقافي القائم. وعندما نتحدث عن نظام ثقافي فنحن نعني أنماط التفكير والتربية والتأهيل والإنتاج والتداول التي نشأت في حقبة زمنية معينة وتطورت بتأثير مجموعة من الخيارات الثقافية الواعية وغير الواعية التي يقوم بها فاعلون إجتماعيون، وبحسب مصالحهم الاجتماعية والسياسية، وأهمهم في دولنا الحديثة، أولئك الذين يتحكمون بمقاليد الأمور الثقافية والتربوية والموارد العامة، وهي الخيارات التي تتعلق بتعيين اتجاهات التنمية الثقافية وميادين هذه التنمية وحدودها.
وربما كان أول ما تنبغي الإشارة إليه في هذا المجال هو ضرورة التركيز على طبيعة الثقافة السياسية والقيم الثقافية التي توجه نشاط هذه النخب الاجتماعية الرسمية والأهلية وتفسر غياب سياسات تنمية معرفية متسقة وناجعة كما يفسر النزوع إلى غلبة النزعة الايديولوجية وتقديم الدعاية والتعبئة السياسية على احترام حقوق الأفراد ونشر القيم الانسانية المرتبطة بالعدالة والمساواة والحرية. ولا ينبغي أن يفهم من التركيز على ثقافة النخب الاجتماعية هنا تبرير الهرب من نقد الثقافة التقليدية أو التراث أو إلى توفير مثل هذا النقد ولكن التذكير بأن الثقافة صيرورة إجتماعية وأن الجزء الأكبر من المشاكل التي تعاني منها الثقافة العربية، مثلها مثل كافة المجتمعات الإنسانية الحديثة التي تعيش في ظروف مشابهة، هو ثمرة القطيعة العميقة التي فصلتها عن التراث الماضي أي هو نتيجة تحلل وتفكك الثقافات التقليدية تحت تأثير الحداثة الزاحفة. وهذا يعني أن المبادرة في إعادة بناء الثقافة ذاتها مثلها مثل إعادة بناء الدولة والنظم السياسية والاقتصادية تعود اليوم إلى النخب الاجتماعية النشيطة والفاعلة، وأن تأسيس قواعد العمل وأساليب الإدارة والقيادة والتنظيم والتدريب والإعداد والتكوين يتوقف في المجتمعات كافة، وإلى حد كبير، على نوعية الثقافة العليا وعلى المفاهيم والمعارف ومنظومات القيم التي تستند إليها هذه النخب. وهذه الثقافة هي التي تجعل من هذه النخب بانية الدول والمجتمعات وتعطيعا دورها ووظيفتها.
وإذا كان ما يؤخذ على الثقافة الشعبية العربية السائدة في الوقت الراهن تردد منظومات القيم التي تحركها بين القديم والحديث والتبدل السريع في المزاجات الفكرية والميل إلى الانسحاب من التجربة العملية والتسليم في مصائرها للقوة الغاشمة الداخلية والخارجية كقدر محتوم، نتيجة الممارسات السياسية والاجتماعية التعسفية المؤلمة التي طبعت العقود الخمس الماضية، فإن الثقافة العليا أو ثقافة النخب العربية تعاني من نقائص خطيرة بنيوية نابعة سواء من سيرورات تكوينها أو من شروط ممارسة السلطة ذاتها الثقافية والسياسية والاجتماعية ونموذجها الشمولي والتسلطي السائد أو من التناقضات العميقة التي تنطوي عليها هذه الثقافة الهجينة وتفاقم التوترات الداخلية التي تمزقها خاصة في العقود الأخيرة. ولعل السمة الغالبة على هذه الثقافة العليا الحديثة في البلاد العربية هي عدم الاكتمال أو النضج الذي يتجلى في ضعف وهشاسشة النظم العقلية الحديثة من فلسفات وعلوم، سواء أتعلق ذلك بالمحتوى أو بمناهج النظر واكتساب المعرفة. فهي من جميع النواحي مثال للثقافة الحديثة الشكلية والسطحية أو المجهضة، والتي تؤسس للقطيعة شبه التامة بين الفعل والقول وغالبا ما تنزع إلى التعويض عن انعدام قدرتها على الممارسة العملية للحداثة إلى المبالغة في الاستعراضات الحداثية الدعائية الفارغة.
ومن هنا يمكن القول إن غياب سياسات ثقافية وعلمية متسقة وافتقار العملية التعليمية لأهداف واضحة وركاكة ثقافة النخبة العليا، أي ثقافة السلطة والإدراة والقيادة، وتخبط السياسات اللغوية وعدم نجاعتها وسيطرة مناخ الاستهلاك الثقافي الرمزي والتعويضي على الانتاج الثقافي والمشاركة الثقافية والعلمية في النشاطات والفعاليات العالمية، وبحث النخب الحاكمة عن المشروعية في نوع من التعبئة الايديولوجية الوطنية والقومية الرخيصة والشكلية تعوض عن الافتقار للشرعية السياسية، كل ذلك يشكل عوامل رئيسية في إعاقة نمو وتراكم المعرفة العلمية والتقنية وتعميم قيم التسلط والاستهتار بالحقوق الفردية والجماعية وتغذية مشاعر الخوف والانكفاء على الذات والتشكيك بالعالم، وبالتالي في بناء نظم ثقافية غير متسقة وغير ناجعة. ولا يمكن لمثل هذه النظم أن تشجع على التعلم والتجدد والبحث والمعرفة والتفكير والتأمل في القضايا المطروحة سواء أكانت علمية أم دينية أم اجتماعية أم سياسية أم عالمية إنسانية.
والنتيجة، لا تستطيع الثقافة ولن تستطيع، في العالم العربي كما هو الحال في بقية بلاد العالم، أن تقدم من تلقاء نفسها الردود الايجابية والخلاقة المنتظرة على التحديات التي تواجهها اليوم جميع ثقافات العالم وبشكل خاص الثقافات الضعيفة التي لم تشارك كثيرا في بناء الحداثة الفكرية والمادية معا: تحدي اكتساب المعرفة الابداعية العلمية والتقنية والأدبية والفنية والدينية معا، وتحدي التأسيس الفكري والأخلاقي للديمقراطية، وتحدي تجاوز الخصوصية للمشاركة الفعالة في بناء الكونية أو العالمية الانسانية الجديدة. إن مثل هذه الردود تتوقف، بالعكس، على قدرة المجتمعات والنخب التي توجهها وتقودها على الاستثمار في الثقافة وتدعيم وظيفتها وتعزيز مكانتها الاجتماعية. وبقدر ما تكون التنمية ذات رؤية إنسانية أو متمحورة حول الانسان وطامحة إلى تعزيز مكانة الفرد وحرياته وقدراته الابداعية يكون تكون الحاجة أكبر لزيادة الاستثمار في الثقافة وتحويل التنمية نفسها إلى تنمية ثقافية. وبالعكس، بقدر ما تتنكر التنمية للانسان وتركز هدفها على تحقيق الربح التجاري أو بناء القوة العسكرية والتفوق فيها تزول الأهمية النسبية للثقافة ويقل الاهتمام بها ومن ورائها بقيم العقل والحرية والسلام. وهذا يعني أن الثقافة ليست هي التي تفسر تراجع الوعي الانساني في العالم العربي ولكن إهمال هذه الثقافة وضعف الاستثمار فيها، وأنه لا يمكن لأي ثقافة أن تساهم في التنمية الانسانية وتطوير قيم والسلام والحرية ما لم تتمتع هي نفسها بفرص تنميتها الخاصة. فلا حداثة ثقافية من دون تحديث الثقافة.