jeudi, février 28, 2002

إسقاط النظام: هل يحقق مصلحة عراقية وعربية؟

الجزيرة نت الأحد 18/5/1423هـ الموافق 28/2/2002م،

ما كادت حرب أفغانستان تنتهي، وهي لم تنته بالفعل بعد، حتى طرحت على بساط البحث مسألة حرب العراق الرامية إلى الإطاحة بحكم صدام حسين. ولدرجة ما صدر من تصريحات من قبل المسؤولين الأميركيين ورجال الصحافة والإعلام عامة حول هذا الموضوع اقتنع الرأي العام الدولي بأكمله بأن حربا جديدة على العراق لتغيير الحكم لامحالة حاصلة وأنها لا بد أن تكون على رأس جدول الأعمال الأميركية وبالتالي الدولية للشهور القليلة القادمة.
وكما يقول المحلل السياسي الأميركي غراهام فولر في مقالاته التي نشرت في الجزيرة نت، فإن جميع المسؤولين الأميركيين متفقون على ضرورة الحرب ضد صدام حسين، لكن الفرق الوحيد بين الصقور والحمائم في واشنطن هو أن الصقور يريدون عملا فوريا الآن بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى في الشرق الأوسط، أما الحمائم الذين ينتمي إليهم فإنهم يريدون التريث إلى حين التوصل إلى إجماع سياسي ودبلوماسي متين في المنطقة ضد صدام.
وهذا يعني في الواقع أن موضوع الخلاف بين أطراف الإدارة الأميركية بشأن بدء الحرب في العراق هو التوقيت لا غير. وأن الفريق الحمائمي لا يتميز عن فريق الصقور في نوعية الأهداف التي يطرحها في سياسة الولايات المتحدة الخارجية ولا في أسلوب العمل لتحقيق هذه الأهداف الواحدة المجمع عليها، ولكن في تأمين الشروط الأمثل لخوض الحرب.
فالحمائم الذين يركزون على التخطيط العقلاني والعمل البارد في مقابل الغبار الذي تثيره الرؤوس الحامية يعتقدون أن خوض حرب ناجحة ضد العراق لا تترك آثارا ونتائج جانبية سلبية تضعف مكاسب الولايات المتحدة فيها أو تهدد الغاية المرسومة لها، حربا ناجحة من وجهة النظر السياسية والعسكرية معا، يستدعي إعدادا سياسيا وفكريا ونفسيا حقيقيا للحكومات وللرأي العام لجميع الأطراف المعنية، على مستوى العراق ذاته، وعلى مستوى العالم العربي والشرق الأوسط بأكمله. وفي إطار إعداد الرأي العام العربي لتقبل هذه الحرب التي يبدو أن توقيتها سيكون أقرب إلى التوقيت المقترح من قبل الحمائم، أي من دون عجلة، امتشق العديد من المحللين السياسيين الأميركيين أقلامهم، ومن بينهم ما كتبه غراهام فولر في الجزيرة نت، لإقناع العرب بالفوائد العديدة التي يمكن أن يجنوها منها.
ويترافق هذا العمل المتواصل للمحللين السياسيين لإعداد الرأي العام العربي لقبول فكرة نقل الحرب ضد الإرهاب نحو العراق أو إدخال حرب الإطاحة بالنظام العراقي في جدول أعمال الحرب الدولية ضد الإرهاب مع العمل الدبلوماسي الناشط لواشنطن في الشرق الأوسط.
فكما يشير إلى ذلك جدول زيارات المسؤولين الأميركيين للعواصم العربية المعنية، سواء أكانوا تابعين لوزارة الخارجية أو للكونغرس أو لمؤسسات سياسية أخرى, تقود الحكومة الأميركية حملة منهجية ومنظمة لإقناع الرأي العام العربي الرسمي بضرورة التعاون الإيجابي مع واشنطن لتحقيق أهداف تعتبرها أساسية لقطف ثمار الحرب ضد الإرهاب. ومن المؤكد أن الحجج ذاتها التي يقدمها المحللون السياسيون الأميركيون لإقناع الرأي العام الشعبي هي ذاتها التي ستستخدمها دبلوماسية البيت الأبيض لكسب تأييد الحكومات العربية، مع إضافة طريقة أخرى للإقناع ربما كانت التلويح بملفات الإرهاب والعنف وانعدام الديمقراطية أيضا.
ومن الواضح أن القيادة الأميركية، بمفكريها وبمسؤوليها السياسيين ودبلوماسييها معا تواجه مشكلة كبيرة في إعداد الرأي العام العربي والدولي، الرسمي والشعبي لحرب جديدة على العراق. فهي تفتقر للحجج التي يمكن أن تبرر لها تعبئة التحالف الدولي ضد الإرهاب لتغيير الحكم في العراق.
فباعتراف المسؤولين والمعلقين الأميركيين أو أغلبهم على الأقل، لم يثبت أي تورط لبغداد في عمليات الإرهاب الدولي التي رافقت الإعداد لهجوم الحادي عشر من سبتمبر أو تنفيذه مما يعني أن واشنطن لاتزال تجد صعوبة في وضع عملية تغيير النظام العراقي على قائمة جدول أعمال الحرب ضد الإرهاب. ومن هنا فهي تحتاج إلى مبررات أخرى تكون مقبولة من الدول العربية ومن أطراف التحالف الأخرى، بما في ذلك الأطراف الأوربية الحليفة.
ومن خلال المقالات والتحليلات والتصريحات الأميركية العديدة التي تكتب أو تصدر من فترة لأخرى، يمكن جمع هذه المبررات التي تهدف إلى إضفاء الشرعية على الحرب المزمع خوضها على الأرض العراقية بأربع عناصر رئيسية ليس الإرهاب من بينها.
مبررات الأميركان للحرب ضد العراق
تطوير أسلحة الدمار الشاملالعنصر الأول أن صدام حسين لايزال يعمل على تطوير أسلحة الدمار الشامل وهو يهدد من هذه الناحية الأمن والاستقرار في المنطقة، خاصة وأنه خاض حربين كبيرتين مع جيرانه المسلمين وقصف مواطنيه الأكراد بالقنابل الكيمياوية.
قمعية النظاموالعنصر الثاني هو أن نظام صدام حسين هو أكثر الأنظمة في العالم الإسلامي قمعا لشعبه.
وحشية صداموالعنصر الثالث هو أن صدام حسين أيضا رجل وحشي يكرهه شعبه والعرب جميعا من حوله.
اعتماد صدام على الأقاربوالعنصر الرابع أن صدام حسين لا يستند في حكمه إلا على حفنة من الأقارب والأنصار، ولا يمثل حكمه سوى حكم أقلية اجتماعية أو إثنية ضئيلة.
مخاوف الأنظمة العربية من التغيير
لماذا تتمسك الحكومات والشعوب العربية إذن بصدام حسين؟ أو لماذا تعارض في أغلبيتها على الأقل، كما يعتقد ذلك المسؤولون الأميركيون، الحرب ضد نظام صدام؟، وكيف يمكن تفسير هذه المعارضة؟ إن السبب الرئيس لوقوف الحكومات والشعوب العربية موقفا سلبيا من تغيير النظام العراقي يكمن في نظرهم في وجود مخاوف ليس لها أساس كبير من الصحة ولا تقوم على محاكمة عقلانية ومنطقية. فهي تنبع من ثلاث محاكمات خاطئة أو غير صحيحة..المحاكمة الأولى: هي أن ضرب صدام حسين سوف يحرم العرب من وزن العراق العسكري وأسلحته المتطورة ذات التدمير الشامل في مواجهة إسرائيل.المحاكمة الثانية: هي أن الأنظمة تعتقد أن ضرب العراق يمكن أن يكون مقدمة لضرب بلدان أخرى ولذلك فهي تريد أن تقطع الطريق عليها.المحاكمة الثالثة: هي أن حربا جديدة على العراق سوف تتسبب بمعاناة جديدة للشعب العراقي الذي يعيش منذ أمد بعيد في حالة مأساوية.
والحال، كما يقول الأميركيون، إن أسلحة صدام حسين لم تستخدم ضد إسرائيل وما استخدم منها في حرب العراق الكويت لم تحدث أثرا كبيرا ولا كان ذا فاعلية استثنائية، كما أن وجود هذه الأسلحة ليس مرتبطا بوجود صدام حسين، بل العكس هو الصحيح، إن خوف الولايات المتحدة من وقوعها في يد الإرهابيين هو الذي يدفعها إلى السعي إلى تدميرها وربما يختلف الموقف إذا كانت في العراق حكومة ديمقراطية مسالمة، كما أن ضرب صدام ربما يدفع المنطقة نحو الانفتاح والاعتدال والاستقرار وتقليص نفوذ الإرهاب، وبالتالي قد يقطع الطريق على احتمال ضرب بلدان أخرى، ومن جهة ثالثة فإن إقامة نظام ديمقراطي في العراق لا بد أن يساهم في تحسين شروط حياة الشعب العراقي وينقذه من طغيان حكم البعث وقهره.
ويقول بعض الأميركيين: وعلى افتراض أن ضرب العراق يحرم العرب من قدرات عسكرية قائمة أو محتملة كبيرة ويصب في مصلحة إسرائيل، لكن أليس من الممكن أن يستفيد العرب أيضا من إزالة صدام حسين ونظامه العنيف والمخيف؟، وفي هذه الحالة فإن من الممكن القول إن لإسرائيل وللعرب، بما فيهم شعب العراق، مصلحة مشتركة في تصفية هذا النظام الاستبدادي؟.
إن جوهر ما تسعى الدعاية الحربية الأميركية إلى إدخاله في الذهن العربي المتشوق للخروج من حالة الركود والاستنقاع هو أن تغيير النظام العراقي مصلحة عراقية عربية بالدرجة الأولى وإن كانت في الوقت نفسه أو يمكن أن تكون مصلحة إسرائيلية.
من هنا يعتقد الأميركيون أن كسب الأطراف العربية لفكرة الحرب القريبة على النظام في العراق ليست صعبة ولا غير ممكنة فللعرب كما يظهر من التحليل مصلحة كبيرة فيها، وكل ما يحتاجه الأمر هو إعداد سياسي سليم تقوم به الدبلوماسية ويقوم به الإعلام. وهذا هو جوهر المهمة المطلوب تحقيقها في المرحلة الراهنة في الشرق الأوسط في إطار إدارة الحرب الدولية ضد الإرهاب.
والسؤال الرئيس الذي يطرحه التدخل الأميركي المبرمج في العراق علينا هو التالي: هل إسقاط النظام العراقي اليوم مصلحة عراقية وعربية فعلا؟ وهل قيام الولايات المتحدة بهذا العمل يؤثر على نتائجه ويلغي هذه المصلحة أو يجهضها؟.
فرضيات أميركية لحسم موضوع العراقإن الجواب يكمن في الرد على ثلاثة افتراضات رئيسية للدعوة الأميركية بضرورة الحسم في العراق.
الافتراض الأول: هو أن الحرب ليست ضد العراق ولكن ضد نظام صدام حسين الذي هو نظام أقلوي قمعي معزول في الداخل ويشكل إضافة إلى ذلك مصدر تهديد للمنطقة بأكلمها ولجيرانه العرب بشكل خاص. وفي هذه الحالة فإن الحرب المزمع شنها لن تكون إلا في صالح الشعب العراقي والشعوب العربية التي تستطيع أن تعتمد عليها لتتخلص من طاغية يهدد أمن شعبه وأمن المنطقة التي تفتقر بسببه للاستقرار.
الافتراض الثاني: هو أن الولايات المتحدة سوف تضع في مكان نظام صدام حسين نظاما ديمقراطيا يحترم حقوق الجميع وبشكل خاص حقوق الأقليات التي تعاني الكثير بسبب النظام القومي البعثي، وأن الإطاحة بهذا النظام سوف تساعد على تطوير الديمقراطية والانفتاح في البلاد العربية.
الافتراض الثالث: أن هدف الولايات المتحدة من ضرب النظام في العراق تحقيق الأمن والاستقرار لجميع دول المنطقة وشعوبها والسعي إلى إقامة نظام للأمن الإقليمي يمكنها من سحب قواتها من الخليج لما يسببه وجودها فيه من عدم استقرار يشجع على ظهور شخصيات من نوع بن لادن. بل ربما أتاح ذلك فرصة لإقامة ناتو خليجي. وهذا ما يستدعي الإثبات. وهو موضوع مقال قادم.

mercredi, février 27, 2002

هل يخاف العرب من إسقاط النظام العراقي؟

الجزيرة نت
الأربعاء 15/12/1422هـ الموافق 27/2/2002م، (توقيت النشر) الساعة: 09:44(مكة المكرمة)،06:44(غرينيتش)

لا أعتقد أن مقاومة العرب العامة لأي تدخل أميركي جديد في العراق وفي أي بلد عربي آخر، نابعة من الحرص على النظم السياسية الاستبدادية أو نصف الاستبدادية القائمة في بلادهم، ولا بسبب الأوهام المرتبطة بوجود أسلحة دمار شامل أو غير شامل يمكن أن تستخدم يوما في مواجهة العجرفة الإسرائيلية التي وصلت حدا أجهضت فيه جميع ما كانت الدول الموجودة تنطوي عليه من صدقية بوصفها ضمانة للأمن والاستقرار الوطنيين.
وإذا كان هناك من يخاف بالفعل أن يشكل التدخل العسكري الجديد المنتظر في العراق مقدمة لتدخلات أخرى في بعض الدول العربية، فهي بعض الأنظمة والنخب السياسية التي تشعر بأنها مقطوعة الصلة والجذور مع مجتمعاتها، لكن بالتأكيد ليس المجتمعات ذاتها.
وليس هناك شك في أن الرأي العام العربي في قطاعاته الأوسع والأكثر تنورا ونضجا يقف من دون تردد مع التغيير، ولم يكن في أي فترة ماضية أكثر استعدادا للانخراط في حركة التغيير والتضحية في سبيل تجديد نظم الحكم والإدارة وممارسة السلطة مثلما هو عليه اليوم.
وإذا كان هذا الرأي العام العربي -رغم تطلعه إلى القضاء على الدكتاتورية وفقدانه الثقة بنظم الحرب العربية رجالا وأسلحة واستعداده للسلام بكل ما يتطلبه ذلك من تضحيات ومخاطر- يرفض القبول بمشروع تعريض العراق أو أي بلد عربي لحملة عسكرية جديدة، فليس ذلك حبا بالزعامات والنظم السياسية القائمة ولا خشية منها ولا خوفا مما سيعقبها، ولكن نتيجة الخبرة الطويلة مع القوى الغربية والولايات المتحدة في مقدمتها في العقود الثلاثة الماضية.
ولو أن الرأي العام العربي كان على ثقة بأن ما تريده الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هو -كما يتحدث عنه الإعلام الأميركي اليوم بمناسبة الإعداد للحرب وإضفاء المشروعية عليها- تخليص الشعوب العربية من الدكتاتورية وإقامة نظم ديمقراطية وطمأنة الأقليات وتحرير المنطقة من عوامل السيطرة والهيمنة والقهر في سبيل تحقيق الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط لجميع الدول والشعوب، وفتح هذه المنطقة على الاستثمارات الخارجية لتمكينها من الوصول إلى معدلات تنمية طبيعية وعادية وليس بالضرورة استثنائية، وإزالة أسباب التعصب والعنف والإرهاب منها، لما تردد عربي واحد في إعطاء مباركته لواشنطن أو لأي قوة دولية أخرى في المنطقة أو خارجها.
إن المشكلة ليست في الشعارات التي تطرحها الولايات المتحدة بما في ذلك قطع جذور الإرهاب، ولكن في علاقة الولايات المتحدة بهذه الشعارات وتعاملها معها في العالم أو على الأقل في البلاد العربية. فكيف يمكن لأولئك الذين يرفعون اليوم شعارات الديمقراطية والأمن والاستقرار الإقليميين والتنمية لتبرير الحرب على العراق ثم فيما بعد على بلدان أخرى، أن يقنعوا الشعوب العربية بالفعل أن الولايات المتحدة لم يكن لها أي يد ولا مصلحة ولا إرادة في الإبقاء على النظم المتخلفة الاستبدادية وغير الإنسانية التي سادت المنطقة العربية ولا تزال منذ أربعة عقود على الأقل؟ وكيف يمكنها أن تبرهن للرأي العام أن هذه الأنظمة نجحت في الاستمرار والبقاء رغم تعارض وجودها مع مصالح الولايات المتحدة واصطدامها بإرادة واشنطن والقيادة السياسية الأميركية الداعية لاحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم والداعية إلى تعميم نموذج الحياة الديمقراطية الأميركية في كل مكان؟!
وبأية وسائل ستتمكن الولايات المتحدة من إقناع الرأي العام العربي والدولي معا بأن هذه الأنظمة التي تتخذ اليوم من طابعها الاستبدادي والطغياني مبررا للتدخل العسكري قد وصلت إلى السلطة وبقيت فيها عن طريق التصويت الشعبي الحر والنزيه والدوري، أو أن الولايات المتحدة لم تكن قادرة فيما يتعلق بالنظم التي كانت على الأقل تحت وصايتها أو في حمايتها -وهي كثيرة- على ممارسة أي ضغط لدفعها نحو تطوير نظمها السياسية واعتماد مبدأ المواطنة والانتخابات الحرة والعامة لممارسة السلطة فيها؟!
وكيف يمكن إقناع الرأي العام العربي بأن ضرب الحكم البعثي في العراق والدول العربية الأخرى المستهدفة وتصفية أسلحتها المتطورة يندرج ضمن رغبة الولايات المتحدة الأميركية بضمان قدر أكبر من الأمن والاستقرار والتعاون الإقليمي في المنطقة والتخفيف من التوتر في الوقت الذي لا تكف فيه الولايات المتحدة الأميركية نفسها منذ عقود عن تعزيز الترسانة العسكرية الإسرائيلية بأحدث وأخطر أسلحة الدمار الشامل ومساعدتها على الاحتفاظ علنيا ورسميا بالتفوق الإستراتيجي الساحق على الدول العربية مجتمعة، وهي تعد خمسة ملايين نسمة مقابل ما يقارب ثلاثمائة مليون عربي؟!
وكيف يمكن البرهان على أن إزالة مخاطر الحرب والتهديد بها هو هدف التدخل في العراق في حين لا تتردد الولايات المتحدة في مباركة حرب الدمار الشامل التي لا تزال الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل تشنها على المجتمع الفلسطيني بدءا من هدم بناه التحتية وانتهاء بتصفية قادته وشبابه ومرورا بتدمير جميع مؤسساته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وفي مقدمها السلطة الوطنية التي نجمت عن المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية؟!
وكيف يمكن للرأي العام العربي أن يثق بانشغال الولايات المتحدة بمصير الأقليات في الأقطار العربية واهتمامها بحقوقهم ومصالحهم وهو يرى ما تعامِل به الحليفة الرئيسية والإستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة أقليتها الفلسطينية في حين لا تحرك واشنطن ساكنا أمام مشروع التطهير العرقي الواضح الذي ينفذه الحكم الإسرائيلي عبر سياسة توسيع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية وتطبيق قوانين التمييز العنصري والسيطرة الكاملة على موارد الحياة والثروة المائية في الضفة الغربية وغزة؟!
وبالمثل كيف يمكن إقناع الرأي العام العربي بأن ضرب الحكم البعثي في العراق هو مقدمة لتحقيق الانفتاح الاقتصادي وتعزيز فرص التنمية الاقتصادية في المنطقة في سبيل خلق فرص العمل اللازمة للشباب وإزالة الفقر والعوز في المجتمعات العربية، في الوقت الذي عرفت فيه المساعدة الأميركية للتنمية أكبر انهيار لها في السنوات العشرين الأخيرة -أي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي- وأصبحت تتركز أساسا على دولتين رئيسيتين هما إسرائيل ومصر؛ الأولى لتعزيز قوتها الهجومية ضد الفلسطينيين والعرب، والثانية لتحييدها وشراء موافقتها على هذه السياسات الإسرائيلية والأميركية الهجومية ذاتها؟!
وكيف يمكن البرهنة على أن الولايات المتحدة تسعى بالفعل لتحسين شروط التنمية في البلدان العربية وهي لا تتوانى عن الصراع مع حلفائها الأوروبيين المقربين أنفسهم كيما تحتفظ لنفسها بحق توقيع العقود مع دول الخليج ولا تجد وسيلة أفضل لامتصاص السيولة المالية المتضائلة في خزائنها من إجبارها على توقيع صفقات السلاح الخيالية وغير الضرورية معا؟!..
على الذين يكررون مثل هذه الأقاويل أن يقدموا للرأي العام العربي دليلا واحدا يظهر -داخل المنطقة العربية أو خارجها- أن دولة كبرى أو أكثر قد تدخلت لتحقيق الديمقراطية والأمن والاستقرار والتنمية في البلد المتدخل فيه لا في سبيل تحقيق مصالحها.
ليس المقصود بالتأكيد مطالبة الولايات المتحدة الأميركية بأن تنشغل بمصير الديمقراطية والأمن والاستقرار والتنمية في جميع بلدان العالم ولا حتى في البلدان العربية التي تقع في دائرة نفوذها، وليس هذا هو الذي نطلبه منها أو نطالبها به، ومثل هذا الانشغال لو حدث سيكون مخالفا لقوانين العلاقات الدولية كما هي قائمة عليه اليوم وكما تحددها الدول الكبرى المتنافسة التي تؤسسها أو تؤسس لها، ولو حصل ذلك لما كان هناك أي مبرر لوجود دول عربية مستقلة بما تمثله من سلطة ومؤسسات سياسية وإدارية وتقنية وفنية، وكان من الأجدى أن تندرج في غيرها من الدول أو الإمبراطوريات إن الذي يبرر وجود الدول هو وظيفتها في ضمان الأمن والاستقرار والمساواة القانونية والمشاركة السياسية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها، لكن المقصود هو العكس من ذلك، أي إظهار إلى أي حد يمثل ادعاء الدبلوماسية الأميركية حرصها على الديمقراطية والأمن الإقليمي والتنمية في العراق والمنطقة العربية بمناسبة تبرير الحرب المبرمجة على النظام العراقي ومن بعده ضد بعض النظم العربية الأخرى دعاية فجة بعيدة عن العقل وعن الواقع.
ولا يغير من فجاجة هذه الدعاية كونها صادرة عن حمائم الإدارة الأميركية، فهم الأقدر على تمرير مثل هذه الخدع على الرأي العام العربي الملوع من السياسة الأميركية عموما لما يبدو على هؤلاء من اعتدال واتزان ومراعاة شكلية للمشاعر العربية الوطنية والإنسانية.
نحن نعرف بالتأكيد أنه لا الديمقراطية ولا السلام والأمن ولا التنمية من الأهداف التي تحرك الولايات المتحدة وتدفعها للتفكير بضرب النظام العراقي في سياق الحرب الدولية المعلنة على الإرهاب، ولا يمكن أن تكون هذه أهدافها. فالدول لا تكلف نفسها مهام تحقيق مصالح شعوب غير شعوبها، وفي أغلب الأحيان لا تكلف نفسها -كما هو الحال في دولنا ونظمنا- حتى مهام تحقيق مصالح شعوبها أو الدفاع عنها، إنها لا تتحرك إلا لتحقيق مصالح خاصة بها، قد تكون إستراتيجية وقد تكون سياسية أو اقتصادية أو معنوية.
والحرب التي تخطط الولايات المتحدة لشنها في العراق لا علاقة لها بمصلحة الشعب العراقي ولا المنطقة العربية، وكل ما تهدف إليه هو تعزيز وتدعيم مرتكزات السيطرة الأميركية في الشرق الأوسط واستباق الانفجارات التي يمكن أن تهدد هذه المرتكزات، وهذا هو ما يخشاه الرأي العام العربي ويرفض التدخل من أجله، إنه لا يخشى الحرب على صدام حسين ونظامه ولا يخاف من نتائج سقوط هذا النظام، ولكنه يخشى توسع دائرة النفوذ الأميركي في المنطقة وفي كل دولة على حدة، وبالتالي زوال البقية القليلة الباقية من مبدأ السيادة -ولو كانت قد تحولت إلى سيادة رمزية- للشعوب العربية في منطقتها.
إنه يخشى أن تصبح الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد الذي يملي إرادته على جميع شعوب المنطقة وفي كل الميادين والمستويات كما تمليها اليوم في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي فتقرر نتائج الصراع، أي إدامة الحرب والنزاع وتدفق الدماء الذي يتعارض تعارضا كليا مع الشعارات الثلاثة التي توحي بأنها تريد خدمتها من الحرب القادمة وهي الديمقراطية والأمن والتنمية.
قد يقول قائل إن الولايات المتحدة بعد أن أصيبت بسهم الإرهاب في عقر دارها قد غيرت سياستها وهي تريد منذ الآن أن تمارس سياسة إيجابية تجاه الشعوب العربية، بيد أن الوقائع التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 تظهر أن الولايات المتحدة لم تكن أكثر نزوعا للسيطرة وإملاء إرادتها وتنصيب حكومات خاضعة بل عميلة لها في المناطق التي تخشى عداءها مثل ما هي عليه اليوم.
وأكبر مثال على ذلك ما يجري في فلسطين المحتلة، فلم يحدث في أي حقبة ماضية أن تركت الإدارة الأميركية حكومة إسرائيلية تتمادى في تدمير أسس الأمن والاستقرار ومستقبل السلام في المنطقة وتتحدى المشاعر العربية الرسمية والشعبية كما فعلت إدارة الرئيس بوش منذ أشهر عندما أعطت الضوء الأخضر لشارون لتصفية القضية الفلسطينية وسمحت له بأن يعامل الشعب الفلسطيني برمته على أنه منظمة إرهابية.
إن احتمال أن تكف الولايات المتحدة عن متابعة سياسة السيطرة والإملاء والاستتباع هو ذاته احتمال أن تكف الذئاب عن رؤية فريستها في الخراف الضائعة.