vendredi, mars 15, 2002

العهد الأميركي الجديد الموعود أو تفاقم المحنة العربية


الجزيرة نت 15 مارس 2002

إن الكشف عن الخداع الأميركي في الحرب التي تعد ضد نظام صدام حسين والعراق نفسه ضروري حتى نتجنب السقوط في الأوهام أو في الاعتقاد بأن الولايات المتحدة عندما تشن الحرب على نظام ما فهي تهدف إلى تحقيق مصالح شعبه أو الشعوب العربية الأخرى، لكن هذا الكشف لا يكفي وحده ولا يمكن أن يكون خاتمة المطاف في نقاش الوضع العراقي. وإذا وقفنا عنده لا نكون فعلنا شيئا سوى تبرير الوضع القائم ونفي شرعية العمل لتغييره.
والحال أن هناك مشكلة حقيقية إذ لا نستطيع أن نبعد احتمال نجاح الحل الأميركي أو الخارجي لها إذا لم ننجح نحن أنفسنا في إيجاد هذا الحل الذي يتواءم مع مصالحنا كعراقيين وكعرب معا.
ويمكن تلخيص جوانب المسألة الرئيسية في أسئلة ثلاثة:
هل ينعكس استمرار الوضع العراقي بآثار سلبية على الشعب العراقي وعلى المجموعة العربية معا، ويستدعي بالتالي المسؤولية في التفكير بتغييره والعمل على هذا التغيير؟
هل هناك أمل في أن يأتي هذا التغيير من داخل العراق أولا ومن المجموعة العربية ثانيا، وما هي قدرتنا على تعزيز فرص التغيير من الداخل؟
إذا لم يكن التغيير من الداخل العراقي أو العربي ممكنا، ألا يكون الحل الوحيد الممكن هو الحل الأميركي المطروح من خلال الحرب ضد الإرهاب؟ وهل مثل هذا الحل سيكون أهون الشرين أم هو شر لا يمكن أن يكون من دون عواقب سيئة على العراق والعرب معا؟
”رفض الحرب الأميركية على العراق لا يعني عدم التسليم بضرورة وعاجلية القضاء على نظم الاستبداد والطغيان في البلاد العربية ولا عدم تأكيد أن الديمقراطية والأمن الجماعي الإقليمي والاستقرار والتنمية هي الأهداف والشعارات الرئيسية لمجموع الشعوب العربية وفي مقدمها الشعب العراقي”
إن رفض الحرب الأميركية على العراق لا يعني عدم التسليم بضرورة وعاجلية القضاء على نظم الاستبداد والطغيان في البلاد العربية ولا عدم تأكيد أن الديمقراطية والأمن الجماعي الإقليمي والاستقرار والتنمية هي الأهداف والشعارات الرئيسية لمجموع الشعوب العربية وفي مقدمها الشعب العراقي.
وليس هناك شك عندي في أن قليلا جدا من العرب لا يزالون يؤمنون بقدرة الأنظمة العربية على تحقيق أدنى مصلحة من مصالحهم الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو الدينية، أو بفائدة الأسلحة المتطورة التي يملكونها في مواجهة القوة الإسرائيلية والأميركية الطاغية في المنطقة. وقلة قليلة جدا لاتزال تتملكها بعض الأوهام حول الإنجازات والمعجزات المحتملة التي يمكن أن تقوم بها زعامات عربية فقدت كثيرا من مصداقيتها أو كلها. ولا شك عندي أيضا أن القضاء على النظام الطاغي في العراق -مثله مثل القضاء على القسم الأكبر من الأنظمة السياسية القائمة في البلاد العربية- سيثير الحماس عند كل فرد يمتلك الحد الأدنى من الشعور بالكرامة والسيادة والحرية في البلاد العربية.
وأكثر من أي نظام آخر في المنطقة، يظهر النظام العراقي القائم على سلطة الفرد المطلق المعتمد على أجهزة القهر والإخضاع والتحييد التي تسمى بلغتنا خطأ "أجهزة الأمن"، نظاما غير قابل للاستمرار ولا يستحق الحياة، وهو لا يعمل إلا على تدمير المجتمع الذي يقوم فيه ويسيطر عليه، وأن استمراره يعني تمديد أمد معاناة الشعب العراقي ومحنته، فليس هناك إذن أي سبب للدفاع عنه أو عن بقائه لا من الوجهة الإستراتيجية ولا السياسية ولا الأخلاقية، وبقاؤه لا يخدم في التحليل النهائي إلا وجود زعيمه.
إن شعبا كاملا يعيش اليوم رهينة الحفاظ على بقاء وكرامة رئيس انتزع السلطة بالقوة ولايزال مستمرا بفضل تحكمه بمصدر القوة والعنف في الدولة والنظام، وحتى لو توافر للنظام العراقي أسلحة دمار شامل كما يظن البعض -ومعظمهم من الأميركيين- فلن يكون لها قيمة في أي مواجهة حقيقية مع إسرائيل، وهذه المواجهة لن تحصل بعد اليوم على أي حال، وبالعكس سوف تستخدم في الغالب ضد المجتمع العراقي نفسه. وهذا يعني أن تغيير هذا النظام لا يمثل بالنسبة للشعب العراقي المهمة الأولى على جدول أعماله السياسية ولكنه، هو جدول الأعمال ذاته ولا شيء غيره، ومن دون تحقيق هذه المهمة ليس للشعب العراقي أي مستقبل ولا يمكن لأحد أن يتوقع إلى أي درجة من السوء يمكن أن يكون مصيره.
لكن رفض العرب أن يقوم هذا التغيير عن طريق حرب أميركية جديدة على العراق يهدف إلى تأكيد أمرين:
الأول أن المسألة لن تكون مسألة القضاء على الإرهاب لصالح دولة خارجية، وهي إضافة إلى ذلك الدولة الرئيسية التي وضعت هذه الأنظمة ورعتها أو وافقت عليها وحمتها وعززت قدراتها في فترة كانت مفيدة لتحقيق مصالحها.
والثاني أن التغيير حتى يكون ذا قيمة أي ثابتا وحقيقيا وقادرا على تحقيق الغاية المنشودة من حرية وأمن واستقرار وتنمية، ينبغي أن يقوم على أكتاف قوى محلية هي صاحبة المصلحة فيه. وما لم يحصل ذلك فإنه لن يكون إلا في مصلحة القوى التي تقوم به ولن يجير إلا لفائدتها، وسوف يعبر في هذه الحالة الثانية عن إضاعة الشعوب العربية بشكل أكبر لتحكمها بمصيرها ولقدرتها على قيادة أمورها بنفسها، أي عن دمار أسس تطورها ونضجها السياسي والمجتمعي.
لكن في هذه الحالة يطرح سؤال عما إذا كان من الممكن تحقيق مثل هذا التغيير من الداخل ومن قبل قوى عراقية، أو عراقية بدعم عربي. ومن الوهلة الأولى يبدو الأمر مستبعدا إذ من الصعب عدم الاعتراف بأن قوى التغيير الداخلية لم تظهر في السنوات الماضية مقدرات استثنائية لتجاوز التناقضات والمثالب التي أحدثها النظام العراقي نفسه في صفوف المجتمع وقواه السياسية والفكرية. لكن بعكس ما يعتقد الأمريكيون، لم تساعد الحرب التي شنت على العراق من قبل التحالف الدولي ودمرت أسس حياة المجتمع العراقي هذه القوى ولكنها عزلتها أكثر من قبل، كما حيدت مجموع الشعب العراقي الذي لم يعد لديه سوى هم واحد هو الحفاظ على البقاء.
وقد جاءت سياسة الحصار بعد حرب التدمير الشامل لتفاقم من أزمة المجتمع والقوى السياسية المرتبطة به معا، وزاد تبني الولايات المتحدة لقوى المعارضة أو لجزء منها في تقسيم قوى التغيير وبث التردد والإحباط والشرذمة عليها فوق شرذمتها الأصلية، وكانت النتيجة كما هو واضح انمحاء كاملا لهذه القوى أمام النظام وصعودا كبيرا في قدرة النظام على البقاء والمناورة في الداخل والخارج.
إن سياسة الولايات المتحدة العراقية والخليجية والأسلوب الذي اتبعته في مواجهة النظام العراقي ولا تزال -وهو أسلوب القوة الغاشمة التي لا يهمها إن قضت على المريض وهي تسعى للقضاء على المرض- هي المسؤولة الرئيسية عن الكساح الذي تعاني منه المعارضة الديمقراطية العراقية.
والاستمرار في هذه السياسة القائمة على القوة الطاحنة التي لا تراهن إلا على نفسها وتستخدم القوى المحلية والداخلية كعناصر إضافية ملحقة للتغطية على تفردها بالعمل والقرار أو كأدوات تلعب بها الأجهزة الاستخبارية حسب حاجات المناورة الأميركية على العراق وداخل الساحة الإقليمية.. أقول إن الاستمرار في هذه السياسة لن يزيد من فرص نمو قوى الديمقراطية الداخلية والاعتماد على النفس، وإنما سيجهض أكثر من ذي قبل كل أمل في التغيير الفعلي ويجعل الشعب العراقي رهينة حقيقية للسياسة الأميركية بعدما كان رهينة لسلطة الطاغية، وحتى لو حصل وأقرت الديمقراطية نتيجة التدخل الخارجي فلن تكون ثمرتها تعزيز سيادة المجتمع والشعب العراقي، ولكنها التغطية على ارتهان السلطة الجديدة للولايات المتحدة أي لتبعية أكبر وأعمق لصالح واشنطن.
”قسمت الحرب العراقية الكويتية العرب، واستقالت الجامعة العربية تجاه المسألة العراقية منذ الوقت الذي وضعت نفسها فيه بهذه المناسبة في خدمة القرار إن لم نقل الأمر الأميركي، وسلمت للولايات المتحدة بالقيام بالمهمة التي كانت موكلة إليها حسب ميثاقها لتحقيق السلام والتسوية بين البلاد العربية”وبالمثل، لا تبدو فرص التغيير في إطار الجامعة العربية أكثر شأنا، فقد قسمت الحرب العراقية الكويتية العرب، واستقالت الجامعة العربية تجاه المسألة العراقية منذ الوقت الذي وضعت نفسها فيه -بهذه المناسبة- في خدمة القرار إن لم نقل الأمر الأميركي، وسلمت للولايات المتحدة بالقيام بالمهمة التي كانت موكلة إليها حسب ميثاقها لتحقيق السلام والتسوية بين البلاد العربية.
ومن الواضح أن هذه الجامعة لم تستطع أن تتجاوز السقطة التي شهدتها بهذه المناسبة ولا أن تخرج منها لتقوم بدور مبادر وفعال وناجع في التقريب بين وجهات النظر العربية وإحداث نقلة في العلاقات الخليجية العراقية تسمح باستعادة المبادرة والقيام بمحاولات موازية لحلحلة الخلاف العربي العربي والوصول إلى حل مقبول بين العراق ودول الخليج ينزع فتيل الحصار ويجعله من دون مبرر. لكن هذا الوضع كان ولايزال هدفا رئيسيا من أهداف السياسة الأميركية، كما كان توتير العلاقات العراقية الخليجية وسيلة دائمة تستخدمها الدبلوماسية الأميركية لمنع أي تفاهم عربي وبالتالي تبرير موقع الوصاية الذي تحتله واشنطن على المنطقة، واستمرار بقاء القوات الأميركية فيها وحرف نظر العرب عن بؤرة التوتر التي تمثلها إسرائيل ومشروعها الاستيطاني التوسعي المدعوم من قبل واشنطن.
والنتيجة -بعكس ما يشيعه دعاة الحرب الأميركيون- أن أمل المنطقة بالخروج من الأزمة الصعبة التي تعيشها، بما في ذلك من النزعة الانتحارية التي يشهدها جزء من الرأي العام المغذي للإرهاب، لا يكمن في تدخل أكثر من قبل الولايات المتحدة وأي قوة خارجية أخرى في شؤون المنطقة بقدر ما يرتبط بتقليص هذا التدخل بل والكف عنه.
فقد أدت التلاعبات الخارجية داخل المنطقة إلى تحييد كل قوى الفعل الداخلي ورهنت مصير الشعوب جميعا بمصادر قوة ومراكز قرار وموارد موجودة جميعا خارجها، ولم يعد هناك أي إمكانية لكي يقول أهل المنطقة كلمة فيما يتعلق بشؤونهم، وسوف تزداد أزمة المنطقة أكثر مع تزايد التدخل وليس العكس، فما تعيشه المنطقة هو ثمن الاستقرار الذي بحثت عنه ودعمته وحاربت من أجله الولايات المتحدة نفسها في العقود الماضية، وهو الاستقرار المرتبط بالتوازن الذي خلفته حروب الخليج في التسعينات.
وكما أن الحفاظ على الوضع القائم في المنطقة استدعى قبول الولايات المتحدة وتعاونها مع العديد من الأنظمة العربية التي تعاني من ضعف شديد في القوة السياسية والفكرية معا، ومن انعدام الشرعية والصدقية، بل تدعيمها، فإن الحفاظ على الحكم والنظام والاستقرار في كل بلد من بلدان المنطقة يقوم على تجنب المغامرة والانفتاح الذي يقود إلى أوضاع جديدة غير معروفة والقبول بالتعايش مع نظام عراقي يفتقر هو نفسه إلى الشرعية والمصداقية، وهذا ينطبق حتى على بلدان الخليج. فعراق ضعيف ومحاصر ومحيد هو أفضل دريئة لنظم عربية منهكة ومستنفدة سياسيا وأخلاقيا أيضا.
هكذا يبدو مصير النظام العراقي مرتبطا اليوم فعليا بمصير النظم العربية الأخرى المماثلة وبالنظام الجماعي العربي، بقدر ما يرتبط هذا النظام بالنظام الإقليمي الذي أقامته الولايات المتحدة ولاتزال ترعاه من خلال الدعم غير المشروط الذي تقدمه لإسرائيل، ومن خلال جعل إسرائيل الدعامة الرئيسية بل الوحيدة للوجود العسكري فيه، ولن يكون لتغيير النظام العراقي قيمة ما لم يكن جزءا من تغيير النظام العربي بأكمله، أي تغيير طبيعة الأنظمة القائمة من جهة وطبيعة العلاقات التي تربطها فيما بينها.
وبالمثل ليس هناك أمل في إحداث مثل هذا التغيير العربي من دون تغيير طبيعة النظام الإقليمي الذي يهيمن عليه بالفعل التحالف الإستراتيجي الإسرائيلي الأميركي الذي يعطي لتل أبيب موقع الوكيل الرسمي للولايات المتحدة في المنطقة، في الوقت الذي تخوض فيه حربها الطاحنة لتحقيق مشروع إسرائيل الكبرى الذي يشكل تهديدا لجميع الدول العربية. ومن دون ذلك لن يكون للتدخلات الأميركية التي تغري منذ الآن جزءا من الرأي العام العربي الناقم على أنظمة القهر والطغيان، أي أثر آخر سوى كسر المجتمعات وتفاقم المحنة العربية الوطنية والقومية.
وتستدعي مواجهة مخاطر التكسير والانهيار المتزايد للمجتمعات وللمنظومة العربية برمتها نتيجة التدخلات الخارجية المحتملة، حصول معجزة حقيقية داخل صفوف النخب الحاكمة العربية. وتعني المعجزة هنا ارتفاع النخب الحاكمة بقوة وسرعة فوق طاقاتها وملكاتها وإمكاناتها السياسية والأخلاقية والروحية، وتحقيق نقلة نوعية في تصوراتها الإستراتيجية تدفع بها إلى إحداث تغييرات جدية وسريعة في إطار ممارسة السلطة والانفتاح على الشعوب، وتمكنها من التفاهم السريع فيما بينها والانتقال من ردود الأفعال الفردية العاثرة إلى العمل الجماعي الجدي والمسؤول على المستوى الأمني والاقتصادي والاجتماعي معا، والعمل على وقف نزيف الفساد والتسيب والاستهتار بمصالح الناس وتحقيق قفزة نوعية في تهيئة الكفاءات وتطوير المواهب عند جميع السكان.
”ينبغي أن نعرف منذ الآن أن هذا التدخل إذا حصل -وعلى الأغلب سيحصل- لن تكون نتائجه لا تحقيق الديمقراطية ولا الأمن ولا حل المسألة الفلسطينية ولا التنمية، ولكن تكسيرا للمجتمعات العربية أكثر عمقا، وتعريضا لها لمستقبل من الفوضى والانهيار والتفكك”بذلك فقط يمكننا أن نجد حلا للمسألة العراقية ضمن الحل العام للأزمة العربية وأن نجنب المنطقة مخاطر الحرب الداخلية الجديدة المفروضة من الخارج باسم مكافحة الإرهاب وفتح الطريق أمام الانتعاش الشامل، فإذا بدا أن تغيير النظام العراقي كغيره من النظم العربية المتكلسة ليس ممكنا من الداخل ولا في إطار جهود عربية مشتركة للإصلاح الجماعي واستمرت النخب الحاكمة تبدي ما تبديه اليوم من غياب روح المسؤولية والثقافة والحنكة السياسية، فلن تنجح الولايات المتحدة ودعاتها في تبرير التدخل في العراق فحسب، ولكنهم سوف يجعلون من تعفن الأنظمة وفسادها ذريعة لتوسيع دائرة التدخل في جميع البلاد العربية وفرض الوصاية الفعلية عليها من خلال أنظمة عميلة تحكم بعصاتها وتدافع عن مصالحها، وكل ما نعيشه ونشهده في هذه الأيام هو الإعداد لهذا التدخل الطويل المدى وعلى أكثر من صعيد وفي أكثر من قطر عربي.
لكن ينبغي أن نعرف منذ الآن أن هذا التدخل إذا حصل -وعلى الأغلب سيحصل- لن تكون نتائجه لا تحقيق الديمقراطية ولا الأمن ولا حل المسألة الفلسطينية ولا التنمية، ولكن تكسيرا للمجتمعات العربية أكثر عمقا، وتعريضا لها لمستقبل من الفوضى والانهيار والتفكك أكثر مما شهدته في العقود الماضية، وتوسيع دائرة التوتر والانقسام والعنف والفقر والفساد معا في كل بلد منها وفيها جميعا.
هذا هو مضمون العهد الأميركي الجديد الموعود ولا شيء غيره، وإذا جاء فسيكون الثمن الطبيعي والحتمي للاستقالة السياسية والأخلاقية ولتحييد الشعوب وتدمير بناها المدنية والسياسية من قبل النخب الحاكمة العربية وتقديمها لقمة سائغة لجميع الوحوش الضارية الداخلية والخارجية.